الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(من المتناقضات في التاريخ الإسلامي 7 - ( بطرس المصري

ياسر يونس
(Yasser Younes)

2007 / 3 / 13
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


إننا نسمع من مؤرخينا وكتابنا وشيوخنا المعاصرين حديثاً عذباً عن العدالة والرحمة في تاريخنا المبجل االممنوع الاقتراب منه بالنقد أو التحليل الموضوعي وحين نلقي نظرة على الكتب التي تحمل هذا التاريخ في طياتها لا نكاد نرى أي أثر لهذه العدالة ولا الرحمة المزعومة ولكن ما إن نطرح التساؤل الغاضب والمغضب عن ذلك حتى تثور ثائرتهم ونسمع الاتهامات والسباب يخرج علينا من كل فج وهذا يعني أننا نضع أيدينا بالفعل على سر الداء والبلاء، وما ثورتهم تلك إلا محاولة لصرفنا عن جوهر الأمر والتشويش على أفكارنا لكي لا نهتم إلا بالدفاع عن أنفسنا في مواجهة هذا الهجوم فنحيد عن القصد ونجد أنفسنا نحن في قفص الاتهام بدلاً من شخوص التاريخ ومن يبجلونهم على حساب الحياة والوطن والإنسانية فنكون إذا وقعنا في هذا الفخ قد أصدرنا شهادة وفاة للبحث العلمي والمنهج النقدي.

نحن لا نسطر تاريخاً من عندياتنا ولا نؤلف تاريخاً ولكن نعرض تاريخاً كتب بالفعل ويستميت هؤلاء في الدفاع عن المنهج الذي اتبع في نقله بدءاً من الرواية وحتى التدوين. ومن يشكك في أية رواية وأي راوية تلاحقه الاتهامات ويعتبر مارقاً في نظرهم. والأحداث التي نعرضها لا يقرها الإسلام ولا يقرها أي دين من الأديان ولا أية أيدلوجيات إنسانية، وإنما هي وقائع تجزع منها النفس ويقشعر منها البدن ولا نريد لها أن تتكرر تحت أي شعار كان.

وأترك القارىء أولاً مع نص الحادثة التي وقعت في بداية " فتح مصر ".

"" وكان أكثر الناس يريدون قسمتها، فقال عمرو: لا أقدر أقسمها، حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب إليه يعلمه بفتحها وشأنها، ويعلمه أن المسلمين طلبوا قسمها، فكتب إليه عمر: لا تقسمها، وذرهم يكون خراجهم فيئا للمسلمين، وقوة على جهاد عدوهم، فأقرها عمرو، وأحصى أهلها، وفرض عليهم الخراج، فكانت مصر صلحا كلها بفريضة دينارين دينارين على كل رجل، لا يزاد على كل واحد منهم في جزية رأسه أكثر من دينارين.....

وأخرج ابن عبد الحكم، عن هشام بن أبي رقية اللخمي، أن عمرو بن العاص رضي الله عنه لما فتح مصر قال لقبط مصر: من كتمني كنزا عنده فقدرت عليه قتلته، وإن قبطيا من أهل الصعيد، يقال له بطرس، ذكر لعمرو أن عنده كنزا، فأرسل إليه فسأله، فأنكر وجحد، فحبسه في السجن، وعمرو يسأل عنه: هل يسمعونه يسأل عن أحد؟ فقالوا: لا، إنما سمعناه يسأل عن راهب في الطور، فأرسل عمرو إلى بطرس، فنزع خاتمه من يده، ثم كتب إلى ذلك الراهب، أن ابعث إلي بما عندك، وختمه بخاتمة، فجاءه رسوله بقلة شامية مختومة بالرصاص، ففتحها عمرو، فوجد فيها صحيفة مكتوبا فيها: ما لكم تحت الفسقية الكبيرة؛ فأرسل عمرو إلى السقيفة، فحبس عنها الماء، ثم قلع منها البلاط الذي تحتها، فوجد فيها اثنين وخمسين إردبا ذهبا مضروبة، فضرب عمرو رأسه عند باب المسجد، فأخرج القبط كنوزهم شفقة أن يسعى على أحد منهم فيقتل كما قتل بطرس. "" ( انظر مثلاً فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم وحسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة )

الحادثة المذكورة مأساة مكتملة الأركان، فهذا قائد جيش غاز يفرض الجزية فتقبل وتجبى فلا يكتفي بل يأمر بجرد كل أموال الناس وممتلكاتهم فمن أخفى شيئاً منها قطع رأسه بيده. ونحن لا نعلم كم مثل بطرس قطعت رؤوسهم ولكن الواضح أنهم كثيرون، ولولا أن المؤرخين، بحكم طبيعة مهنتهم، لا يعنون إلا بالشخصيات البارزة لنقلوا لنا ما لا يحصى ولا يعد من مآسي العوام وما تعرضوا له على يد الجيوش الغازية. والملاحظ أن بطرس كان من أعيان مصر وأغنيائها ولكنه مع هذا لم يستطع حماية نفسه، فما بالنا بعامة الناس وبالفقراء، لا بد أن معاناتهم كانت أشد بكثير.

ومع هذا ففي ما نقله لنا المؤرخون، من باب الفخر ربما، ما يكفي للكشف عن حجم البطش والسلب والنهب والاغتصاب الذي تعرض له المصريون، الذين كان يطلق عليهم اسم الأقباط. والمطالع للكتب التي أرخت لتلك الفترة لا يستطيع أن يحصي ما ذكر فيها من أعداد القتلى والسبايا والأسرى. ويجدر بنا هنا أن نبين أن القبطي هو المصري وإن أصبحت هذه التسمية تطلق الآن بالخطأ على سكان مصر من المسيحيين فقط، فالمسلم المصري هو قبطي مسلم والمسيحي المصري هو قبطي مسيحي. وورد في الصحاح أن " القبط هم أهل مصر" وورد في لسان العرب أن " القبط أهل مصر ونيلها " وما أروع هذا الربط بين أهل مصر ونيلها وأعمقه دلالة.

إن الوطن هو وطن الجميع والديانة، أياً كانت، لابد أن تبقى دائماً علاقة بين الفرد وربه ولا شأن لها بالسياسة ولا ينبغي أن تستند إليها أية أفعال منافية للرحمة والعدل والتسامح ولا يجب أن يصنف أهل الوطن الواحد ولا حتى البشر كافة على أنهم مسلمون أو مسيحيون أو يهود بل يجب أن يظلوا دائماً إخواناً في الوطن وفي الإنسانية. إن الصواب هو أننا شركاء وطن واحد نتقاسم ترابه ويتقاسمنا ، مصلحتنا من مصلحته وهواننا من هوانه ورقينا من رقيه.

إن جميع الأقباط، أي المصريين، مسلمين ومسيحيين وغيرهم لابد أن يدمى قلبهم حزناً عند قراءة هذه الحادثة فبطرس هذا من أجدادنا جميعاً وما حدث له ولأمثاله جزء من تاريخنا لا بد من نقده بموضوعية لكي لا يتكرر. فتبجيل هذه الأفعال لصدورها عن بشر نظنهم فوق مستوى البشر يصيبنا بالفصام في القيم والأخلاق حيث نتحدث عنها ولكن نبجل أعمالاًً تتناقض معها فأي تربية تلك التي نربي عليها أبناءنا؟ فنحن نتحدث عن الرحمة والعدل ليل نهار ولكننا لا نقيس أعمالنا عليهما ولا نتوخاهما عملياً كقيمتين من قيم أي مجتمع متحضر وما هذا إلا بفعل هذا الفصام الذي ذكرت.

إن " أقباط " مصر لمن لا يعرف التاريخ ثاروا أكثر من ثورة كبيرة على ظلم الخلفاء والولاة، وكان أشهر هذه الثورات في عصر المأمون حيث بلغ الظلم والقهر والإفقار مداهم فثار أهل مصر كافة، مسيحيين ومسلمين، فالجزية التي كانت مفروضة على المسيحيين وبفعلها تحول كثير منهم إلى الإسلام أصبحت تجبى من المسلمين أيضاً فالأمر كله كان مرده إلى الخراج والجباية.

وأرسل المأمون قائده الأفشين الذي أحرق مصر وأرسل إلى بغداد من أهلها الكثيرين أسرى وسبايا وعبيداً.

ولنعد إلى عمرو بن العاص الطرف الآخر للحادثة، ولسنا بحاجة إلى أن نعرض لسيرة حياته التي تناولها كتاب كثيرون وغطوا أغلب جوانبها. وسنكتفي هنا بالإشارة بإيجاز إلى أهم محطاتها التي تتلخص في إسلامه وذهابه في الغزوات كغيره من العديد من الصحابة ثم قيادة الجيش الذي دخل مصر ومراوغته المشهورة لعمر بن الخطاب حين أرسل إليه رسولاً يأمره بالعودة وعدم دخول مصر، ثم ولايته الأولى عليها، وبعد ذلك عزله عثمان عن ولاية
مصر ثم وليها من معاوية مكافأة على دوره في حادثة التحكيم وتثبيت معاوية وخلع علي وهي الحادثة التي تركت أثراً كبيراً على التاريخ الإسلامي امتد حتى الآن. وروي أن أبا موسى الأشعري، وهو الطرف الآخر في التحكيم، لقي عمرواً فقال له "" ما لك لا وفقك الله، غدرت وفجرت! إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. قال عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً "" ( تاريخ الرسل والملوك )

وتخبرنا الرواية التالية كيف ولاه معاوية على مصر:

"" قال الذهبي بعد كلام ساقه: ثم إن عمرواً قال لمعاوية - يعني في أيام وقعة صفين: يا معاوية، أحرقت كبدي بقصصك. أترى أنا خالفنا علياً لفضلٍ منا عليه! لا والله، إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، وأيم الله لتقطعن لي قطعة من دنياك، أو لأنابذنك. قال: فأعطاه مصر، يعطي أهلها عطاءهم وما بقي فله."" (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة).

وعمرو كان صريحاً مع نفسه ومع الآخرين فلم يدع أنه لا يسعى إلى مصلحته الخاصة فقط ولم يدع أنه ينصر الدين أو القيم العليا أو أية مباديء من هذا القبيل بل كان يريد قطعة من الدنيا ولم يخف ذلك، وكان حين دب الخلاف بين علي ومعاوية:

"" دعا عمرو ابنيه فأشار عليه عبد الله أن يلزم بيته لأنه أسلم له فقال محمد‏:‏ أنت شريف من أشراف العرب وناب من أنيابها لا أرى أن تتخلف فقال عمرو لابنه عبد الله‏:‏ أما أنت فأشرت علي بما هو خير لي في آخرتي وأما أنت يا محمد فأشرت علي بما هو أنبه لذكري‏.‏ "" ( النجوم الزاهرة )
فهو لم يسع حسب كلامه إلى خير الآخرة بل إلى نباهة الذكر وأظن أن مفهومها مختلف بعض الشيء لديه.

فماذا كان حظه من الدنيا التي أراد قطعة منها؟
"" وخلف عمرو بن العاص سبعين بهارًا دنانير والبهار‏:‏ جلد ثور ومبلغه أردبان بالمصري فلما حضرته الوفاة أخرجه وقال‏:‏ من يأخذه بما فيه فأبى ولده أخذه وقالا‏:‏ حتى ترد إلى كل ذي حق حقه فقال‏:‏ والله ما أجمع بين اثنين منهم فبلغ معاوية فقال‏:‏ نحن نأخذه بما فيه‏.‏ "" ( المواعظ والاعتبار للمقريزي )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ألمانيا والفلسطينين.. هل تؤدي المساعدات وفرص العمل لتحسين ال


.. فهودي قرر ما ياكل لعند ما يجيه ا?سد التيك توك ????




.. سيلايا.. أخطر مدينة في المكسيك ومسرح لحرب دامية تشنها العصاب


.. محمد جوهر: عندما يتلاقى الفن والعمارة في وصف الإسكندرية




.. الجيش الإسرائيلي يقول إنه بدأ تنفيذ -عملية هجومية- على جنوب