الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شهادة قصصية، العين والآثر

محمد خضير سلطان

2007 / 4 / 26
الادب والفن



(1)

الكتابة القصصية، تبدأ من المراقبة البصرية من اجل استحداث الاثر، فالليل نهار غارب، وصمت الازقة ، يخبيء صخب النساء والاطفال، وتراكم نفايات الاسواق في استراحة الباعة او في حظر التجوال ، يكشف عن انحسار الصخب وخطى المتبضعين، وظلمة الاشجار تعبير عن نوم الاطيار العميق، ولفتة الشرطي الحذرة، تضمر واقعة لاطلاق سيل من الرصاص ،
من يشاهد اجواء الطوارىء في الطريق البغدادية، وجوه الناس المتوجسة من تفخيخ والمتسارعة الخطى خشية الانفجار والمرتابة بالنظر الى بعضها فضلا عن ان خواء بعض الشوارع من المارة والنظرات الزائغة لرجال المرور ، يفضح بقوة آثار سيارات محترقة وتخريب ارصفة بعبوات ناسفة ومواضع اطلاقات، مرت صاخبة على واجهة واسيجة البيوت،، لابد ان يستدرك هذا الشاهد العابر ،،، كيف يرى مثل هذه المظاهر في مدينة مثل بغداد ، اين الحقيقة، في بغداد ام في الطريق التي لاتوصل اليها ، هل يصدق( الآخر) ان وضعا على هذه الشاكلة، ينتج في المقابل نقيضا كاسحا، من علامات الموت الاعتباطية في الطريق( وهل هي حقا اعتباطية؟ ) ،ثم تفضي الى سحنة متطامنة، يكسيها السلام دعة ويشبعها الوئام القا حتى كانك امام فخارة من الطين، الشديد النقاوة ولامتناهي الحبور، فخارة على اهبة التشظي، تخرج من جوفها المظلم اشباح لاترى امام الشمس والماء، تهتز بغداد بعنف ولكن الشعور بالحياة لايتخلخل ، تموت في المساء وتستيقظ في الصباح حتى تغدو الكراهية مثل بندقية صيد موجهة الى شجرة ملأى بالطيور، وحين يوجه الصياد اطلاقاته ليقتل بعضها ، تهرب الطيور الآخرى الى سماوات قريبة ثم تعود من جديد، وتظل فكرة اقتلاع الشجرة هي مقتل الصياد ومهواه الاخير.

(2)


تبدأ الكتابة القصصية من استعادة الذاكرة للمكان وتنتهي اليه عبر ادارة القص ، ولم تبق الكتابة اسيرة الشكل الدائري لعناصر الزمان والشخصيات والوقائع بل هي متفجرة في فضائها باستمرار، وبين هذا وذاك ، تقوم على تحطيم العياني واقامة الاثر( المتخيل الجديد الذي يصبح جزءا من الواقع).
ان وسائل السرد في جميع اشكاله الادائية ، الصورة في الفيلم السينمي، والرسم في الفن التشكيلي ، اي الخط والحركة والفراغ واللون، واللغة في القصة ، والممثل في المسرح، كل هذه الاشكال الادائية، تحاول ان تتعقب اثرا ما ، اختفى ليعود وعاد ليختف، تقتفيه وتبني قيافة الاثر ( التعيين المادي للنص) في تراسل بين الحضور والغياب، وهو في النهاية مايشبه استعادة المفقود بهدف بناء عملية الواقع وربما تكون جزيئات هذا المفقود في الماضي او المستقبل فالتراكمات في واقعنا التاريخي ، هي تبدي الظلام العميق الى مادة وعلينا ازاحة الظلام عن هذه المادة من اجل ابتكار النص.
نعرف ان كل شيىء في قريتنا، تنعكس مرتسماته في مرايا الغيوم،كل قرية لها صورة غيوم وكل ظلال قريتنا ، ترتقي الى غيومها،
ظلالنا العالية هي التي تغدق علينا بالمطر..... دلاء ناعور، ترتفع بالماء، وتتلاشى في رحاة، دورة... وينتسج دقيقها في دورة المغزل.
نعرف الجدول القديم ذي القصب الكثيف، المتهدل الاوراق في قناته المطمومة، وجدران المعبد الصلدة بزقورته المرتفعة في الحي المقدس ( عرفنا في ما بعد بمكان الحي المقدس).
اي شيىء ، يدخل قريتنا،سوف يجد مرتسماته هناك ، البنادق الجديدة الصنع، الطويلة الاخماص، الملفوفة رصاصاتها في صناديق مبطنة بالقطيفة الملونة، يجلبها جوابون غرباء،،،، والتماثيل الجهمة والجرار الهرمة الطافحة باحجار غريبة ، يعثرون عليها تحت ارض المعبد ...... ترتسم مراياها الواحا لم تقرأ بعد واطياف اشخاص حليقي الرؤوس وذي لحى، يتسربلون في ثياب التعازيم وتلثمهم الظلمة،،،،
عربات مزخرفة الحافات، تمر.... وانصاب نذرية مملوءة بالماء الخالص وجرار طويلة الاعناق، تفيض احجارا لامعة، تموه الاثر الريفي بظلام المدن القديمة.

(3)


الخط اثر اداته، القلم، الفرشاة، الحرف الطباعي، والكلمة او الصورة، اثر الذاكرة الاجتماعي ، وبذلك يزدوج الاثر ويتداخل ايضا ليشمل الذاكرة التاريخية بجمعها،،،، ان معقبي السرد هم اثر زمنهم المستعاد من خلال الشكل السردي المتجد لدى القراءة او المشاهدة ، بدليل حكايات الف ليلة وليلة التي تعد اثرا مستعادا من قرون ماضية لكنها تنسف- كنص- لدى اية قراءة جديدة عبر تقادم الزمن وتوجه قرائيا على وفق الحاضر اي تؤلف من جديد في تعقيب آخر فالنص يقيم اثره باستمرار عند اية قراءة تعقبية جديدة، وهي ادوار يتداخل فيها الزمن بالوعي والغياب بالحضور وبالعكس.
في الرواية الجديدة( مطلع الستينيات من القرن الماضي) ، استخدم القياس السيمتري او التماثلي للاشياء والشخصيات، وبالرغم من ذلك هو نفي لهما واثبات للرؤية والمتخيل القصصي الافتراضيين، والاعتماد على تماثلية المشهد لا تعبر عن نقله المباشر قدر ما تعني الافتراض وتكثيف متخيل جديد واستحداث اثر لايطابق الواقع حتى لو ماثله في ادق القياسات السيمترية فالغابة، تبدأ بشجرة او شجرتين ، وصف طويل او قصير من الاشجار وعدد كثيف من الاوراق والاغصان ولكنها اشجار واغصان قصصية محكومة بانتاج الاثر المستعاد، لا تستند الى عيانها الحقيقي، وينطبق الامر على الرواية التقليدية والاطارية حيث شوارع دبلن وبغداد وباريس والقاهرة هي صفات اثر على اثر.
ليس ثمة شيىء بكر لايرتسم باثر ابكر منه مثل الماهية التي تسبق الفكرة، مثل الامتداد الاول اللامتناهي للبحر، الصحراء، الغابة، نبدأ بتعقب قطرة الماء لتهب قدحا او بحرا، وذرة الرمل لتهب نسيج الوبر او الصحراء، وتعقب لحاء الشجرة لتهب طيورها او الغابة.
بعض من فنن مصقولة بلفح الشمس وتضاريس الرمال الساخنة، بعض من احجار ناتئة، عتية وطير يعشش فيها واعراف خيول ذات غرر رمادية، تصول فتلوي بها الرمال انى اتجهت.

(4)

* اذا نحن مستحضرو الاثر،
تغير انهارنا مجراها على رسلها ، ويقيم الناس بيوت الطين والاكواخ على القنوات العمياء...... حينما غيّر النهر مجراه آخر مرة، تقوضت قناطره واتجهت نوارسه برشاقة الى الفضاء الجديد للماء، وتحولت القوارب وشباك الصيد وظلالهما الى القناة الجديدة، وزحفت كلاب وافاع مائية واسماك ، وانتقل الاطفال الغرقى الذين لم يعثر على جثامينهم غطاسو النهر ، وراحت شموع الخضر المضيئة، تحترق فوق مياه ثانية حتى ان اشباحا في الظلمة ، خاضت في المياه الضحلة فأخرجت الأله ابسو محمولا على آلة الالهة واودعوه المجرى الجديد ثم اخرجوا بعض المعاول البرونزية والفؤوس وزنازير تمائم، نثروها فوق سطح المياه العميقة لتأخذ تشكلها ثانية، وقفلوا عائدين الى آثارهم ، انهم يستحدثون استعادتهم في السباحة في نهر يغير مجراه ويدركون جيدا عبور الانهار على طريقة هيرقليطس.

* اذا نحن معقبو الاثر...
نقتفي سلاما ضاع في بغداد، وخطى ضاعت آثارها في رمال الربع الخالي، الرمال هي امتداد الذاكرة اللانهائي ولكنها ايضا مدرك الخطى الضائعة،،،، نجوس في اقبية الماضي عبر سقف الحاضر الخفيض.

* اذا نحن مبتكرو الاثر....

الريح تقص تجاعيدها في شكل الرمال وفي شكل الموجة على مياه النهر، تقص محيطها في شكل الارض.
ذاكرتنا التاريخية التي تميزنا عن الآخرين هي ( المرسلة ) والاشياء والوقائع، تشكل المدرك القصصي، وثمة فصل بين الذاكرة والعيان، نحن ننسف العيان ونستجمع التشظي لكي نعيد انفجار الوقائع على نحو آخر ثم نقيم الاثر- النص حتى يغدو جزءا من المكان- فالقصة التي انتجتها المدينة من خيالها، غدت جزءا من اثاثها وخرائطها وليست تعبيرا معنويا عن وجودها حسب.

* اذا نحن معقبو الاثر........
نستطلع مقطعة السياف اللامعة ونبحث عن آثارها الخفية من الاشباح الساكنة في الخرائب، نرى المتسولين كونهم صورة آخرى للبنايات العالية التي ينتشرون تحت سلالمها ولن تكتمل رفاهية السوق دون حركتهم، ثمة اتفاق لايبدو واضحا باصرار مثل نقائض متكافئة ولكن لانريد لهذا التكافؤ ان ينتقل الى النص.
* اذا نحن معقبو الاثر...
نريد ان نقاوم نصوصنا التي تكتبنا، يجب ان نحصل على نسبة حتى لو كانت ضئيلة على عائدية وحقوق التأليف لنا قبل ان تذهب كتاباتنا الى عامل المثرمة في سوق المتنبي للكتب الذي يصير مؤلفها بحق، فلا افضل لها من كتابة ، تضل طريقها وخليق بعامل المثرمة ان يكون مؤلفها ، وخليق ايضا ان تكون الكتابة عجينة ورقية ثم تصنع اغلفة كرتونية للاقداح العراقية بدلا من ان تتلف في رفوف المكتبات، انها تقنية لقراءة مضادة، تقنية من يحدد اسوار الغلس ويبحث لها من نقطة ما بابا للاضاءة.
اننا ننال سخرية معلمينا المصحوبة بشيء من الغبطة والاشفاق....

*كان من المؤمل قراءة هذه الشهادة القصصية في مهرجان الحبوبي الذي اقيم في الناصرية للمدة بين العاشر والحادي عشر من نيسان2007 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج