الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


توهج النهايات عند صمويل بيكيت

محمد سمير عبد السلام

2007 / 6 / 10
الادب والفن


تتوازى كتابات صمويل بيكيت Samuel Beckett المسرحية ، و النثرية مع تجدد البدايات الاحتمالية للتكوين الإبداعي ، و الكوني معا ، فالعنصر الفني – الكوني عند بيكيت يتجاوز حالة التميز ، و اكتمال الوجود في الفراغ ؛ إذ إنه يعمل داخل مجال من المحو ، و احتمالات التداخل ، و معاينة النهايات ضمن لحظة البداية نفسها . العلامة في كتابة بيكيت تنقطع بين الوقفات ، و الفراغات الكثيرة لتصنع مسارا يسخر من وجودها الفريد المكثف في النص ، و يعيدها إلى الأداء خارج التمييز ، و الحدود الشخصية . العلامة هنا طاقة غير متعينة أبدا ، لا يمكن وضعها في إطار اتصالي ، كما لا يمكن تدميرها أيضا ، فهي تتشكل لتفقد للتو ما صنعه لها الوعي من صور ، و تأويلات ، لتسائل الوعي نفسه ، من خلال الإغواء بالخروج من التفكير ضمن حدود المركزية الإنسانية ، و وظائف الإدراك إلى العمل الطيفي / التمثيلي كحالة يعاين الوجود من خلالها مراياه ، و فراغاته كوحدة للبناء لا تقوم على الامتلاء ، و التسلسل ، و لكن على الكثافة الخفية الأسبق من الحضور في حالة عمل يميز مسرح بيكيت ، لأن النقطة المؤدية تراوغ حدود التكوين ، و العدم ، و التعيين بواسطة الوعي بما تثيره من أخيلة ، و تأويلات ، و مسارات نلمح من خلالها الوجود كأثر .
في مقاله " أدب الصمت " كتب إيهاب حسن عن نزعة الانتهاك في كتابة بيكيت ، و يميزها بخلق عالم مستنفد من الحياة ، لدرجة أن لا شيء يعوزه الطوفان ليجدده ، لهذا فهي تقترب من غياب الانتهاك ( راجع / إيهاب حسن / أدب الصمت / ت : محمد عيد إبراهيم / مجلة إبداع – عدد 11 – سنة 1992 ) .
إن عوالم بيكيت تجدد ما قبل الحضور مكتملا ، و إعادته مرة أخرى ، و لهذا أتفق مع إيهاب حسن في خاصية استنفاد الحياة ، فشخوص بيكيت يستنفدون الحياة قبل لحظة المعرفة ، و الحضور الشخصي ، و من ثم إمكانات تجدده ، فالمتجدد هنا هو الأداء الكثيف الممزوج بانقطاع داخلي يمثل بحد ذاته التكوين ، هل هي فاعلية للمحو ؟ أم أن الاسم يتجدد ضمن أخيلة العبث المصاحبة للبطل التراجيدي نفسه ؟
في مسرحية صامتة له بعنوان " أداء بدون كلمات " Act Without Words يجرد بيكيت الفعل من التحقق ، أو الإحالة إلى الفاعل عن طريق محاكاته للفراغات التي تعقبه ، و تتحكم في نشوئه ، في مادته الأولى ، القوة العمياء المتلاشية عن طريق الفعل / الفراغ ، حيث يدمر الفعل نفسه قبل أن يولد ، أو ينسب إلى الشخصية .
قد يبدو الفعل عند بيكيت ميكانيكيا ، متكررا دون غاية ، و لكنه في الوقت نفسه يسخر من آليته بالانقطاع عن النتائج ، و الجدوى ، و التطابق مع الفاعل ، فالشخصيات تتبادل المواقع على المسرح دون تمييز بينها ؛ لتظهر الأداء في صورة تجمع بين الطهارة ، و الجمود في آن ؛ إذ تصير الأفعال نقية عقب تدميرها للسخف الميكانيكي السابق ، هل هي براءة الأداء من دون كلمات ، أو تاريخ ، أو وعي فردي ؟ أم ثورة للفراغ داخل منطق الفاعلية اليومية ، لتكشف عن رعب التكرار ، و وهج انشطار الأداء حين يفرق الضمير الشخصي بعيدا عن إطاره الواعي ؟
ينسحب الشخص إى A باتجاه الرداء ، ثم يرتد ، و يلبس قميصا ثم يفكر طويلا ، و يخرج زجاجة من الحبوب ، و يفكر ، ثم يتناول جرعة من الدواء ، يخرج جزرة من جيب المعطف ، يقضمها ثم يشعر بالاشمئزاز منها ، ثم يزحف مرة أخرى ، و تتوالى لحظات التوقف ، و تناول الحبة ، و التأمل مما يعزز من تأويل النقطة الفاعلة بالتلاشي عن طريق عبث الأفعال و نبوءتها الخفية بالتوقف الأبدي الملازم للأداء ، و قد اختار بيكيت هذه الأفعال البسيطة ليؤول من خلالها الأداء حين يثور على آليته الإنسانية باستبدال قوة الشخص ، بالنقطة غير المحددة التي تمنح الأداء قوة الوجود التي تستلب الشخص في دائرية مجردة فتذوب الحدود بين الممثل ، و حالة المسرحة حين تكتسب طابعا يوميا تكراريا .
أما الشخص بي B فيقضي وقته بين النظر في الساعة ، و القيام ببعض التمارين ، و تنظيف ملابسه ، و تمشيط شعره ، و غسل ملابسه ، و النظر في خريطة ثم بوصلة ، و تتوالى الأفعال ، و الوقفات ، ثم تتبدل المواقع .
لقد ارتكز بيكيت على أفعال لا تقبل أن تتحقق مرة واحدة ، فالتعامل مع الساعة ، و الشعر ، و الملابس لابد أن يتكرر ، أن يصبح نبوءة بنهاية الفاعل ، دون موته ، و لكن بتجرد الفعل في مساحة كونية – يومية غير متماسكة تندمج فيها الأفعال ، بالذوات ، بالأشياء الصغيرة ، و ما تحمله من طاقة ، و أخيلة ، و فراغات ، و صمت يستبق الحدث في نهاية المتكلم ، و الكشف عن تمرد لحظات الأداء ، و الوعي بعبثها .
إن الفعل يولد عند بيكيت حين ينتهي في الوعي بسطوته الميكانيكية ، و تكراره في الوقفة ، فيعيد إنتاج العبث بتذويب الشخص فيما تركه الفعل من فراغ لانتظار شخص قيد التشكل .
و في مسرحية أخرى له بعنوان " الكارثة " Catastrophe ينتقل بيكيت من رصد الارتباط العبثي بين الفعل الميكانيكي ، و الشخصية ، إلى استبدالها بالفراغ ، أو تحويلها إلى مسخ تمارس عليه الأفعال المزاجية الآلية من الخارج ، لقد تم تفريغ الشخص من الممارسة الوجودية ، فصار فضاء للأداء ، لا مصدرا له .
إن محو الشخصية رغم احتفاظها بالبطولة عند بيكيت يجسد تجاوز عبث استلاب الشخص باتجاه التوهج التالي لموته مباشرة ، طاقة الحياة المحولة في المخرج ، و مساعدته ، و الجمهور عقب خروجها من محور المسرحية / البطل بي B . هذه الطاقة تثير تأويلات عديدة للفضاء الملتبس بين المخرج ، و البطل / الغائب ضمن سياق التدريب على ما بعد النهاية ، و إغواء الوقوع في كارثة الممثل ، حيث يعاد تشكيله في أخيلة تتجاوز حالته الإنسانية كليا .
لا يتذكر المخرج دي D ملاحظاته السابقة حول وضع الممثل بي ، فتذكره المساعدة إى A بطمس الرمادي في الممثل ، و اكتمال تغطيته بالأسود ، و عقب استفسارات المخرج عن الوضع السابق ، نجده يستخف بها ، و يأمر بنزع أردية الممثل ثم تغطيته باللون الأبيض ، ثم يتردد بين إسقاط رأسه إلى أسفل ، أو رفعها ، و تتوالى الوقفات ، و تسجيل المساعدة للملاحظات الجديدة ثم ارتكاز الضوء على الرأس ، و علو التصفيق ثم تلاشيه ، أو موته .
هكذا يعاين المخرج بطولته الزائفة ضمن تجاوزه لجسد الممثل ، و إرادته ؛ فقد بدا بطلا آخر في عمل بيكيت ، لكنه ولد من فراغ الممثل الأول ، و انعدامه قبل أن يتكلم ، أو يؤدي أو يتحرك وفق نقطة من خارجه ، هل وجد الممثل ؟ أم استبقته نهايته الخاصة في الآخر / المحتمل ، ففقد ملامحه ؟
يثير المخرج إشكاليات تأويلية حول تناقض محاكاة الميكانيكية من قبل المخرج كممثل ليقتل من خلالها ظهور البطل ، مثلما يضعه في بؤرة الضوء ، و في مركز حديثه مع المساعدة .
كما تكثر الوقفات لتحدث انقطاعا متجددا في تكوين البطل ، و انتظارا لصورة أخرى مضادة لملامحه الرمادية الصامتة دون نهاية للصور ، أو بداية لأن يتكلم الممثل أبدا .
يواجه الجمهور إذا رأس الممثل معلقا بين القداسة ، و الاختفاء فتنتقل أخيلة تدمير الممثل من الخشبة إلى وعيهم الخاص بتجدد المحو ضمن بناء الشخصية .
تبدو القدرة الإبداعية للخيال جزءا أساسيا من تشكيل الصورة الكونية / الإنسانية عند بيكيت ، دون أن تنتمي لوعي متعال ، أو سياق مسرحي ، فالكون يختلط على نحو وثيق بانطلاق التخيل التفاعلي المستمر ، المضاد لما شكل من قبل من صور ، و يذكرنا هذا التغير بانقلاب المخرج على تصوراته السابقة في مسرحية الكارثة ، لكن نص " تخيل الخيال الميت " Imagination Dead Imagine تزدوج فيه التداخلات بين العناصر الكونية ، و المتخيلة ، بالتلاشي المفاجئ ، و المحو دون أن يسكن التخيل ، أو يموت ، أو يرتبط بحضور إنساني هنا ، فنجد ظهورا للجزر ، و المياه ، و الخضرة ، و المباني المستديرة ، ثم يغطي الضوء كل شيء بالأبيض ثم تشتد الحرارة دون أن تحرق الأسطح عند اللمس ، و فجأة يطمس الظلام التكوينات ، و تنخفض الحرارة إلى أقصى حد ، و يضطرب العالم ، و يهتز ، و يبدو الشخوص كعلامات منعزلة تحمل المرايا ، و السلاح دون مواجهة .
اللعب بالأبيض ، و الأسود يكشف عن أمرين :
الأول : تخييل الواقعي ، و الصلب ، و الجامد في حالة ملتبسة بين الظهور ، و الاختفاء ضمن صيرورة التغير .
الثاني : تجاوز كثافة الاسم ، و ما يحمل من مدلول فيما يخلفه من إيحاءات الحركة ، و اللون ، أي يستنفد الاسم نفسه في الأثر ، في الطيف الذي تخلفه تفاعلات الأخيلة الأرضية ، و احتمالات التلاشي الكامنة في تعالي الذات لحظة نشوئها .
أما الأماكن ، و الأبنية فتنتقل من التجسد ، إلى حالة اللون كإيحاء تخيلي ، يكمن فيه الموت منذ البداية ، و الأشياء أمواج تمارس سرد ما فوق الانقطاع ، و كأن الكون عند بيكيت يتجاوز حدوده ضمن سردية الانقطاع ، و التخيل معا ، فيبدو كتوهج دائم للنهايات .

محمد سمير عبد السلام – مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/