الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغياب في فضاء المحاكاة .. قراءة في فكر جان بودريار

محمد سمير عبد السلام

2007 / 4 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يعد جان بودريار 1929 - 2007 من أهم المؤولين للحظتنا المعاصرة في تعقيدها التكويني، والتصويري، والتفاعلي معا، إذ يتداخل فيها الحقيقي بالمحاكاة، والتشبيه، كما يخرج التشبيه من حدوده النصية، والبلاغية إلي اليومي، والسياسي، والوجودي، فيبدو في صيرورة الحقيقي نفسه، وكأنه بذرة داخلية فاعلة من خلاله، وليست خارجة عنه.
هكذا تعمل الصورة في فكر بودريار من خلال مبدأ الخروج من هويتها، لتبدو في حالتها الأولي كدال داخلي مغاير في الوجود الواقعي دون انفصال زائف عنه، ومن ثم تبدو المفاهيم المعرفية المنعزلة لدي بودريار نوعا من الخروج الذاتي المستمر في اتجاه كون بديل تعمل فيه التداخلات التفسيرية المرحة من خلال فاعلية التشبيه الكامن في الهوية المعرفية الأولي بوصفه تبديلا أساسيا في حدودها، فالفن يمتد في نزوع الواقع نحو التمثيل الكامن في بنيته، ودلالاته الحرفية، ويمتد السياسي في استباق الصورة الحلمية التي تحاكيه، وتناظر وقوعه في آن فتبدو كثورة داخلية فيه.
لا مكان إذا لعزلة الفن، أو الفكر الاجتماعي عند بودريار، لكنه التداخل، وقبول التبديل الأصلي من خلال التشبيهات، والمحاكاة في التكوين الوجودي، والمدلول المعرفي معا ضمن حالة الخروج، وتحطيم الحدود الداخلية من خلال التمثيل وبذوره الثورية الداخلية. تلك التي تحمل دائما معني الخروج في فاعليتها الذاتية.
ولبودريار ممارسات تفسيرية تعزز من قبول جماليات التناقض في الأشياء الفريدة، في نزوعها للخروج من الخطاب المتعالي للحداثة ضمن واقعها الحرفي نفسه، ويري بودريار أن الفراغ يعمل في مدلول الانتصاب المتعالي نفسه لفن العمارة في صورها الحداثية، أي أن الأشياء تكتسب حضورها الفريد من خلال الغياب في صورتها الأخري التي تفكك المدلول الأصلي في صيرورة تنحاز للتفكيك كحالة تكسب الشيء تميزه دون أن يكون للتميز شكل أحادي.
عقب قراءة بودريار تجد القراءة قد تحولت إلي تأويل يدخل النص في قلب الوجود كحدث مناظر، ومشكل للتفاعل المفتوح بينهما. هذا التفاعل هو كون للحقيقي سواء أكان محاكاة، أو دالا كونيا، إذ يعرف كل منهما بالآخر في هذا الكون الفريد.
إن كتابة بودريار عابرة للأطر، بل إنها ترصد الأطر في تجاوزها الطبيعي لحدودها باتجاه فراغ، أو اختفاء لصلابة هذه الأطر السابقة مما يعزز من الانتشار الدلالي/ الحقيقي للعلامات في المجال العابر لحدود الإطار، لا بوصفه عدما، وإنما بتغييبه لمركزية الظهور، والانفصال، في اتجاه تكاثر الأثر، والتباسه الأول بالاختفاء، فمنهما معا تتحطم الحدود، ويكون الشيء في حالة من التهيؤ لأن يظهر، أو يترك أثرا يقاوم اكتمال الظهور دائما، فيبدو فاعلا ولكن من خلال صورة أخري تشبهه وتشكل وجوده معا.
ولبودريار آراء أساسية جددت التفكيك، وما بعد الحداثة، والفكر الراديكالي، والفنون، والنظر إلي عنف العالم، يمكننا تلمسها في أربع نقاط تستدعي تأويلا، وممارسة مستمرة لمرح التداخلات التي يبدأ بودريار في الكشف عنها حال تحققها داخل النص، وخارجه، وهي:
أولا : التشبيه كانفجار ذاتي للعلامة:
يري بودريار في كتابه (التشبيهات، والمحاكاة) Simulacra and Simulation أن المحاكيات في عالمنا المعاصر تحاول أن تجعل الشيء يتزامن بنماذج محاكاته، ومن ثم فإن الشيء يختفي وفقا لهذه العملية، مثلما ينهار انفصال الأرض عن الخريطة في قصة بورخيس بفعل المحاكاة، ويري أن عمليات المحاكاة لها طابعان، نووي، ووراثي Nuclear and Genetic، إذ يتم إنتاج الشيء الحقيقي من الوحدات الصغيرة، وبنوك الذاكرة، كما يعاد إنتاجه وفقا للتضاعف في عدد غير محدد من المرات، وفي هذا التضاعف ردع للحقيقي بمضاعفاته (راجع ـ BaudrillardـSimulacra and Simulationـ Stanford University Pre, 1988 ـ p 166ـ167).
يبدو التشبيه عند بودريار ثوريا، وذاتيا في آن، إذ ينفجر ضد ذاتيته الخاصة بالتضاعف، وإعادة الإنتاج المبنية علي النسخة، أو الخريطة، أو الصورة التي تبدو المحاكاة فيها استباقا، أو تناظرا يلازم تكوين الشيء ويغريه بالخروج عن منطق البنية الواقعية المستقرة، وفي الوقت نفسه لا يجعل من المحاكاة أصلا بديلا، لأنها تكمن في قلب العلامة الحقيقية، وبهذا الصدد أري أن التشبيه عند بودريار يعمل بصورة سردية ديناميكية، تفسر التكاثر المعاصر للصور حين تتهيأ في علاقتها التناظرية بالعلامة، والوجود لإنتاج واقع مجازي، أو مجاز واقعي فائق يتجاوز مركزية الانعزال السابق للأصل، أو الصورة.
إن اختفاء الشيء عند بودريار هو البديل عن مركزية انتصابه، وقد بدا كجزء يتضاعف بالمحاكاة من الشيء، فصار الاختفاء جزءا ثوريا من الحقيقة.
و أري أن حركة التداخل المعقد السابقة التي ميزت لحظتنا الراهنة لدي بودريار، قد أعيد إنتاجها في الفلسفة، والنظرية الاجتماعية، ومفهوم الثقافة، فقد صارت الأشياء التي تنتمي ظاهريا للمفاهيم السابقة في حالة محاكاة تأويلية مضادة لهذا الانتماء، وذلك بتحطيم الحدود من جهة، والمشاركة في إنتاج معني وجودي فريد من ناحية أخري من داخل الثورة الذاتية للمفهوم كنقطة للبداية.
وقد شارك التشبيه في إنتاج محاكاة للمدلول، وهي التفسير المتجدد له وفق تغيرالهوية من خلال طاقة هذا التشبيه.
إن المحاكاة لدي بودريار آلية عمل حقيقية، وسردية، وتشبه اللاوعي في حركيتها الإبداعية المستمرة، وأتفق هنا مع دوغلاس كلنر Douglas Kellner ، وهو من أهم دارسي بورديار، في أن الكون عند بودريار يبدو جريانا بلا حدود، فالامتيازات التي منحت للفلسفة، والسياسة، والمجتمع الرأسمالي تنفجر في تدفق التشبيهات (راجع ـ Douglas Kellner ـ Boundaries and Borderlines)
يحمل التشبيه إذا بذور انقلاب الحدود، من خلال تكاثره الذي ميز من قبل هذه المفاهيم، وعزز من خروجها التصويري الأساسي من هويتها. وأضرب هنا مثالين كان بودريار قد ذكرهما في (التشبيهات، والمحاكاة) أحدهما سقوط القوة في الطلب الجماعي لإشاراتها خوفا من الانهيار، أي أن الطلب هوس بموتها، وبقائها في آن، والآخر تضاعف العمل في كثرة الإشارات إلي سيناريو العمل، وإرادة مضاعفته.
الطلب المقدس للقوة عند بودريار يختفي في الأثر، وهو التشبيه المتكرر ببقائها كبديل عن حضورها المطلق المهدد بالغياب، أما تصوره لسيناريو مضاعفة العمل، فهو أقرب لحلول الشكل القصصي في الوجود، إنه يشبه ثورة للسرد كدال مضاف في عملية العمل، وعلاقات الاستغلال.
ثانيا : الفن باتجاه الحرفية التمثيلية :
في حديث بودريار عن الفن تحول جذري باتجاه الحرفية التمثيلية Literality أو ما يصفه هو في حوار له بفقدان الفن لموقعه التقليدي كطلب رمزي للثقافة، فقد صار ضمن حرفية الحقيقة، وفي الواقع الفائق Hyper Reality، وهذه الحالة الأخيرة لا تمثل تطورا للفن، بل التفافا نحو الداخل، إذ يقر بودريار بأن طلب الثقافي كان من قبل وهما، لكننا الآن فقدنا هذا الوهم في تلك الحرفية الواقعية الجديدة التي تعتبر الشيء فريدا، والمحاكاة حقيقة متضمنة دون طلب يكرس لانعزال الثقافي عن الحرفي/ التمثيلي بحد ذاته (راجع ـ Baudrillardـ Between Difference and Singularity ـ discuion with Schirmacher)
ومن فقدان الوهم السابق لدي بودريار يبدع الفن مثوله فيما يشبه الثقافي، ويقاومه ألا وهو الواقع الحرفي بما فيه من تمثيل، وتشبيهات، وأري أن تحليل هذه النقطة يضع أيدينا علي نقطتين في غاية الأهمية:
الأولي: أسبقية التداخل بين الفن، وما يتجاوز الثقافي، ولكن الوعي بالتداخل هو ما ميز اللحظة الراهنة، وهو ما يمنح التشبيه اتساعا في تكوين الرؤية.
الثانية: الالتفاف الذاتي للفن ينطوي علي تفكيك، وتأويل الأعمال السابقة وذلك بإسقاط طلبها الأساسي للثقافة، وانفتاح حدود المحاكاة، إلي ما يتجاوزها من ثراء دلالي كامن فيها كواقع متجدد، كما يجعل من الواقع الحرفي تمثيلا يتجاوز ما بعد الحداثة من داخلها، لأنه يقبل الموضوع حرفيا لكن في مجال من التمثيل، وتكاثر نماذج محاكاته، أي في احتمال غيابه أيضا، وكانت فنون ما بعد الحداثة ترتكز علي تفكيك الأصل ضمن العمل نفسه، لكن بودريار يتصور الموضوع الحرفي وقد بدا في حالة تشبيه.
ثالثا: فوتوغرافيا الاختفاء:
تحدث بودريار عن بعض ممارساته للفوتوغرافيا في ترجمتها المادية للغياب الكامن في موضوع الصورة، فقال عن لقطة السيارة الغارقة في المياه، والكرسي الفارغ، أنهما تعبران عن الشكل الافتراضي للجسم الذي لم يعد هناك.
وقد شاهد بعض لقطات فوتوغرافية لبودريار علي الويب، منها:
1 ـ لقطة يبدو فيها الكرسي فارغا، عليه ملاءة حمراء، تمثل الأثر، أو التكوين في ثورته التشبيهية علي حضوره المركزي المطلق كما هو في الفوتوغرافيا التقليدية، هل هو تفجير للموضوع للاحتفاظ بطاقة الأثر المدمرة للحدود من داخل تعيينها في لحظة اختفاء، لا زوال.
2 ـ لقطة تصور حدودا طباشيرية للبشر علي الحائط دونما امتلاء، وكأن الحدود تنطوي علي فراغ ثوري يشكل طاقتها الخفية، هل هو القوة في مجال التكوين العابر للحدود ؟ أم أنه التشبيه حال ظهوره كبديل عن المركز؟
3 ـ لقطة يبدو فيها الباستيل مقلوبا في كأس علي منضــدة، وكأن النسخة البديلة عن الموضوع توشك أن تحطم التعالي، والانتصاب في فراغ الكأس، والتشبيه معا.
رابعا: شكلية العنف العالمي، وذاتيته :
يري بودريار أن حضارة التعميم الإنساني المعاصرة قد استولدت عدوا من داخلها، لأنها لا تملك عدوا مناظرا، ومن ثم كان عنف العالمي يعمل لإقامة عالم متحرر من كل نظام طبيعي، سواء أكان نظام الجسد، أو الجنس، أو الولادة، أو الموت، وهو عنف جرثومي يعمل بالعدوي، برد فعل متسلسل، ويتخذ مظاهر مزاجية، وعصابية، ولا عقلانية مقارنة بعصر التنوير، كما يتخذ صورا جماعية إثنية، ولغوية. راجع (بودريار روح الإرهاب ترجمة: بدر الدين عرودكي ـ المجلس الأعلي للثقافة بالقاهرة 2005 ص 74 و75).
لقد اختلط العنف عند بودريار بمحاكاته ضمن سلسلة تجمع بين الذاتية، والتفاعلية، أو ما يسميها بالبورنوغرافيا التي تدل علي التبادلات المتكررة للجنس، والعنف معا بصورة يعمل فيها العنف مع طغيان العالمي في وقت واحد، إنها حالة من التلازم العبثي، والتي أري أنها تلتف حول تداعيات الكتابة في وجودها خارج الحدود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. شبكة -أي بي سي- عن مسؤول أميركي: إسرائيل أصابت موقعا


.. وزراءُ خارجية دول مجموعة السبع المجتمعون في إيطاليا يتفقون




.. النيران تستعر بين إسرائيل وحزب الله.. فهل يصبح لبنان ساحة ال


.. عاجل.. إغلاق المجال الجوي الإيراني أمام الجميع باستثناء القو




.. بينهم نساء ومسنون.. العثور جثامين نحو 30 شهيد مدفونين في مشف