الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
غسق الكراكي: قراءة تأويلية في العنوان
مؤيد سامي
2010 / 4 / 7الادب والفن
ان للعنوان أثراً كبيراً على القارئ فهو ما أن يصطدم بالعنوان للمرة الاولى حتى يبدأ أولى محاولاته التأويلية في معرفة النص. وذلك لأن العنوان(( ليس عبارة لغوية منقطعة او إشارة مكتفية بذاتها بل هو دائماً مفتاح تأويلي أساسي لفك مغاليق النص، وعندئذ، حين يحسن المتلقي إستعماله، تتلألأ أمام عينيه كنوز القصة ونفائسها وتنبسط تحت قدميه، في طواعية، ارضها الملأى بالأسرار))"1"
كما أن الكاتب عندما يختار عنواناً فإنه يقصد توجيه القارئ نحو المجال الدلالي لنصه، منيراً وكاشفاً كالثريا كما يرى جاك ديريدا"2" أو مطلاً على النص من عليائه كما يرى بعض اللغويين العرب القدماء عندما سمّوا العنوان علواناً.
وكما يقول الاستاذ محمود عبد الوهاب في كتابه((ثريا النص)) فإن (إختيار عنوان رواية أو قصة ما، ليس عملاً شكلياً أو اجرائياً معزولا عن نصه، إنما هو دلالة منتزعة من صميمه)"3" وكما في القول الشائع فإن الكتاب يقرأ من عنوانه ولا شك أن ذهن القارئ يبقى منشغلاً بالبحث عن مدى التطابق ما بين عنوان القصة ومحتواها ومدى تحقق ذاك التطابق. وإذا كان هذا الكلام يصح على أي كتاب فإن صنعة العنوان في ميدان الرواية تكون أصعب، وذاك لأنك عندما تقرأ كتاباً علمياً فإن تصوراً صحيحاً عن متن الكتاب يمكنك ان تكونه من خلال العنوان، فمثلاً عندما نقرأ عنواناً كـ (تاريخ الأدب العربي في العصر الجاهلي) فإن حدودا معينة للموضوع تصبح ملزمة للكاتب لايتعداها كما أننا لن نرجع للعنوان مرة أخرى عندما نقرأ الكتاب وذلك لأنه أدى غرضه وكشف نفسه وحققها منذ البداية.
فهل أن عنوانا لنص أدبي كغسق الكراكي، مثلا، يستطيع أن يفعل ذلك؟
هذا ما سنحاول التعرف عليه في الوريقات التالية.
يتألف هذا العنوان من كلمتين تحيلنا الأولى الى وقت معين من اليوم هو أول ظلمة الليل فإذا حل الليل وأظلم صار غاسقا كما في القرآن الكريم(ومن شر غاسق إذا وقب) وهذا أشهر مكان ذكرت فيه مفردة الغسق النادرة الإستعمال، والتي غالبا ما نقرأها معرّفة وغير مضافة الى مفردة أخرى، إلا أن مرادفاتها والمفردات القريبة منها كالغروب والمغيب والغياب والأصيل والشفق أكثر تداولاً رغم أنها بدأت تنتشر مؤخراً وفي الشعر بخاصة. وهذه المفردة ومرادفاتها عموما مرتبطة بمشاعر حزينة ومثيرة للعواطف والاشجان ومرتبطة بمدلولها القرآني المقترن بحدوث الشر والاعمال السيئة، فحيث ينتهي النهار بمباهجه وأنواره وأنشطته الدؤوبة ويختفي قرص الشمس موشحاً بحمرة دامية فكأنه ضحية لظلام الليل القادم الذي انتصر، ولو مؤقتاً، في صراعه الأبدي مع النور، حيث ستنسحب الحياة الى مكامنها الليلية.. ويتضاءل النشاط وتقل الحركة ويلجأ الناس الى أماكن مضاءة لكي لايستسلموا لظلام الليل وما يخبئه من شرور..
وبالتأكيد فإننا نستطيع ان نلاحظ ان الإمكانيات التأويلية لهذه المفردة كثيرة.. ولا تقتصر على ما ذكرناه.. وإن القارئ يحتار ازاءها أي معنى يختار.. إلا أن القارئ التعاضدي، على حد تعبير أومبرتو ايكو، سيلجأ الى الامكانيات التي تدعم الدلالات الأصلية للنص.. وهو إذ يرى.. اقصد إيكو. أن العنوان( ينبغي أن يشوش الأفكار) (لا أن يوحدها)"4" يرمي الى ايجاد دور اكبر للقارئ في انتاج النص وتأويله.. إلا أن القاص هنا. وكما يبدو آثر ان يساعد القارئ على تحديد دلالة النص ومجال التأويل وإعطاء العنوان آفاقاً دلالية أوسع وذلك بإضافته الى مفردة ثانية وهي الكراكي.
وهذه المفردة تشبه الغسق في ندرتها ولكنها تختلف عنها في كونها تعتمد في دلالتها على الموروث الشعبي العامي رغم فصاحتها فالقارئ يلجأ الى الموروث الشعبي الشفاهي في تأويله في حين ان مفردة الغسق تعود الى جذور موغلة في التراث العربي الفصيح وربما كان هذا التقابل هو أحد أسباب الجاذبية والشاعرية في هذا العنوان.
الكركي طائر مهاجر تشاهد أسرابه عند حلول المساء(وقت الغسق) وهو من أشد الطيور حذراً ويحلق عالياً في السماء، ويقول العارفون بأمره( أنه يستطيع أن يرى الفخاخ المنصوبة له "النوجة" وهو في أعالي السماء فلا يحطّ في ذلك المكان.. لذلك يصعب صيده.. وهو في حجم الأوز تفريباً ورأسه أكثر إرتفاعاً.. كما أن لحمه لذيذ.. وهو يأتي شتاءاً من المناطق الشمالية الباردة الى الأجزاء البرية من منطقة ديالى ليقضي فيها موسم الشتاء.. لذلك فإن سكان هذه المناطق، ومنها السعدية، يعرفون الكركي.. ولست أذكر من أي زمن علقت (العتابة) التالية في ذاكرتي ولم تغادرها مع الذين غادروا من كائنات الذاكرة.. والتي أراها قريبة من ذاكرة أبطال الرواية وصانعها.. تقول العتابة:
يكركي وين ديرتنا واهلنـه
ولاطارش يـوصلنه لـهلنـه
خـطوط سـود دزينة لـهلنـه
ولا من يرجع لـنـا الـجواب
فالكركي في الذاكرة الشعبية طائر نبيل يبثه القائل المجهول والغريب أحزانه لأنه مهاجر مثله، وربما كان القائل غريبا في بلاد شمالية نائية رأى كركياً متجهاً صوب الجنوب فأراد أن يحمّله رسالة الى(الديرة) والأهل وذلك بعد ان عز (الطارش) ولا أحد يدري بمصير(الخطوط السود) التي أرسلها وليس ثمة من يرد الجواب.. وقد يكون القائل، في الحقيقة، أحد المجندين العراقيين في القوات العثمانية في الحرب العالمية الأولى وهم يحاربون على حدود الإمبراطورية الشمالية ضد الروس في بلاد القفقاس. وهو إذ يرى الكركي يكاد يعرفه فيسائله بلوعه وأسى.. أين أهلنا وديرتنا أيها الكركي؟ وربما كان يأمل أن يحمله رسالة لهم.
ولكي لا نستطرد كثيراً في الاغراءات التأويلية لهذه المفردة المجنحة فإننا نتوقف لنرى كيف أن هذه المفردة النادرة محملة بالأسى والشجن والمشاعر المتناقضة والحنين، فمن الأمل بالعودة، الى اليأس منها. ومن ديار الأهل الى ديار الغربة... فماذا سيحدث لو ان هذه المفردة إجتمعت مع المفردة الأولى- الغسق- وهما محملتان بهذا القدر من الغموض الشفاف والإيحاءات المتعددة؟
إن الناتج بلا شك هو إستعارة شفافة ورقيقة وموحية.. فغسق الكراكي هو ذلك الوقت الذي نشاهد فيه هذه الطير، وهي ترحل وتبتعد مختفية في ظلام الليل الزاحف.. وهي كإستعارة، ذلك الوقت الذي نودع فيه الأصدقاء والأحبة وهم يرحلون الى ليل الأبدية الرهيب وظلام الموت.. إلا أن وجود الكراكي يجعلنا نحلم ونأمل بعودة آخرى بموسم آخر وأمل آخر.. إن من ذهب سيعود حتماً، مثلما الكراكي التي لا بدّ أن تعود.. وان من تأخر منها سيظل مكانه فارغاً في السرب حتى يلتحق به..
إلى هنا ونحن ما زلنا عند باب النصّ.. لم نتأكد بعد من تحقق العنوان في النصّ وما زلنا لا ندري إن كان هذا العنوان هو ثريا النصّ حقاً، وإن كان دلالة منتزعة من صميم النصّ أو شيء آخر.. فكمال، بطل هذه القصة، انتزع من طفولته ومن أهله، منذ الحريق الذي أتى على أمه وأخته، فأصبح غريباً ومهاجراً عما حوله، وظلّ هذا الاحساس يلاحقه، فلا غرابة أن يقول في أوراقه ( أغمضت عيني تحت تأثير بقايا النعاس فحلّق سرب من الكراكي.. صعّدت نظري إليه وهو يغور في الزرقة المرمدة ويتلاشى في الشفق الكامد فامتلأت بالأسى.. كان السرب الراحل يستجيب لغواية موسم آخر وغامض في مكان بعيد بعيد.. تلك كانت رؤياي).
فهو يعلن هنا بوضوح إنتماءه لسرب الكراكي المهاجرة.. وهو محمل برؤيا المصير الذي سيصير اليه.. ان يهاجر ويرحل ليلتحق بذلك السرب الذي هو عائلته التي أخذها الحريق.. وهو يقول لصديقه نبيل(صدقني يا نبيل أنا الآن مثل طائر الكركي، حل موسم هجرته ولم يرحل فبقي وحيداً، غريباً).
فكمال هنا أقرب ما يكون الى البطل المأساوي الذي يعرف مصيره ويسير نحوه وإن كانت هذه المعرفة على شكل رؤيا أو إحساس يتملكانه فمثلما هو محتم على الكراكي ان تهاجر كذلك هو لابد ان يهاجر ليلتحق بسرب الكراكي الذي ينتمي إليه.. وبالتالي فإن المصير الذي يختاره هو مصير مأساوي أكثر منه بطولياً وهو ما حاول الروائي إقناعنا به ولم نقتنع وذلك لأن قراءتنا التأويلية التعاضدية للعنوان قد كشفت لنا عن المجال الدلالي الأكثر تأثيراً للرواية وهو مجال القدر المأساوي للبطل المحكوم بالهجرة والرحيل والإلتحاق بالسرب.
ونلاحظ ان ورود مفردة الكراكي على لسان كمال هي التي أوحت لكاتب روايته محمد سعيد، وبالاحرى سعد محمد رحيم، بالإستعارة المناسبة والعنوان الملائم للرواية. وقد كان يحس قبلها بقرب كمال من الطير. وعندما يتحدث عنه نراه يذكر نسق الطيور الجميل مرة ويذكر النورس وطيور الوز. ثم وفي إشارة جميلة جداً يقول محمد سعيد(كان كمال هكذا لامصادفة.. لا إختياراً بل طبيعياً ومحتماً كما اللقالق التي لا تهاجر أبدا الا في موسم الهجرة، وفي غفلة منا)"7" فمحمد سعيد يقترب، هنا كثيرا من رؤيا كمال إلا أنه لم يتوصل بعد الى خيار كمال وإستعارته المثلى وهي الكراكي.. إلا بعد ان يقرأ أوراق كمال حيث يصرح بالعنوان مباشرة عندما يقول(وتضرج الكركي بدم الغسق)"8" مثلما سيكون مصير كمال وهو يتضرج بدمه كي يلتحق بسرمه محققا ً بذلك حريته ورافضاً لمنفاه بعيداً عن السرب وكما يقول هو(أما الكراكي فعصية على النفي، إنها تهاجر أبدا ً وتعود مثقلة بعبء الإحساس بالحرية، شرط الحياة النادرة)"9" وهو يختار الموت على حياة فاقدة لشرطها النادر حسب تعبيره..
وهكذا نرى ان العنوان تطابق كثيرا مع دلالات النص الأصلية إلا ان الالتزامات الخارجية للنص- إذا جاز لنا ان نقول هذا- قد منحته دلالات اخرى شوّشت نسبيا على شفافية هذه العلاقة ورغم ذلك نستطيع ان نقول ان العنوان كان موفقاً ومحققاً لأهدافه في كشف وإنارة دلالات النص الأصلية. مع إحتفاظه بغموض وقدرة إيحائية هي سر جاذبيته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1،2،3،4- ثريا النص، مدخل لدراسة العنوان الأدبي/ محمود عبد الوهاب/ الموسوعة الصغيرة رقم 396 بغداد 1995 الصفحات 31، 10، 74 ، 77
5،6،7،8،9- غسق الكراكي- سعد محمد رحيم- بغداد 2000 /الصفحات 137، 72،52، 118، 53
* العتابة أو العتابا: نمط من الشعر الشعبي في العراق يتكون من ثلاثة أشطر موحدة القافية أو كلمة النهاية تنتهي بالبيت الرابع ويسمى القفل.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. عاجل .. وفاة الفنان عادل الفار بعد صراع مع المرض
.. شقيق عادل الفار: الفنان محجوز فى العناية المركزة وحالته خطرة
.. #شاهد من وسط معاناة النزوح.. أطفال غزة يعزفون الموسيقى في مش
.. الفنانة سلاف فواخرجى: أى ممثل يهمه عرض أعماله في مهرجان عريق
.. سحر المواقع المصرية كلمة السر.. 3 أفلام عالمية تراهن على الن