الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
ميخائيل أچريكولا، أبو اللغة الفنلنديةالأدبية
حسيب شحادة
2007 / 7 / 5الادب والفن
فنلندا بلاد واسعة، 338 ألف كم مربع تغطي المياه 10% من مِساحتها والغابات 69% منها ويبلغ عدد بحيراتها 187,888 وعدد جزرها يصل إلى 179,584، طولها من الشمال إلى الجنوب 1160 كم وعرضها من الشرق إلى الغرب 540كم، عدد السكان 5.3 مليون نسمة ونسبة اكتظاظ السكان في الكيلومتر المربّع الواحد تصل إلى 15 نسمة فقط، كان استقلال فنلندا في السادس من كانون الأول عام 1917، أصبحت عضوة في جمعية الأمم المتحدة في العام 1955 وفي العام 1995 انضمت إلى الاتحاد الأوروبي. فصل الشتاء قارس جدا (قد تصل درجة الحرارة في الجنوب، هلسنكي، إلى أكثر من عشرين درجة تحت الصفر أما في الشمال، لابلاند، فقد تصل إلى أكثر من أربعين درجة سالزيوس) وطويل ومعتم.
منذ منتصف القرن الثاني عشر ولغاية أوائل القرن التاسع عشر (1155-1809) عاشت فنلندا تحت الحكم السويدي والتأثير الكنسي الكاثوليكي وعليه فاللغة السويدية كانت لغة الحكم والإدارة والتربية. وبعد الحكم السويدي خضعت فنلندا للحكم الروسي القيصري حوالي قرن من الزمان. لم تشهد حقبة القرون الوسطى أية نهضة أدبية ذات بال ويعتبر الكاتب والراهب Jons Budde من دير نانتالي، أقدم كاتب معروف وعاش في القرن السادس عشر (ca.1435-1595) وأهم ما قام به كان نقله الكتاب المقدّس إلى اللغة السويدية أضف إلى ذلك انتاج قرابة عشرين مؤلفا آخر وجُلّها ترجمات من اللاتينية، لغة العلم آنذاك، إلي السويدية.
والجدير بالذكر أن كتاب الصلوات اللاتيني Missale Aboense المطبوع عام 1488 في ليبزج بألمانيا كان أول كتاب مطبوع يصل فنلندا وهو مرتّب وفق الليتورجيا الدومينيكانية التي استخدمت في مدينة توركو منذ أوائل القرن الرابع عشر، وضم هذا الكتاب خمسمائة وخمسين صفحة. ويشار إلى أنه في منتصف القرن التاسع عشر تمّ اكتشاف عشرة آلاف ورقة رق تقريبا مأخوذة من حوالي ألف كتاب من القرون الوسطى تصبّ مواضيعها في العقيدة والروحانيات وهذه المجموعة محفوظة في مكتبة هلسنكي الجامعية.
تحتفل فنلندا هذا العام 2007 بمرور أربعة قرون ونصف القرن على وفاة أحد أبنائها الأبرار، Michael (Mikael) Olai Agricola, أبو اللغة الفنلندية الأدبية، ومصلح ديني ومدرّس في مدرسة توركو العريقة ومطران توركو ولغوي ودبلوماسي، وكان على اطلاع واسع بالطب والقانون. لا اتفاق حول سنة ولادة ميخائيل لعائلة فلاحين ثرية في قرية Torsby التابعة لمنطقة Perno, القريبة من مدينة بورفو 1507, 1510, 1512، إلا أن وفاته كانت في التاسع من شهر نيسان عام 1557 (يوم عيد يُرفع فيه العلَم الفنلندي) ودُفن في مدينة فيبوري التابعة الآن لروسيا. كان ميخائيل موهوبا ومتعطشا للعلم والمعرفة منذ نعومة أظفارة، انتقل إلى مدينة فيبوري وهو ابن عشر سنوات للدراسة هناك مدّة ثمانية أعوام. وهناك أطلق على اسم عائلته هذا الاسم اللاتيني الذي يعني “فلاحا” لوصف مهنة والده. ثم أُرسل ميخائيل مع مجموعة قوامها عشرون من الشباب الفنلندي الطموح والمتميز إلى ألمانيا لمتابعة التحصيل العلمي، كان نصيبه جامعة ويتنبرغ المعروفة عام 1536 وذلك للتدريب بغية ترجمة الكتاب المقدس إلى الفنلندية وللاطلاع عن كثب على الإيمان الجديد الذي دعا إليه المصلح اللوثري المعروف، مارتن لوثر )1483-Martin Luther,1546( وحليفه اللاهوتي فيليب ميلانشتون (1497-Phillipp Melanchton, 1560) المحاضريْن في الجامعة ذاتها. درس ميخائيل هناك علم اللاهوت إلا أنه امتحن في مساق الفلسفة وتخرج فيه حائزا على شهادة الماجستير عام 1539.
بعد ذلك اشتهر ميخائيل في مسعاه الهام من أجل اللغة الفنلندية. في الواقع لم يكن أجريكولا أوّل من دوّن باللغة الفنلندية إلا أن ما خطّه كان أفضل مما سبقه وأغزر بكثير. يبدو أن الكتيب Abckiria لأجريكولا، بين دفتيه أسس التعليم المسيحي والأبجدية والأرقام، كان أول كتاب فنلندي، وقد طُبع على ما يبدو عام 1543 أولا ولم يبق منه إلا بعض النتف لورقتين وبعد أربعة قرون ونيف عُثر على أوراق ناقصة بالسويد. وصدرت الطبعة الثانية لهذا الكتيب عام 1551 وتبقى منها ثماني ورقات وصدرت الطبعة الثالثة عام 1559. تلا ذلك عام 1544 أهم نتاج إبداعي بقلم أجريكولا، كتاب صلوات ضخم ضمّ 900 صفحة تقريبا ويشتمل على 643 صلاة و29 ترنيمة، وفي نفس العام نشر نصوصا تحتوي على إسعافات طبية في Rucouskiria Bibliasta. لا ريب أن ترجمته الفنلندية للعهد الجديد Se Wsi Testamenti من الأصل اليوناني التي استغرقت عشر سنين ورأت النور عام 1548 (بالرغم من أنها كانت جاهزة للطباعة منذ العام 1543) في 500 نسخة في استوكهولم، وحاليا هناك مائة وخمسون نسخة معروفة. تعتبر هذه الترجمة العمل الأهم في تبلور اللغة الفنلندية الأدبية. والحق يقال إن خلق لغة الكتابة هذه لم يكن حبا بها بل وسيلة لتعليم الدين.
وفي ترجمته للعهد الجديد سار في أعقاب نهج الفيلسوف والفيلولوجي الهولندي، إراسموس من روتردام، (Erasmus von Rotterdam, 1466/9?-1536) ومارتن لوثر وأضاف مقدمتين تتطرق فيهما لدخول الديانة المسيحية فنلندا ووصف الولايات والقبائل واللهجات الفنلندية وهناك مقدمة لكل سفر من أسفار الإنجيل. كما وارتأى إضافة ما يزيد عن خمسمائة ملحوظة بشأن الترجمة. وكان في نيّة هذا الرجل الفذّ نقل العهد القديم أيضا إلى الفنلندية إلا أن عدم توفر الدعم المادي الضروري حال دون تحقيق هذا العمل الكبير، ومع هذا تسنّى لميخائيل ترجمة ربع العهد القديم تقريبا مثل سفر المزامير وحجّاي وزكريا وملاخي بين السنتين 1551-1552 وصدر ذلك في ثلاثة مجلدات. وفي مقدمته لسفر المزامير يثبت المترجم قائمة بأسماء آلهة فنلندية قديمة وهي ذات أهمية تاريخية وثقافية لا يُستهان بها. وتجدر الإشارة إلى أن الترجمة الفنلندية الكاملة للعهد القديم كانت ثمرة جهود لجنة أشرف عليها المطران Erik Rothovius وصدرت العام 1642 ثم أجرى الكاتب والكاهن والمترجم Henrik Florinus تعديلاتٍ عليها 1683-1685. صدرت هذه الترجمة الأولى بألف ومائتي نسخة تحت العنوان: Biblia, Se on: coci Pyha Ramattu suomexi. ويذكر أن أجريكولا كان قد ألّف تسعة كتب طُبعت في استوكهولم ما بين السنتين 1543-1552. ويُشكّل نتاج أجريكولا دعامة الأدب الفنلندي برمّته، لا سيما في مرحلته التاريخية الأولى، 1488-1642. وهناك أبحاث كثيرة تدور حول قضايا لاهوتية وتاريخية وترجمية في أعمال أجريكولا منذ القرن التاسع عشر وما زالت هناك حاجة لاستقراء واستيضاح بعض الجوانب. ومما يجدر ذكره أن لغة أجريكولا الفنلندية مبنية على اللهجات الجنوبية الغربية في فنلندا وفيها تأثيرات من اللغة الإستونية الشقيقة لها كما وهناك عناصر دخيلة من اللغات التي عرفها كالسويدية واللاتينية والألمانية واليونانية وكان قد درَس اللغة العبرية القديمة، لغة العهد القديم. أضف إلى ذلك إيجاده لمئات الكلمات والمصطلحات الجديدة مثل: الخالق، المخلّص، روحاني، عدائي، حديقة العظم (أي المقبرة، لم يكتب لها الحياة)، حكومة، نموذج، مخطوط، ملاك، تاريخ، شجرة النخيل، حمّى، العفو، رسول، المناولة، الخلاص، تاريخ، الأبدية، أعجوبة، إنسان، يونيوس (أي كِساكو ، شهر حزيران).
لا وجود لدليل جامع مانع بصدد لغة أمّ هذه الشخصية اللامعة ابن عهد الإصلاح الديني في تاريخ فنلندا، من المعروف أن المنطقة التي ولد فيها هي منطقة ناطقة باللغة السويدية عن بكرة أبيها وعليه فمن المرجّح أن تكون لغته الأولى. ومن المحتمل القريب أن يكون ميخائيل قد تعلم اللغة الفنلندية على أكمل وجه ممكن خلال مدة معقولة لموهبته الخارقة وحسه اللغوي المرهف وتأثر باللهجات الفنلندية الشرقية.
تُعتبر مؤلفات أجريكولا أقدم نص فنلندي مؤرَّخ كان قد وصلنا. وهكذا تدأب الكثير من المعاجم الفنلندية التأثيلية إلى إضافة الملحوظة “ورد ذلك عند أجريكولا” بشأن وفرة من المفردات المدرجة في الثروة اللغوية الفنلندية. ويلاحظ أن لغة أجريكولا لا تختلف كثيرا عن الفنلندية الحالية فهي مفهومة بنسبة تفوق مثلا نسبة إمكانية فهم البريطاني اليوم لغةَ الروائي وليم شكسبير )1564-1616(. اللغة بالنسبة لأجريكولا لم تكن هدفا بحد ذاته بل وسيلة لإيصال التراث الديني اللاهوتي للشعب بلغة يفهمها وهذه النقطة كانت من أسس الإصلاح الديني الجوهرية آنذاك. زد إلى ذلك أن لغته اتسمت بقوة التعبير والواقعية الملموسة. وللمستزيد هناك كتاب شامل بالفنلندية عن حياة أجريكولا ومؤلفاته صدر مؤخرا بالفنلندية بقلم سيمو هينن (Simo Heininen)، أستاذ تاريخ الكنيسة الفنلندية. في عداد الكتّاب المشهورين الذين عاشوا في القرن السادس عشر يمكن التنويه بالأسماء: Paavali Juusten, Erik Sorolainen, Jaakko Finno. ويذكر أن الكتب في فنلندا في القرن السابع عشر كانت قد كتبت بعدة لغات مثل الفنلندية والدانمركية والنرويجية والإستونية والألمانية والسويدية إلا أن أهم الكتب كانت باللغة اللاتينية، لغة العلم في أوروبا آنذاك.
واللغة الفنلندية تنتمي إلى الفصيلة الفنّو-أوغرية وهي فرع في العائلة الأورالية، وهي بين اللغات التصريفية والإلصاقية كما سيوضّح المثال المثبت أدناه عن لفظة “فندق” بالفنلندية. يبلغ عدد الناطقين بهذه اللغة قرابة ستة ملايين إنسان، 5.3 مليون في فنلندا والباقي منتشرون في عدة بقاع في العالم كالسويد والنرويج وأمريكا وأستراليا وروسيا. اللغة الرسمية الثانية في فنلندا هي السويدية وتبلغ نسبة الناطقين بها قرابة 6% وهناك ألف وسبعمائة إنسان لابي في شمال البلاد ناطق بلغته الوطنية، سامي. وتمتاز اللغة الفنلندية Suomi بسمات كثيرة منها، كثرة الحركات والحركات المركّبة وهناك نظام اتساق وتناغم في الحركات، لا أداة تعريف أو تنكير فيها، لا تمييز بين المذكر والمؤنث صرفيا فكلمة han مثلا تعني ضميري الغائب والغائبة على حد سواء، هناك خمس عشرة حالة إعرابية، النبرة فيها تقع على المقطع الأول، اللغة تركيبية وتستعمل الكثير من اللواحق في حين أن اللهجات تميل إلى النهج التحليلي، لا وجود للأحرف التالية في الأبجدية الفنلندية أو أن بعضها دخيل عليها الآن: الباء والجيم القاهرية والثاء والدال والذال والزاي والفاء والشين، هناك كلمات كثيرة جدا تنتهي إما بالحركة أو بالصوت الصامت نون، أداة الاستفسار بمثابة لاحقة ko, وتستخدم في اللهجات المحكية أيضا.
على ضوء بعض التقارير يحتل الفنلنديون المرتبة الثانية بعد اليابانيين من حيث الخلود إلى الصمت، قلّة الكلام. ويُحكى عن الكاتب المسرحي الألماني، بيرتولت بريخت (Bertolt Brecht 1898-1956) الذي عاش في فنلندا خلال الحرب العالمية الثانية أنه قال ما معناه “فنلندا بلاد حيث أهلها صامتون بلغتين”.
مثال الفندق:
hotelli, hotellit, hotellissa, hotelliin, hotellini, hotellissani, hotelleissani, hotelleissanikin, hotelleissanikaan, hotelleissanikaanko
والمعاني بالترتيب من اليسار لليمين: فندق، فنادق، في الفندق، إلى الفندق، فندقي، في فندقي، في فنادقي، في فنادقي أيضا، ليس حتى في فنادقي، لماذا ليس حتى في فنادقي؟
بناء على بعض الأبحاث التي تتطرقت إلى الثروة اللغوية لدى أجريكولا يمكن القول أنه استخدم ثمانية آلاف وخمسمائة لفظة وما بقي منها حيا يرزق يصل إلى أربعة آلاف وخمسمائة كلمة. بهذه اللغة الفنلندية المكتوبة ذات العمر القصير نسبيا تدرّس جميع فروع العلم والمعرفة ابتداء من روضة الأطفال ولغاية الجامعات. لها، للغة الأم، مكانة مرموقة في المجتمع الفنلندي نظريا وعمليا وهي تتطور وتواكب عجلة التقدم والتكنولوجيا المتسارعة ففيها يسمى الحاسوب بـ “ماكنة المعرفة”، وجهاز التحدث هو الهاتف والبريد الكهربائي هو البرقية ومركبة خط هي الحافلة، وعود الذاكرة هو usp ، والمداوي هو الطبيب وما بعد الأكل هو التحلاي وزجاج العين هو النظارة وحانوت الكتاب هي المكتبة للبيع، وغرفة الاستلقاء هي غرفة النوم، وخيار الأرض المفتوحة )المكشوفة( هو الخيار العادي، حساء الصيف هو حساء الخضار بالحليب، وورقة خبر بمعنى صحيفة، رجل الورقة أي صحفي، نصف الثالثة أي الثانية والنصف، بلد البيت أي الوطن، ما يُسمع أي كيف الحال، علبة عود النار أي الكبريتة، عشرتان أي عشرون، ملعقة شاي أي ملعقة صغيرة إلخ.
وعلى من يتقدم للحصول على الجنسية الفنلندية أن يُبدي مقدرة كافية بمستوى متوسط بهذه اللغة في امتحان كتابي وشفوي مسجّل ورسمي لمدة بضع ساعات. والأمر نفسه ينسحب على عامل النظافة أيضا.
والشيء بالشيء يُذكر، لا وجود لمثل هذا الشرط، معرفة اللغة بمهاراتها الثلاث: القراءة والتكلم والكتابة، ناهيك عن التفكير بها، بالنسبة لأستاذ يعني بروفيسور اللغة العربية وآدابها والدراسات الإسلامية، يعني بالفلسطيني:عيش كتير بتشوف كتير، يعني بالعربي الفصيح: عش رجبا تر عجبا!
أ. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. عاجل .. وفاة الفنان عادل الفار بعد صراع مع المرض
.. شقيق عادل الفار: الفنان محجوز فى العناية المركزة وحالته خطرة
.. #شاهد من وسط معاناة النزوح.. أطفال غزة يعزفون الموسيقى في مش
.. الفنانة سلاف فواخرجى: أى ممثل يهمه عرض أعماله في مهرجان عريق
.. سحر المواقع المصرية كلمة السر.. 3 أفلام عالمية تراهن على الن