الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأسئلة الارتدادية للفن

محمد سمير عبد السلام

2007 / 2 / 28
الادب والفن


مازال الفن يطرح نفسه كمادة للتساؤل ، أي بإثارة الأفكار ، و التأويلات المختلفة حول كينونته ، فكيف يصير الفن فنيا ؟ ، أو بصياغة أخرى كيف يصير الموضوع جماليا ضمن تكوين يسائل الحدود الأولى للجمال ؟ و في السؤالين السابقين ما يولد ارتدادا دائريا للتفكير الفني باتجاه طبيعته الخارجة عن أي استقلال ذاتي ، أي يكون الارتداد إلى تكوين طيفي متسع من التفاعل بين اليومي ، و الكوني ، و الثقافي ، كعلامات جزئية مختلطة خارج الخطاب ، و من ثم فالتساؤل لا يولد إجابات ، بل تأويلات ممكنة لهذا التبدل الطيفي البديل عن نقطة البداية ، و هي التناول الفني للفن .
يولد سؤال التكوين – إذا – خروجا مستمرا من حدوده الخاصة ، أي تكوينا آخر يحمل سمات الفن ، و ما يستبقه ، أو يتجاوزه معا في علامة واحدة ، أو نص واحد .
و ضمن السياق الجديد يأتي الوعي الحامل للتساؤل كعلامة تمثيلية ، و متحولة ، و كذلك العمل الفني في حضوره الآخر ضمن السياق التفاعلي .
تطرح مجموعة " الأيام السعيدة " لنعيم عطية – الصادرة عن مختارات فصول بهيئة الكتاب المصرية – مثل هذه التساؤلات ، و تترك في القارئ الاحتمالات التأويلية حول الفن ، و اتساع حدوده الذي يشمل فكرة الزمن بحد ذاتها كسياق إبداعي يتجلى فيه الفن كأحد تأويلات الوجود اليومي ، أي يصير الزمن استعاريا في اختلاطه باكتساب الوعي للحركة السردية الأسطورية للصورة الفنية ، دون أن يعلن أنه مصدر منتج لعمل ذي استقلالية ما.
في نص ( زلط ) يتوحد البطل الهامشي / زلط ، بشاعرية الوجود الأرضي للزلط ، فيصير الإسم وجودا فنيا جديدا يحمل بداخله دلالتين :
الأولي : محو الحالة الهامشية لكل من البطل ، و عنصر الزلط ابتداء ، في التكوين التفاعلي الذي يبرز كسمة للتكوين ، أو النشأة الأولى ، فالشاعرية تلازم تكوينات الزلط اللعبية ، و من ثم يصير زمن البطل فنيا خارجا عن وضعه السابق لوجوده في المجتمع ، إذ إن وجوده في السياق الأرضي – الفني يمنحه تبديلا مستمرا في الهوية دون مرجعية محدودة . فالنقطة المتحولة المرتدة تصير وعيا خارج الذات ، أو فنا متجاوزا لاستقلال العمل الفني .
الثانية : تمثل حكاية اندماج زلط بالزلط سردا رمزيا ووجوديا يتجاوز أطر الحكائية بالانتشار الجمالي لأحداث الميلاد ، و الكتابة ، و الموت كأنها اكتسبت صورة سردية ذات طابع فني أولي فيها ، فقد مثلت زلطة دور البطل في سياق حكائي لموته المحتمل في النص كبديل مجازي يدخل الفن ضمن حكاية وجود الكائن ، و لا يرد الفن كلية إلى منتج واحد أصلي .
لم يولد زلط في المستشفي ، و لكن على الأرض ، و قد أحب كتابة الشعر ، و الاحتفاظ بالزلط الذي ولد منه أشكالا جمالية عديدة ، فضلا عن إحساسه برقصه على الشاطئ ، أو آلامه عندما يدوسه أحد .
غيوم الصدفة تفجر الهوية ، و تكشف التباسها بالتبديل اللانهائي المتضمن فيها ، أما إغواء اختلاط الفن بالأرض فهو عودة لاواعية إلى الأثر الفني في صورته البربرية المقاومة لعزلة البناء ، و من ثم كان الماء بديلا عن المعرض الذي يمكن أن يقام من تشكيلات الزلط ، لقد صار الكون حاملا لتاريخ الفن انطلاقا من التجاوز ، و إعادة التساؤل حول الفن ، و متجاوزا باتساع السياق ، و مستبقا لمدلول الجمال بالارتداد غير الواعي للأثر الأرضي المؤجل لحدث التساؤل برمته من خلال النص الذي حمل اسم زلط كوجود تعددي للاسم .


و في نص ( فن الاختفاء ) يصير التمثيل سؤالا حول الوجود ، و الهوية بالكشف عن الاختفاء الكامن فيهما ، و في التمثيل نفسه ، إذ يلتبس فيه بروز الهوية بالحجب ، و الاختفاء في النزعة التمثيلية كحضور بديل متجدد يتحدث بصوت الأنا بينما يخفيه في الأطياف المحتملة للصورة ، هل كان التمثيل حلما بالذات ، أم باختفائها ، أم بالاختفاء كحالة سردية لعدد غير محدود من الأصوات الأسطورية ، و الكونية المختلطة في الصوت المجرد من التحكم المتعالي في الحالة التمثيلية ؟ إنه إغواء التبديل الكامن في الوجود بوصفه فنا ، أو مجالا للاختفاء الذي يتشكل فيه الطيف الآخر في حركة مستمرة تقاوم الموت بالتباس الأثر .
يرصد السارد إشكالية وجود الأستاذ / الفنان الذي يرى أن التمثيل ينبع من أنفسنا كي لا نختنق ، و أنه ينبغي أن ينكر الممثل ذاته أثناء التمثيل حتى روى أحد تلاميذه أنه مثل دور حبة قمح ، فصور آلامها عندما يقترب منها الدجاج ، و أحيانا يتوحد بجثة ، أو غصن شجرة ، أو عصفور ليمحو بروز الهوية في الاختفاء الكامن في الأثر بوصفه فنا للحياة ، لا عملا مستقلا ، و يدل على ذلك إصرار السارد على الاختفاء الواقعي للأستاذ خارج حدود خشبة المسرح ، دون العثور على جثته ، و يأتي الغياب التمثيلي كبديل هنا عن حضوره ، أو انتحاره .
الأستاذ يمتد فيما يحجبه ، في الأطياف التي استحضرها ، فحفزت وجوده الآخر في الاختفاء دون أن يكون هو محورا لها ، بل صارت هي بروزا فنيا خارج الوعي بحدوث التمثيل ، لأنه يكمن في سرد الحياة .
أوصى الأستاذ – ذات مرة – أن يدفن في ملابس العراف تريزياس ، الذي كان يفضل أن يؤدي دوره ، و كأن الموت نبوءة بمستقبل جديد يختلط بأخيلة العراف ، و شخصيته الملتبسة بين الحجب ، و الظهور . تريزياس تمثيل للاختفاء ، و اختفاء يزدوج بنسيج التمثيل نفسه ، فقد أعيد تشكيله في السرد التأويلي للبطل عن طريق اختفاء الأستاذ رغم ظهوره في إحدى مدن الصعيد ، أو تداخله مع ميت آخر . لقد صار التمثيل هنا حجبا للاختفاء عندما تبلور الأخير في وعي التلاميذ كحقيقة .
و في نص ( الذي أحب التماثيل ) يتولد مدلول النحت عند الأستاذ من أخيلة الاستدارة ، و الامتلاء ، و قد علم البطل / تلميذه عشق استدارات الجسد الأنثوي من خلال التمثال ، الذي يستبق الواقع فيكشف احتجابه ، أو التباسه بالأخيلة المنتجة بواسطة الحضور التمثيلي للتمثال كحياة متجددة . و قد وصف امرأته بأنها تمثال لامع من الأبنوس .
يرى مارتن هيدجر أن وجود الأثر يكون في المجال الذي يفتتحه هو نفسه ، فصمود الأثر المعماري أمام العواصف يبرز العاصفة في شدتها ، و يجعل المكان اللامرئي للهواء مرئيا ( راجع / هيدجر / كتابات أساسية ج 1 / ت / إسماعيل المصدق / المجلس الأعلى للثقافة بمصر 2003 ص 92 و 93 ) .
هكذا برزت الزوجة كطيف محتمل حول انتصاب التمثال ، أي أنها حياته السردية التي يكمن فيها التمثال كممثل خفي .
لقد اختلط العشق بجذرية الحياة الممنوحة للتمثال في حضوره الثقافي منذ إيزيس ، و فينوس ، و أفروديتي حتى تمثال الأستاذ ، التمثال يدمر حدوده النحتية من داخل ظهورها الطاغي ، هل هو حلم بالتحول ؟ أم أنه يفتح فضاء للخيالات الدائرية للحياة في الأستاذ ثم بديله / التلميذ الذي يخترق قداسة المجال المحيط بالتمثال ، و يتزوج من امرأة الأستاذ عقب وفاته ليصير مكملا تمثيليا حيا للأطياف المنتجة حول التمثال .
و في نص ( جيلان ) يرصد السارد هذيان البطل / الناقد بفنانته المحبوبة / جيلان ، فهو يعرفها من خلال لوحاتها ، و توقيعها ، إنه يطاردها بوصفها نحتا تمثيليا من أخيلته ، إنه يهذي بالعمل الفني خارج نطاقه ، أي بوصفه وجودا ، و هوية حاملة لأطياف الأثر / اللوحة .
لم تكن اللوحة – إذا – مستقلة ضمن حدودها بل شكلت رؤى العالم عند الناقد ، و أحدثت انشطارا في جيلان الفنانة ، التي لم يصدق الناقد عندما رآها أنها صاحبة اللوحات ، فهرب منها إلى التجسد الآخر للفن الكامن في عمليات القراءة بوصفها لذة امتداد الفن في الطيف الآخر المستبدل للهوية الفاعلة من داخل السؤال المستمر عن الفاعل .
و في نص ( البومة دافئة الأحضان ) تختلط أخيلة التأويل بالسياق اليومي لتخرجه من معناه النمطي الأول ، فيصير مناهضا لتحققه الوجودي بصورة ضدية / إبداعية من خلال تكوين يبرز فيه التلقي كحدث فني متجدد في الأثر اليومي نفسه .
لقد دعي البطل / الفنان إلى حفل عشاء عادي ، فأصابه الملل من الرقصات ، و النغمات المألوفة ، و ضمن هذا السياق لم يجرؤ أن يذكر اسم بيتهوفن أمام زوجته التي أسكتته ، و لكنه في حركة لاواعية مضادة للنمط ، يعيد إنتاج عيني الراقصة الأخيرة من خلال خيالات لصورة البوم التي ذكرته بامرأة ترك لها لوحاته في الماضي ، و كانت قد ارتبطت في وعيه بأنوثة مقدسة حتى هتف في الظلمة : بلقيس ، بلقيس .
لقد امتد السرد بالعادي إلى مطاردة للفن في أثره التأويلى الكامن في نسيج العادي نفسه كأنه لم يكن موجودا بهيئته الأولى ، ففي مجال الأثر / الراقصة توجد امرأة ضخمة تحمل عيني بومة ، و من الظلمة يولد ذراعان مثل ثعبانين من لهب مقدس يستبدلان الذراعين العاديين .
النار قراءة للظلمة من داخل حركتها المحجوبة ، النار أثر للظلمة ، و للأثر نفسه في تجليه الفني و اليومي معا دون حدود .
النار تمحو الظلمة من داخل تمثيلات السرد التطهيرية لانفصال الواقعي عن الفني .
و في نص ( الإجابة ) ينصرف البطل / الفنان الخبير في الجمال إلى جزيرته ليلتقط الصور الفوتوعرافية ، و عندما سئل عن الجمال أجاب بأنه ليس في العالم قبح ، و المشكلة تكمن في أن شيئا قد وضع في غير مكانه .
لقد اتسعت دائرة الجمال إلى حدود التلقي الفوتوغرافي بوصفه أثرا دون فاعل مهيمن ، الجمال يتجاوز حدوده في الفوتوغرافيا كتمثيل جمالي مستمر للكوني ، أو اليومي في تشكيلاته البارزة دون تدخل ، و دون إطار .
إن الراصد لا يبحث عن الدرر الجمالية بوصفها مركزا ، بل يلتقط أطياف الدرر فيما هو خارج حدودها .
و يعد نص ( رسام الحشرات ) من أهم نصوص المجموعة ؛ لأنه يحول التفكير الأدائي / الوظيفي إلى حالة فنية من داخله ، كأنه ثورة مضادة داخلية في التفكير الوظيفي تفقده مشروعية وجوده كمركز في اللحظة الحضارية الراهنة .
لقد طلق الفنان ابنة عمه ليطلق العنان لنزواته الفنية ، و بعد فترة من العزلة يتزوج ثم يتورط في مشكلة زيادة الدخل مع كثرة عدد الأسرة ، فيعمل كرسام للحشرات بوزارة الزراعة . و يذكر السارد أنه من داخل السياق السابق تعاوده ربة الفن كأنها ولدت بدافع قوي غير واع من داخل حالة العمل الوظيفي .
لقد اختلط العمل الممثل للمأساة ببهجة الفن المولدة من خارجه ، ليصير العمل أداء و إغواء في الوقت نفسه ، أو كأنه تدمير صاخب للمعاناة من خلالها دونما نهاية واضحة لها .
أما نص ( الفراشات ) فهو إكمال تأويلي للسابق و قد برز فيه الانشقاق داخل الفنان الذي صار أثرا تمثيليا خرج من لوحاته ، بين حضوره كفاعل ، و غيابه في الاختفاء التمثيلي للعنصر الفني ، و اليومي في آن ، فرسام الحشرات صار فراشة يلتهمها الجراد . يقول السارد عن الفراشات : " راحت بعيونها البراقة مثل الخرز تتابع من وراء الزجاج ، جرادة تفترس على منضدة من خشب ، رسام الحشرات ، و قد انتشي بالمتعة العارية جسده المسجى عاريا ، و على شفتيه توترت ابتسامة بنفسجية " .
هل هي بهجة التدمير ؟ أم إغواء اللوحة التي انتصرت على التفكير الوظيفي فصارت كونا بديلا عن الفاعل من خلال تدميره السردي ؟
يذكر السارد أن العاملة قامت بتنظيف الأثر ، استعدادا لدخول رسام الحشرات . و أرى أن دخوله في المرة الثانية سيكون طيفيا حرا كأنه لم يوجد من قبل ، أو كأنه أثر متجدد لا نهائي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في