الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأول من أيار: مع انتهاء التسوية التاريخية بين الرأسمال والعمل!

مرزوق الحلبي

2007 / 5 / 2
ملف الاول من آيار -العلاقة المتبادلة مابين الاحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني


الأول من أيار مناسبة انطبعت عند أجيال متعاقبة بتمثيلات متحوّلة. فهي رمز الأحزاب العمالية في البداية وحلم وحدتهم الطبقية وتضامنهم العابر للقوميات والشعوب. وهو رمز تحرر وثورة في زمن لاحق. وهو رمز المفاهيم النقابية والحقوق العمالية وسطوع نجم العامل وعلوّ مكانته بوصفه مُنتج الثروات. وهو، أيضا، رمز من الماضي المتجدد وحنين إلى ما كان. وقد نشتق من هذه التمثيلات أخرى أو نركّب منها تمثيلات مزجية بالاتجاه ذاته. مهما يكن من أمر المناسبة وانعكاسها في ذهنية المعنيين بها أو غير المعنيين فسوف لا تنفكّ تتحول في التمثيلات وفي المخيال ردحا آخر من الزمن. وفي ظلّ الأعلام الحمراء والتجمعات البشرية التي تصرّ على إحياء المناسبة تحولات هائلة في مكانة العمل والعامل فرضتها تطورات العقود الأخيرة لاسيما بعد تسارع سيرورات العولمة ومرحلة ما بعد الحداثة. فإذا اتفقنا أننا بِشأن ما يُمكن اعتباره تهديما لبنى وأنماط وقيم وأنساق ومعتقدات وتمثيلات فلا بدّ أن فعل التهديم هذا طال مفاهيم تتعلّق بالعمل والعمال والحقوق النقابية والاجتماعية والأول من أيار. وهو ما سنحاول باقتضاب أن نرصده في مناسبة يبدو لي أن المحتفين بها انتقلوا فيها من الهجوم إلى الدفاع، ومن الاحتفاء بنصر وإنجازات إلى إنقاذ ما يُمكن إنقاذه، من التأشير على ما سيأتي إلى التأشير على ما مضى. أي من مناسبة مسكونة بالأمل إلى مناسبة مسكونة بالحنين.

تحلّ المناسبة في السنوات الأخيرة في ظل تحولات هائلة في مصطلح العمالة وتنقّلها ومكانتها. ولعلّ أبرز ما تطوّر من مصطلحات في هذا الباب هو "عودة العبيد" أو "الرقّ" ونشوء "التحت طبقة" و "مرونة العمالة". فقد بدا أن الشركات الكونية حوّلت عشرات الملايين من الأولاد والنساء والمعوزين إلى عبيد في عملية الإنتاج في كثير من المواقع. يكفي أن نرى إلى معسكرات عمال قطف الكاكاو في أفريقيا لندرك أننا بشأن استعباد حقيقي وكذلك في مناجم الماس والذهب. من ناحية ثانية، تطورت سوق الخدمات لتحوّل جيوشا من الشبان والشابات والنساء على خدمة يشكلون طبقة جدية اعتبرت "تحت ـ طبقة" بسبب من هشاشتها وانسحاقها وعجزها التام عن الانتظام أو مواجهة المصير كطبقة العمال مثلا. أما "المرونة" فهو مصطلح يبدو "نظيفا" لكنه يغطي على ظاهرة كونية تتمثل في إلغاء سريع أو متدرج لنظام حماية الأيدي العاملة وحقوقها. دول كثيرة ألغت قواني حماية أو شبكت ضمان للعمال وللنقابات بُغية جعل سوق الأيدي العاملة مرنة وأيدي المشغلين طليقة حرة في الفصل والتسريح والاستبدال ونقل الورش وخطوط الإنتاج. فالعولمة أفرزت فيما أفرزت حريات كاملة للمشغلين بنقل خطوط الإنتاج من دولة إلى دولة بحثا عن الشروط الأفضل لاستغلال قوة العمل. وهو "القانون" الاقتصادي الجديد الذي يخلّف مئات العاملين والعاملات بغير عمل علما بأن الأجر كان زهيدا أصلا وينتقل إلى دولة أخرى لاستغلال الأيدي العاملة فيها بموافقة الحكومات والنخب إلى أن يأتي يوما ينتقل خط الإنتاج فيه إلى دولة أخرى وهكذا. وفي الإطار نفسه تنتقل الأيدي العاملة من دولة إلى أخرى ومن طرف في العالم إلى طرف آخر بحثا عن مكان عمل غير ثابت أصلا. انتقال حر لخطوط الانتاج وانتقال أقل حرية للعمالة.






وهناك ميزة أخرى وهي بروز عدم الاستقرار وغياب الثبات في أماكن العمل. وتفيد التقارير في أمريكا على أن مدة دورة العمل في مكان واحد تقلّصت إلى حدود عشر سنوات أو أقل في كثير من الفروع. وليس لأن الاقتصادات متحولة بسرعة من طفرة إلى طفرة بل لأن أساس التعاقدات تغيّر من التعاقد الجماعي وفق ما تستطيع النقابات تحقيقه إلى التعاقد الفردي. صفة اللا وضوح في سوق العمل واحتمالات متزايدة لفقدان مكان العمل لصيقة لمرحلة ما بعد الحداثة، أيضا، القائلة بغياب اليقين والحقيقة في الأشياء وفي العمل، أيضا.

من التطورات الكونية، أيضا، فيما يتعلّق بالعمالة حقيقة أن سيرورة العولمة فككت دولة الرفاه وشطبت إنجازاتها بدعوى ضرورة إطلاق الحريات الاقتصادية على أبعد الحدود وتحريرها من قبضة الدولة أو تدخلها. هذا هو الادعاء المعلن الذي يستر حقيقة أن كل الدول في العالم تخضع منذ فترة إلى عملية خصخصة (هناك محاولة جادة في أمريكا اللاتينية للذهاب بالاتجاه الآخر نحو التأميم وتعزيز دور الدولة في العملية الاقتصادية ـ فنزويلا نموذجا) بحيث تنتقل فيها الموارد والأملاك والقوة والسلطة إلى مراكز الرأسمال والشركات الكونية. بمعنى أن حركة المال وتحوّله إلى المتنفّذ في الحلبة الكونية يُفرغ الدولة من مضمونها ويعطّل دورها التاريخي الذي تعزز مع تطور دولة الرفاه في تحمل مسؤوليات متعددة تجاه المواطنين. بل إن الحركة الكونية للاقتصاد تشير بوضوح إلى أن الرأسمال المنظم والمتمثّل بالشركات الكونية معني بشكل تفصيلي بشراء وبيع كل ما كان ضمن مسؤوليات الدولة وصلاحياتها. وقد لا نبالغ إذا قلنا أن الرأسمال قادر على شراء الدولة، أيضا، بنخبها ومؤسساتها وأراضيها ومواردها. يُحكى عن شركات كونية تحصل على امتيازات في أراض تابعة لدول وبسعر زهيد لتقيم عليها نظاما متكاملا لإنتاج المواد (نفط أو مناجم أو غيرها) محميا بجيش خاص وشركات حماية تعمل بتفويض من الدولة المضيفة وعبر نظامها. ونستطيع أن نتخيّل وضع العمال في هذه المواقع!

ضعفت دولة الرفاه والدولة عموما الأمر الذي ينعكس على نحو دراماتيكي على العمالة وحقوقها وعلى ما كانت تتمتع به من منجزات ومكاسب. بل إن منظرين اجتماعيين جدد (أورليخ بك أو زيغموند باومن أو يوهان شتراسر) يلوحون بنفاد العمل في مجتمعات العمل وبالخطر المحدق بالديمقراطية كنظام وقيم في ظلّ التطورات الاقتصادية الكونية وتداعي الدولة التقليدية أمام تسارع العولمة وأنماطها وما تفرزه من قوى جديدة. فمن شأن ما يحصل أن يُفكك ليس الدولة فحسب بل المجتمعات، أيضا. ويشير البعض منهم إلى تناقص العمل وفرصه في كل الدول الأوروبية تقريبا. ومن المعروف مثلا أن شركة فولكسفاغن الأوروبية لتصنيع السيارات خفضت أسبوع العمل إلى أربعة أيام وأنها غيرت جذريا نظام العمل لتفادي تسريح عشرات الآلاف مقابل تخفيض الأجور أو تجميدها أو تحريكها وفقا لمستوى الطلب والإنتاج. بل أن الدولة الألمانية لجأت إلى الاستعانة بمؤسسات المجتمع المدني هناك لمواجهة ظاهرة تناقص فرص العمل. وقد عمدت هذه المؤسسات إلى اقتراح حلول تقوم على دمج الشبان في نشاطها وبرامجها مقابل دعم حكومي مناسب. يُمكننا الإشارة إلى النموذج الهولندي حيث عمدت النقابات إلى تفاهمات استراتيجية مع المشغلين تقضي بتجميد الأجور أو خفضها أو تحريكها لتفادي الفصل الجماعي للعمال في بعض القطاعات. بل إن أسبوع العمل في كثير من الدول الأوروبية (فرنسا مثلا) تقلص إلى نحو 32 ساعة أسبوعية بل أقلّ بكثير في بعض القطاعات. وشاع نظام الوظيفة الجزئية كمحاولة لمواجهة تناقص العمل في مجتمعات العمل.




يبدو أن التسوية التاريخية بين العمل والرأسمال وصلت نهايتها مع التناقص المتواصل في العمل ومع الوهن الكبير للدولة التي كانت لمدة عقود الوسيط الذي حفظ هذه التسوية وضمن فاعليتها. إلا أن بروز الكيانات الاقتصادية الكبيرة وإلغاء أنظمة الحماية الوطنية أمام الرأسمال الوافد والبضائع الوافدة والعمالة الوافدة أو أمام الرأسمال الخارج والعمالة وخطوط الإنتاج الخارجة/المغادرة فقد ضعف الوسيط المكلّف (الدولة) وألزمها الرأسمال بالكف عن التدخّل أو الحماية الأمر الذي حوّل العمالة إلى لقمة سائغة لتناقص فرص العمل أو للاستغلال أو لرحمة المشغّل الذي وجد نفسه حرا في رسم الشكل المرن لعلاقات العمل بكل اتجاه سوى ذاك الذي يحفظ حقوق العمل ومكتسبات نضالات النقابات.

يتطور في العالم وبتسارع ما يُمكن تسميته الرأسمال التوتاليتاري الذي يُعطي الشرعية في الوجود لقلة قليلة من الذين يضمنون الفائدة من الرأسمال. ومن التنبؤات الشائعة اليوم (هاني بيتر مارتن هارولد شومان) أن 20% فقط من قوى العمل ستحرك دواليب الاقتصاد العالمي خلال العقود المقبلة. وهذا ما سيترك أثره البالغ ليس على مفهوم العمالة فحسب بل على مفهوم البطالة، أيضا. يتوقع أورليخ بك أن يُفضي هذا التطور ليس إلى جيوش من العاطلين عن العمل بل إلى تفريغ مفهوم الدولة والديمقراطية من مضامينهما. وفرضيته هي أن كل المؤسسات الديمقراطية ودولة الرفاه نشأت وتطورت على محور مجتمع العمل. وبنفاد العمل تنهار المنظومة وتتداعى على نحو لا قِبل للإنسان الحديث به. فقد تعوّد الإنسان في القرنين الماضيين على رؤية العمل جوهر الإنسانية. وكان ماركس وصف العمل على إنه "الحياة التي تُنتج حياة" وإن بالعمل يُصبح الإنسان إنسانا. كما إن الكنيسة الكاثوليكية اعتبرت العمل في وثائقها "وظيفة أساسية للوجود الإنساني". أما البروتستانتية فقد رأت العمل فرصة لكي يثبت المسيحي نفسه في عالم حقيقي. كما أن الثقافة العربية والموروث الإسلامي رأت في العمل نوعا من الفَلاح. بل إن أحد تفسيرات الجهاد هو ذاك الجهد المبذول في إعالة الأسرة.

التطورات الكونية خلقة وضعا فيه من المفارقة ما يكفي ويزيد. إذ أن في الراهن أقطار لا تزال تتعاطى مع العمل والعمالة كجملة مفاهيم متقادمة جمدت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي تحاول مواجهة استحقاقات العمل بأنساق دولة الرفاه ومبانيها في حين أن مجتمعات العمل في الدول الصناعية، الرفاه سابقا تجتهد في إيجاد حلول إلى تناقص فرص العمل ونفاد العمل. الأولى بسبب تخلفها عن الركب وبسبب من الاستبداد السياسي، والثانية بسبب من تسارع العولمة واستبداد الرأسمال التوتاليتاري. وفي هذه وتلك، وفي الدول الوسطية الواقعة بينها، أناس لا يزالون يتحدثون عن العمل والعمال بحنين ويرفعون الراية الحمراء بكثير من اليقين في زمن لا يقين فيه ولا في فرضية أن لا بدّ من إيجاد عمل لطالب العمل. فالعمل كمورد بشري ينفد رويدا رويدا كما تنفد مصادر الحياة كالهواء والماء العذب والثروة السمكية. وليس بالضرورة أن تبقى الوقائع على الأرض كما هي غداة الثورة الصناعية وخطوط الإنتاج المتضرّعة للقوى العاملة على كثرتها. ومن هنا يبدو الأول من أيار والاحتفاء به في السنوات الأخيرة شكلا من أشكال الدفاع عما كان ولا أستبعد أن يتحول مناسبة للدفاع عن الديمقراطية ومفاهيمها الغربية. وقد يكون في حركات مناهضة العولمة إشارة لذلك.

دالية الكرمل









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل دعا نتنياهو إلى إعادة استيطان غزة؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. روسيا تكثف الضغط على الجبهات الأوكرانية | #غرفة_الأخبار




.. إيران تهدد.. سنمحو إسرائيل إذا هاجمت أراضينا | #غرفة_الأخبار


.. 200 يوم من الحرب.. حربٌ استغلَّها الاحتلالِ للتصعيدِ بالضفةِ




.. الرئيس أردوغان يشارك في تشييع زعيم طائفة إسماعيل آغا بإسطنبو