الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبثية الموت وهندسة المأساة قراءة في مسرحية حفار القبور للمخرج فتحي عبدالرحمن

توفيق العيسى

2007 / 5 / 1
الادب والفن


مات النهار، ورياح الساحرات أطفأت ذبالة الروح، نبوءة طقسية امتزج فيها صوت الرياح بشهقات المحتضرين، تتصاعد موسيقى مع تراتيل وإيماءات، تهمس إحدى الساحرات "عما قليل ستشتعل بهذا الجسد روح صفراء" فينبعث بخور الساحرات ليدل البوم على أماكن الخراب والموتى وتنعب الغربان.
على مسرح قصر رام الله الثقافي قدمت فرقة المسرح الشعبي ثنائية للموت والحياة، عبر مسرحيتها "حفار القبور" المقتبس عن قصيدة الشاعر العراقي الرحل بدر شاكر السياب والتي تحمل ذات الاسم إعداد حازم كمال الدين وإخراج فتحي عبدالرحمن.
تدور أحداث العمل عبر أجواء غرائبية، أشبه بحفل تحضير أرواح الموتى، حيث يبدأ العرض بوضع الجمهور في هذه الأجواء، من خلال المؤثرات الصوتية والضوئية والإيماءات الجسدية للساحرات الثلاث والذي جسدن دورهن كل من الفنانات ( سميرة الناطور وميسون زغيب وروان سلامة) اللواتي أعلن رحيل النهار وانسدال الليل على المقبرة، بذات الحركات الإيمائية وعلى وقع موسيقى توحي بتصاعد إحساس الشر تطفيء الساحرات الأضواء المنتشرة على خشبة المسرح، ليبدأن بعملية تحضير روح حفار القبور-الذي جسده الفنان حسين نخلة-، والسيطرة عليه لجعله أداة الحرب في أيديهم.
منذ اللحظة الأولى لبدء العرض ينسج المخرج جو المسرحية بمزجه الرقصات التعبيرية والأضواء والموسيقى وباقي المؤثرات الصوتية، وبعيدا عن ما يسمى ب( ثرثرة الموبيليا) استخدم المخرج بعض قطع الديكور، كسورين متقابلين يعبران عن المقبرة، وبعض شواهد القبور وحفرة تمثل القبر على يسار المسرح، وتمثال الجندي، الأمر الذي ترك للمثل حرية الحركة واستخدام اكبر مساحة ممكنة من المسرح، كما أدى هذا الأمر إلى اعتماد الممثلين على قدرتهم الأدائية في توصيل الفكرة للجمهور بدلا من اعتمادهم على العناصر المسرحية كوسيط بينهم وبين المتلقي.، ومع تداخل الفنون أو تجانسها نستطيع القول إن عملا مسرحيا يضم عدة عناصر موزعة بتناسق معين على خشبة المسرح ويمزج بينها فهو بلا شك يصنع لغة تشكيلية، والتي تتحدد من خلال الاتزان و (الحركة والإيقاع والزمن) والتكوين وعلاقتها بالموضوع، أو ما نستطيع تسميته بتوزيع العناصر المسرحية على خشبة المسرح، بشكل يكفل الانسجام والتوافق بينها وذلك للوصول إلى الشكل الفني الذي يساعد المتلقي على الإدراك والمتعة.
عودة للساحرات اللواتي اعتمدن الإيماء والإيحاء في تجسيدهن، بتناغم ما بين الحركة والموسيقى والضوء، فمشاهد التحضير للحرب أو للروح المنفذة لها كانت ذو إيقاع بطيء يبدأ بالتصاعد للوصول إلى مناجاة أرواح وقوى الحرب ويصل الذروة عند بدء تحقق النبوءة، يليه الصمت، حين تتحقق، ليعود الإيقاع بطيئا مرة أخرى في حوار يكشف عمق الفرح لديهن في ما حققنه ونبوءتهن بما سيحدث بعد ذلك.
فالعمل لم يبن على خط مستقيم فالتواتر والتصاعد هما العنصر الدرامي الرئيس، وفي مشاهد تلتقي فيه الساحرات بحفار القبور بعد تحضير روحه يمارسن السيطرة الذهنية عليه بنفس الطريقة ولكن هذه المرة ينتقل الخيط المتصاعد بينهم فوصول الساحرات إلى إيقاع الذروة يعني بالضرورة انتقال التصاعد إلى حفار القبور وهو ما كان تعبيرا عن الصراع النفسي الذي يعانيه، وانتصارهن عليه، الأمر الذي شكل مشهدا سرياليا، بإتزان الأداء بين الممثلين.
التصاعد ينتقل بين المشاهد كما ينتقل بين الممثلين، فمشاهد المسرحية موزعة بين الحفار والساحرات في المقبرة يليها مشهد بينه وبين روحه أو ضميره والذي جسد من خلال الفنان ( أمجد غانم) هذا المشهد الذي تكرر ثلاث مرات كل مرة بعد عملية سيطرة ذهنية من قبل الساحرات أو من قبل الصراع الداخلي الذي يعانيه، وإن كانت شخصية الروح تعكس أحد مظاهر الصراع الداخلي إلا أنها أيضا تعكس رأيا وموقفا مما يدور، بعد ذلك مشاهد بين الحفار والضحايا تعكس نهمه في جني المال ثم مشهد الحانة التي يعود منها مكسورا إلى المقبرة.
فتركيب المشاهد المتعددة حسب الدلالة الرمزية والإيقاع المتناغم أدى إلى عرض مضمون العمل بعيدا عن التعقيد وأدت إلى متعة المشاهد في ترقب الأحداث، باستثناء المشهد الأخير الذي كان من المفترض أن يعكس مفاجأة حفار القبور واندهاشه من مرأى أحد أقاربه بين الضحايا حيث طالت فترة الاندهاش بالبكاء والعويل على الرغم من سرعة وصول الفكرة للمتلقي.
يتواصل الخط الدرامي للعمل بالوصول إلى الحبكة المسرحية، وهي تحقيق حفار القبور لأحلامه ومتعه، وهنا تكمن رؤية المخرج لمصير الحرب.
حانة تمتزج فيها ألوان الفرح بالمتعة والشهوة وعلى الرغم من خلو المسرح إلا من قطع الأثاث البسيطة والتي بمجملها لا تكون جو الحانة إلا أن العامل الرئيس في تشكيلها كان في اختيار الضوء واللون، -انعكاس الضوء المشكل للونين الأحمر والوردي، إضافة للأزياء والأقنعة-
ففي حانة شيدتها أموال الحرب وأطماع الغزاة، يصبح الحلم كابوسا، والمتعة جوا كاريكاتيريا، حيث لا شيء حقيقي أو منطقي، تماما كما هي الحروب، فتيات في زوايا الحانة ونادلة"دمية" ( ذات الممثلات بالاشتراك مع الفنانتين ميساء عز ولينا الصالح) وفي محاولاته لتحقيق متعه يعكر عليه صفو الحياة أصوات مشيعي الجنائز الذين ينادونه ليدفن أمواتهم، لحظة شعوره بالنصر تتكشف له حقيقة المكان فالفتاة الشقراء تهرب منه تاركة يدها بين يديه وفيما بعد يكتشف أنها رجل وليست امرأة، وجسد النادلة الدمية ينفصل عن رأسها، تسيطر عليه هذه الأجواء حتى لا يجد مكانا آخر يلجأ إليه أو حتى يقبله سوى المقبرة، مصدر ثروته وأحلامه التي سرعان ما تنهار على يد الضحايا أنفسهم.
هو انتصار للضحايا أم انتحار لحفار القبور؟؟ في كلا الحالتين تسعى فرقة المسرح الشعبي لتجسيد رؤيتها المستقبلية أو التبشيرية لمصير حفاري القبور في عمل يستحق المزيد من المتابعة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-


.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ




.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ


.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني




.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق