الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إنقاذ غزة: ممَ وممن وكيف؟

تيسير محيسن

2007 / 6 / 7
القضية الفلسطينية


يتربص بالمدينة التعسة أربعة أخطار محدقة، الخطر الأول ويمثله الاحتلال الذي يواصل عدوانه اليومي قصفاً واغتيالاً وتدميراً مستغلاً في ذلك انشغال الفلسطينيين وانقسامهم واقتتالهم الدامي. يستهدف هذا العدوان كما هو واضح رفع أسهم حكومة أولمرت المنهكة والمتهالكة في البورصة السياسية والحزبية الإسرائيلية من ناحية وحرف أنظار العالم عما يحدث في الضفة الغربية من ناحية ثانية. تدفع غزة الثمن وُتستغل انشغالاتها العبثية في توفير غطاء من الشرعية على ممارسات الاحتلال.
تمثل قوى التمزق الخطر الثاني وهي تواصل سلوكها العبثي في تفتيت بنية المجتمع وتحطيم مؤسساته وإنهاك روحه المعنوية وهمته في البناء والتقدم. من شأن استمرار هذا الخطر أن يقطع الطريق على أي فرصة لعقلنة السلطة والانزلاق نحو مجتمع الطبيعة، أي سيادة قانون الغاب.
يرتبط الخطر الثالث بالحصار الخارجي وتقييد الحركة والتحكم في مساراتها وتحويل غزة في نهاية المطاف إلى سجن حقيقي. يفاقم الحصار الاقتصادي الخارجي الأوضاع الاقتصادية والإنسانية ويتسبب في انتشار الفقر والبطالة بصورة كارثية.
الخطر الرابع ناجم عن تحول غزة إلى حاضنة لتفريخ كل أشكال العنف والتطرف وغياب العقل بالمعنى الفعلي للكلمة وسيادة مرجعيات غيبية وغبية للحكم على الأمور وإدارتها وتفسيرها.
يمكن القول أن هذه الأخطار تشكل مجتمعة دينامية وأد غزة التي توقعها شارون وأرادها وعمل من أجل تشغيلها بطريقة أو بأخرى.
الأخطار الأربعة المذكورة عبارة عن دائرة محكمة من الكيانات والعمليات والممارسات المنظورة وغير المنظورة، الواعية والتلقائية، الهادفة والعفوية، الصادرة عن نوايا صادقة أو المعبرة عن توجهات خبيثة. والأهم، أنها تدخل في علاقة سببية وتبادلية وجدلية، بعضها يفضي إلى البعض الآخر ويعززه. فالعدوان الوحشي يستدعي ردود أفعال انفعالية خاطئة، من حيث أنها لا تخضع لمعايير الربح والخسارة بالمعنى السياسي العقلاني، وُتتخذ التصرفات الانفعالية ذريعة لمواصلة العدوان والحصار، وهذه تسهم في إعادة إنتاج بيئة مشجعة للميل نحو التطرف والعنف. الدائرة المحكمة أو المغلقة أو المجنونة تواصل دورانها تطحن الإرادة وتسحق الأمل وتزهق الأرواح وتدفع نحو الكارثة دفعا. ولا يكاد الفلسطيني يلتقط أنفاسه من جولة حتى يندفع مرغماً أو مختاراً إلى جولة جديدة أو حلقة أخرى وهكذا. لا يوجد للدائرة نقطة بداية، وهذا ما يبرر نعتها بالدائرة المجنونة. فيمكن أن يتستر الاحتلال على سبيل المثال وراء ادعاء أن الفلسطينيين هم من يبدأ بإطلاق الصواريخ، ويمكن للفلسطينيين أن يواصلوا افتراضهم أن الاحتلال هو من يبادر إلى خرق التهدئة، والعالم صامت ومتواطئ، ويختفي وراء حجة أن الفلسطينيين تحكمهم جماعات إرهابية وهكذا توفر هذه الدائرة ذريعة لكل الأطراف للتنصل من التزاماته أو واجباته أو مسؤولياته حتى بموجب المعايير الأخلاقية والقانونية.
تحولت غزة في ضوء ذلك إلى رهينة، لا تملك من أمر نفسها إلا الصمت والمعاناة حتى وهي تجاهر بصمود القلعة وبالقدرة على الثأر والانتقام وبالصبر على الأهوال والأنواء عبر خطابات مفعمة بالقوة والعنجهية وفضائيات تقدم خدمة مجانية في إحكام حلقات الدائرة. فالعلاقة بين طائرة مقاتلة من طراز أف ستة عشر ومبنى صغير أو عابر سبيل أو محل للصرافة تتحول على الشاشات إلى رسالة خاطئة مفعمة بوهم القوة وفي نفس الآن تحمل دلالات الانسحاق الكلي والتذرر عبر مشاهد المباني المدمرة بالكامل. الشحنة الأولى تطفئ الغضب المحتمل الناجم عن الصورة المجردة للعجز والانسحاق. فيطمئن ضمير العالم، فثمة طرفان متصارعان، يكيل كل منهما الضربات لخصمه على قدم المساواة، فيطالب المجتمع الدولي بوقف متبادل لإطلاق النار. يحتاج الفلسطيني في مواجهة القوة الغاشمة للثقة في نفسه، للتعويض عن عجزه كيلا يسقط مستسلماً، ولكن على ألا يتجاوز الأمر حدود هذه الوظيفة فينقلب إلى ممارسة ممجوجة تسهم في خداع النفس وخداع الآخرين. الأحرى نحتاج إلى التفكير العقلي المجرد، مثلما يحتاج التاجر الذي يملك رأسمالاً محدوداً إلى عدم المخاطرة غير المحسوبة وإلا فقد كل شيء.
وقعت غزة في شرك مزدوج: ضحية أفقدها الفصل الأحادي وسلوك بعض أبنائها سمات الضحايا، ومقاتلة لا تملك من شروط القتال إلا الرغبة (حيث تنعدم القدرة الفعلية ويتلاشى مبدأ الوجوب/أو المبرر المقبول إلى حد كبير). وأخطر ما في الأمر أن هذا الشرك يتحول تدريجياً إلى شرك يكاد المشروع الوطني برمته يسقط فيه.
لا يمكن إنقاذ غزة إلا بكسر الدائرة التي استحكمت حلقاتها، ولا تكسر الدائرة إلا عند أضعف الحلقات. فأين هي الحلقة الضعيفة؟ ومن الذي يستطيع أن يمد يده ليكسرها؟. القاعدة الذهبية في مثل هذه الأحوال تقول أنك قد لا تستطيع التحكم في تصرفات غيرك، لكنك قطعاً تستطيع أن تتحكم في تصرفاتك أنت. فإذا كنا على سبيل المثال غير قادرين على إجبار العالم لكي يفك حصاره الظالم عنا، إلا أننا قطعاً قادرين على إدارة مواردنا المتاحة والقليلة بترشيد مطلوب وبعدالة مفقودة وبحكمة يمكن استحضارها عبر توظيف الخبرات وإعادة ترتيب الأولويات. وإذا كنا لا نستطيع منع العدوان الإسرائيلي، فيمكن على الأقل عدم توفير الذرائع والحجج له وبالتالي كشفه وفضحه وبطلب النصرة ممن يستطيع.
يقتضي إنقاذ غزة الإسراع بإنقاذ المشروع الوطني نفسه. فإذا كانت غزة قد تنطعت لحمل رايته فترة طويلة وقدمت تضحيات جسيمة، فإنها اليوم لا تستطيع الاستمرار تحت وطأة هذا الحمل الثقيل. فمحاولات وأدها فت في عضدها، ونجح خصومها في إخراجها من سياقها التاريخي الفاعل ودفعها نحو الغرق دفعا. لا يقتصر المشروع الوطني على فكرة المقاومة، والمقاومة ذاتها لا يمكن اختصارها في شكل بعينه. من حيث الجوهر، يقوم مشروعنا على ركائز ثلاثة: التحرر وتطوير الهوية وقيام الدولة المستقلة. وهو بهذا المعنى نقيض المشروع الصهيوني الذي يعمل على استلاب الأرض واغتصابها وتدمير مقومات الهوية وتقويض أي فرصة لبناء مجتمع وقيام دولة. من هنا، يتطلب إنقاذ هذا المشروع من خلال التأكيد على طبيعته وغاياته وثانياً بإعادة تظهير دور غزة فيه وتحديداً في موضوع تطوير الهوية والحفاظ عليها وفي منع قيام كيان قزم فيها والحرص على ما تحرر من أرض وإعادة إعماره في إطار تأكيد جدارة الفلسطينيين واستحقاقهم كباقي شعوب الأرض في حكم أنفسهم بأنفسهم في وطن خاص بهم ودولة تمثلهم وأرض تحتضن تفاعلهم وتقدمهم الإنساني وتحفظ استمرار وجودهم. غزة خطوة أولى، فلماذا لا ننتقل إلى خطوة تالية ونصر على المراوحة في المكان؟
ويقتضي إنقاذ غزة كذلك إعادة فحص أدوات الفعل وأطره. فالحفاظ على الأمن الداخلي وقطع الطريق على الجريمة وضمان سيادة القانون لا يحتاج إلى عشرات الألوف من المسلحين والمحسوبين على أجهزة كثيرة كثرة لا معنى لها، وكثرة محبطة ومعطلة للكفاءة والفعالية والجدية والجدوى. في الانتفاضة الأولى كان رجل مرور واحد متطوع يقوم بتسيير حركة السيارات عند المفارق المزدحمة كسوق فراس أو ساحة فلسطين. التضخم المصنوع والمقصود في الأجهزة والألقاب والتجهيز والتجييش لا يسهم كما أثبتت الأحداث الأخيرة إلا في تقويض الأمن وتأجيج الاقتتال واستمراريته. والأمر ذاته ينسحب على المؤسسات المدنية ومؤسسات الخدمة العامة. إدارة غزة وتنظيمها لا يتطلب بموضوعية شديدة هياكل مؤسسية لدولة. لأن غزة ليست دولة ولا تستطيع أن تكون ويجب ألا نسمح بتحويلها إلى دولة. هذه المفارقة بين واقع غزة وبين البنية المؤسسة المتضخمة تسهم في تعقيد الأمور ودفعها نحو مزيد من الأزمات. وقد يقول قائل وأين نذهب بكل هؤلاء؟ هل عملية تسريحهم تسهم في تخفيف الأزمة أم أنها ستخلق عوامل أخرى لها؟ الحل في تقديري يتمثل في جانبين:
الأول: الإبقاء على بعض المؤسسات بوصفها مؤسسات دولانية عتيدة، تحتضنها غزة إلى أن تقوم دولتنا الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة، وهذا يعني ألا تنشغل هذه المؤسسات بشأن غزة اليومي، وألا تتدخل فيها إلا بقدر ما تتدخل في شأن الفلسطينيين عموماً.

الثاني: التوجه نحو البناء والاستثمار وإعادة الاعتبار للعمل والإنتاج والقيم التي تحض على ذلك، ومن ثم إعادة هيكلة المؤسسات بما يخدم هذه العمليات حصراً للإدارة ورسم السياسات واستجلاب التمويل وسن التشريعات والفصل في النزاعات. فيصبح لدينا مؤسسات بقدر ما تحتاج عملية البناء والإنتاج، وتخضع حكماً لمعايير المهنية والكفاءة والمساءلة وليس لأي اعتبارات أخرى مهما كانت.
ويقتضي إنقاذ غزة إعادة تفكيك خطاب المقاومة ونقد ممارساتها وإخضاعها حصراً لمرجعية سياسية وطنية عليا في الضفة الغربية وقطاع غزة كما جاء في وثيقة الوفاق الوطني. ومن المهم ألا يتصرف قادة التنظيمات السياسية في قطاع غزة كأوصياء على مجمل الكفاح الوطني وإنما بوصفهم جزءاً من مرجعية وطنية تخضع للمصالح العليا للشعب الفلسطيني يقررها الفلسطينيون في كافة أماكن تواجدهم وفقاً لميكانيزمات التمثيل والإنابة والتكليف التي تجسدها المؤسسات الوطنية الجامعة. وإذا كنا لا نستطيع إطلاق الصواريخ من الصفة الغربية مثلاً فالانتفاضة الشعبية في مواجهة الاستيطان والجدار كفيلة بوضع دولة الاحتلال في الزاوية. الضفة الغربية تمثل اليوم جوهر الصراع بين المشروعين: فأرضها مستهدفة بالضم والتهويد وناسها مهددين بالعزل والطرد وتقطيع الأواصر التي تحول دون قيام مجتمع متماسك، وليس من الحكمة في شيء أن نسهم كفلسطينيين في التغطية على ما يحدث هناك. كان علينا أن ندعو سولانا إلى زيارة بلعين ولا نسمح بتوفير المبرر المزعوم لقيامه بزيارة سديروت. وإذا كانت خطة شارون الجهنمية قد استهدفت قبل كل شيء تقويض قدرة الفلسطينيين في الضفة الغربية عبر إعادة احتلالها وتدمير بنية السلطة والمقاومة فيها، فإن ثقتنا كبيرة في جماهير شعبنا في الضفة الغربية في أن تنتزع زمام المبادرة على الأقل من خلال تعميم نموذج بلعين.
إنقاذ غزة يقتضي بوضوح إعادة تعريف السلطة وغاياتها والمقاومة ووسائلها، كما يقتضي إعادة النظر في تقاسم المهمات وتحديد ساحات الكفاح وأولوياته وأشكاله. أما الاستمرار على ما نحن فيه يعني غرق غزة وضياع مشروعنا جميعاً.















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نداءات لتدخل دولي لحماية الفلسطينيين بالسجون الإسرائيلية | #


.. غارات إسرائيلية استهدفت بلدة إيعات في البقاع شرقي لبنان




.. عقوبات أوروبية منتظرة على إيران بعد الهجوم على إسرائيل.. وال


.. شاهد| لحظة الإفراج عن أسرى فلسطينيين من سجون الاحتلال الإسرا




.. مسؤول أمريكي: الإسرائيليون يبحثون جميع الخيارات بما فيها الر