الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبثية ميلان كونديرا الرائعة

بسام البغدادي

2010 / 2 / 17
الادب والفن


مع صدى العزف الخافت للبيانو في الطابق الاسفل ينهي ميلان كونديرا روايته الهائلة, كائنٌ لا تحتمل خفته من ترجمة ماري طوقان و أصدار المركز الثقافي العربي. هذا الصدى المتواصل للعزف الخافت على مشاعر القارئ هو الصفة الملازمة لجميع كتب ميلان كونديرا, لكنها تتجلى كأحتلال الشمس الحارقة لصيف بغداد في هذا الكتاب الذي يتخطى ميلان فيه كل ما سبق و قام بكتابته, ولا أتمنى انها ستكون الاروع من بين كتاباته التي يخطها حتى هذا اليوم, لكنني لا أكاد أصدق بأنني قرأت كتاباً قادراً على مخاطبة العقل الباطن قبل ان يستوعب الوعي الكلمات التي تقرأها بمثل هذه الدقة و الحرفية التي لا يتمتع بها الا عمالقة الشعر في العالم. أنه الكتاب الاكثر أرهاباً للعواطف المجهولة و الاقوى عصفاً للافكار الساكنة.


الرائع في لذة القرآءة لميلان هي كل تلك الجواهر (المتفجرة) المكنونة و المنثورة بين صفحاته, سطور تقشعر لها الابدان في مدى صراحتها و صدقها و في مدى تعريتها للواقع المزيف الذي يغطي اعيننا, ليس هذا فحسب, بل يقوم ميلان نفسه بتعرية افكاره و (كلائشه) أكثر من مرة فاضحاً فخاخ الكاتب التي يقع فيها في انحنائات تثير البهجة و الذهول و الرغبة بالتوقف و ابتلاع للكلمات في نفس الوقت.

لنتابع معاً بعض تلك الآيات الميلانية الثمينة التي أستطعت ان أقتنصها في عالم كونديرا الرائع و المرعب في آن واحد. كل سطر من هذا يفضح حقيقة او تأريخ أراد كونديرا ايصالهُ لنا عبر فراغ الزمن الخفيف هذا على حد تعبيره.

في الحب:
(عن علاقة توماس بعشيقاته و حبيبته)
كان واقعاً في ورطة لا خلاص منها, ذلك أنه كان موسوماً في نظر عشيقاته بالوصمة الشائنة لحبه لها, و موسوماً في نظرها بالوصمة الشائنة لمغامراته مع عشيقاته.

(عن خوف توماس من احلام تيريزا الحزينة)
بإمكان الكواكب أن تتهاوى على اثر تفجير القنابل. و يمكن للوطن أن ينهبه كل يوم مختلس جديد, و يمكن لسكان الحي جميعهم أن يُساقوا الى كتيبة الاعدام. يمكنه أن يتحمل كل هذا بسهولة أكبر مما يجرؤ على القول, لكنه غير قادر على تحمل الحزن الذي يسببه حلم واحد من أحلامها.

(عن علاقة الحب بالجنس حسب وجهة نظر توماس)
أذا كان الهياج الجنسي آلية يتسلى بها الخالق, فان الحب, خلافاً لذلك لا ينتمي الا إلينا, و يمكننا من خلاله الافلات من قبضه الخالق. فالحب هو حريتنا, الحب هو ماوراء كل (ما ليس منه بد).

(عن علاقة الحب الغير متكافئة بين توماس و تيريزا)
في صميم أعماقها لامته دائماً على عدم محبته لها بما فيه الكفاية. كانت تعتبر حبها له فوق كل ملامة و لكن حبه لها كان تنازلاً بسيطاً.


في الحياة:
(في فرادة الحياة و عدم قدرتنا لتجربة أختياراتنا و مدى صلاحيتها)
يمكن لأي طالب خلال قيامه بالتمارين العملية للفيزياء أن يجري تجارب معينة لإثبات صحة الافتراض العلمي. أما الانسان فلا يملك غير حياة واحدة ولا يملك أية إمكانية لأثبات الافتراض عبر التجربة, لذلك فهو لا يعرف أن كان على حق أم لا عندما يمتثل لشعوره.

(عن الروح و من أين نشأت)
قديماً, كان الإنسان يسمع بدهشة هذا الضرب المنتظم الذي يأتيه من عمق صدره, و يتسآءل عما يكون. لم يكن بأمكانه ان يعدّ نفسهُ مماثلاً لشئ مجهول و غريب أسمهُ الجسد. كان الجسد بمثابة قفص, في داخله شئ ما ينظر و يسمع و يخاف و يفكر و يدهش. وهذا الشئ, هذه البقية الباقية, هذه النتيجة الحاصلة عن الجسد, هو الروح.

في الإنسان:
(عن علاقة الانسان بغيره من الكائنات)
الطيبة الحقيقية للأنسان لا يمكن أن تظهر في كل نقائها و حريتها إلا حيال هؤلاء الذين لا يمثلون أية قوة. فالامتحان الاخلاقي للإنسانية هو في تلك العلاقات التي تقيمها مع من هم تحت رحمتها. أي الحيوانات. و هنا بالذات يكمن الاخفاق الجوهري للأنسان, و الإخفاق الذي تنتج عنه كل الإخفاقات الاخرى.

في الانظمة الشمولية:
(عن الاشخاص القابعين في رأس و مفاصل الانظمة الشمولية)
الأنظمة المجرمة لم ينشأها أناس مجرمون و أنما أناس متحمسون و مقتنعون بأنهم وجدوا الطريق الوحيد الذي يؤدي الى الجنة. فأخذو يدافعون ببسالة عن هذا الطريق, ومن أجل هذا قاموا بأعدام الكثيرين. ثم, فيما بعد, أصبح جلياً أن الجنة ليست موجودة و أن المتحمسين كانوا أذن مجرد سفاحين.

(عن أساليب الافكار و الانظمة الشمولية)
ينصبون للناس فخاخاً ليستعبدوهم و يستغلوهم لنصب فخاخ للآخرين. وهكذا دواليك, حتى يجعلو شعباً بأكمله منظمة هائلة من المخبرين.

(في وصف الدول و الانظمة الشمولية)
في الممالك النموذجية الشمولية تعطى الاجابات مسبقاً محرمة بذلك أي سوآل جديد. ينتج عن ذلك أن الانسان الذي يتساءل هو العدو الحقيقي لـ(النموذجية). السوآل يصبح مثل السكين التي تمزق القماشة المرسومة للديكور فيصبح من المستطاع رؤية ما يختبئ خلفها.

(في القوة و الضعف)
كلنا نميل لأن نرى في القوة مذنباً وفي الضعف ضحية بريئة.

ختاماً, فان كتاب ميلان كونديرا هذا يحمل رسالة واضحة تصع القارئ بعد أن يغلق الصفحة الاخيرة من الكتاب الذي يتمنى القارئ ان لا ينتهي ابداً. فبعد أن أستدركت الصدمة النفسية و العاطفية التي يصاب بها كل قارئ لهذا الكتاب فهمت ان الحياة, حياتنا, عبارة عن مجموعة من الصدف العبثية المتتالية و تعطشنا لأيجاد معنى أو غاية لكل هذه العبثية يدفعنا لأفتراض غاية او هدف او رسالة نحملها على أعناقنا العمر كله و نجاهد من أجلها لتبرير المزيد من الصدف او لأنتاجها. لكننا في نهاية الطريق سنعرف, باننا ما سوى خلاصة مجموعة من الصدف, ابتدأت بحيمن وحيد بين ملايين من الحيامن تساعده الصدفة و درجة الحرارة و الوقت للدخول في بويضة جاهزة في جسد امهاتنا, حتى آخر نفس في حياتنا و الذي يخرج كلياً بمحض الصدفة كي يضع حداً لهذه السلسلة العبثية من الصدف الشخصية الفاقدة لكل معنى او غاية, كي نكون جزءاً من مهرجان الصدفة الكونية اللامنتهي, و ليتكرر كل شئ من جديد الى المالانهاية. أنها فكرة العود الابدي لنيتشيه الذي يبتدأ فيها كونديرا روايته, لينهيها على صدى العزف الخافت, ليستمر هذا العزف في رؤسنا. و ليستمر الكون من بعدنا على لحنه الازلي.

لن أتمنى لكم قرآءة ممتعة, لان قرآءة كونديرا ليست ممتعة, بل هي اشبه بكابوس نتمنى ان لا ينتهي, اشبه بالدوار المتواصل (الدوار هو الشعور بلذة السقوط من أماكن عاليه).

بسام البغدادي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
سيمون خوري ( 2010 / 2 / 17 - 04:05 )
أخي بسام المحترم ، تحية شكراً لعرضك الرائع للكتاب مع أني أتمنى أن يقرأه أكبر عدد ممكن من الناس ربما الصدمةعامل إيقاظ للتفكير بالذات والى أين وصلت . مع التحية لك .


2 - ??
غادة السرحان ( 2012 / 1 / 22 - 21:04 )
مرحبا
هل لي ان اعلم ما اسم هذه الروايه
لكم جزيل الشكر

اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع