الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اغتراب النص في الخطاب الديني

حيدر عوض الله

2007 / 6 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


أول رحلة لاغتراب النص تبدأ في إهدار بعديه الإنساني والتاريخي، أي أن يحيا النص خارج الحاجة والنشاط الإنساني الذي ولد لها وبها. وبما إن النشاط الآدمي، ببعديه الإنتاجي والاستهلاكي على اختلاف حقوله، هو نشاط مغرب حتى الآن، فإن تتويج التغريب يكتمل في إنتاج فعل ذهني مغرب، متوالد من انطلاق النشاط الذهني وتطوره بعيداً عن قاعدته الوجودية، وتحوله إلى "أيديولوجيا". وقبل الولوج في مفهوم اغتراب النص في الخطاب الديني وتقصي دلالاته السياسية والاجتماعية والفكرية، لا بد من توضيح مفهوم الاغتراب، معناه، وتطوره المفاهيمي، والتناول الفكري المتعدد له، ثم تقصي فعله المتموضع في نص "الخطاب الديني" باعتباره تتويجاً لرحلته الاغترابية.
تطور الاغتراب كمفهوم فلسفي على يد كل من هيغل، وفيورباخ، وماركس، رغم أن الاغتراب كفعل ولد بولادة النشاط الإنساني، حين لم تعد علاقة الإنسان بهذا العالم (الموضوع) علاقة مباشرة، بل علاقة توسطيه. ويمكننا أن نلحظ دلالات الاغتراب في الديانات السماوية، قبل أن نرصد سماته كمفهوم ضبابي في فلسفتي هوبز وروسو.
إن دلالة الاغتراب الإنساني في الديانات بدأت منذ طرد "آدم عليه السلام" من الجنة، أي منذ "اغترب" عن جوهره كإنسان كامل أبدعه الباري بسبب خطيئته المعروفة.
ومنذ تلك اللحظة ابتعد الإنسان عن ربه، بسبب فقدانه، أو تدينه لجوهره المقارب للذات الإلهية، والتي بفضلها نعم بالوجود إلى جواره. ومنذ هذه الخطيئة والإنسان يحمل نقيصته في ذاته، ومهمته التخلص منها في رحلته الوجودية (النفي) ليعود إلى جوهره الخالي من كل خطيئة (نفي النفي).
فالمسافة بين العالم الأرضي والسماوي، هي المسافة الضرورية للتطهر. والأنبياء والرسل هم الحلقة التي تتوسط هذين العالمين. ومفهوم "التطهر" و"المغفرة"، وكل الطقوس الدينية التي يمارسها الإنسان، هي رحلة ابن آدم المغرّب نحو الالتحام بجوهره المقارب للذات الإلهية. ومن المعروف أن القراءة المسيحية لرحلة "يسوع عليه السلام" والقول بصلبه، جاء تطهيراً وتكفيراً عن الخطيئة الجمعية التي ارتكبها الإنسان كنوع، وتمهيداً لطريق الجنس البشري للالتحاق بالعالم السماوي.
وبالعودة إلى سمات هذا المفهوم لدى "هوبز، وروسو" نجد أن الانجليزي هوبز حاول تهذيب الإنسان "ككائن أناني" يسعى لتلبية مصالحه الذاتية على حساب الغير "الآخر" بخلق سلطة عليا، متولدة من عقد بين الأفراد "الجشعين" لتنظيم إرادتهم الفطرية الأنانية، بحيث لا يلتهم بعضهم البعض.
أما الفرنسي "روسو" فقد انطلق من توصيف أكثر تفاؤلاً وتسامحاً لطبيعة الفرد وضرورة تأكيد حريته ووجوده، معتبراً أن تأكيد هذه الحرية الفردية لا يمر إلا بتأكيد حريته الاجتماعية "أنا = نحن". ورأى أن الطريق للحفاظ على هذه الارادات الحرة للأفراد غير ممكنه دون التوافق على "عقد اجتماعي" يتنازل فيه الأفراد عن بعض حرياتهم بملء إراداتهم، وتحويله إلى سلطة حافظة لحرياتهم. والسلطة تبدو عند "روسو" كقوة خارجة عن الارادات، بل جسم اجتماعي مجسد لها، معتبراً أن هذا " العقد الاجتماعي " هو شرط التحول من الحرية الطبيعة الفجة إلى الحرية الاجتماعية المتمدنة.
هذه الإرهاصات المبكرة لمفهوم "الاغتراب" عند هوبز وروسو، مهدت الطريق أمام تطور الاغتراب كمفهوم فلسفي، شكّل أحدهم أحد أهم أعمدة المثالية الجدلية لـ "هيغل". فالاغتراب لدى الفيلسوف الألماني هيغل مرتبط بفكرة الحقيقة المطلقة، وهو قائم على أساس العلاقة بين الذات والموضوع. فالإنسان يكون مغرّباً عندما لا يتعرف على ذاته في العالم، ويتجاوز اغترابه عندما يصبح العالم جزءاً منه، وبهذا المعنى فإن الاغتراب هو مرحلة ضرورية لمصالحة الذات مع الوجود، ويتجاوز الانفصال بين الإنسان والأشياء، ولكي يصبح الإنسان سيد عالمه.
إن رحلة "الاغتراب" عند هيغل هي رحلة الوعي الهادف للتعرف على نفسه بعد أن انقسم الوجود إلى ذات وموضوع متقابلين، ورحلة الذات "الوعي" هدفها التحول إلى وعي ذاتي، ولا يمكنها- أي الذات- أن تتحول إلى وعي ذاتي إلا إذا أعادت وحدة الوجود المنقسم لـ (ذات- وموضوع)، ولكن هذه المرة كوحدة عارفة لذاتها، بعد أن بدأت كوحدة في ذاتها.
إن جوهر مفهوم هيغل للاغتراب، ونفيه، يتلخص في أن رحلة الاغتراب ضرورية لتتعرف الذات على الأشياء التي خلقتها، وتتأمل عالمها المحيط بها وليتخارج وعيها وينتقل من "التشيؤ" إلى الاستقلال. فالأشياء التي تحيط بها هي جزء منها ونتاج لنشاطها، وبذلك تتولد حقيقة أن العالم هو ذاتها. وتبدو نقيصة هيغل الأساسية كما يراها الفيلسوفان الألمانيان فيورباخ وماركس في أنه حاول حل مشكلة الاغتراب في الوعي، أي في دائرة الفكر المجرد فقط، دون أن ينظر إلى الأسباب المادية لولادة الاغتراب. فقدم جواباً مثالياً لسؤال مادي. ومع هذا لعبت جدلية هيغل العبقرية في تشريح شروط الاستلاب (الاغتراب) وتجاوزه، ولو على المستوى الذهني، مقدمة ثورية على صعيد أنسنة الوجود البشري، وتجاوز العبودية التي جعلت من الإنسان أسيرا لإنتاجه الذي وقف كقوة خارجة عنه ومتحكمة في مصيره، كما يؤكد ماركس في قوله "والعامل يصبح سلعة أكثر رخصاً كلما زاد عدد السلع التي يخلقها، فمع تزايد قيمة عالم الأشياء، تنخفض قيمة عالم البشر".
وبالعودة إلى النص يمكننا القول، بأن تسامي "النص المقدس" وقدرته المستمرة على توليد دلالاته، بغض النظر عن إطارها المكاني والزماني، تنبع من حقيقة أن هذا النص يتعاطى مع الكليات، وبطبيعته الكلية الشاملة هذه، يختزن النص فعالية وديناميكية هائلة من جهة قدرته على إنتاج دلالاته. لكن المشكلة كانت على الدوام، في فعل إنتاج الدلالات من النص المقدس، والتي هي فعل إنساني وتاريخي. كما قال الإمام علي بن أبي طالب عن القرآن: "إنما هو خط مسطور لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال". وبما إن استنباط الدلالة من النص هو فعل ذهني، فهذا الفعل قد يتحول بحكم القوى المنتجة له من معرفة إلى أيدلوجيا. فالذات العارفة هنا تحمل وظيفة اجتماعية عند إنتاجها للدلالة من النص الأصلي. وهي بهذه العملية تخضع إلى (غاية) إنسانية واجتماعية محدودة ومحددة سلفاً بحاجاتها ومستوى تطورها الفكري. وبهذا الانتقال من الغاية الإلهية المتسامية والكامنة في النص الإلهي إلى غاية بشرية يبدأ الصراع المعرفي، باعتبار الغاية البشرية غايات!! وعلى هذا الأساس يمكننا أن نفهم ونتفهم الصراع الأيدلوجي الذي حفل به تاريخ الإسلام الفكري، باعتباره صراع غايات بين قوى اجتماعية وسياسية، أخفت مصالحها وبرامجها في غلاف الذود عن الدين، مع أنها كانت تذود في الواقع عن تأويلها المتناغم من برنامجها "الأرضي". هذا لا ينفي بالتأكيد العثور على محاولات معرفية لدى بعض المفكرين والفلاسفة. إلا أن الطابع العام الذي اتخذه الصراع السياسي المغلف بالتأويلات الدينية كان طابعاً أيدلوجيا منغمساً حتى أذنيه في مصالح اجتماعية وسياسية واقتصادية. حتى أن الموقف الحنبلي (نسبة إلى الإمام أحمد بن حنبل)، والذي رفض التأويل، ودعا إلى التمسك بظاهر النص، إنما كان ينتج بهذا الموقف تأويلاً معادياً للتأويل، من خلال حصر مهمة معرفة النص المقدس وغاياته في "الراسخون في العلم". وهذا التعبير "الراسخون في العلم" تعبير غامض، ويعطي الفئة من العلماء دون غيرها تحديد هوية الراسخين في العلم. إن النص- الذي يبدو للإمام ابن حنبل فوق كل تأويل وقبل أي شعور، حتى تجاه الآيات المتشابهة، والتي على المسلم أن يؤكد إيمانه المطلق بها من خلال إحجامه عن معرفة معانيها– قد تعطل عن تأدية وظيفته، أي جوهره كرسالة إلهية لبنى البشر. وبما إن "النص المقدس" هو كلام الله إلى خلقه، فإن خلق الله يجب أن يفهموا هذا الكلام ليعملوا به. والفهم هنا لا يحصل إلا بادراك الظاهر والباطن من النص. وعند بدء الفهم، أي الاقتراب الذهني من معرفة النص بوصفه- أي الفهم – جهداً بشرياً، تبدأ عملية الافتراق النوعي بين الإلهي والبشري، بين السماوي والأرضي، لأن فعل "الفهم" هو فعل نسبي تتداخل فيه عوامل وحاجات وتصورات وخلفيات بني البشر. لكن المشكلة الأبرز في التأويلات الإنسانية للنص المقدس، إنما خلفت لنفسها بفعل "الراسخون في العلم"، والترغيب والترهيب مكانة "مقدسة"، وأصبح تأويلها للنص في مكان النص المقدس نفسه. وبهذا صار النقد للدلالات البشرية التي استخرجت من النص، بسبب تقادمها وعدم قدرتها على تقديم إجابات تطرحها الحياة، يواجه بالتكفير والقتل!! بالرغم من محكم الآية القرآنية "وما أو تيتم من العلم إلا قليلا" لقد أصابت لعنة الملك ميداس هذه التأويلات، وتحولت بلمسة الفكر الديني اللاتاريخي إلى نصوص مقدسة، ودين اجتماعي غير قابل للنقد أو الفحص. وبهذا، يدخل الاغتراب في مركب الحياة الدنيوية للناس إلى طور جديد من الارتهان والخضوع لنصوص من خلق وإنتاج بني البشر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ظل التحول الرقمي العالمي.. أي مستقبل للكتب الإلكترونية في


.. صناعة الأزياء.. ما تأثير -الموضة السريعة- على البيئة؟




.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا


.. تصاعد ملحوظ في وتيرة العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل




.. اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة الخليل لتأمين اقتحامات