الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن اللقاء حول مسألة الديموقراطية في المملكة المغربية

محمد المدلاوي المنبهي

2007 / 4 / 23
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


"مشروع دراسات الديموقراطية في العالم العربي" مؤسسة أكاديمية تأسست سنة 1991 واتخذت لها مقرا بالمدينة الجامعية أوكسفورد بالمملكة المتحدة. وينسق أنشطة هذه المؤسسة كل من السيدين علي خليــفة الــكواري، و رغيد كاظم الصلح. وهي تشرف على إنجاز شبكة من الدراسات حول الديموقراطية في كثير من البلدان المعنية بالدراسة، كما نظمت سلسلة من اللقاءات حول نفس الموضوع في جامعات أوروبية، وفي كل من عمان، والقاهرة، ونواكشوط، والكويت، وآخرها ملتقى الرباط في نهاية 2006 بفندق هيلتون بالرباط حول موضوع بعنوان "رؤية مستقبلية جامعة لتعزيز المساعي الديموقراطية في المملكة المغربية". وقد افتتح هذا اللقاء السيد علي خليفة الكواري باسم المؤسسة، وشارك فيه بالعروض وبالمناقشة ثلة من الفاعلين في حقل الفكر السياسي بالمغرب. وفيما يلي بعض الملاحظات حول هذا اللقاء.

إن معالجة مسألة وضعية الديموقراطية في فضاء الأقطار الإسلامية عامة، وفضاء الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا على الخصوص، والمغرب على الأخص، معالجةٌ يحسـُن أن تتكامل في تناولها زوايا ثلاثُ: زاوية المضامين، وزاوية المرجعيات، وزاوية الآليات، آليات الإجراء والتحقيق.

أولا: المضامين الأساسية للديموقراطية في فلسفة الأخلاق
فمن حيث زاوية المضامين، يتعين الاتفاق على حد أدني من الأوليات المؤسسة، والأبعاد المحددة لمفهوم الديموقراطية، حتى يتسنى للأطراف المشاركة في الحوار، ممن يبحثون عن أرضيات مشتركة للعمل، أن تتبين الفضاءات المشتركة الممكنة، وذلك في غير لبس مُعطىً موضوعيا، ولا تلبيسٍ مقصود تاكتيكيا. ومن تلك الأبعاد والأوليات مثلا الإيمانُ الأخلاقي والفلسفي بما يلي على سبيل المثال لا على سبيل الحصر:

 أ- الإيمان الأخلاقي بالمساواة بين بني البشر في المدينة المؤطرة لهم سياسيا، وفي الكون عامة، دون تمييز عرقي، أو إثني، أو ثقافي، أو ديني؛
 ب- الإيمان الأخلاقي بحق بني البشر، أفرادا وجماعات، في الانتماء إلى كياناتهم الهوياتية من حيث الثقافة، والعقيدة، والقيم الفلسفية الخاصة، و الأخلاقية الخاصة، والمؤسساتية، مما لا يلغي حق الآخرين، من أفراد أو جماعات، في ممارسة نفس الحق؛
 ج- الإيمان الأخلاقي بالحقوق الأساسية للفرد الانساني على جماعة بني البشر من حيث هو انسان، وكذا بواجباته نحوها، بقطع النظر عن خصوصياته الاجتماعية أو الانتمائية من قبيل ما أشير أليه في المادة ب ؛
 د – الإيمان الأخلاقي بأن تدبير شأن المدينة والدولة مسألة تداول واجتهاد بين بني البشر من المنتمين إليها، وأن ليس هناك طرف، لا فرد ولا جماعة، يمتلك الحقيقة المطلقة أو حق احتكار الاجتهاد وأهلية تحديد أوجه صلاح الفرد والجماعة؛
 هـ - الإيمان الأخلاقي بأن الانسان، كنوع، مستخلفٌ في الأرض وفي الكون، ومسؤول عنهما؛ وأنه مكرّم، ويدرك بمقتضى ذلك التكريم مبدأ الصلاح والخير بالبداهة والفطرة، ويقوى بفضل ذلك على تصور مقاصد الصلاح بقطع النظر عن أوجه الأطر الثقافية التاريخية التي تتم فيها صياغته لتلك المقاصد؛
 و – الإيمان الأخلاقي – بناء على ما أشير إليه في المادة هـ – بأن مسألة تدبير أمر شؤون الأرض والكون (من فض النزاعات الإقليمية، إلى تدبير شروط البقاء على الكوكب الأرضي : الحرارة، الأوزون، النووي) مسألةُ تداولٍ واجتهاد بين كيانات بني البشر، أقطارا ومنظمات، وأن ليس هناك طرف يمتلك الحقيقة المطلقة أو حق احتكار الاجتهاد وأهلية تحديد أوجه الصلاح على الكوكب الأرضي وفي الكون الفيزيقي عامة؛
 ز – الإيمان الأخلاقي – بناء على ما أشير أليه في المادة و – بضرورة قيام المواثيق الدولية تفاوضا بين الدول، وبضرورة انسجام المواثيق الفرعية، الإقليمية منها والقطرية، مع المواثيق الدولية الأممية من حيث المبدإ؛
 ح – الإيمان الأخلاقي بأن التصورات السابقة، وما شابهها، وما يتفرع عنها، حصيلة تراكم مختلف التجارب والاجتهادات الفكرية والحضارية للانسان بخيرها وشرها في باب تدبير الشأن العام على جميع المستويات، القطرية، والجهوية، والكونية في عصرنا هذا، وأن تبني تلك التصورات، في صياغتها الأخيرة كما تمت هذه الصياغة تاريخيا في زمان ومكان معينبن، مثله مثل تبني مختلف الإنجازات العلمية والتقنية الأخيرة، لا يمثل تنازلا من طرف لطرف، بما أن الأمر يتعلق بحصيلة عامة لتجربة بني آدم المكرمين والمستخلفين في الأرض وفي الكون، والمكرمين بروح العقل.

ثانيا: الآليات الإجرائية للديموقراطية كأوجه ونماذج دستورية
إذا كانت المضامين الأساسية المشار إلى بعضها أعلاه مفاهيم كلية قابلة للإدراك فلسفيا من حيث المبدإ، بقطع النظر عن الظرفية التاريخية، فإن الآليات الإجرائية لضمان تنزيلها على أرض الواقع أمور هي من باب مستقرءات التجربة، التي تتحكم في تشكيل أوجهها معطياتُ التاريخ والجعرافبا وخصوصياتهما.
وإذ التجربة التاريخية محكومة بدورها بكليات محصورة (تدبير السلطة، إنتاج وتوزيع الخيرات المادية والرمزية) وبمتغيرات محدودة كذلك، من قبيل المعطيات الجغرافية، والديموغرافية، والخيرات الطبيعية، ومستوى امتلاك علوم الطبيعة والمجتمع، إضافة إلى الخصوصيات الثقافية في تصور الوجود والمصير، فإن تجارب آليات تفعيل مضامين الديموقراطية محدودة بدورها (ملكية برلمانية بريطانية، رئاسية أمريكية، شبه رئاسية فرنسية، ملكية برلمانية إسبانية، رئاسية برلمانية إسرائيلية، لخ) ولا يمكن التذرع بالخصوصية للتملص من واجب تبني وجه من أوجه تفعيل تلك المضامين.
هذه الآليات الأخيرة، دون غيرها من المضامين ومن حواملها وسبل ترسيخها، هي ما انصب عليه النقاش خلال الملتقى، واستأثر بجُماع اهتمام المشاركين، وذلك من خلال النقاش مثلا عن طبيعة المرحلة في المغرب ما بين "الاستبداد" و "الانتقال الديموقراطي" أو "ما قبل الديموقراطية" قصد تحديد سقف الأشكال الآلية الممكنة والملائمة لتفعيل الديموقراطية (ملكية رئاسية، ملكلية برلمانية، ملكية تحكيمية، الخ) وتحديد الأطراف التي لها مصلحة في الانخراط في ورشة الصيرورة الديموقراطية، وكذا الأوجه التنظيمية الممكنة والملائمة للمرحلة (تحالفات، انصهارات، تكتلات، تنظيمات جديدة، الخ).
هذا الوجه الأخير وجه مهم، بالطبع، من أوجه تناول مسألة "الديموقراطية في المملكة المغربية"، التي هي موضوع الملتقى، ولكنه يفترض أن يكون الوجه الأول (أي وجه المضامين والمفاهيم) قد حصل على مستواه حد أدنى من وضوح التصور، كما يفترض بأن هناك حدا أدنى من الأسس المرجعية المؤسـِّسة لتلك المفاهيم، موضوعا بشكل مؤسسي في متناول مصادر تشكيل وعي الفرد والجماعة، من خلال أنظمة التربية والتثقيف، وهو ما يتناوله القسم الموالي من هذه الورقة.

ثالثا: مرجعية المفاهيم الديموقراطية
إذا كانت المفاهيم المشار إلى عينة منها في القسم الأول من هذه الورقة مفاهيم كلية قابلة للإدراك فلسفيا، من حيث المبدإ، بقطع النظر عن الظرفية التاريخية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مستهل القسم الثاني، فإن الصيرورة التاريخية للفكر البشري، ولحاجات الانسان في التدبير، حسب تطور وتراكم أمكانياته العلمية والتنظيمية، لم ترشح تلك المفاهيم لتكون محور أجيال من الإنتاجات الفكرية والفلسفية والأدبية إلا في زمان ومكان محددبن، هما ما يمكن أن نجمله، في شيء من التعميم، في ما سمي بعصر الأنوار في أوروبا؛ وذلك تماما كما أن الآلة البخارية كان قد تم تصورها علميا، بل واستخدامها تقنيا، مند فترة الحضارة الإغريقية، إلا أن تطوراتِ ثقافةِ علاقات الإنتاج والتوزيع محليا وجهويا لم ترشحها لتدشين عهد جديد في تاريخ البشرية، ألا وهو عهد الثورة الصناعية، إلا في القرن الثامن عشر الميلادي وفي أوروبا الغربية بالضبط. وكما أن الآلة البخارية أسست التينكنولوجيا الحديثة على المستوى الكوني اليوم في استقلال عن أوروبا الغربية (في اليابان والصين والهند) فإن أدبيات الأنوارية تمثل وإلى اليوم المرجعية الأساسية على المستوى الكوني لعلم الأخلاق العصرية فيما يتعلق بأسس المفاهيم الفلسفية في باب تطوير الوضع الاعتباري للانسان في المدينة وفي الكون، وفي باب تدبير الشأن العام على مختلف المستويات، من المحلي، إلى القطري إلى الجهوي، إلى الكوني، بما في ذلك وجه التجربة الاشتراكية. إن هذه الأدبيات في صيغها على شكل نصوص من مختلف الأجناس الأدبية (من المساهمة الفلسفية، إلى المناظرة الكلامية، إلى الرواية أو المسرحية، أو النص القرائي في الكتاب المدرسي) هي التي تكيف ذهن ووعي الفرد والجماعة بشكل تصبح بقتضاه المفاهيم الديموقراطية المشار إلى بعضها في القسم الثاني، ليس فقط مفاهيم قابلة للإدراك كمفاهيم معرفية في أحسن الحالات، ولكن كضرورات أخلاقية يتشبع بها وعي الفرد والجماعة، وتصبح من مقومات ذلك الوعي، التي تؤطر طموح الفرد، و ترسم ملامح يوتوبيات المدينة الفاضلة لدى الجماعة. فبدون يوتوبيات جميلة، لا يمكن خلق الحماس اللازم لإنجاز الخطوات الواقعية الصغيرة؛ وهي التي تشكل، في النهاية، في أعماق الوعي أصلب الضمانات للدفاع عن قيم الديموقراطية ضد المزالق المحدقة، وذلك من خلال ممارسة المواطنة.

إلا أن هناك اليوم مفارقة في أوساط المجتمعات المعنية بموضوع اللقاء حول المسألة الديموقراطية، وفي مقدمتها المغرب، تتمثل في أن أدبيات الآليات المشار إليها في القسم الثاني من هذه الورقة تطغى على أدبيات مرجعية المفاهيم. فأدبيات الآليات حاضرة في الجامعة العصرية مند تأسيسها، وفي البحث العلمي الذي تحتضنه، على شكل مكانة مواد القانون الدستوري وبعض أنواع المنظمات. كما أنها حاضرة حتى في نصوص مادة التربية الوطنية في المدرسة (تيسير التعريف بالسلط، وبالأجهزة التشريعية، والتنفيدية، والقضائية، وبالآليات والهيئات التمثيلية، الخ)، بينما لا تحظى أدبيات المرجعية بأي اهتمام مؤسسي على مستوى برامج تكوين النشء في المدرسة، وفي الجامعة، وعلى مستويات الترويج الفني والتثقيفي للقيم والأخلاق (السياسة الثقافية العامة للدولة وللمؤسسات المدنية المؤثرة في الحقل الثقافي). ولعل هذا مرتبط بمكانة العلوم الفلسفية والاجتماعية في المواثيق التربية والتكوين مكتوبة كانت تلك المواثيق أم ضمنية.
ومما له دلالة بهذا الشأن أن "الأهداف الوطنية" الخمسة (استكمال الوحدة الترابية، توفير شروط الانتقال الديموقراطي، تحقيق العدالة الاجتماعية، التنمية الاقتصادية، التجديد الفكري) التي حصرتها ورقة العمل التي وزعت في الملتقى باسم السادة : ابراهيم ياسين، محمد الساسي، احمد حرزني، مصطفى المعتصم، عبد العزيز النويضي (ومن صياغة وتوقيع هذا الأخير) قد وضعت هدف "التجديد الفكري" في آخر السلـّم، على الأقل من حيث تسلسل الذكر؛ كما أنها لم تـُقِـم أي ربط عضوي أو تكاملي بين هدف "لتجديد الفكري" هذا في عموميته (الفكر العلمي، الفكر الأخلاقي، الفكر السياسي، الفكر التدبيري) وبين هدف "الانتقال الديموقراطي".
وتجدر الملاحظة أخيرا إلى أن طرح مثل هذه التساؤلات بخصوص العلاقة الممكنة ما بين هدفي "الانتقال الديموقراطي" ثم "الانخراط في الديموقراطية"، وبين هدف "التجديد الفكري"، بما في هذا التجديد من تأسيس للمفاهيم المرجعية للديموقراطية من خلال ترويج أدبياتها المستقاة دون عقدة أو انتقائية من مظانها كما يـُستقى العلمُ الحديث والتقنية الحديثة من مظانهما دون عقدة أو انتقائية، لهو طرحٌ يصادف، بالنسبة للمغرب، أمرين ذوي دلالة:
1-- أولهما هيكلة وتنصيب "المجلس الأعلى للتعليم"، الذي "يستشار في مشاريع الإصلاح المتعلقة بالتربية والتكوين ويدلي برأيه في مختلف القضايا ذات الطابع الوطني المتصلة بقطاعات التربية والتكوين كما يقوم بتقويمات شاملة للمنظومة الوطنية للتربية والتكوين، على المستوى المؤسساتي والبيداغوجي والمتعلق بتدبير الموارد، ويسهر على ملاءمة هذه المنظومة مع محيطها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي." (المادة 2 من الظهير المؤسس)، والذي تم تأسيسه "اعتبارا لكون الحق في التربية يكفله الدستور، وبالنظر إلى المكانة المتميزة التي بتبوؤها التعليم والتكوين في المشروع المجتمعي الذي نقوده من أجل المغرب، كناقل حاسم لقيم المواطنة والتسامح والتقدم" (النقطة 1 من بيان الأسباب الموجبة للظهير المؤسس).
2-- وثانيهما احتضان المغرب في نفس اليوم لأعمال اليوم "العالمي للفلسفة" ما بين 15 و 18 نونبر 2006 بالقصر الدولي للمؤتمرات محمد السادس بالصخيرات، وذلك بتنظيم من وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، ووزارة الثقافة، بتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة " اليونسكو".

خلاصـــة
معنى هذا أن الوعي قد حصل، وأن كل الشروط المؤسسية قد اجتمعت اليوم للشروع في شق طريق هدف "التجديد الفكري" من بابه الواسع، باب بعث الفلسفة، وعلم الكلام، والأخلاق، ونظريات المقاصد، وعلوم المجتمع والانسان، هذا الباب الواسع الذي لا يمكن ولوج ملكوت الفكر الديموقراطى من غيره. ومعناه أن الكرة الآن في ساحة النخبة المنتجة للأفكار والمفاهيم العلمية والأخلاقية والأدبية والفنية والمروجة لها عبر كافة الأنواع والحوامل التعبيرية، إذ لا يتصور انتقال ديموقراطي في استغناء عن أي نخبة فكرية وبناء على مجرد عمل النخبة السياسية، خصوصا بعد فك الارتباط بين أقـنوم المفكر وأقنوم السياسي، واستقلال كل منهما عن الآخر لهذا الجيل، بعد أن كانا يجتمعان في شخصيات من أمثال علال الفاسي، والمختار السوسي، وعبد الله إبراهيم، وبعد الاستقالة الرمزية والدالة في هذا الباب لمحمد عابد الجابري من دور الفاعل السياسي، فلم يبق في الميدان من صنف من يجمع ما بين الفعل السياسي والاجتهاد الفكري بالمغرب إلا الشيخ عبد السلام ياسين الذي يقوم خطابُه بالضبط على أساس قــدَرية "حديث الخلافة"، فاحتاج بسبب ذلك إلى تجديد فكري جذري.(1)
إن باب التجديد الفكري مفتوح أمام الجميع، كيفما كانت قناعات الانطلاق. وإذا كان لا بد من مجاراة التسميات والتصنيفات السائرة، نقول بأن الباب مفتوح على قدم المساواة أمام المدرستين السياسيتين اللتين تؤثثان اليوم الفضاء السياسي المغربي الحالي، مدرسة الأحزاب المعروفة ذات الخلفيات المدنية بكل أطيافها من خلال المتعاطفين معها من المفكرين، ومدرسة الأحزاب الناشئة ذات الخلفيات الدينية من خلال المتعاطفين معها من المفكرين؛ وهما مدعوتان، بنفس القبيل من الضرورة، إلى ولوج ذلك الباب.
فالأولى مدعوة إلى الانخراط في مغامرة بعث وتحيين مدرسة "أنوار" حديثة لإعطاء أسس ملموسة من الأدبيات المؤسسة لما تعتقد أنها تصدر عنه بداهة، بالرغم من أنه غائب عمليا عن المحيط التربوي الذي يشكل الوعي العميق للفرد والذي يتحكم في سلوكه وحتى في إدراكه لقيم الخير والشر، والنجاح والإخفاق، في المحيط الاجتماعي.
أما الثانية فهي مدعوة إلى مراجعة تكوين يقوم، في جذعه الأساسي، لحد الآن، على مجرد أدبيات الرواية والسِـيَـر بمختلف درجات تاريخية تلك السير، أو مجرد مناقبيتها الإشراقية، أو حتى أسطوريتها الأدبية، وذلك قصد العمل على بعث وتحيين علوم الكلام التي تبحث في قضايا الحرية، والمصير، والمسؤولية، وأخلاقيات نظريات المقاصد، وكذا العمل لى تدعيم كل تلك العلوم وتحديثها بمنجزات الفلسفة الحديثة والعلوم الانسانية (علوم الاجتماع، والاقتصاد، والنفس، واللغة، والتاريخ، والعولمة) حتى يتم امتلاك أدوات جديدة متطورة للنظر والتحليل، و يحصل الاقتدار على تصور مقاصديات فرعية جديدة تتلاءم مع ظرفيات الوضع الجديد للإنسان المعولم في مجتمع المعرفة والتبادل الكوني السريع والمعقد، الذي يلغى أكثر فأكثر أبعاد المكان، وليتمّ الاقتدار على إنجاز اجتهادات ملائمة بناء على كل ذلك. ذلك هو ما يتعين بدل ذاك القبيل من النقاش الذي دار مثلا في الملتقى المذكور ما بين مصطفين، المصطفى المعتصم، والمصطفى الرميد – وهما مسئولان بارزان في حزبين إسلاميين مغربيين – حول فيلولوجيا تحقيق حديث الخلافة ذي المراحل القدرية الخمس في أنظمة الحكم؛(2) ذلك االحديث الذي كان قد استشهد به أحد السادة المتدخلين من جماعة العدل والإحسان كعنصر تحليل وإثبات فيما يتعلق بتحديد طبيعة الحكم الحالي في المغرب،(3) والذي استحسنه ودعم الأخذَ به السيدُ الرميد باعتباره حديثا "صحيحا" حسب الإمام أحمد في مسنده، كما نبه الرميد إلى ذلك، بينما اطـّرح السيد المعتصم الأخذ بذلك الحديث مدعيا أنه مجرد حديث "حسَن" في سلـّمية التخريج، والتحقيق، وترجيحات وتجريحات المتن والسند، ولا يرقى، في رأيه، إلى درجة "صحيح" كما ذهب إلى ذلك السيد الرميد استنادا إلى فيلولوجيا الإمام أحمد.

إن تجديدا لخطاب الإلهيات يصدر عن إنجازات علوم العلم بالواقع في ميادين الطبيعة، والانسان، والفكر الرياضي، والتاريخ، بدل أن يتنكر ذلك الخطاب لها، ويعيش في صدام شقي دائم معها يزداد شقاوة مع مرور الزمن وتراكم التطور، لهو ما يمكن أن يعتبر أصلاحا دينيا حقيقيا كذلك الذي مهد في أوروبا للنهضة، ثم لعصر الأنوار الذي أرسى المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها الديموقراطية. فذلك الإصلاح الديني كان إصلاحا داخليا توجه إلى المؤسسة الدينية من خلال هيئة الكنيسة وطبقة رجال الدين المحترفين، وليس إلى المؤسسة الدنيوية من خلال الحاكم، قصد منازعتها الحكم مباشرة؛ وبذلك تقدم ذلك الإصلاح بالمسيحية نحو تكيـّفات جديدة سمحت لها بأن تتلاءم أكثر مع المحيط العام، بما في ذلك المحيط العلمي في ميادين الإنسان، والطبيعة، والتاريخ، ومحيط السياسة، وممارسة الحكم.

هوامـــــــش:
(1) يُحسب لخطاب الشيخ ياسين، على الرغم عتاقته، أنه ساهم إلى حد كبير في تمييز حركة الإسلامية السياسية المغربية عن نظيراتها في الجهة والجوار، من حيث أنه فتح باب الخطاب، وراكم فيه أدبيات ساعدت على تغليب المواجهة الفكرية لحد الآن على الأوجه المدمرة الكارثية للمواجهة السياسية، التي تسود في غياب أي إنتاج فكري، كما حصل في الجوار.

(2) روى الإمام أحمد في المسند أن النبي-صلى الله عليه وسلم قال: "تكون فيكم النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة راشدة؛ فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ؛ ثم تكون ملكا عاضا؛ فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا؛ فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت".

(3) كانت الحركة الشيوعية المغربية في نهاية الستينات وبداية السبعينات تولي أهمية محورية في "التحليل الملموس للواقع الملموس" لنظرية الحتمية التاريخية ذات المراحل الخمس لأنماط علاقات الإنتاج والتوزيع وتنظيم المجتمعات البشرية : الشيوعية البدائية، تم العبودية، ثم الإقطاع، ثم الرأسمالية-الامبريالية، ثم الاشتراكية-الشيوعية، التي اعتقد الجيل الاشتراكي-الشيوعي السبعيني بأنه صادف مرحلة إقامتها، كما يعتقد الجيل الإسلامي الحالي في عموميته بأنه جيل مرحلة "الخلافة على منهاج النبوة ".









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد