الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حبيب فارس في مكعّبات هيام...قصائد وخواطر بماء الحزن

حبيب فارس

2009 / 3 / 21
الادب والفن


عن جريدة الجريدة
العدد 558 - 12/03/2009
__________________
بيروت - قزحيا ساسين
أول ما يبحث عن مكان له في حقيبة شاعر مهاجر وجعُ القصيدة. وعبثًا يحاول الإنسان إدارة ظهره لوطن، فلا يعرف كيف يسبقه وطنه إلى أيّ أرض يختارها، أو بالأحرى إلى أي منفى. الهواء، التراب، رائحة الخبز، حكايا العمر، الوجوه، الأسماء... كلّها «تحشر» نفسها في حقيبة السفر.

يكتشف شاعر أنزل كفّيه عن كتفي وطنه وجلس بين جناحي طائرة تصوّب إلى البعيد، البعيد، أنّه لا يزال حيث كان، وأنّ الإقامة الحقيقيّة هي في الحنين، وأنّ الوطن شرفة مشاعر وأحاسيس يمضي عاشق الأوطان عمره مقلّبًا أوراقه عليها.

ليس الشاعر حبيب فارس في جديده الشعريّ «مكعّبات هيام» الصادر عن «دار الفارابي» سوى رجل يفسّح وطنه على كتفيه في دنيا الله الواسعة، ويعرف تمامًا أنّ جواز السفر أحد أشكال الخديعة، ويحترف هذا الرجل قراءة نفسه صباح مساء داعيًا جروحه إلى الإبحار الدائم في مياه القصيدة التي لا تصل إلى آخرها أبدًا.

يعتصم فارس بالجملة البسيطة لغة وتركيبًا ويعتمدها حرّة من كلّ وزن وقافية وإن سَجَع في بعض النصوص وكأنّه يحنّ إلى تفعيلة ورويّ وإيقاع. وهو يعلن حزنه من نصّه القصير الأوّل من خلال تصريحه بأنّ البكاء عيب الرجال، بحسب التقليد الشرقي، فلجأ الى الشعر وهو عصير الكلام كبديل من البكاء: «مُنعنا، «عيب الرجال»، البكاء / صرنا نبكي عصير الكلام: شعره». ويوسّع فارس هامش الانتماء إلى القصيدة فيعتبر أن كلاًّ من الناس شاعر إذا تأنسن، وهو بذلك يربط النصّ الشعريّ بالحسّ الإنساني مباشرة مساويًا بين الجمال في القصيدة والجمال في النّفس البشريّة.

طقس الكتابة

عدّة الكتابة وقاموسها وأشياؤها الحميمة، لها في خاطر حبيب فارس حضور شعريّ وطقس خاصّ، فقلمه لا يأتي بكلام إنّما الكلمة تشير إليه أنِ اكتبْ يا قلم: «القلم لا يكتب الكلام / الكلام مَن يستكتبه» وربّما قصد بالكلام صاحبه لأنّ «مَنْ» للعاقل والقلم غير عاقل. والكلمة لا تطلب الدفء من حضن ورقة، بل الورقة تصل إلى الكلمة مرتجفة ولو كان الشكل يظهر العكس: «الورقة من ترتمي في أحضان الكلمة لتتدفَّأ». أمّا عن المواضيع المختارة للنصوص فهي التي بينها وبين الشاعر مجامعة نتيجة لغرام وليد اقتناع. وما القصيدة إلا طفلة تلفظ اسمها بصرخة ولادتها الأولى، وكأنّ فارس يعلن بذلك سهولة عناوين القصائد إذ جعلها موجودة بحكم ولادة القصائد. وكم توفّق لمّا قال: «بطل القصيدة جمهورها، فكيف لقصيدة أن تنعم بالعمر قصيرًا أو طويلاً بلا قارئ يثبت حضورها بقراءته إيّاها، وكم من جبال قصائد مكفّنة بالغبار لأنّها أعجز من أن تدعو قارئًا إلى فنجان قهوة تحت سقفها. وبالكلمة وحدها يسمو دم الشاعر فيمنح العصافير فرحها ويعلّق في أعناقها أيقونات الفرح:
«حينما يرفرف جناحا كلمتي / يسمو دمي فاتحًا ذراعيه / للعصافير كي تغرّد».

دموع بعيدة والتزام

فشل البُعد والتواري في فصل فارس عن زمنه الأبهى والأكثر إيلامًا، فهو في مهجره القصيّ يسترجع مَنْ وما يشاء من سلّة ماضيه الذهبيّة، ويرى في العرق المتصبّب من جباه مفرداته وجه جدّته الجميل: «تقلّب على الصّاج رغيفي المطرّز بحبّات البطم». لا مكان في هذا الكوكب الحزين ليهرب إليه إنسان فالذاكرة تطارده وهي أكثر حضورًا من ظلّه. وصاحب القضيّة يبقى صاحب قضيّة أينما حلّ، وفارس في أستراليا وهو شيوعي أيضًا ومسكون بهمّ الإنسان والحريّة وفي قصيدة Pastoralist يتضامن مع السكّان الأصليّين في مواجهة أصحاب عقود إيجار المراعي الملكيّة، كذلك يتضامن في قصيدة «مابو» مع آدي مابو المناضل الأبوريجيني الذي مات قبل وقت قليل من اعتراف المحكمة العليا بحقوق الأبوريجيين في الأرض، وذلك بقرار أُمْسَى يُعرف باسمه: «عمِّي آدي» / لم يستعجل الجواب/ أضاء شمسًا في سمائنا الحزينة / ثمّ أخذ قيلولة». وأمام الفقراء المهمّشين يضعف فارس ولا يرى في الوجه الممتلئ غير وجوههم ومآسيهم، فهو في قصيدة «سهرة» يتحدّث عن عازف الغيتار الذي «ترك وراءه غيتاره / بعدما أشبع المدينة موسيقى بنصف دولار»، وعن ماسح زجاج مئة وأربعين سيّارة «بثمن سندويشة همبرغر». لا يسير فارس على أيّ رصيف إلا بصحبة التزامه ومبادئه الإنسانيّة النبيلة، وهو بإشاراته الكثيرة إلى الألم الإنسانيّ حيث هو مقيم يظهر، وإن بطريقة غير مباشرة، أنّ الإنسان واحد حيثما كان، ولا بدّ من قضيّة يعتنقها الإنسان حيثما كان أيضًا.

في قصيدة «أعراف» حاول فارس رسماً تقريبياً له فلا بد من «جزمة مطّاطيّة» لتذكّره بشتاء وطنه الأمّ، ومن حذاء إيطالي للقدم الثانية «يعيد إليه الأعياد الجميلة»، و{شورت كاكيّ» «يرجع إليه صباه الكشفيّ»، و{قبّعة أستراليّة تقليديّة / تؤكّد هوّيته الجديدة...» غير أنّ أشياء فارس لا تجتمع لشخص واحد، فالأعراف لا تسمح بمنظر متعدّد إلى هذا الحدّ. ويستمرّ الشاعر في مكعّبات هيامه منتقلاً من مكعّب إلى آخر موزعًا همومه بين نفسه والآخر والوطن والوجود، وإن صفا طقسه قليلاً خسر التنعّم بالصفو خشية فقده سريعًا «تخيفني تلك اللحظات / حين يبلغ ماء نفسي قمَّة الصفاء / حين تزهو عصافيرها / أدرك أنها مجرّد لحظات»...

كآبة عاصفة تجتاح «مكعّبات هيام» من الصفحة الأولى إلى ما بعد الأخيرة، ولا مفاجأة في دعوة فارس الناس إلى الجنون بعدما تبيّن له أنّ حكمة العصر لا تكون لإنسان إلا بعد تقاعد العقل، وأنّ «السعادة مربط خيل الجهل». ويحسد الشاعر الرغيف المسترخي على المائدة، يحسده على استرخائه لأنّه لا يعرف مصيره الآتي قريبًا. وحدها المرأة ملجأ الشاعر الطاعن في الغربة والوحدة، فالتبّولة تُحَبّ لأنّ للمرأة رائحة البقدونس «للمرأة رائحة البقدونس / لذلك أستطيب التبّولة». والمرأة هي القيد الوحيد الذي لا يسيء إلى الحريّة، فالتخلّص من القيود كلّها مشروع نضال ومواجهة بينما التخلّص من المرأة عودة إلى أسر مثقل بالظلام: «كسرتُ كلّ قيودي / إلاكِ / لأنّني لا أريد التفريط بحريّتي».

«مكعّبات هيام» كتاب شعر وخواطر تتعدّد همومًا وإيحاءات، يدرج اسم حبيب فارس في دفتر الدنيا الحميم، والمخصّص لكلّ بوح جميل يجود به جرح يؤمن بالقصيدة جسرًا إلى الخلاص.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع