الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسطورة التأله الجزء الخامس

صالح محمود

2008 / 4 / 4
الادب والفن



مسار التأله
كان القوم يتسربلون في أسمالهم المرقعة، يتعثرون في أطرافها المقطعة وقد صاروا هياكل عظمية تلفّها قشرة شاحبة خشبية، جافة بلونها الرمادي العاتم، يسبحون في تنور الصحاري وهو يمور ضمأ وقحطا ممزوجـا بالسـراب المريب، و الغمام الكاذب. حتى نفذت فيهم هذه العوامل و امتزجت بهم بعد أن سرت جارية في شرايينهم، فصاروا القحط و الضمأ، اليأس و الخضوع، الاستسلام للاّحول و لا قوّة و الخنوع وهذا ما جعلهم يمثلون شرذمة من الصعاليك العراة، يتخبطون في الهمجيّة والخرق حفاة.
شعروا بالتصاغر و التضاؤل أمام سمة الدناءة التي التصقت بهم و بأجيالهم اللاحقة خاصة و أنهم يلغون ما يتقيّؤونه. حينذاك شلّهم الرهاب بعد أن غلهم، ران على قلوبهم فهم فيه إلى الأذقـان غـارقون، أصبحوا يتوارون وراء أرديتهم و ظلالهم النحيفة الباهتة يفضون النزاعات بالحسنى أو يغضون الطرف، يدفنون رؤوسهم في الرمال بتغلغل الشعور بالنقص فيهم و الخجل، فهم أقباح أقحاح، أهواج أفجاج، يبكون تاركين ما تبقى من أجسادهم خارج الرمال، و أيدي الملوك الرعاة تداعب مؤخراتهم واضعة الوسطى فيها، باحثة عن البيض بتواطئ من الفراعنة. ولا يفتأ الملوك الرعاة أن ينفجروا ضاحكين و هم يتعجبون من اختلاف أحجام تلك المؤخرات و عمقها.
حين نشأالأنبياء و رأوا ما حل بالقوم و مقدار جسامة هوله المزيف، إذ كان أهالي الصحاري يسعون للمحافظة على جمالهم المزعوم بالمحافظة على هياكلهم المنسجمة في أدق تفاصيلها بحكم ضبابية الرؤية لديهم و عتمتها، انعدام القدرة على وضع الحدود و التردد في الحسم. إذ ثارت الرمال كأمواج البحار تحت وطأة إعصار، فحجبت الشمس وصار نورها باهتا، لا يمكنهم من السير بيسر دون وقوع المحضور و المقدر، هذا فضلا على تناوش الأفاعي و العقارب لهم وهي تمتصّ دماءهم بلا هوادة. أخذوا على كواهلهم الفصل بين العرض العارض و الجوهر الخالص، هاهو أحد الأنبياء يقوم فيهم خطيبا، مبشرا و نذيرا :
- يا قوم إن رؤيتكم لأنفسكم مشوهة، فلستم من القبح والفجاجة في شيء، إنما غرست فيكم الطاعة والعفة، النزاهة و التقوى، العجز. وتغلغت فيكم الطيبة حتى صرتم من البلهاء مبررين ما قيل فيكم منذ أمد : » إن الجبن قد استبطنكم فخالط اللّحم و الدم والعصب و المسـامع والأطراف و الأعضـاء و الشغاف، ثم أفضى إلى الأمخاخ و الأصماخ، ثمّ ارتفع فعشش، ثم باض و فرخ فحشاكم وجلا و تهيبا، نفاقا و شقاقا.«
صارت تحكمكم الغرائز تتعثرون في مشيتكم سالكين الوهاد والأنفاق، ساكنين الكهوف والجحور، و أنتم تدعون في قنوط : » اللهم لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا واعفوا عنا و اغفر لنا، أنت ولينا و إليك المصير«. ثم تنظرون سيف النقمة معلقا يقطر دما، فتوجف قلوبكم وتصفر وجوهكم و ترتجّون ارتجاجا، إذ تهرولون لتقديم القرابين والصدقات خفية و علنا، و مع ذلك هاهو سيف النقمة يرتفع كعادته ليسومكم سوء العذاب فتزلزل بكم الأرض و تبتلعكم و لا ترتوي من دمائكم إلا متى تجشأت و تقيّأت، و هذه العواصف و الأعاصير تقصفكم أزهارا و ورودا و تحطمكم أشجارا سامقة، و تكسّركم نخيلا و تجعلكم عصفا مأكولا. و هذه حمم البراكين تحيلكم شواء ثم رمادا ثم تذيبكم و لا تترك لكم أثرا. و مع ذلك لا زلتم في إيمانكم و غيّكم، تسبحون بكرة وأصيلا مطمئنين لسماحة وجوهكم البشوشة و تصلون كل الصلوات.
سكت النبي هنيهة ثم أضاف :
- يا قوم لقد طمستم عن جهل ما قد تأصل فيكم و تجذّر الجوهر، فإن أردتم أن يتجلى كنور الشمس المشعّة، فقد كتب عليكم الصوم، حتى تتمكنوا من تجاوز الخيط الأسود إلى الخيط الأبيض.
فتهيّج القوم و ثاروا محتجّين على قسوة الأقدار لائمين الزمن و هم يجيلون النظر في كل اتجاه كالمقعدين، يبكون بعيون غائرة عاجزة عن زيغ الدموع. يصرخون بأصوات كالنواح أو كالحشرجة، تخرج من حناجر قد تراكمت عليها طبقات الملح و الكلس.
- سيدي، يا هذا ! أنت تدعونا إلى ترك الخمور وهجر الفجور، فكيف نحقق اللذة ؟
فأجاب النبي بصوت متأن غافرا لهم تمركزهم على ذواتهم :
- يا قوم اعلموا أن الصوم مهد التألّه.
- كيف يا عفاك الله ؟
- حين نصوم نتجاوز الماء و نصبح كنور الشمس الوضاء.
- سيدي، كنا في هدوء فمزقته، و وقار فخلعته، حتى صرنا في لهفة الصّادي المفتون المجنون، فأين الماء ؟
- و الله إنكم لأبعد الخلق عن التمثل، فكيف تبدلون المغناطيس ذلك الذي يسري في الكون، ينتشر و يتصاعد خفاقا مشعّا، فائضا جبّارا، فيملأه و يهيمن عليه بعد أن يتغلغل فيه و يتحكم، بهتك الأطر و تمزيق ستائرها، منشئا بذلك الخلود و هو كامن فيكم لأنه أنتم وأنتم هو، بالماء المتيم أسير الشمس و عبدها.
- فما التمثل ؟
- هو الانسلاخ عن التوحش والارتقاء إلى التألّه.
- و ما السبيل إليه ؟
- الصوم كفيل بالفصل بين العرض العارض و الجوهر الخالص.
ثم أردف النبي و في صوته كالحميم في شكل شهب مضيئة :
- يا هؤلاء استحلفكم بالله أن تصدقوني القول، إن الألوان والنور هي سمة الوجود، فأين ألوانكم و نوركم، و هذه الأرض قد أطبق عليهـا الغبار المصهور و حال بينها و بين النور بطبقة سميكة فأين ألوانها و نورها.
- لقد غادرتنا و تركتنا خواء، حين غار الماء في العيون و صار أثرا بعد عين !!
- لا يا هؤلاء، إن الألوان لم تنأ عنكم و لم تغادركم، بل هي كامنة فيكم وفي أرضكم فهي خاضعة خضوعا تاما للمغناطيس الذي يطفو متى تحللتم من الأطر و يختفي متى انكمشتم داخل ذواتكم. ألم تروا الألوان حين تخلط كيف تعتم و تبهت ذلك بانها لم تتمازج، و لم تتجانس فبقيت في نفور.
يا قوم اعلموا أن الاضطراب قد أضرمكم و الرهاب قد أضمركم، فاجتث جذوة الوجود منكم و سحب نشيدكم، و أنتم خيالات تقتـاتون على الفتـات و الرفاة، تتقاتلون بضراوة الوحوش الجائعة على الجيف.
- يا سيدي لقد ألم ّبنا الألم و تفاقمت علينا الرزايا و بتنا فريسة للعصاب الذي حاق بنا و حاصرنا، يتناوشنا تناوش الوحوش الفريسة قبل استسلامها. فارحمنا و اهدنا سواء السبيل.
- عليكم بالصوم !
قالها ثلاثا و سكت.
حينذاك أطلق القوم العنان للتخيّل بحثا عن ملهاة تنسيهم عـذاب الضـمأ و النصب، الحرمان من الخمور و الزنى، إذ ينامون نوما مبالغا فيه ثم يستيقظون كسالى متراخين و قد شلهم الوهن فيلتجؤون إلى ألعاب الصبيان من رقص و غناء على إيقاع التصفيق و التصفير، ثم ها هم يضربون الحجارة بالعصي مقلدين الرعاة في البراري، فيبتسمون لذلك ابتسامات كالتكشيرة بوجوه شاحبة حالكة كالحة، يختصمون فيتجادلون بأصوات عالية، يتسابون بأقذع السباب و الشتائم رافعين الهامات كالعناصل، لتفادي مرأى جراحهم التي تدمي قلوبهم بما تنزفه من دم وتنزه من قيح مقرين عن غير وعي ما بهم من ازدواج بين ما هم فيه من زراية ورغبة ملحة في الهروب لتفادي الشعور بذلك فترى عابري السبيل يتقيّؤون لمرأى تلك الخـلائق القـذرة الـدميمة التي تثير الاشمئزاز والتقزّز، يتحاشون مصـافحتهم و ممازحتهم أو حتى طلب إرشادهم لعبور الصحاري القاحلة خوفا من الجرب.
حينذاك تمكّن منهم الرهاب و تغلغل فيهم، سادهم و ران كطبقات ملح السباخ التي سرت إلى أعماق أجسادهم عبر مسامها، فصاروا ملحا.
و أمام صفعات القدر و هزّاته المتتالية، وهو يدفعهم عنوة إلى الإيمان باللاحول و لا قوة، يتهـاوون كخرق بـالية متسخة أو كجذوع مجتثة يابسة، و الخيبة لا تفتأ تطبق عليهم حين كـانوا يسعون للانسلاخ عن التوحّش فيتراجعون و يتهالكون كالعجز. آنذاك انكفؤوا على ذواتهم يتناوشهم الشعور بالذل والهوان، فيبتسمون كالشّواذ جنسيّا، محاولين ستر مؤخراتهم بسحب أطراف أرديتهم عليها. ثم هرولوا إلى الأنبياء مستنجدين و أصواتهم منكسرة :
- سيدي يا هذا، لقد حبطت أعمالنا و ثبطت، لئن لم تنجدنا لنكوننّ من الخاسرين.
فأجاب النبي بصوت مجلل بالهيبة و الوقار :
- يا قوم ما الذي دهاكم و فيما الاحباط ؟
- سيدي لقد صرنا واجمين، باهتين، ذاهلين، شاخصين في انعدام بصيص النور!
- يا هؤلاء، إنما أنتم على الخط السويّ، و لكن شرّ الدواب عند الله الصمّ البكم الذين لا يعقلون.
- كيف يا رعاك الله ؟
- أنتم ترفضون الصوم !
- و لكننا نصوم ؟
- إنما التألّه قدر الإنسان المحتوم، لتحقيق اللذة المطلقة عبر الخلود. فوليتم الأدبار بإلتجائكم للتقمص لأنكم تؤتون الصوم مرغمين.
ثم سكت النبي برهة و زاد قائلا :
- يا هؤلاء، صرتم كالبهائم الدابرة ترزح تحت الأثقال وهي مع ذلك تنفي شعورها بالألم، و لا تفتأ جراحها تدمى و تتعفّن، تتّسع وتنتشر، فتقصي جراحها بصد التفكير فيها، رافضة الكلل و الانهاك مستعدة لنقل المزيد من الأثقال. و لا يزال الإجهاد يتسرب فيها ويتغلغل في كامل أوصالها يسعى لشلها بما تنفقه من جهد للقيام بذلك الصدّ. فتتجهون للّهو و اللّعب، الغنـاء و الرّقـص، التخاصم و التراضي، السماجة و الثقل. تتضاحكون ضحكات مخنثة منكسرة، ترومون الجماعة رافضين الترهب و الوقار و ها أنتم أولياء مسرحا للازدواج والتقمص.
- كيف نقضي على الصّراع يا سيدي ؟
- لا يقضى على الصّراع إلا بالخروج من القواقع و تحطيمها حتى يجففكم النور من الأدران و القذارة ممزوجة بالتعفّن.
- و لكن سيسحقنا التهاوي إلى الحضيض نهائيا.
- و لكنكم في الجحيم !!
- فكيف نتقبّل ذواتنا على ما هي عليه ؟
- بالانصهار!!
- فما الانصهار ؟
- هو التناغم، الانسجام عبر التمازج لكل الأشياء المنصهرة، أفلا تنظرون إلى طعامكم إن في ذلك لآية لقوم يعقلون.
- سيدي ما السبيل إلى الانصهار ؟
- عبر الاقرار !!
- و الذهان ؟
- بلى، و الذهان !
فبعثر القوم إذاك في الصحاري من جديد و هم يهذون بأصوات مرتفعة ذاكرين ما كان منهم من زور و بهتان، سخف و هذيان و هم يقيمون مرايا يصقلونها صقلا و يلينونها تليينا حتى يروا من خلالهـا ذواتهم وهي في أحسن هيأة و أجمل صورة. و حين شاهدوا هياكلهم، ولوا على أعقابهم مدبرين يعدون عدو الملاحق من عدو مبين بعد أن تصدع اطمئنانهم و خلخل كيانهم، يهزهم الجزع هزا و الفرق، يسحّون الدموع فيعلو عويلهم من حين لآخر كعويل الثكالى وهم ينظرون إلى الأرض، يرسمون أشكالا بخطوط منحنية بالعيدان ثم يمحونها و يتكؤون بحثا عن النعاس، فيقلبون جنوبهم يمينا و شمالا فلا يداعب جفونهم في غياب الطمأنينة التي نأت عنهم و تباعدت، بل يجفوهم حين نزل عليهم ضيف ثقيل أثناء استحضارهم لما رأوا مرتاعين ملتاعين.
ثم بعد لأي و مضي وقت كالدهر، ساد حياتهم وظلهم و كاد يكتم أنفاسهم. تحاملوا على أنفسهم من جديد رغبة منهم في التحامل، وتسلّلوا إلى المرايا رغبة في التسلّل، يحبون للتطلّع لذواتهم عن بعد رغبة في التطلّع، و حالما نظروا نظرة خاطفة لها أشاحوا عنها بوجوههم الشاحبة، و قد كانت الكائنات العليا من خيول و قردة، كلاب و قطط تبتسم وتشير لهم بالبنان متضاحكة.
آنذاك غض الأهالي الأبصار و هم يتصبّبون عرقا، ذابلو العيون، وفي الحلق غصّة وفي القلب وخزة.
ثم ها هم يحاولون التغلب على ألمهم فينظرون خفية وهم يتلمسون أصابعهم مقلبين إياها، قاضمين ما زاد من أظافرهم عن الحدّ، و يتغاضون عن صورهم في المرايا.
ثم تسابقوا إلى النبي يطفرون الدموع و هم يدسون وجوههم بين أيديهم قائلين :
- سيدي يا هذا لقد صرنا أجلافا !!
- يا أهالي الصحاري، أين أنتم من التعجرف بما فيه من عدوان وتوحّش، قسوة وشدّة. إن إنسان الأساطير ساكن الصحاري قد بنى الأهرامات و حفر مجرى النيل، و ضع أسس الرياض بإنشاء الواحات عبر الحروب فسمي جلفا، لأنه استبطن الصبر على الضمأ من فحول الجمال واستلهم النهش من أفاعي الأجراس و امتصاص الدماء، والزئير من الأسود، والنار من الشمس، و الانتشار من الصحاري القاحلة، والصلابة من الأرض. يقيم الأفراح والليالي الملاح بعد حرب ثأرية تدوم أربعين سنة فسمي جاهليا. يمجن و يعربد يجوب الصحاري طولا و عرضا فسمي صعلوكا.
يا قوم أين أنتم من كل ذلك إنما مظهركم يوحي بالتعجرف إلا أن باطنكم طري رخو، لين و هش. إذ صرتم تلبسون الحرير بدل الصوف، وتنامون على الأسرة بدل سعف النخيل، تشربون الخمور بدل حليب النوق. ترفضون ملاعبة أفاعي الأجراس و مداعبتها بدعوى قبحها وخشونة لعبها.
يا قوم لقد استبطنتم الجهل و صار منكم فأنتم لا علم لكم بمواقيت ثورة الرمال في شكل عواصف لتعلن عن صولتها و جبروتها أمام باقي الأراضي للتباهي بمفاتنها و سحرها. إذ تقفون مبهوتين فاغري الأفواه عاجزين عن بناء الخيام الصامدة القوية، فتشتتكم العواصف تشتيتا وتشردكم تشريدا. تتيهون في أطرافها و تتساقطون جيفا جـافة. يا هـؤلاء، صرتم عاجزين عن ترويض فـحول العير و تحويلها إلى سفن الصحاري هربا من رغائها و ما ينتج عن ذلك من لعاب في شكل زبد سائل من أفواهها تعبر من خلاله عن تحديها لجحيم الصحاري القاحلة و سخريتها منها، بل احتلالها لها و استغلالها.
هذه الصحاري رمالها تمور، يغمرها السراب الأزرق يعتقد أنه سراب إلا أنه لهيب نار يغمر الأساطير النائمة التي تتطلب سحرة مهرة لفك رموزها.
يا قوم لقد استلهمتم الوجف و الرّعب من الكائنات المسحوقة تلك الكائنات التي تتفادى الصراع و لا تؤمن بالاعتداء. فكلما برز لكم أسد أو فهد، ذئب أو ضبع تخلخلون وترتجون، تصابون بالإغماء للإحتماء من ضرورة النزال. ترفضون الصيد في المستنقعات بدعوى أن أسماكها سامة و هـذا لعمري تغـابي و بلاهة، لأن الأسماك السامة تجعل آكلها ساما، و أنتم إنما رفضكم ذلك ليس إلا جبنا و تهيبا من التـماسيح التي منعت عنـكم الماء باستحواذهـا على الأنهـار و البحيرات، الجداول و المستنقعات، بل باتت تهاجمهكم على اليابسة متحدية لكم ساخرة منكم.
يا قوم من منكم يهوى الإبحـار في الأسفـار لاستجلاء سحر الصحـاري و فتنتها، أناقتها و بهاءها فيمرغ وجهه في حسنها و يترشف رضابها. بل تهرعون إلى المغاور و الكهوف، الوهاد و الأغوار هربا من سعيرها المتأجج على الدوام على حد زعمكم، و أنتم أعلم خلق الله أنها تشحن أسودهـا ذكورة و شـهوة و فحول عيرها.
هل أتاكم نبأ الصحاري أصل الوجود، منشأ الخلق بجمالها الآسر إذ صارت مهبطا للوحي و مسرحا للأساطير والمعجزات.
هذه الصحراء يلفّها الصمت و الوقار، الهدوء و التفكير، الحكمة والتدبير، قد انسلخت عن الزمن و تجاوزته فصارت أرض التأله و الخلود تمور بالأرواح المشرقة القادرة المقتدرة. فأين أنتم من الصحاري و كأنكم لم ترضعوا حليب عيسها.
- سيدي يا هذا، هل نحن أجلاف ؟
- إنما أنتم فقع نبت بقرقر !!
- فكيف نحقق التعجرف، و نصبح أجلافا ؟
- باستبطان الاهوجاج و الفجاجة و استلهام المجون و العربدة.
- كيف ذلك يا رعاك الله ؟
- حين تكونون متعجرفين، لن تكون الوحوش في مأمن منكم وستزور عنكم.
فقالوا » أصبت « و انتشروا في الصحاري من جديد، وقفوا أمام المرايا وهم ينظرون إلى تعجرفهم بتعال و كبريـاء، عشق و إبـاء يتمعـنون صورهم و يتملون هياكلهم مقبلين عليها إقبال المريد متهافتين على أدق تفاصيل ذواتهم بلا ريبة و لا رهبة. إلا أن ألمهم ألح عليهم لغزارة الدم النازف و القيح الناز من جراحهم الغائرة، إذ تجهض بذلك سعادتهم ويغمر وجودهم التضوّر و الأنين، الصراخ و العويل وهم يتهالكون في عجز تام خيبة و استسلام.
و رغم محاولة الالتجاء للازدواج بالتغاضي و ما فيه من خوف ضمني غير مصرّح به وهو لعمري أشد وطأة و فتكا و التناسي و إلحاح الجراح عبر إرسالها المتواصل للألم الفجّ الذي يطيح بأشد الكائنات صلابة و عتوّا.
و أخيرا و بعد المقاومة لم تصمد طويـلا أمام عدو ضـار أهوج، خر القوم و همّ يتلمّسون جراحهم و ينظرون إليها و دموعهم تنفطر و قلوبهم تنشطر، يطلبون عون النبي منادين :
- سيدي، إن جراحنا أغربت في إيلامنا في مسعى منها لإفنائنا بما تنزفه من دماء و ما تنزه من قيح، إذ صارت أجسادنا مرتعا للتعفن في غياب المناعة و غدت الجراثيم تعشش بلا خجل و لا وجل فيها و تفرخ. فهل من ترياق ؟
قال :
- بلى ! عليكم بالاسترخاء.
- و ما السبيل إلى الاسترخاء ؟
- أن تعشقوا الضمأ و تنفوا الماء، أن تتعايشوا مع آلامكم بسلام معترفين بشتّى أمراضكم متقبلين إياها، ما ظهر منهـا و ما بطن حتى تطفو على السطـح و تتبخر لأن الأمراض إنما هي كائنات الظلام لا تنشأ و تنمو إلا في ظله، و لا تقبل بأي حال من أحوال النور لأنه يذيبها.
عليكم أن تتحلّلوا من الزمان و المكان، و أن تتمخضوا عن بوتقة المشاعر دون السماح لها أن تترك بصماتها عليكم، أن تحرروا الأفكار وتفسحوا لها المجال للتجوال، المرور و العبور، ألا تتيموا بفكرة بعينها أو رؤية على أن تحافظوا على وعيكم.
إذاك انطلق القوم في البراري و بثّوا في الصحاري كمبعوثين من المقابر زادهم الرغبة في الجرأة لاكتساب القوة. هاهم يتأملون الوجود دون تركيز على جانب معين منه، متحللين مما تقدم من ذنبهم و مما تأخر، و قد انعتقوا من أصفاد ذواتهم إذ صاروا لا يهتمون لما تثيره أمراضهم من آلام و حك أو نزيف القيح و الدم من جراحهم، هذا فضلا على مداعبتهم للرهاب حين يبرز لهم في شكل رؤوس أفاعي مكشرة عن أنيابها، فيسمع لها فحيح منكرا وصلصلة و ملا مستها. فتبينوا بأنها ليست سوى كوابيس و وهم قد تأصّل في نفوسهم الضعيفة المنهكة.
في تلك الآونة تناقص البراز تدريجيا في غياب التبرّز حتى اختفى تماما و تبخّر البول في غياب التبوّل و ذاب، فعاد للصحراء إشراقها و للرمال تموجها و انتصب القوم قياما. كان ذلك حين تغلغل الصوم فيهم و صار كلا لا يتجزأ باستبطانهم له، بما نشأ لديهم من عشق له وهيام. آنذاك بـدأت أجسادهم تمتلأ باللـحم و تكتنز بالشحم، و صار الدم يفور وهو يقوم بدورته العادية بصورة طبيعية بانعدام الخوف و الرّهاب، إذ أشرقت الوجوه و لانت البشرات ظهرت عليها آثار الاحمرار مع صفاء العيون وقد بان فيها بريق غريب و اتقاد. فانتصبت القامات وارتفعت الهامات وخلت الظهور من الاحتدابات. غمر القوم رغبة في الضحك بانت في العيون ثم انتقلت عدواها إلى الشفاه في شكل ابتسامات ثم ضحكات وقهقهات.
إذاك ساد القوم اعتقاد بأن عالم أزلي قد هتك عنه الحجب وشرعت أبوابه أمامهم فهم إلى السعادة الأبدية منساقون. بلى لقد كشفوا النقـاب عن الجمـال و الفتنة، العشق والذوب فيهما. إلا أن ذلك الاعتقـاد بالخـلاص من الجحيم و النفاذ إلى النعيم ما فتئ أن خاب و تلاشى، واستحـالت الفـرحة إلى خوف و ريبة والغبطة، حين داهمهم شعور بأنهم أصيبوا بالجنون فهم لا يفتؤون يهذرون بروايات من عالم الوهم و الخيال بصوت مرتفع غير خجلين أو وجلين بعد أن كانت أصواتهم خافتة هامسة خفيّة لما كان يغمرهم من رعب و ما يلفهم من شعور بالانسحاق، إذ تسارعوا إلى النبي و الوجف يرجهم و الخلخلة، تكتنفهم الرغبة في النواح و النديب على ما آل إليه أمرهم يرسلون صرخات مستغيث مستجير :
- سيدي، إنا على شفير الهذيان و السكيزوفران، فقد غزتنا تأملات نكرة غريبة عبر الأفق حين كنا معتكفين في صومنا متبتلين.
-يا قوم هدؤوا من روعكم و طيبوا أنفسـا، أخبروني ما الـذي وقع لكم و ماذا رأيتم ؟
فهب أحدهم قائلا يسرد رؤياه :
- سيدي، لقد صرت قادرا على رؤية الكائنات الماورائية والتخاطب معها، بل سخرتها لخدمتي، فيبنون لي القصور و ينحتون لي التمـاثيل و صور السبـاع و الطيور.
و علا صوت آخر وفي عينيه بريق غريب :
- أما أنا يا سيدي فقد استطعت أن أصعد في الفضاء و أحلق في السماء، فتهبّ علي برودة الهواء، و أشعر بالصفاء و النقاء بجلاء، بمنآى عن وعث الصحراء و صرت قادرا على النفاذ إلى ما وراء الوراء و تفجير الماء.
و تدخّل ثالث ليعقب قائلا :
- على ذكر الماء يا سيدي، فقد غمرني حين كنت معتكفـا في صـومي، و صرت أسبح فيه إذ يحضنني برفق كأم رؤوم، يداعب بشرتي بلمسات رفيقة رقيقة و كامل جسدي يروي ضمئي و يضفي علي الينوع و النضارة.
و نهض أحدهم و قد كان قابعا يقلب الأمور على كل الوجوه وهو يقول مخاطبا القوم، مدبجا مداخلته :
- يا هؤلاء، صدقوا أو لا تصدقوا، لقد صرت قادرا على النفاذ داخل الأشياء لمعرفة كنهها و النظر إليها بعمق و روية من جميع زواياها، هذا فضلا على قدرتي الخارقة في تحريك الأجسام و نقلها من مكان لآخر بشعاع عيني فحسب.
ثم جلجل صوت خشن وهو يقول :
سيدي، يا قوم، أنتم تعلمون أن أفعى الكوبرى كانت تتربص بي وتخاتلني فيما مضى من الزمن، فقد أقسمت منذ أمد على رؤوس الملأ أنها ستتذوّق دمي، لأن أحد المغرضين الحاقدين على الإنسان روى لها أن دمه مسكر كالخمر يجعل شاربه يتهالك و يترنح مخمورا معربدا في الطرقات.
و اليوم حين مررت بجحرها، و قد كانت مستلقية أمامه تأخذ حمام شمس، ولما أحست بخطايا، التفتت إلي تحسبني فريسة، و حين التقت نظراتنا، و قد كنت مغرما بعينيها و لهان بهما، ارتاعت و صاحت صيحة رعب و هي تقول : » ابعد نظرك عني، لقد أعميتني، أعميتني« ثم فرّت تضرب في الأرض وهي شبه عارية لا تلوي على شيء، فعدوت خلفها حاملا لها ملابسها، أهون عليها و أهدئ من روعها، و ما هي إلا بضع خطوات حتى رأيتها تعلق بين حصى خشن و حادّ، مما جعلها تعجز عن الزّحف، و حين لامستها رأيتها تلتهب بنار زرقاء و تستحيل رمادا.
و نظرت حولي فرأيت الوحوش تديم النظر إلي و هي ترتجف، اتجهت إليهـا و أنا انتظر أن يعضّني أحدها أو يركلني، يلسعني أو يشكني بقرونه إلا أنها تراصّت و الهلع يكاد يعصف بها و هي تقول بصوت خافت متقطع : » عيناك تبعثان لهيبا أزرق و يداك« ثم فرّت شرذمة منها هاربة لاهثة في كل اتجاه.
و بحكم صاديتي و رغبتي في الثأر ممن سامني العذاب سابقا، فقد وبخت من بقي من الوحوش والضواري و أهنتها و ركلتها على مؤخراتها بعقب حذائي، لعنتها و سببتها وهي مع ذلك تتضاحك كالشواذ جنسيا، و تغض الطرف و تحني الرؤوس. فاستغل الموقف واسخّر جزءا منها للركوب و حمل أثقالي و أنا أخزها بعصايا الحادة من الخلف.
و همّ أحدهم أن يروي رؤياه. فقاطعه النبي و وجهه يفيض إشراقا و ألقـا، و قال بصوت عميق هادئ :
بلى، إنه الاستشفاف و رب الكعبة !
قال قائلهم :
- و ما الاستشفاف ؟
- هي علامات طفو المغناطيس على السطح كاملا.
- سيدي هل في ذلك إذاية ؟
- يا قوم لا تخافوا و لا تجزعوا، تلك التأمّلات و من خلالها نتبين ملامح المستقبل بتجاوز الأطر و تتجلّى لنا تفاصيله، هي عصبه يتدفق في مجاريها وهي نواميس التأله. فابشروا بغزو الرؤى لكم، احتفوا بهـا واجعلوهـا قرّة عيونـكم و مهجة قلوبكم، استبطنوها و امتزجوا بها.
- و لكنها تتقاتل بضراوة ضراوة السباع ؟ !!
- يا هؤلاء، لن تمسسكم تلك الرؤى بسوء و لن تسبّب لكم مكروها و ما تقاتلها إلا لاحتلال مواقعها لديكم، فكونوا مسارح شاسعة لها مضيئة، عاشقة لجمالها متيّمة به حتى تستعرض تلك الرؤى مفاتنها وتتباهى بها، فهي معتدة بنفسها فخورة بكمالها و أناقتها. أرسلوا أناشيد الفتون والحب بها لتستقر لديكم.
و قام مريض بالعصاب يغمغم :
- سيدي كيف لنا أن نعشقها و نفتن بها و هي مستهجنة غريبة عنا فضلا عن ذلك فهي تدعونا لمراودتها عن نفسهـا، إذ تزين لنـا الفسق والفجور المجون و العربدة و نحن ندين بالهدوء و الوقار؟!!
فصاح النبي فيهم بصوت قوي جهوري ارتجوا له ارتجاجا :
- يا أهالي الصحراء هذا وادي النيل ينبع من الأقاصي منحدرا من قمم الجبال فيضا دافقا من القوة و الذكورة، قاهرا جبارا يسعى سعي الصّادي نحو الأرض، فينكب عليا مليئا بالشهوة، الخصب و الرغبة في المتعة، فتتزين له و تتبرّج بارتداء أبهى الحلل الموشاة بالألوان الزاهية النضرة و تتعطر بالطيب و مختلف العطور. تتضوّع أريجا و هي ترفل في جمالها الأزلي الأخاذ و تبتسم مرسلة ضحكات تنبض مجونا و دعوة مستمرّة له.
هذه الرياح مرسلة نشرا، تقلّ سحابا ثقالا، باعثة رسلها مبشرة الأرض بقدومها، ببروقها المبتسمة و رعودها الضاحكة. ثم لا تفتأ أن تنكبّ عليها تقبّلها و تحبلها، فتخرج حبا متراكما من النخيل طلعها فنوان دانية و جنات من أعناب الزيتون و الرمان مشتبها و غير مشتبه. أفلا تصدون رغبة الآلهة في تحقيق الخلق بما لكم من قدرة على الطمس والتعتيم عن جهل !!
- و هذه الرؤى يا سيدي، تنفي فينا العدم العتمة و الألم ؟!!
- يا أهالي الصحاري، أنتم على مشارف التأله، فاسعوا لاكتمال الألوهية.
- و لكنا تجاوزنا الطبيعة العاجزة الواهية، المؤمنة باللذة، فصـارت تجلنـا و توقرنا !!
- بلى، إلا أن الخلق يتطلب الفعل، و تلك التأمّلات لا زالت رؤى والإله ينشئ العوالم.
- و ما الذي يخضع الطبيعة فتنحني راكعة و تتهاوى ساجدة لنا؟
- اعلموا أن الطبيعة مؤمنة بمنهاج مؤطر مستقيم و مسطّر، قابلة للكسر بهبوب المغناطيس الذي يسري في الأثير شفافا منتشرا، شاملا مقتدرا. فأنزلوا تلك الرؤى و ابسطوها على الصحراء، انتصبوا آلهة خالدة، بالمغناطيس الذي تسـرّب و طفا فاض و طغى.
كتاب الموتى
حين ولجا الهرم، اعترض طريقهما صندوق قدّ من الخشب على هيئة إنسان نائم، ملون بألوان عدّة، احتلّ المركز و قد أضيء مكانه بنور الشمس الذي انعكس على المرايا المصقولة في أعلى الهرم إلى الداخل :
- ما هذا يا صديقي ؟
- هذا التابوت.
- لماذا هو على هذه الهيئة ؟
- حتى يحافظ فرعون على هيئته كاملة.
- هل يمكن فتحه ؟
- بلى !!
حين فتح الصندوق، رأيا شيئا عجابا خلقا من أبشع الخـلق منظرا لا يرى و لا يسمع و لا يعي، هيكلا عظميّا ملفوفا في قشرة جافة كالورق المقوّى، مقشرة متفحمة يقشعرّ لها البدن. لفّ كل ذلك الجسد الذي غادره النور و المـاء و نأى عنه و عافه، في قمائط تبدو عليها آثار القذارات ما عدا الوجه الذي تبدو عليه سمات الشعور بالحزن الدفين، الألم العميق و العجز التّام. كان ينظر بلا نواظر شاخصا شخوص الموت.
قال تاكفاريناس :
- يا صديقي، لقد كان فرعون إلاها!
- بلى، إن غريزة التوحّش لدى فرعون هي التي هدته إلى بسط دياجير الظلام على الخلق باعتباره إلاها قادرا مقتدرا، رافضا الإيمان بالنور الذي يضيء فينشئ الخلق إنشاء ويبعث الوجود من العدم بعثا. طلب الصمت و ترك الأناشيد، إنه دافع يدفعه نحو النكوص إلى النهاية، يطفو على السطح مشوها متلفعا بزيّ القوة و البطش. و الآن مثله كمثل الوحوش التي يتحوّل أحدها في حالة الضعف و الوهن إلى فريسة منكسرة ترفض الصراع معلنة الهزيمة، تتوارى طلبا للرحمة دون جدوى و النجاة. لقد تضاربت في فرعون الرؤى إلى حد التناقض بين الرغبة في التألّه والعجز بهيمنة الأطر، فيرتدّ إلى الخرافة و الأسطورة وهو يتقمص الطفولة و مركزية الكون.
- و لكن كيف رضي فرعون أن يكون أضحوكة و عبرة للبشرية وهو مقدّس. ألعلّ السجون و تمركزه على ذاته، جعلت منه مختالا في الأرض يمشي مرحا، و قد انتصب إلاها، و في حين تبرعّ أنشتاين بدماغه لفائدة البحوث العلمية، أمر فرعون الكهنة بالمحافظة على جسده كاملا مكتملا لا ينقص منه شيئا. و بدل أن يأمر بوضع جثته على قمم الجبال ليكون غذاء للنسور الكواسر أو السباع البواسل فيستحيل جزءا منها ومن دمها الفوار، أو بدل أن يدفن في التربة حتى تتحول جثته إلى دبال تتغذى به الزهور فيعانق بذلك النور و الجمال، أمر بتحنيط جسده و تعليبه في صندوق ليكون مزار الإنسانية.
و لكن أخبرني يا فارس، كيف يتمّ ذلك ؟
- هذا العمل يقوم به الكاهن الأكبر، إذ يخرج الدماغ من الأنف، ويثقب البطن لإخراج الأمعاء و الكلى، فيغسلها بخمر البلح، و يردهما ثانية بعد أن يملأ الأمعاء بالمرّ والقرفة و الأطياب و العقاقير و العطور وكذلك يملأ الرأس. بعد ذلك يدهن الجسد بالزيت المقطّر لمدة شهر. ثم يوضع الجسد في ماء النيطرون لمدة أربعين يوما ثم تلف الجثة بعد ذلك بلفائف مغموسة بالمر، بعد أن تدهن تلك اللفائف التي تلفّه بماء الصمغ لوقاية الجسد من الهواء.
- فارس يا صديقي، لقد سعى فرعون بتمكّن غريزة التوحّش منه وفي مسعاه نحو التألّه المقلوب، إلى التمثيل بجسده المقدّس و العبث به، كان جازم الاعتقاد بأنه حيّ لا يموت، وهذا ما جعل أهله يضعونه في وتابوت، و يضعون التابوت داخل الهرم يحيطونه بمختلف المآكل المشارب. انظر !!
كانت أواني مختلفة من قصاع و جفـان، صحون و صحـاف، أبـاريق و كؤوس، أكواب و أقداح، دنان و قنينات مبعثرة هنا و هناك داخل الهرم ملوثة ببقايا الأكل المعفنة الجافة.
- حتى إذا جاع فرعون قام من سباته، أكل حتى شبع و تجشّأ، وشرب حتى ارتوى.
في أركان الهرم لمعت المجوهرات و المصوغ، حلي مرصع بالزمرد والمرجان، درّ وياقوت. أواني من ذهب أصفر و أحمر و تحف، كنوز كثيرة نفيسة و ثروات طائلة يعج بها الهرم مختلفة الأشكال، الأحجام والألوان.
قال تاكفاريناس و هو يتطلّع باستغراب :
- هل هذه الثروات لفرعون ؟
فأجابه فارس :
- بلى، و قد كسبها ببيع الماء، ماء النيل و الفرات للملوك الرعاة.
- هذا مقرف يا فارس ؟!!
- بلى، فغريزة التوحّش تدفع فرعون على الدوام للاستحواذ على مواطن الجمال ومنابعه، اعتقادا منه أنه سيصبح به جميلا، انظر هذا الهرم، لقد استقى النور من خيوط الشمس الدافئة، فصارت الأشعة تنفذ إلى أعماقه لتضيئه، و هذه الأحجار الكريمة البرّاقة الصافية الشفّافة، إنما اختلسها فرعون ليتحلى بها من خلال تيجانه و عروشه أمام الإنسـانية. فيضفي على نفسه العظـمة و يستدر الإبهـار و يستجدي الرهبة و الضيق.
ألم يأتينّك نبأرفع عيسى ابن مريم عليه السلام، إن كان قد صلب ومات فأين جثته ؟ بل رفع إلى السماء جسما و روحا وقد طهر من الذين كفروا فصار خالدا إلى الأبد، جزءا من روح الله.
- ألذلك لا تزال جثّة فرعون في الهرم ممدّدة، معلبة تمر عليها ليالي الصقيع الطويلة، وعيون عابري السبيل الفضولية المبتسمة لا يشعّ عليها النور إلا لكشف تفاصيلها.
- بلى يا صديقي، إن المسيح شمس، في حين سعى فرعون للتحلّي بالنور فصار الآن جوهرا خاليا من الأقنعة و المساحيق، العقاقير و العطور، الدهون والأصماغ. انتفت فيه الرّغبة في استلهام الجمال و إضفائه على نفسه بعد أن ارتدّ إلى الحيوانية نهائيا. انظر هناك على الجدار تلك الكتابة المنقوشة، إنها كتاب الموتى.
- و ما كتاب الموتى ؟!!
- هو السفر الجـليل و الكتـاب المقدّس الذي تقوم عليه دعائم الخـلود و الفناء. إنه كتاب الفصل بين التألّه والارتداد إلى التوحّش والحسم بعد الاعتراف إشراقا أو طمسا للمعالم، هيا ندنو منه لنرتّله.
تقول الأسطورة :
» يا للجمال و الروعة، تلك الضّواري سارحة في براري الصحاري، تلك الأراضي الرمليّة لا يرتد فيها البصر، فتسيح في الكون لا نهائية و تنتشر شفافة صافية كالروح قويّة صلبة كالوحي لا تخضع للأطر، فيضا دافقا من الحب والدفء، الحنان و الهيام لمخلوقاتها المتوحّشة ترسله شمسها الساطعة المتوهّجة على الدوام، فتتهاطل تلك الأشعّة منسكبة كالشهب، تنكسر على الرمال و تسري فيها سريان الماء في الأرض العطشى و تتغلغل فتستحيل الرمال إلى جمر ملتهب يدفن فيها الإنسان الخبز فينضج.
هاهو اللهيب لا ينفكّ يتصاعد، لهيب أزرق لا يشوبه الدخان العاتم مما ينشئ تحجيرا على بعض الكائنات الوضيعة القذرة بالتنزه كالأفاعي والعقارب، الجرذان والحرابي، الخفافيش و العناكب والتسكّع إذ تتوارى في مغاورها هيابة جبانة و جحورها، حتى إذا أحسّت بالضيق و السآمة تسللت خفية في هجعة الليل تحديا منها أحمق أهوج لقانون الصحاري، إذ تترصّدها النسور الشامخة الأبية، تقتنصها، تفتتها و تحلّل أجسادها.
ها هي الصحاري ترضع الضّواري من لبنها، الماء الذي تدفّق عبر النيل، دجلة والفرات و فاض في عيون عدن. غمر الأرض بحب عميق في شكل بحيرات و مستنقعات، غدران و شلاّلات و انعكست عليه أشعة الشمس فصارت تضيء العالم من خلاله و صارت الصحاري مصباحا عظيما ككوكب مشعّ يستضيء به الناس في بقاع الدنيا المختلفة. و هذا ما جعل الفضاء في صفاء و نقاء لا يشوبه وعث الصحراء، بل صارت الصحاري كجوهرة نفيسة خالية من سجف الغيوم.
أي كرم يضارع كرم الصحاري تلك الأراضي الرملية و سخائها، ها هي خيراتها لا تفتأ تنمو و تتفتق تينع و تفيض كالعيون الفوارة مما يجعل الضواري تمضي الليل كله أو معضمه في ترديد المواويل والموشحـات، القـدود الحـلبية و الوصلات. هذا فضلا على الرقصات المنتظمة أثناء معاقرة الخمور و معاشرة الجواري. فيضفي كل ذلك الطمأنينة والاسترخاء.
لما كانت السباع تزأر كانت الدنيا تزعزع و تزلزل، فتصطك أسنان الإنسان تخلخل ركبه، ترتجّ الصخور و تهتزّ الجبال في مضاجعها مما جعل الإنسان يضرب الأمثال بقوة الضّواري و شجاعتها و يسمّي أبناءه بأسمائها، و في الحقيقة فإن ذلك الإنسان إنما يخفي إعجابه وجله و تهيبه من تلك الوحوش الفجة، فقد حرمت عليه الجولان في الصحاري أو ضرب الخيام فيها، فكان يخفي الهزيمة بما يبديه من إعجاب لتلك الضواري و تمجيده لها.
لقد استوحت الضواري التوحش من الصحاري فنمت لها أنيـاب حـادة و مخالب صلبة، ثقلت أخفافها و تحجرت أجسادها ،اتقدت عيونها و صارت حارقة. و لذلك فهي تنام قريرة العيون كالتماسيح التي تغفو في الماء لأنها عاشقة له مفتونة به، و لا تخرج منه إلا نهارا متكاسلة متراخية عصبية المزاج، لتستلقي قبالة الشمس فتأخذ حمامها المعتاد مغمضة الجفون غير عابئة. أما بقية الضّواري فإنها تتجه إلى المياه الرقيقة الليّنة للسباحة، فتلقي أبناءها في الفضاء، مداعبة إياهـا و ملاعبة. إذ تخفق تلك الصغار بأيديها ثم تتلقّفها آباؤها ضاحكة مسرورة، مرحة بما تنعم به من نعيم فخورة، إذاك تتلهى الأطفال في عبثها من استحمام، بناء قصور رملية و هدمها، حفر حفر و ملئها بالماء العذب، ثم العدو والتدحرج، القفز والتهاوي، التلاكم و التلاطم بما فيه من شد و مصارعة مصحوبة بالضحكات المجلجلة إلى غيرها من العاب الصبيان البريئة الساذجة.
و حين اشتداد الهاجرة و التهاب الرّمال، تتّجه الضّواري إلى الواحات بحثا عن النسمات الممزوجة بالندى و الظلال الوارفة تحت النخيل المتعالي، تهز بجذوعها فتتساقط رطبها الجنية، و تحلب خمرها المعتق و تحتسيه في انتشاء.
يا لصفاء جوهر تلك الوحوش و تأصّلها، فقد تشبثت بالصحاري ملتزمة بأنساقها، عاشقة لمفاتنها متيمة بأساطيرها النـائمة الخفية الغـامضة رمز هيبتهـا و وقارها. إنما كان ذلك التشبّث تهيبا لقداسة الأراضي الرملية و العدول على المساس بها أو إضفاء ما يمكن أن يشوه حسنها. فصارت الوحوش تقيم الصلاة في المحارب تقديسا لما جمعته من قوة و سحر، شراسة و عنف، كبرياء و شموخ، رأفة و رحمة منفصلة عن الزمان والمكان معلنة رفض الخضوع.
و لكن يا للبشاعة والقبح، تلك الكائنات العليا من خيول و كـلاب، قردة و قطط، بغال و حمير تبرأت من جذورها و انسلخت عنها، مهدت الطرق نحو المدن تقودها رغبتها الملحة في الإقبال على حياة اللين والرخاء، الرفاهة و الترف بما فيها من دعة و استرخاء، ولما وصلت تحولت إلى مخلوقات ذات وجوه غريبة تأتي سلوكات عجيبة، هاهي تتوارى في غرف خاصة حين تتبوّل أو تتبرّز. و كم قهقهت الوحوش و الضّواري لما أخبرها شاهد عيان بذلك و هي التي تعوّدت منذ أحقاب التبول أو التبرز في أي مكان متى شعرت بالرغبة في ذلك بلا خجل أو وجل لأنه أمر غريزي و فطري. قيل أنها اتخذت بيوتا بنيت من الحجارة والحديد ذات أبواب معدنية تغلق ليلا حتى لا تتسرّب إلى الداخل الحشرات السامة أو الجراثيم المميتة، و شبابيك تشرع نهارا لتنفذ من خلالها أشعة الشمس الدافئة المطهرة إلى أعماق المنزل.
و تقضي تلك الكائنات معظم أوقاتها في تدوين مذكراتها على جلود الحيوانات التي شكلتها في شكل أسفار بعد أن نعمت أصواتها و صقلت، هذبت لغتها و ترفعت. فأنشأت أغاني ناشزة غريبة من صهيل و نباح، مواء و نهيق، مصحوبة بضحكات عابثة ساخرة. وصقلت أدوات تثير أنغاما غاية في العذوبـة و الرقّة، الجمال و الأناقة عند فركها، تستخدمها في أفراحها و هي مناسبات تحتفي بها تلك الكـائنات بالتزاوج و الأعيـاد فيسمع أثنـاءها ضجيج أهـوج و صخب، فوضى عارمة من الأصوات المتداخلة، النافرة الناشزة المتكاملة، تثير في نفوسهم الفرحة والغبطة. ويتخلّل ذلك الألعاب النارية المتصاعدة في الفضاء راسمة أجمل الرسوم بالنور متعالية متحدّية مستهترة بالوجود.
و لكم اشمأزت الوحوش منها و استنكفت حين علمت أنها خلعت أنيابهـا و قطعت مخالبها و لينت بشراتها و رهلت أجسادها معوضة كل ذلك بالحـوافر و الاخفاف، كما ازدرت الوحوش خضوع تلك المخلوقات للزمن، تنام بالـليل و تعمل بالنهار حتى صارت حياتها كلها رتابة و ضيق، ضجر و تضييق على عكس الوحوش الضواري التي لا تفتأ تنساب في الخلاء صيفا أو شتاء انسياب طيف الهواء فلا يحدها حدّ و لا يصدها صدّ. تمشي بعجب وكبرياء تؤتي من الفجور و الفواحش ما تشاء فوق تلك الأراضي الرملية التي تناغمت فيها الحيـاة و تكاملت فصارت واحة أمن و سلام. لم ينغص عليها ذلك النعيم و تلك السعادة التي تتمرّغ فيها على الدوام غير عواء الذئاب الذي يتصاعد في الليالي الداجية من هنا و هناك و هي نائمة. فيقض مضاجعها و تضيق نفوسها وتقشعرّ أجسادها لما يحمله ذلك العواء بين طياته من جشع و غدر، نشاز و فجاجة فتقلّب الوحوش جنوبها ذات اليمين و ذات الشمال بحثا عن غفوة واضعة الوسائد على وجوهها دون جدوى. لقد سرى فيها السهاد و أمضها.
كانت الذئاب تتمتّع بقدرة فائقة على التخفّي في الظلمات والتواري وراء الأغصان المتشابكة و حتى على إخفاء عيونها التي تفضحها لما تصدره من بريق جريء متطفل فهي مترصّدة، متقصّية للأخبار، مصيخة السمع مضلّلة الخلق بالمناورة و المناوأة، الزيغ و الروغ لأن في أذهانها صفائح لماعة متحركة تستخدمها للتنبئ بميقات العواصف و تحديد أيام الصّحو. وبواسطتها تتكيف في الحرّ الشديد و البرد اللاذع، تنحني للأعاصير وتنتصب في الصّحو. لذلك عرفت لدى جميع الضّواري بقلقها لسرعة حركتها من هرولة و نقع، سخط متواصل و تناقض في السلوك، فهي لا تقدم إلا لتحجم، لا تجلس في مجلس مع علية القوم وشيوخها إلا لتنهض، لا تقدم معونة لأحد إلا لتبتزه أفدح ابتزاز، و لا تزال تذكره بذلك فتأخذ منه أضعاف أضعافها. لا تقول كلاما إلا لتسفه فيه، ابتسامتها تكشيرة ونظرتها حسد، لينها فجاجة و صداقتها مداهنة، حبها غدر و مواساتهـا مـكر. و رغم ذلك فهي تدّعي الكياسة و الظرف، اللباقة و الأناقة، إذ تتمتّع بقدرة غريبة على الإقناع باصطناعها الرياء واستدرار الشفقة و العطف متى شاءت. لقد تمكنت بما تحمله بين جنباتها من غرائز التوحّش أن تتعايش مع الوحوش في وئـام، و مع السباع في سلام، رغم ما تضمره من غيرة قاتلة تكاد تعصف بها لها. إذ تكاد تتميز من الغيظ والحنق حين يتداول الخلق سيرة السباع من شهامة وشجاعة كرم وسخاء، جمال و أناقة. و تمني النفس بأن تكون محور أساطير التغني بالرفعة والشجـاعة، القوة و الجرأة، و تتمتّع بمـا تتمتّع به السبـاع من حب و تقدير لأنها خليقة بذلك.
و ترى الذئاب مع هذا الحقد الدفين لا تستنكف أو تستحي من الاستيلاء على بقايا ولائم السباع بعد أن شبعت و تجشأت على ما تبقى من فرائسها على مرأى من الضواري ومسمع منها في جشع و نهم مزمجرة زاجرة الغربان و أبناء آوى، السنانير و البوم. لأن الذئاب عاجزة عن إظهار العداء للسباع و مواجهتها، فهي ترتجف كقصب في ممر الرياح لسماع زئيرها، و تهتزّ اهتزاز الأرض لزلزلة البراكين من هوله، لذلك تظهر الإذعان والطاعة، النقاء و الطيبة وهي تبتسم ابتسامة باهتة تخفي من خلالها ما تضمر من رغبة في الانتقام و قد تغلغل الحسد في نفوسها وتأصل لما ترى السباع تتمرّغ في النعيم.
ها هي السباع تضيق ذرعا بتلك الأصوات النواحة العاوية المنتحبة، و التي تجعل نومها سهادا، و راحتها انهاكا، و طمأنينتها ريبة فيفيض ضيقها و يستحيل احتجاجا و تمرّدا. وأخيرا عقدت الضواري اجتماعا قلبت من خلاله الأمر على وجوهه الأربعة، و نظرت إليه من كل زواياه، نافذة إلى باطنه، عاملة العقل فيـه و الحكمة. ها هي تجمع على أن أصوات الذئاب ناشزة منكرة تنبعث من خلالها روائح الفناء والانتفاء، المكر والغدر، و تعلن ذلك على رؤوس الذئاب داعية إياها إلى التزام الصمت. حينذاك احتجّت الذئاب و تباكت، دافعة الدمع دفعا، حاضنة بعضها بعضا، ناظرة إلى الضّواري بقهر و غبن. قائلة بصوت يشوبه شعور عميق بالانكسار و الحزن :
- أي حماة الصحاري ملوك البراري، كيف تسوّل لكم أنفسكم قمع عواءنا كاتمين إياه و أنتم تعلمون أنه غناء ؟
فيجيب أحد السباع قائلا و في صوته خفوت و استحياء :
- و لكن يا أخي إن نشيدكم ينفر النوم منا و يبعد شبحه عنا، فننهض صباحا منهكين و نقضي يومنا فاترين لا نقيم للواجب وزنا.
- فكيف العمل و نحن نسعى لإسعادكم ؟
- يا هذا إنما أنتم جزءا منا و لن نضطركم للهجرة، و لكن نطالبكم بكل لين إلغاء هذا النشيد من ليالينا الهادئة الحبلى بالأحلام الفتانة.
ثم أن الضواري حسمت الأمر نهائيا و أنهت الجدال فيه، وهي تترك الذئاب و تتفرق في الصحاري أفرادا و جماعات تسعى لتحصيل رزقها، لا تزال في أخـذ و رد لغو و جدال محاولة تبرير ما فرضته على الذئاب من خرس لما لحقها من الأذى.
أما الذئاب فقد بقيت قائمة واجمة منقسمة الظهور، يترامى صدى نشيجها في الصحراء، لا تحير جوابا. ثم هاهو أحدها يستقيم في وقفته ساعيا للاستقرار في مكانه راغبا في الهدوء، و بعد أن مسح الدمع بطرف كمه من عينيه الزائغتين بسمل و حمدل و قال :
- أيها الذئاب يا من رمتم تحدي المحن منذ الأزل و تذليل الصعاب، هذه الضواري تشن علينا حربا و نحن لحمها و دمها، حربا ضروسا مؤججة الأوار، ها هم أبناء عمومتنا يلفضوننا لفض النواة الممتصّة، أو السيجارة المستهلكة. ها هم يسعون لتكميم أفواهنا، إنما تسعى الضّواري بذلك لبسط نفوذها علينا حاطة من شأننا، مستضعفة قوانا. يا قوم ها نحن أولياء محاطون بالأعداء، فقد توافدوا من كل حدب و صوب وتهافتوا، محاصرين إيانا من كل جهة و جانب. هاهي البلية تنهال علينا فتدكنا فيا لهول مصيبتنا و جسامتها. فتعالوا نندب شؤم حظنا و سوء طالعنا، و نبكي أنفسنا المتألمة و نرثيها.
ثم قام أحد الذئاب و عيناه مبتلتان لا تستقرّان في محجريه، قائلا :
- يا قوم إن وقع المصيبة رهيب لا تحتمله الجبال الرواسي لما فيه من مآس، فاحذروا أن تذهب نفوسكم شظايا و ريحـكم سـدى. التجؤوا إلى عقولـكم و التمسوا مخرجا مما وقعتم فيه، فإن الحازم إذا نزلت به البلية، لم تأخذه الـدهشة و لم يذهب قلبه شعاعا.
قال ثالث وهو يقلّب وجهه يمنة و يسرة وعلامات الغيض بادية على محياه :
- أصبت يا أخي، إنما الضّواري تطالبنا بما ليس لنا به احتمال أو قدرة، إنها تطالبنا بنفي العواء وهو غريزة قد استبطناها و تأصّلت فينا، لا يمكن التبرأ منها أو التنكر لها.
و تخنقه العبرة فينتحب بحرقة و يواصل بصوت متقطع مشحون بالقهر :
- و لكن لن نعدم الحيلة و ننهار أمام النوائب... يا قوم إنما الضواري قد بغت علينا واستضعفتنا و لكن الدنيا دولة بين الناس، فلنسع للمغاور والكهوف، الجحور والاغوار، نتوارى و نعوي فإن عواءنا لن يترامى صداه إلى الضّواري وهي على قمم الجبال تتسكّع، ريثما نتبين الرشاد من الغي و سنسعى لترصّد أعداءنـا، و سننقض على أرباب الغدر والفجور فوالله إنا لأصحاب حق و لقد لحق بنا العار اليوم من ذوي القربى و الإهانة.
و بعد لأي و مغالاة في التباكي و الرّثاء للنفس للشعور العميق بالإهانة، إذ كانت الذئاب مفرطة الحساسية لفقدانها للنسب فهي أنغال ولذلك فهي تطفر الدموع بحرقة لمجرد شعورها بالضيم، مع ما ران في قلوبها من حقد و رغبة دفينة في الانتقام، تسللت إلى الكهوف وهي تنتفض من البكاء، و صدى عويلها يتعالى من هنا و هناك إلى عنان السماء، حتى أن الضباع رقت قلوبها لها و شعرت بالرأفة عليها و الشفقة، كيف لا و الذئاب كانت أقرب الضّواري إلى قلبها لما فيها من تشابه بينهما في الخلق و الطّباع، فقد كانت الذئاب تقضي ليالي الصيف الرائقة معها في السمر، معاقرة الخمر و العربدة بمداعبتها الغليظة لذوي الصلاح من الضّواري و التماسيح والتي تقضي أغلب أوقاتها في قراءة الأوراد والتسبيح. إذ تراها عن بعد وهي مسترخية على الرّمال و تسمعها في ابتهال. و كثيرا ما لا تستسيغ تلك التماسيح مزاحهما الثقيل فتنشب معارك دامية حامية لما فيها من شراسة و توحّش في سبيل الحفاظ على الهيبة والوقار. هذا فضلا على ما تتهامس به الضّواري من وراء الستـائر حول العلاقـات المريبة التي تجمع بين الذئـاب و الضّباع.
لما أقرّت الضباع العزم على مد يد العون للذئاب و شد أزرها في محنتها حتى تنهض من جديد و تتجاوز تلك المرحلة القاسية، كانت تلك النقطة المرحلة التاريخية التي من خلالهـا نضجت العـلاقة و تبلورت منبثقة عن تعاون، تكاتف و تعاطف كلي ينبع من الضباع نحو الذئاب.
في عزلتها استطاعت الذئاب أن تسبر نفسيات الضباع و تحلّلها، إذ توصلت إلى أن أصدقاءها الضباع تتسم بالتهوّر و الاهوجاج، لعاطفية أحكامها و سطحية تفكيرها فهي سريعة الثوران و التهيّج، تلين لمجرّد الهمس لها بكلمات رقيقة مرنة، وهي لا تفتأ تقوم بشؤون الذئاب فتغسل لها ملابسها و تنظف مآويها ، تمسح لها صغارها من البراز حين تتبرّز وتحيطها بالرعاية والحماية من كل عدو.
أحكمت الذئاب السيطرة على الضباع و جعلتها خدما مطيعا ساحبة منها أسلحة التوحّش، لما رأتها على درجة كبيرة من القسوة والشراسة، فالضباع تنطلق في نهش ضحاياها و هذه الأخيرة حيّة.
أما الضّواري فقد صارت تنام ملء جفنيها في غياب عواء الذئاب وزمجرتها، تحيا حياة الطمأنينة و الدّعة، خالية الذهن من الهموم، مبتهجة بما أتتها الصحاري و ما في البراري من طرائد و فرائس ممتلئة شحما ولحما، حتى كان ذلك اليوم، يوم من أيام الربيع النقية، الدافئة الندية. وقد اكتسى وجه الصحراء ببسط ساحرة حريرية، تبعث في النفس مشاعر الحبور الانشراح و السرور، إذ جاء نسر محلقا يزعق زعيقا منكرا و ينادي » النفير، النفير، النفير...«. كان شاحب اللون، مغبر الوجه، جاف الشفتين، ممتلئ العينين بالرعب والوجف. حط على الأرض حتى اصطدم بها و كاد يتهاوى لولا قوة أجنحته الممتدّة، وهو يصرخ :
- الويل لكم و الثبور يا قوم، ها قد آبت نهايتكم و دنت، فهاهم رسل الفناء قد حلوا و بالدمار تجلوا فسلام عليكم !!
إذاك دار همس فيمن تحلق من الخلق حول النسر، ثم تسرّب الكلام و انتشر و تحوّل إلى لغط و جدال ثم سرى الخبر سريان اللّهب في الهشيم و استشرى. فجاءت الخلائق تسعى من كل فجّ غليظ مهتزّة المشاعر، مرتجّة الكيان، مخلخلة الركب، تمشي متعثّرة متهاوية، تتقاذفها الوساوس وتتناوشها الفواجع، يصليها التحرّق للوقوف على أصل الرزية. هـاهي تتقـاطر على منبـسط من الأرض و تتجمّع و هي في شكّ و ريبة، ذهول ووجوم، و وقفت صامتة لا تحير جوابا.
لما اكتمل نصاب الجمع و قد حلّ بهم الهلع و الفزع، انتصبوا انتصاب يوم الحساب وقد اكتست وجوههم بغلالة من الحزن و برقع من العتمة الممزوجة بالشحوب. تعثّر النسر في مشيته ليعتلي صخرة هائلة متهالكا و قد كان فيما مضى يعتلي قمم الجبال الشماء ويجعلها مستقرا له و مأوى. نظر فيمن حوله بعيون زائغة ثم قال :
- يا قوم، إنه الخطب الموجع، و الهم المفجع، و البلاء الأشنع. لقد رأيت اليوم ما منه وجف قلبي و وجـل، لقد رأيت الهـول و الدمـار، كائنات الفناء و الاندثار.
فقام أحدهم و قد عيل صبره و قال :
- أيها النسر المتعالي في سماه، الشامخ في علاه يا عفاك الله. لقد نفذ الصـبر و أسقط في أيدينا، فقلوبنا دامية و عقولنا مشتتة، نفوسنا منهارة ومشاعرنا متحجّرة. إذ صرنا قاب قوسين أو أدنى من التهاوي فأدركنا بالخبر اليقين.
فأجابه النسر و قد شلّ الذهول تفكيره و الجحوظ حتى صار كجسد محنّط :
- بلى يا هذا، كنت هذا الصباح كعادتي كل صباح أقوم بحومتي اليومية، أتريض من خلالها و أتنزه، أتفقد الصّحـاري و أنقيهـا من الحشرات السـامة و الزواحف القذرة، أحلل الجيف حتى لا يتعفّن الهواء ويهتك صفاء الصحراء، حين رأيت من علو أشباحا سوداء ونارا ممزوجة دخانا يتصاعد في الفضاء. فقلت في نفسي لعلهم إخواني الضّواري ينفقون بعض الوقت في التمتّع بلفع رياح السموم، و الحصول على حمّام شمس، إلا أنه تبادر إلى ذهني في نفس الآن أن الصّحاري لا تزال بعد عذراء لم تطأها النار أو تواقعها فلا تزال صافية نقيّة، شفّافة بهيّة على فطرتها. كنت مهموما بأمر النار و الدخان أنساق إليهما إنسياقا، وأنا محلق مقبل على تلك الأشباح السوداء. و لما دنوت منها و تفرّست فيها عجبت لخلقها فقد كانت في شكل قردة، لها أنياب حادّة و قد اصطادت ضباء كثيرة و غزلانا، حميرا وحشية و ثيرانا، و جنت خيرات وفيرة من خيرات الصحراء الغزيرة، ثم قعت على أذنابها تشوي تلك الطرائد تأكل في شره ثم تعب من مياه النهر عبا، و قد كانت على مقربة منها.
ثم أني هبطت على مقربة منها وقد عجبت لأمرها و قلت لها في اشمئزاز :
- من أنتم و من أباح لكم اقتحام صحارينا أيها الغربان المشردون ؟!!
فقام أحدها وهو ثمل يترنّح و ردّ علي قائلا :
- اغرب عنّا يا شبيه الغراب في لونه و البوم في نعيقه !
- بل أنتم من ستغادرون هذا المكان المقدّس و في الإبان، فارحلوا من هنا قبحكم الله يا قردة الشّؤم.
و ما كدت أنتهي من كلامي هذا حتى استلّ عصى أو هكذا خيل إلي ، لها منقار حادّ لماّع و رماني بها، و لولا لطف الله و حنكتي في المراوغة لكنت اليوم من المهلكين، إذ انغرست تلك العصى في الأرض انغراس السهم في جسد الضحيّة. فزغت يكاد يغمى علي من هول الصدمة و رغت، و ها أنا الآن بينكم.
إذاك قام في الخلق هرج و مرج، ضوضاء و غوغاء بما فيها من لغو وجدال، إذ اختلفت الآراء و تضاربت المواقف وعمّت الفوضى. فقام أحد السباع و اعتلى صخرة و قال داعيا القوم إلى الانتباه و التزام الهدوء :
- أيها الضّواري، يا ملوك الصّحاري، حماة البراري ماذا بكم وماذا دهاكم، لا شكّ أن هؤلاء الغربان هم الهكسوس الرعاة، تلك الكائنات الفضولية المتطفلة، الماكرة الغادرة.
يا قوم اعلموا أن هؤلاء أعداؤنا منذ أحقاب، قد حرّم عليهم أجدادنا فيما مضى من الزمن اقتحام الصحاري و النفاذ إليها عبر صولات و جولات قد سجّلتها الأساطير عبر النقوش على مداخل الكهوف والمغاور، هاهي تلك الكائنات القردة تعود اليوم لغزو أراضينا، تسعى لاستباحة خيراتها و هتك حلّتها، تعكير صفائها و تلويث نقائها. فتعالوا إلى كلمة سواء بيننـا، أن نوحد صفوفنـا و ننظمها، نوفق آراءنا و نبوبها حتى يتسنىّ لنا تجاوز هذه المحنة. تعالوا نغشى الوغى و نروم العلى.
أي ملوك الصحاري، حمـاة البراري، هذه البرابرة زاحفة، جحـافل سحق و محق، فهل ستتخفون كالعذارى في أخدارها أو كالفرائس في جحورها، تنتظرون السيل العارم يغمركم و يجرفكم فتموتون و في حناجركم غصّة و في قلوبكم وخزة. أفلا تذكرون ما قاله أحد النسور القدامى حين رأوه يسنّ منقاره على صخرة خشنة ذات نتوءات : » ما الذي يجعلك تحدّ منقارك و أنت في عزتـك و هيبتك جعلت الأعالي مستقرا، و السماء لحافا، تتغذّى على الكائنات الزواغة الرواغة فضلا على أنها نهاّشة لساعة ؟« إذ قال : » أفعل ذلك ليوم الفزع الأكبر، إذ رأيت في المنام أحد النسور الشابة يقول متغنياّ و قد عرف باعتداده بنفسه :
» مت عزيزا أو عش بوهج الخلود بين طعن القنى و خفق البنود«. فيزيد ذلك في عنف يوم الحشر و هيبته، بما فيه من هول و رهبة، إذ تتفاقم المياه و تغمر الأرض التي تستحيل شذى و صفاء، ندى و نقاء.
هؤلاء أجدادنا قد لفتوا انتباهنا إلى يوم الفزع الأكبر و هاهو ذا قد حلّ، فهذا يومكم، فارفعوا مشاعلكم و اوقدوا جذواتها فيتعالى لهيبها ويتصاعد لينير سبيلكم. و من كان منكم مريضا أو على جنابة فلنجعله في الواجهة ليموت حاملا للواء.
فأثّر هذا الكلام في نفوس الـوحوش الضّواري مما جعلهـا تذرف الدمـع و تدفعه دفعا.
آنذاك أطلّت الذئاب من الكهوف مادة خطومها و أنوفها مائلة إلى جنوبها اليمنى، وحدقت بعيونها اليسرى و قد كانت أصغر من اليمنى، ثم هبّت تزعم حب الصّحاري وحمـاية البراري، مسرعة الخـطى متجهّمة مـدّعية المؤازرة و التضامن. و أقبلت على الضّواري والبكاء يهزّها هزّا، فترتجف له ارتجافا محتضنة السباع، ثم وقف مفوضها قائلا :
- يا رمز القوّة و الشجاعة، يا حماة الصّحاري، يا جنود البراري. ها نحن أتينا لنكون جزءا منكم لدرء من تسول له نفسه هتك حرماتنا، فاغمرونا بحلمكم و احضنونا بشهامتكم.
ثم أردف قائلا :
- يا أهل الجود و الشهامة اجعلونا خلانا لكم، و سنكون مخلصين لكم على الدوام.
فقال سبع و قد اغرورقت عيناه بالدموع و هو يهوّن على الذئاب :
- مرحى، مرحى إخوة لنا و خلانا، فما نحن إلا أبناء هذه الصحاري.
تضاعف نشيج مفوض الذئاب و هو يقول :
- تعالى يا خليلي أحضنك و أقبّلك، فما قلته قد هيّج عاطفتي وأثار شجوني.
ثم قام في الجمع و هتف :
- يا أهل الصحراء، هؤلاء فرسانها فتعالوا نشدّ أزرهم و نفتديهم بدمائنا. يا أهل الصحراء إن كنتم تبغون الحياة بعزّة فهؤلاء أصحاب المجد لهم الفضل فيما نحن فيه من هيبة وهناء، رغد عيش و نقاء، فقفوا إجلالا للسباع والنسور.
ثم بكى و دسّ و جهه بين يديه، و بكت بقية الذئاب و دسّت وجوهها بين يديها.
ثم أن الوحوش انطلقت في الغسق و قد بسط الظلام على الشعاب والوهاد رداء أسودا قاتما و على الكثبان و البطاح، مهتدين بعيون النسور و السباع التي كانت تتّقد، فتهتك حجب حلكة الليل و قد عزّ عليها أن تتحوّل الصحاري المشرقة إلى مرتع للخلائق القذرة البشعة و ما في ذلك من حطّ لقيمتها أمام بقية الكائنات و مساس لشرفها الناصع البياض منذ أمد. سارت متحفّزة متوثّبة مستعدّة للقتال، من ذلك أن النمور السوداء لا تفتأ بين الآونة و الأخرى تصرّ آذانها و تكشّر عن أنياب توجف لرؤيتها القلوب مصدرة أصواتا فيها وعيد بالويل و الثبور.
ثم ما فتئت الوحوش أن أشرفت على ساحة في الخلاء شاسعة فيها نار مشتعلة، حول النّار خلق قبيح في شكله غريب في سلوكه، فهو لا يفتأ يلتهم مختلف الأطعمة بازدراد مع ما يتخلّل ذلك من جرعات خمر وكرع متواصل للماء.
انزوت الوحوش الضّواري على مقربة من الخلق متخفية عن عيون تلك القردة، لتطارح الأفكار و تداول الرؤى، و مقارعة الرأي بالرأي حول خطّة الهجوم. و بعد أخذ و رد و تشاور وقع الإجماع على أن تلك الكائنات الشبيهة بالقردة في شكلها و الإنسان في جشعها لا تعدو أن تكون شرذمة، يكفيها هجوم مباغت لسحقها في لمح البصر. وتكفّلت السباع بهذا الهجوم.
تسلّلت السباع تحبو متسترة بجنح الظلام، و كلها يقين بأن تلك الكائنات إنما هي شرذمة ظلّت طريقها في الصحراء و تاهت، و هاهي قد استوت لقمة سائغة للإطباق عليها بهجوم خاطف. زحفت السباع بحذر مقتربة تدريجيا من تلك المخلوقات التي كانت في ضوضاء كثير و غوغاء لما كان للنبيذ من تأثير عليهـا. و لما كانت قاب قوسين أو أدنى من تلك الخلائق، بادرت بالهجوم زائرة، قافزة في الفضاء تسعى للفتك بالأعداء. إلا أن تلك الكائنات الشريرة أضاءت عيونها بشرر أحمر و في لمـح البصر استلّت تلك العصيّ ذات المنـاقير الحادة اللامعـة، و قذفت بها في الفضاء، فنفذت تلك الرماح في بطون السباع و شكتها شكاّ، إذ تناهى صراخها و تصاعد في فضاء الصحراء كالنديب.
تساقطت أجساد السباع جثثا هامدة، تنزّ منها الدماء و تنزف فوارة كالعيون، فتوشح رمال الصحراء الصفراء و تخضبها بالحمرة القانية ملتهبة لهيب السراب لافا الأراضي الرملية.
لما رأت الضّواري ذلك فزعت و هالها الأمر، قذف الرّعب في قلوبها، فولّت الأدبار هاربة و قد رجتها الصدمة. فصارت ترتجف مخلخة مهتزة، و تاهت في الصحاري فرادى وجماعات و تشرّدت. هاهي تضرب في الأرض هائمة بحثا عن كهف أو غار، جحر أو وجار. تتوارى فيها عن عيون القردة المتوحّشة و قد اغبرت وجوهها و شعثت شعورها، حفيت أرجلها و تشقّقت أقدامها، تهزّها العبرة و تخنقها الغصّة فلا تستجيب الدموع، هاهي تلوح في البراري كالحة حالكة تمشي كالذاهلة، قد غمرها يقين بدنو الفناء و الانتفاء، تبكي في صمت فتتساقط دموعها على وجناتها ساخنة، تئنّ و تتوجّع وقد هدّها التفجع.
ثم أن السباع و بعد لأي، و مضي ردح من الزمن غاصت فيه بين الحـزن و سحّ الدموع، الحداد و الجهاد للوعي بالزمن استطاعت أن تكفـكف دمعهـا و تلملم جراحها، تلمّ شتات نفسها المتهاوية و تشحنها بالصبر و العزم، القوة والرغبة في الثأر، و انطلقت في البراري تجمع الضواري من جديد. توحّد صفوفها مستعينة بالنسور التي حلقت في السماء تجوب الصحراء، و انبرت تنادي : » إلى المجد و الشرف يا أهل القوة و الإباء، الكرم والسخاء، إلى الخلود و البقاء يا أهل الشهامة والكبرياء.«
فخرجت الدببة من كهوفها و الذئاب من وجارها، الثعـالب من تلاعهـا و الضباع من غيرانها، جاءت التماسيح دابة و أفاعي الأجراس زاحفة، تجمّعت حول السباع و قد اكتست وجوهها بالأسى و الحسرة.
ثم قام أحد السباع قائلا : » يا أهل الصحراء، إننا نحيي اليوم و نحن نلتقي من جديد، ذكرى من فجعنا فيهم، غادرونا بلا وداع مسفوكي الدماء، عدوانـا و غدرا.«
و يتصاعد النشيج بين الجمع و النحيب المكبوت. ثم أردف السبع قائلا متحاملا على نفسه و قد خنقته العبرة خنقا و هزته هزا :
- أيها الوحوش الضواري يا ملوك الصحاري، حماة البراري، إن مصابنا جلل، فتح فينا شرخا لن يندمل ما لم نأخذ بثأر أحبابنا.
يا أهالي الصحراء الملتهبة اسعوا للتحلي بالعقل و التفكير، الحكمة والتدبير، تسلحوا بالشجاعة إن كنتم ترومون العزة، الكراهية و النقمة وتجاوزوا جراحكم الغائرة، فإن تقاعستم فسيلعنكم الزمن و سيسخر منكم عابروا السبيل و السياح. يا أهالي الصحراء الفائرة على مرّ الدهور، المضيئة كالمنائر بما فيها من أساطير، هذه الأرواح سابحة تدعونا إلى الأخذ بثأرها.
فقام أحد الذئاب و قال بعد أن مسح بقايا دموع بمنديله الأبيض :
- كيف لنا أن نواجه قوة ضاربة ؟
فأجابه نسر عرف بحصافة الرأي و صوابه :
- يا أخي كلنا يعلم أن عدونا صعب المراس، له قوة لا تقاس فلنعمل الرأي و الروية للقضاء عليه.
و علق سبع فاض وجهه جرأة :
- بلى عدونا له العتاد و العدّة، و نحن لنا عشق الصحراء و الهيام بها.
ثم أن الضّواري أمضت أياما تقلب الأمور على كل الوجوه، تنظر إليها من كل الزوايا، إذ تطرح الاحتمالات و تضع الخطط، فتتشاور فيما بينها و تتحاور حتى كان يوم جاء فيه تمساح تغمره الهيبة و الوقار و قد كان خاملا، متكاسلا حتى أن الكائنات حسبته نائما، إلا أنه كان يفكر و يتأمّل و قال بصوت رصين مليء بالهدوء مشحون بالحكمة :
- أيها الضّواري، يا رمز القوة و الشجاعة، الشراسة والتوحّش اسمحوا لي أيها الأحبّة أن أشارككم بهذا الرأي المتواضع، علنا نجد مخرجا أو فجوة نضرب من خلالها عدونا و عدو الصحراء.
اعلموا أيها الإخوان أن أعداءنا لهم من السلاح ما يفوق ما مكنتنا منه الطبيعة نحن معشر التماسيح من أنياب و فكوك و ما يفوق السباع وبقية الضّواري الأخرى قوة سحق و محق، إنها أسلحة دمار و اندثار، صنعوها بمواد فتاكة و مقاييس دقيقة، فأضحت أسلحتنا تقليدية بل بدائية، و هذا لعمري يجعلنا أعجز الخلق عن مواجهتهم فضلا عن ذلك فإنهم مخلوقات يكتنفهم الغموض والسرية. فلما لا نبث العيون عبر النفاذ إلى أعماقهم فنتقصى عنهم و نعرف منهم فجواتهم و هفواتهم، نواجههم و نهاجمهم من خلالها، و نقضي عليهم بهجوم خاطف ساحق قضاء مبرما.
استحسن القوم رأيه و رحبوا به، و قالوا وهم يهزون رؤوسهم :
- و لكن كيف يمكن أن ننفذ إلى قواعدهم و هي محصّنة ؟
قال التمساح بعد أن تململ في جلسته :
- لعل الذئاب بما لها من قدرة على التلوّن و حنكة في التملّق، قادرة على الاقتراب منهم و تسقط أخبارهم بما تتمتّع به من رهافة سمع و قدرة على التخفّي.
فعلت الأصوات مهللة » مرحى... مرحى... « مكبّرة مصادقة على اقتراح التمساح، و أخيرا و بعد أخذ و ردّ، مدّ و جزر، استقر الرأي على الذئاب و تم تجنيدها كعيون للوحوش الضّواري لمعرفة حقيقة قوة هؤلاء الغرباء الذين حلوا ضيوفا على الصحراء ثقلاء.
إذاك انسابت الذئاب تشقّ هجعة الليل يلفها ستاره الحالك، والجمع يشيعها بدعوات التوفيق في مسعاها و النجاح سافكين الماء وراءها، مولية وجهها ناحية الغرباء الممسوخة، متسلّلة إلى وكرها و عيونها تتقد كمصابيح خافتة، يسمع لوقع خطاها تغوص في الرمل وتقلع كحفيف أوراق الأشجار وقد هبّت عليها نسمات رقيقة، يلفّها صمت ثقيل تسبح في شتّى الأفكار تأخذها كل مأخذ. فكيف ستنجز ما أنيط بعهدتها ؟ كيف ستنفذ إلى وكر هؤلاء الأشرار ؟ كيف ستتمكّن بعد ذلك من الفرار ؟ و بين كل ذلك كيف ستتسقط أخبارهم و تطلع على مقدار قوتهم و مواطن ضعفهم لتتمكّن الضّواري من الإجهاز عليهم ؟
حين كانت الذئاب متسلّلة كأطياف سوداء، على صفحة الصحراء، انبثقت هالة ضوء لاحت عن كثب، إنها القردة المتوحّشة يسمع لها ضوضاء و غوغاء، أصوات تعلو وأخرى تخفت، و بين الفينة و الأخرى تطلق عقائرها بالغناء الناشز يعكّر صفو الصحراء وينفّر النوم عن أهلها ممزوجة بأحاديث ماجنة عربيدة.
حبت الذئاب نحو تلك المخلوقات، و قبعت تتمعّنهـا و هي تشرب كثيرا، و تزدرد الطعام ألوانا، و من حين لآخر يخرج أحدها عن دائرة الضوء و يغيب في العتمة ثم يعود. اقتربت الذئاب متخفيّة، و ما فتئ أن انزوى أحد تلك القردة وهو يشدّ بطنه متجها ناحية الذئاب وانكبّ على ركبتيه يتقيّأ خلائط قذرة، سكبت على الرمال فلوثت صفاء رمالها وعفنت نقاء هوائها، ثم عاد أدراجه.
إذاك همس أحد الذئاب إلى رفاقه :
- سأحاول أن أسترق السمع على مقربة من أولئك.
و أشار إلى شرذمة انزوت في ركن من أركان الساحة المضيئة. فأجابه رفاقه :
- كن حذرا، رافقتك السلامة.
هرول الذئب يتشمّم الأرض محني الـرأس صـارا أذنيه متظاهرا بالوداعـة و الطيبة، ووقف حذوهم وهو يبصبص بذيله علّهم ينتبهون إليه، و ما أن رآه أحدهم حتى رمى له قطعة لحم مشويّة ظانّا منه أنه كلب، رفعها الذئب و قد تعفّرت بالتراب، مسحها و التهمها. ثم ازداد اقترابا وهو يبصبص و يبتسم، فيرمون له اللحم و في كل مرّة يمسح تلك الشرائح ويزدردها بعد إزالة ما علق بها من تراب، ثم جاء أحدهم بقحف و صبّ له فيه خمرا، فولغ الذئب فيه إذ وجد للحموضة لذة. أما رفاقه فقد تابعوه وهو يشرب و يشرب، ثم يتراخى تدريجيا إلى أن صار يترنح و يعربد، آنذاك أحاطت تلك القردة بالذئب و في أيديها العصيّ ذات المناقير الحادّة اللّماعة، فتكلمه وهو يشير إلى مكمن رفاقه بالإصبع.
وجفت قلوب الذئاب و غصّت بريقها من شدّة الهلع و الرعب، اسقط في أيديها وأيقنت بالهلاك وهي ترى تلك المخلوقات تهبّ نحوها، وفي لمح البصر تحيط بها من كل حدب وصوب دافعة الأسلحة الفتاكة في وجوهها، إذ خلخلت ركبها و شلّت قواها و كادت تخرّ على الأرض. رفعت أيديها معلنة الإستسلام مرتجفة.
و لكن يا للعجب، لقد حدث أمر غريب مريب، تلك الكائنات القردة ذوات الأنياب الحادة، و تحت أضواء النيران المتعالية ها هي تبتسم للذئاب، بل هاهي الذئاب تطلق قهقهات مجلجلة وهي تتناول اللحوم المشويّة و الخمور الحادّة و تلك المخلوقات تربّت على أكتافها وتبادلها الابتسامات.
أما الوحوش الضّارية فقد أقامت في مواقعها لا تبرحها إلا للتبوّل أو للتبرّز، تهزّ هاماتها بين الفينة والأخرى، و تمدّ أعناقها تتطلع إلى القوافل المارّة عبر السبل سالكة دروب الصحاري الضيقة و مساربها الوعرة الحادة، في سبيل الظفر بطلائع بشائر رسل الذئاب التي كانت قد ركنت إلى الإنسان و استرخت بين أحضانه تداعبها يداه بالمسح على رقابها بلطف، فتشكره بالإنحناء صارة آذانها مبصبصة بأذنابها، مهدهدا إياها وأجسادها برقّة، ثمّ ما فتئ أن أقام لها أكواخا بقرب أكواخ كلابه، فرشها بالقشّ و جهّزها بقحاف فيها عظام بيض تلوكها الذئاب و تنتف ما تبقى فيها من قديد.
سعى الإنسان لترويض الذئاب و تأصيلها بسلوكات غريبة مستهجنة كالإخلاص والتفاني، المرونة و الطاعة، و دعم فيها التوحّش و الشراسة، القسوة و الغدر، الفجور والمكر، بإطلاعه لها على أسفار ضمت بين طياتها رؤى قميئة سمجة تثير الاشمئزاز والاستنكاف مماّ جعل الذئاب تتقيّأ في أول عهدهـا بهـا، و عبر تلك الأسفار و ما فيها من تجارب مجرّدة رديئة، استبطنت الذئاب القدرة على الإقناع إلى حدّ الإفحام، بالتقليد والسخرية، التخفّي و التنكّر، الانقضاض و الفتك.
لما تغفو الوحوش الضّواري قريرة العيون مطمئنة النفوس إلى الآتي القريب تنساب أحلامها متنكّرة فترسم لها صور الواحات الظليلة و ما فيها من نسمات عليلة، مياه متدفقة بليلة، هاهي تبدو متكاملة لا يشوبها الانشطار و القلق، فيتدفّّق نشيدها فيضا من التوحّش في شكل غلاف زائف سميك يغمر الصحاري المترامية، مشوبة بالسراب الأزرق مشعّ على أطراف الأراضي الرملية فتتوشّح رمالها بالزهو و الكبرياء، العظمة و الإباء و تتزيا.
ثم هاهي البشائر قد أهلّت من خلال رؤوس الذئاب التي أطلت من بين ثنايا الرمال في شكل جبال تسفوها الرياح و تذريها كيفما تشاء وتسبرها منشأة نسخا مشوّهة للأعاصير لافتقارها للأناشيد، فتعالت الزغاريد من كل كهف و غار، جحر و وجار، قرعت الطبول و التأمت حلقات الرقص و أطلقت الوحوش عقائرها بالغناء، طفت البهجة وغمرت السعادة القلوب، و قد أفعمت النفوس بالفرح، ذبحت الذبائح و وزعت العطايا والهدايا، خرجت جحافل الخلائق مهلّلة مكبرة مهنئة الذئاب بالعودة سالمة غانمة. ثم أقبلت الوحوش بعد خفوت حرارة الاستقبال و خبو جذوتها، إقبال الملهوف على الذئاب متهافتة :
- أيها الذئاب يا معشر الأحباب، أدركونا باليقين، من تلك الكائنات الشبيهة بالقردة في شكلها و الغربان في نعيقها ؟
- إنهم الهكسوس، تلك البشرية التي حدثنا عنها أجدادنا.
- كيف وجدتم الهكسوس ؟
- منغمسين في غيّهم، قانعين بهذيانهم، مؤمنين بالإنشطار، سابحين في اللاّهوت.
فقام أحد النسور ممّن عرف بالفضل و الحكمة، و الحيرة بادية على محياه :
- أيها الذئب، كيف تدّعي انسلاخ الإنسان الهكسوس عن الطبيعة و قد طبع منذ آماد بالرخاوة و الهشاشة، الطراوة و اللّين ؟!!
- أيها النسر، إنما ذكرته حول الإنسان لا يمثّل غير نصف الحقيقة. أنت تزعم أن الوحوش بتصلّبها و حدّتها و عصبيتها تمثل أصل الوجود لأنه تكرّم عليها و وهبها تلك الأسلحة الفتاكة. إلا أن تاريخ الإنسان حفره الإنسان في ذاكرته ليتوارثه جيلا عن جيل.
أيها الضواري يا سكان البراري، اعلموا أن الإنسان لا يستحي من الإعتراف بأنه كان فيما مضى غضّا طرياّ أعزل مما جعله مهددا بالإنقراض، بل يدعي أن الفضل فيما آل إليه أمره الآن يعود إلى تلك الحقب حين هتك الحجب باكتسابه للحيلة وهي ليست حيلة غريزية جافة أحادية المسار، بل هي حيلة مرنة مفعمة بالتجارب مشبعة بالتخطيط، و بذلك صار الإنسان إله لأنه يختزل الأزمنة فيعيش الحاضر ويعود للماضي و يتنبّأ بالمستقبل.
فقام في الخلق اللغط و الغوغاء تحول إلى جدال حادّ و اضطراب، وفي خضمّ تلك الفوضى علا صوت أحد السباع و هو يقول بصوت صلب :
- يا قوم، هل أتاكم خبر الإنسان، ذلك الكائن الذي ما فتئ يتغنّى بالوحوش و يتشبّه بها، فيقول أنا كالأسد و ابني هذا كالشبل، و ذلك كالفهد رشاقة و خفة. و الآن ها أن الذئاب تأتي من البهتان ما يجعل صغار النفوس ترتدّ و تزور بعد أن ترتجّ، فكيف تدّعي الذئاب ألوهية الإنسان وهو الذي عرف بالتزلف، التمسّح و التملّق، هذا فضلا على الدّمامة، الفسوق و الفجور.
فعلا صوت أحد الذئاب محتجّا :
- أيها السبع يا من تدّعي فسوق الإنسان و فجوره، اعلم يا عفاك الله أن الهكسوس قد استبطنوا العشق و هو جملة المشاعر يعبّر من خلالها الإنسان عن رغبته في ممارسة الجنس، و ارتقى إلى مرتبة الحضارة فصار يولي أهمية لنظافة جسده و تخليل أسنانه بعد الأكل، ثمّ هاهو يتقعر في سلوكه فيرتدي أكسية ليستر بها مؤخرته لأن لا ذيل له.
إذاك صاح نسر عصابي المزاج ثائرا :
- إن حرص الإنسان على نظافة جسده من خلال الاستحمام وتخليل أسنانه، واغتساله عند تردّده على دورات المياه لهو دلـيل على وعيه بوضاعـته و تمكّن القذارات منه.
اعلم أيها الذئب أنه رغم هذه النظافة والمغالات فيها، فقد هتك الطاعون جسده وتغلغل في دمه ينخره باستمرار و يفنيه، ساريا في شرايينه هادما بنيانه.
- أيها النسر، يا من تدّعي الإحاطة بكلّ شيء، إنما وصل إليه الإنسان كان عبر تقديم القرابين و الذبائح على هياكل التسامي نحو الألوهية. فسالت الدماء سواقي، دماء حمراء قانية، بل أنهارا منها ليعتلي بعد ذلك العرش و لا يزال يفتدي بنفسه الجمال و الكمال، القوّة والسؤدد، فهل في الإنسان شكّ ؟
فاتقد النسر غيضا و كاد يتميّز منه وهو يرمق الذئب ثم قال :
-إنما تهذي به كضرب الطبول يستحيل كرجع الصّدى بعد ولادته، فهات برهانك !!
- بلى و رب الكعبة، فهل أتاك نبـأ ابن آدم ؟ ذلك الـذي وعى ضعـفه و أدرك عجزه، فغاص في أعماقه و تفكر في ذاته بالتنسك والتزهّد. كنا نحسبه ضربا من الجنون و التيه، تاهه الإنسان في هذا الوجود المشحون بالألغاز كله قوى متحاربة، لا تني عن الحرب، لا يقوى على الصراع. إلا أن ذلك كان ضربا من التأمّل و هتك الحجب للوصول إلى النواميس، و حين أدركها بعد هتك الحجب تهاوى على ركبتيه و خرّ ساجدا يسبح بجمال القوى المطلقة و قدرتها. كنا نحن إذاك نحيا في الوجود حتى الموت، في حين كان الإنسان ينسلخ عن التوحّش و يتبرّأ منه، بانتشار الأنبياء بين البشرية يبشرون بالجنة لمن آمن ويفحمون القوم بما يؤتونه من الأفعال تسمّى معجزات.
جاء الأنبياء يبينون الهدى برسم طريق الحق و طريق الضلال، فكشفت لهم هذه الدعوة أن النار لن تمسسهم بسوء ما داموا مؤمنين، ولذلك خاتلوها في ساعات صفائها وخدعوها من خلال قبضهم عليها و تلاعبهم بها فكانت عليهم بردا و سلاما عند إيحاء القوى المطلقة، و التي تسري و تنتشر تتغلغل في الوجود بلا قيود، لا تعترف بالحدود، فتثير الفوضى و تفجّر الكون إذ يستحيل إلى غاز الهليوم.
لماّ تباعد الإنسان عن التوحّش بامتلاكه النار، صار يترفع عنه، إذ لا يعجل حين صيد فريسته بأكلها كما نفعل نحن معشر الضّواري، بل يقصّ لحمها بالخنجر، يطهيها فوق النار الهادئة لتستوي لقمة سائغة ثم يصبر عليها حتى تبرد، فيأكلها بالشوكة و السكين. و هو جالس على كرسي وأمامه صحن و كأس ماء على المائدة و كأس شاي.
ثم أنشأ الإنسان اللهو والترفيه فصار يلقي النار في كل اتجاه و بخاصة الكائنات التي تجمع بين التوحّش و التمركز على الذات، فيرميها بحمم النار تحسبها آتية من بركان، عبر المنجنيقات و تغلغل الإنسان في عالم النار فاكتشف غاز الهيليوم الأصفر الباهت، إذ استخرجه و علبه.
صاح أحد الضواري :
- عجيب أمر الإنسان، ألا يحرقه غاز الهيليوم ؟!!
فأجاب الذئب بأناة و طول صبر :
- قلت لكم أيها الوحوش أن الإنسان تبرأ من الطبيعة، فصار لا يعبأ بها أو بقواها التي تبسط بواسطتها سلطتها و قوانينها، إذ الإنسان و لما تماهى مع القوى المطلقة زعم أن قوى الطبيعة لا تعدو أن تكون خالية الوفـاض، لأن الاهوجـاج و الفجاجة لا تنبع إلا من شخصية مضطربة لا تعي سلوكاتها لأنها متمركزة على ذاتها.
- أيها الذئاب هل وقفتم على حقيقة سؤدد الإنسان و سيادته للعالم ؟
- بلى، فهو لم يهتك ستر صحارينا باقتحام رمالها و المساس من عفتها فحسب بل بنى الحضارة و صار يتردّد على الكواكب السيارة بما ابتدعه من سفن فضائية، فيقضي فيها عطلته السنوية، يشرب الخمر ويمارس الجنس بكل حريّة.
ثم أن الهدوء خيم على الوحوش وهي تتبادل نظرات الحيرة، تكتنفها الريبـة و الصمت، ثم شق صوت أحدها الهدوء:
- أيها الذئاب، أنتم جستم خلال رحلتكم حياة الإنسان و وقفتم على تفاصيل سلوكه، فمن أين استقى شرعية العدوان و التسلّط للابتزاز و امتصاص الدّماء وهو يزدرد لحوم ضحاياه تتقاطر دماؤها الحمراء القانية.
- من خلال ارتقائه للمراتب الإلهية، و ما تستوجبه تلك المراتب من عبيد يتعبدونه ويسجدون له ، يقومون بتطبيق شعائره و قرابين في شكل ذبائح على عتبات الهياكل الهائلة والمعابد الشامخة. يتقربون بها له وهبات فاستنبط الاستعباد.
- هل الإنسان متقمّص للألوهية ؟
- لا فالحق، الحق الإنسان إله من خلال انسلاخه عن التوحّش كانسلاخ اليرقة عن الشرنقة، لتتحوّل إلى فراشة. و ما يترتّب عن ذلك من توسع و انتشار، هيمنة و بسط نفوذ.
ثم أن أحد السباع تدخل و قد فاض وجهه إشراقا :
- أيها الضّواري يا أحرار البراري، هؤلاء الهكسوس، و هذه صحارينا. أنتم تعلمون أن الإنسان مستبطن للتزلف و التملّق من خلال التطفّل و التواكل، الحقارة و المسكنة من خلال الخوف و سحّ الدموع، الخب و الخديعة من خلال الغدر و الغرور، هذا فضلا على القبح والفجور.
يا هؤلاء، إن أولئك كانوا رعاة، حفاة عراة، و الآن هاهم يتحوّلون إلى غزاة، يجولون في الصحـاري يتنزّهون فرادى و جماعـات، يتـظاهرون بالفتنة و الانبهار و ما فتؤوا يختلسون سرّا و علانية ما فيها من خيرات، وقد كناّ فيما مضى قطاع طرق و قراصنة.
خلخلت وجوه الذئاب لما سمعت هذا الكلام و اصفرّت، اتسعت أحداقهـا و احمرّت، ارتجّت كياناتها و اهتزّت لأنها كانت متبصرة بالأمور و ما ستؤول إليه إن فلتت من بين أيديها، أجالت النظر فيما بينها وأدامته، ثم قطع صوت أحدها حبل الصمت منقذا الموقف وهو يقول:
- أيها الضّواري، يا هؤلاء، إن الإنسان كان راعيا، هذا مؤكد ولكن انظروه كيف استطاع أن يروّض باللطف و اللين الكائنات المسحوقة من بغـال و حمير، كلاب و قطط، قردة و خيول ثم بعد ذلك حولها إلى خدم و حشم تفيض بالإذعان و الـطاعة، التفـاني والإخـلاص. اعلموا يا هؤلاء أن الفئران و الجرذان قد وهبت له نفسها ليقيم تجاربه العلمية عليها وهي لا تفتأ تعلن بأنها شهيدة العلم و ليست ضحايا الإنسان و تتشدق بذلك أمام العوام و الخواص. ذلك بأن البشرية استنبطت التنويم المغناطيسي.
أيها الضّواري يا سكان البراري، إنما نحن معشر الوحوش طبعنا منذ أمد بطابع السير في منهاج مؤطّر مستقيم و مسطّر، استبطنا الاهوجاج في هذه الفجاج، دون التفصّي من الشدّة و القسوة. فلا نستطيع إنجاز الأعمال المركبة والتي تتطلب ثلاث مراحل، و لذلك فنحن نصطاد بالمخالب، و نمزّق بالأنيـاب و نطحن بالأضراس، ثم نستخدم نفس الوسائل للحروب و العدوان.
يا قوم هذا الإنسان صار يحول الحروب إلى محافل و المعارك إلى مآدب، يشرب على نخبها الخمور و ينكح الدبور لأنه أوكل أمر الحروب إلى القوى المطلقة، مصدر الخلق والإنشاء، الإفناء والانتفاء، ثم الخلق والإنشاء من جديد. فإن كنا سنحارب فإنما سنحاربها هي لا الإنسان.
ثم أن الذئب عوى بعد ذلك و سكت.
فقام أحد النسور العصابيين، و قد استفزّه الذئب :
- أيها الذئب أنت تسعى لإلغاء العدوان و نفيه و قد نشأنا فيه وتربينا، إذ أرضعتنا أمنا الصحراء حليب القسوة والشدّة، العنف والفجاجة، حتى أننا تغلبنا على حمى المستنقعات و ما تفرزه من أوبئة وطاعون.
يا قوم جبل آباؤنا و أجدادنا على الكبرياء حتى أن بني البشر كانوا يتشبّهون في الرجولة بالأسود و الأنوثة باللبؤات. فأين الكبرياء و الإباء ونحن نرى الرجال و النساء منتشرة تتريض و تصطاد، فجعلوا منا ككائنات سفانا إفريقيـا العاشبة و التي تحيط بها الضّواري و الوحوش، تخطف منها أحدها فتمزّق لحمه، تتقاسمه أشلاء تتقاطر دماء على مرأى منها و مسمع، وهي مع ذلك ترتجّ و لا تنفجر، توجف قلوبها و لا تنتحر، فتنزل خطومها و قد كستها الوداعة، الحب و التسامح غاضّة أبصارها تسبح و تبتهل ثم تفرّ عند إمعان الضّواري في امتصاص دمائها.
إذاك تدخل الذئب :
- أيها الضّواري يا سكان البراري، هل ترون أن الصّراع قد آن، فإن كنتم في غير ريب مما نقول، فاعلموا أن الإنسان لن يمسسنا بسوء ما لم يرى التوحّش من خلال ما في العيون من عدوان وتبييت غدر، فلنقلع الأنياب و لنقطع المخالب و لنبتسم.
فازداد أحد النسور تهيّجا و تشنّجا و علا صوته قائلا :
- أيها الذئب المناوئ، الخب المراوئ، كيف تطالبنا باقتسام ممتلكاتنا مع كائن غريب، شبيه بالقردة لا أصل له و لا فصل. انظره كيف يجحف في صيد الطرائد و يمعن، فتطفو غرائز الجشع و اللهفة، يردف ذلك بعب الماء.
اعلموا يا عفاكم الله، أنه في طريقه للإستحواذ على الصحاري وبسط النفوذ على البراري.
همس الذئب قائلا و قد لاحت على ثغره ابتسامة مصطنعة باهتة قائلا :
- اعلموا يا رحمكم الله، أن الإنسان لا طاقة لنا بقتاله، فهل ترون في الخضوع للعدو الشديد البأس و البطش بأسا. فلنستبطن الإنحناء للعاصفة مهتدين بالعشب اللين الذي يسلم من الريح العاصف، لنتعلم الانصهار في الإعصار حتى يتّضح وضح النهار بدل مواجهته لأن في ذلك دمارا و اندثارا. قالت الحكماء فيما مضى : قارب عدوك بعض المقاربة لتنال حاجتك. فلنوطن النفس عـلى التـأني و التدبير، الحكمة و التفكير برفض الاهوجـاج والاستهتـار، الاستخفـاف و الاستنفار، و لنروّضها على التخفي و التنكّر بالتلوّن. هل أتاك حديث الكائنات تلك التي تتكيف مع ما جدّ في الطبيعة من أطوار فترتقي بذلك و تحافظ على سلالتها، و هذا التكيّف و الارتقاء لا يتمّ إلا عبر آماد طويلة، فكيف بالله عليكم و نحن في الصحراء منشأ القفار و الخلاء، السراب و الصفاء أن نجهر بالعدوان للإنسان، أو نقاتله وهو الذي يمتلك غاز الهيليوم و يدعي الألوهية و لا يفتأ يتبجّح بذلك أمام الخلائق.
ثم أن الضّواري تمادت في لغوها و جدالها لغطها و غوغائها حتى جنّ الليل باسطا رداء من السواد على الصحراء الصافية الصفراء. وصارت الوحوش الضواري أطيافا متلفعة بالعتمة والإبهام، فتفرّقت وقلوبها محبطة و تفكيرها مشتّت لتناوش الرؤى المتناقضة لها والمتضاربة.
طفق الهكسوس يقتحمون الصحاري، يغزون البراري في قوافل ممتدّة مندفعة، تتلوّى كالأفاعي متقاطرة، متدفّقة تتثنىّ كخصر راقصة شرقية، محاطة بهالة من عواء الذئاب في شكل تهليل و تكبير، تسبقها العواصف بنحيبها وهي لا تفتأ تتلاعب بالرمال المسيرة بين الفجاج.
هاهي ذي عقائر الناس ترسل بالغناء الرقيق العذب مصحوبة بألحان تبعث في النفوس التعالي و التسامي، الإيقاع المتزن إذ أن الناس استلهمته من إيقاع الطبيعة المؤطّر المستقيم المسطّر. هاهم يحطون الرحال عن الجمال بين كثبان الرمال على مقربة من الأودية و الأنهار يضربون الخيام و يدقون الأوتاد.
ثم أقبل الهكسوس على الصحراء بوجوه تفيض بالشوق للأبعاد المفتوحة العميقة الغامضة مسرحا لتصارع آلهة الخير مع شيـاطين الشرّ، يغمرها الانبهـار و الخشوع و الرغبة في المغامرة و خوض المعارك. هاهم يمتطون الخيول المطهمة بسروج جلدية مغطاة بأغطية حريرية، موشاة بالذهب و الفضة، و قد امتشقوا السيوف و الخناجر، و عبؤوا الأحزمة بعلب النار، ثم جذبوا الألجمة فانسابت الخيول تعدو كالسهام، و خلفها كلاب ضامرة رشيقة تنقع، بينما كانت الذئاب تسبقها لإرشادهم عن مكامن الطّرائد.
لما أدبر الليل و أسفر الصبح، تهافتت الضّواري على موارد الماء لتطفئ ما يعتلج في أحشائها من ضمأ و يضطرم، ريعت و اهتزّت، فزعت و ارتجّت وهي ترى النمور السوداء مسلوخة و بعض النسور منتوفة الريش مذبوحة، ملقاة على ظهور الصخور و قد أقبلت الشمس على جثثها تجفّفها من ماء الحياة. فيتعالى العويل و الصراخ ممزوجا بالنديب والنواح، وأوغلت الوحوش في الحداد و أغربت فيه مع تعفير الشعر بالغبار و شق الثياب، إذ أصيبت بالصدمة مما جعلها تضمر الغدر للإنسان و العداء و تبّيته له.
في تلك الليلة تعالى الزئير و الزمجرة، مشوبا بالنباح و العواء، وانفجارات النيران الباهتة الصفراء، و يترامى هنا و هناك الأنين و الألم، ثم السكون. ثم أن الناس صاروا ينتشرون بين الوحوش بلا خجل أو وجل، غير مرتابين أو هيابين تحرصهم عيون الذئاب الوديعة اللطيفة، المحبّة العطوفة حاملة الرماح متهيّئة للصراع، تغضّ البصر كلما مرّت بها إحدى عربات الإنسان، ثم هاهي تلتفت للضواري المتوحشة التي سرى فيها الهلع و الفزع واشتدّ الكرب و استفحلت الفاجعة تحمل على أكتافها جثث موتاها و تواريها التراب بقلوب كسيرة و دموع غزيرة. صارت متهيّجة متوترة بهيمنة العصاب على سلوكاتها فهي لا تستقر على الأرض بقوائمها المتوثبة فضلا عن تحريك رقابها تحريكا لا إراديا، مع رغبة ملحّة في لطم الوجه و نتف الشعر، وهي تقول : » دعونا نأكل و نشرب حتى نرحل لأرض الصمت.« والتي حولتها الضباع إلى أهزوجة ترقص على إيقاعها شاهرة الرماح، رافعة الأقداح، تصفق و تنط ضاحكة مازحة، و تمضي معظم الليل في اللهو و المرح، الغناء و الرقص حتى تلوح أولى تباشير الفجر حول نيران الإنسان الخابية.
أقبلت الذئاب على الوحوش منادية مهدئة قائلة : » يا قوم، هؤلاء الهكسوس جاؤوا ليؤنسوا الصحاري، انظروا الخرفان كيف تمكّنت من البقاء مع الإنسان بأمان فقلعت مخالبها و عوضتها بأضلاف، و الجمال بأخفاف.« و في تلك الآونة مرت على مقربة من تلك الخلائق شرذمة من الأسود محلوقة اللبدات واضعة في آذانها أقراطا، تتضوّع عطرا، تلوك العلكة، غاضّة البصر، تمشي مرتبكة. فهبّت الذئاب وهي تنادي في الملأ وتستشهد :» هاهي ذي الأسود تستجيب لصوت العقل! «. فعجب القـوم لأمر الأسود و حالهـا تلك كـل العجـب و استغربوا كل الاستغراب والتي لم تكن أسودا بل ضباعا متنكرة.
ثم أن الصيادين عادوا محملين بصيد وفير و خير غزير، و هاهم وبعد أخذ قسط من الراحة يخرجون للتفسح صحبة النساء و هم ينتعلون أحذية من جلود التماسيح و يمتشقون أحزمة من جلود أفاعي الكوبرى. ويتزينون بأزياء وبرية مختلفة الألوان و السماكة، أمـا النسوة فقد ارتدين معاطـف من فراء السبـاع و الدببة و وضعن على أعناقهن ثعالب مفرغة من محتواها إلا الرأس المحنّط يتدلى على صدورهن.
حينها هرول السباع لإخبار الوحوش باليقين من الأخبار و النسور، إذ استقبلت بموجة من الهمس و الضحك المكبوت، و القوم لا يفتأ يلوح لهم بالبنان. فحزّ ذلك في نفوس السباع والنسور و التي ولت تجر أقدامها نحو المنافي للإنزواء و الانطواء في الجبال وهي منهارة.
لما جنّ الليل علت الزغاريد و أطلقت الشماريخ، و اقتحم الناس حلبات الرقص فيترامى صدى الأغاني العاهرة في أرجاء البراري، مما جعل متساكنيها يصابون بالسهاد، وهم يرون مجون الإنسان و فجوره يرمي من خلال ذلك إلى ممارسة ألوهيته. غاصت الضّواري في قواقعهـا و هي تتغـاضى عن تلك الجراءة و تتناسى الدناءة، تبحث عن إغفاءة فلا تظفر بها، وتنهمر دموعها حارة على الوسائد وهي تستعيد صور أشبال السباع التي تطفو على سطح الماء جثثا هامدة، بطونها منتفخة مشبعة بالمياه الآسنة، فتبحر في محيط الحزن العميق الدفين دامية القلوب منفطرتها. ها قد أبهم عليها الرأي و التفكير، الحكمة والتدبير، حتى صارت فريسة للرهاب لا تقوى على رد العصاب الذي سرى فيها، استولى عليها وهيمن.
و يعمّ العواء و يسود، تنتشر اليراعات اللماعة والتي لم تكن يراعات بل عيون الذئاب التي لا تغفو، تبعث في الحلكة بياضا كالبصيص. أطلت العقارب من الجحور في حياء، ثم خرجت تلفّها الريبة، تحدّق متمعّنة في العتمة، تجيل النظر في كل وجهة حتى لا تفاجأ بالزئير المرعب أو بفكي نسر يحيلها هتامات و ذرات. سرت الأفاعي زاحفة نحو الماء للسباحة متحلّلة من أصفادها و إقامتها الجبرية في كهوفها مندفعة تتراقص فرحا مجلجلة بأجراسها تبعث في الصمت أناشيد كالفحيح، مقلدة الإنسان الذي ما انفك يرسل عقيرته بالغناء بصوته الأجش الأبحّ من أثر الخمرة، و حين يجفّ حلقه يرد الماء فيعبّ منه عباّ و ينهل. ثم صار يملأه في قرب و قلال، براميل و دنان. و لما بنى المنازل و قد كان متيما بالماء إلى حدّ الوله مما جعله يغزو الصحاري لغزارة ينابيعها و عيونها جعلتها عرضة للسلب والنهب، حفر قنوات في الأودية و الأنهار و ربطها ببسـاتينه وحـدائقه، مسابحه و بحيراته، أنشـأ المستنقعـات وجلب لها بعض التمـاسيح التي ركنت للتمسّح و التملّق. ثم ربط بعض النمور السوداء في بهو قصره، وعرض على زواره النسور فينظرون إليها باستغراب مشوب بالإعجاب. و قد كانت الكلاب تجوس ساحات القصر صحبة الذئاب.
و تمرّ الليالي الحالكة ثقيلة مثقلة بالكوابيس و الأوهام، فقد منعت الضباع الضّواري من المجون والعربدة، التجوال و السعال، كما جمعتها في أماكن عامة للتبرّز تحت إشرافها بعيدا عن العواصف التي لا تفتأ ترسل زئير السباع و صياح النسور و التي لم تتمكن الذئاب من الظفر بها لانتهاكها أمن الصحاري و سلامة البراري. هاهي ذي العواصف تحتدّ، تنتشر على أطراف الصحاري، تشتدّ و تمتدّ تعبث بالرمال فتحيلها غبارا باهتا ينتشر في الفضاء في شكل ذرات صفراء تنذر بالفناء.
عمّ الغبار كامل الصحراء بعد أن جفت الأودية و الأنهار، الينـابيع والعيون و غار الماء، فاستحال الفضاء إلى ضباب كثيف مستبد عتّم الرؤية و حجب نور الشمس، إذ حلّ الظلام الدامس مماّ مكّن الكائنـات الغـدارة بما فيهـا من قبح و قذارة من التجوال متبرجة، في ربيع النهار بلا خجل ولا وجل تقوض البنيـان و تقيم العدوان، فصارت الصحراء شعثاء مغبارة جرداء. و هذا ما ولد لدى سكانها التقاتل على الغذاء المتضائل من أجل البقاء، هاهي ذي الخلائق تتهالك بعد صراع المجاعة و الاختناق خاوية هياكل تلفّها قشور جافة شاحبة فلا توارى التراب، بل تجفّف الشمس ما تبقى منها من ماء ثم تذروها الرياح ذرات ترسل بها بين الفجاج الغليظة القاسية.
أما الذئاب فقد تمكّنت من تجاوز المحن و الإحن كعهدها بالتجاوز وقدرتها على التجاوز، هاهي ذي تستخدم الرماح كعصيّ و النبال كنعال حتى ترهب كل غدّار مكّار. ولا تفتأ الصحاري ينتفي أريجها بانتفاء الزهور و يخبو وهيجها بغور الماء في أعماق رمال الصحراء التي باتت رمادية باهتة بانطفاء ما تبعثه من أشعة كنجمة منكدرة و عمّت السباخ.
صارت الصحراء ظلمة بعد أن كانت منارة تهتدي بها الكائنات البصيرة في حلّها وترحالها.
لما تهيّج الغبار المتوحّش و صار ستارا يحجب الشمس، أسبغ على الوجود ظلمة كظلمة التوحّش و قسوته، هبط الجليد في ظل العتمة، تسرّب من خلال نواح الرياح و نباح الأتراح، تهاوى في هدوء، سكون و همود. انبسط و تمدّد في شكل بساط بلوري متجمّد، فتجعدت البراري و تكلست، حنطت و تبلدت، ترنّحت أشجار النخيل و تهاوت، فنت وتلاشت، ذوت الزهور و تناثرت بتلاتها، جفت و صارت هشيما ثم انتفت، إذاك تسلّلت أشواك السعدان و أخرى مختلفة الأشـكال و الألوان من بين الشقوق المـالحة، هيمنت عـلى المسـالك و المسارب و تحوّلت إلى مأوى للافاعي و العقارب.
لما انتشر الصقيع في الخلائق و تغلغل في أعماقهم، تمكّن منهم و ران حتى صارت أسنانهم تصطك، و أجسادهم ترتجف و ركبهم تحتكّ. استحوذ عليهم الرهاب يرجمهم بالعذاب. لفهم اليأس في قمائط قذرة كما يلف العنكبوت فريسته فيجعلها كاليرقة مكبلة في الشرنقة. فلاذوا بالخنوع للاحول و لا قوة و الخضوع، ينتظرون الرجفة تصهرهم وهم جاثمون يبتهلون بأصوات عالية، لا يحيرون حراكا زوغا أو روغا تهيبا من البلايا و الرزايا.
في تلك العتمة و القتامة، الريبة من انتفاء العدم و القنوط مما جعل الإنزواء من طبائع الخلق و الانكفاء، هبط نسر من قمة الجبل الشماء غزير الشعر، كثّ اللّحية و قد وخزها بياض و نادى في الخلائق، إذ جاءت تسعى من بين الفجاج تعلو سحناتها الفجاجة والاهوجاج و وقفت بين يديه. قال و هو يرمقها بعطف ممزوج بالاشمئزاز و القرف مداعبا لحيته:
- يا قوم، ما الإنسان ما هو ؟
- لقد استعبد النار، باكتشافه لغاز الهيليوم من خلال تفجيره للذرة بعد مسحها من التراب العالق بها.
- أنتم لا تعرفون إلا نصف الحقيقة.
- سيدي يا هذا، حدّثنا عن الإنسان، يا رحمك الله !
- أيها الضّواري يا أحرار البراري، ما أعظم الإنسان ! ألم يبلغنكم نبأه حين تمكن من إكتشاف حقيقة ألوهيته، لما تمكن من النفاذ إلى صميم الجسد، فوجده يؤدي وظيفته وفق نظام أزلي دقيق و مضبوط، لكل عضو مهمّة خاصة بعينها، فالعيون تبصر الموجودات، والقلب يخفق و يرسل الدّماء إلى كامل الجسد الذي إذا اشتكى منه عضو يتداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى.
فقام أحدهم و قد غزاه الإنبهار و قال :
- يا سيدي قصّ علينا من نبأ ابن آدم !
فواصل النسر دون تأفّف :
- إن الجسد لما يصاب بخدش يكون عرضة لغزو الأعداء.
فتساءل أحد الحاضرين :
- و لكن كيف للوحوش النفاذ من خلال صمّ الخياط ؟!!
- لقد كشف الإنسان من خلال مجاهره عن كائنات مجهرية شرسة، انتهازية لا تفوت الفرص للاستنزاف و الإستيلاء من فصائل الجراثيم والفطريات، الفيروسات والبرازيتات. تلج الجسد و تنفذ من خلال الثقوب مهما كانت دقيقة للإقامة داخله.
- و الجسد ؟!!
- على طراوته و هشاشته و فنائه عبر الزمن، يرفض بين النشأة والفناء التآكل من خلال الغرباء كائنات الظلام. هاهو يعلن حروبا ضروسة يجند من خلالها كائناته الحيّة وهي كريات بيضاء جميلة المنظر بهية، إذ تسدّ الفجوة عبر الانتحار والتخثّر، و مقاتلة من نفذ إلى الداخل من الكائنات المتوحّشة، ثم ينهار الجسد، يفنى ويندثر، إن عجزت الكريات البيضاء عن الفداء و ردّ الاعتداء يضمحلّ و ينتثر.
يا أحرار البراري، سكان الصحاري، إن الجسد كتلة من الغرائز البدائية يضفي على نفسه الكبرياء، الصفاء و النقاء.
- و أين الإنسان ؟!!
- هاهي ذي الحقائق تتهاطل عليه كالصواعق، فيرتج و يصدو كصدى الجبال، ثم يذهل ويغمى عليه، و حين يستيقظ من جديد يلملم ما كان من عجزه و ينفيه ثم يهبّ كالعاصفة الهوجاء فينظم الأجساد ويثير الفتن. يضرم النار متحدّيا لها، فتلتهب الهياكل و تنير ما حولها في الديجور. ثم تتآكل و تذروها الرياح رمادا، ويبقى الإنسان إنسانا بل هاهو يتسامى إلى المراتب الإلهية بعد التمادي في التطاول على النار وتحديها. و في لحظة وقوف النار لتستردّ أنفاسها و تمسح العرق عن جبينها، و في غفلة منها يخاتلها الإنسان و يقبض عليها من الخلف وهو يصيـح و ينادي » الحرب خدعة، الحرب خدعة « لتبرير ما فعله بالنار. ثم قام بتدجينها و ترويضها، إذ صارت تبعث فيه الـدفء، تنير له الظلمـة و تطبخ له طعـامه، و حين تنتهي من مهامها تنطفئ. لقد صيّر الإنسان النار خادمة أمينة حاطّا من مكانتها على مرأى و مسمع من بقية النجوم، ممرّغا وجهها في الرماد، و لما شعر بانكسارها قام بتعليبها، توسّدها و نام قرير العين.
- و لكن من أين استقى الإنسان العدوان ؟
- اعلموا يا عفاكم الله ، أن الجراثيم و الفطريات، الفيروسات والبرازيتات قد أوحت له بالتسلّط و الرغبة في الإستيلاء و التملّك، مستخدما كل الطرق والحيل القذرة، مستمدّا قوته من النار التي كان يفجر علبها، و كانت هذه ذروة قوته و نقطة انحداره نحو نحبه.
- ماذا تعني ؟
- بلى يا هؤلاء، حين كنت في أعالي الجبال، و عبر مرصدي العظيم، تمكنت من العودة عبر التجسد من خلال نفاذي للعوالم السابقة، إذ رأيت و يا لهول ما رأيت الانفجار الكوني عبر غاز الهيليوم !!
- و الأرض، هي كتلة من غاز الهيليوم ؟!!
- المتفاقم، المتراكم و المتأجج. انظروا كيف تضطرم أمعاءها، تبعث بها في كل حين إلى السطح عبر البراكين، و ستمحي متى خبت تلك الصهارة الملتهبة في باطنها.
- و النار ما هي ؟
- تضيء الوجود و تبعث فيه الدفء بالتهاب الهياكل الفانية المتآكلة عبر الزمن.
- و لكن الإنسان تجاوز النار ؟!!
- عبر قبول الفناء حين وعى إمكانية فناء الفناء.
- فكيف يفنى الفناء يا سيدي يا هذا ؟
- بالخشوع للنار و عبادتها و الإشراق بها.
- و كيف نتجاوز الرهاب و الخروج من كهوفنا لنشعر بدفء الشموس ؟
- بالانصهار في الشموس لأنها كتل متفجّرة، متفاقمة، عواصف متوهّجة متهيّجة وأمواج متلاطمة من الغازات الحارقة تتوّجها ورود.
- فأين التألّه على حدّ زعم الإنسان ؟
- عبر الإشراق بالحقائق المطلقة، يا قوم ألا فأخبروني من ينير العوالم، و من يعطي للوجود الحياة ؟
- الشموس !!
- بلى يا هؤلاء !
و لما انتهى فارس و صديقه تاكفريناس من تلاوة الأوراد، قرآ فاتحة الكتاب على كائنات الصمت الثقيل الأموات، مسحا على وجهيهما ثم خرجا لا يلويان على شيء تشيعهما صور الذئاب، حاملة الرماح والحراب، تبتسم و قد بعثرت حولها أقداح الشراب.
صالح محمود








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع