الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين الرسم والشعر

هاشم تايه

2010 / 10 / 3
الادب والفن


بكثير من الشقاء أقول لنفسي:
- لماذا الشعر؟
فيأتيني الجواب من غرفة تلك النفس ماكراً ومُبرِّراً:
- إنّه الحلم ليس بوسعك أن تسدّ بوجهه الباب!
هل تكفيني، أنا الرسّام الصّموت، هذه العبارة، الورطة، لأحمل نفسي في (عربة النهار)، وأمضي إلى الشعر؟
هل أجد مفرّاً من الإجابة بـ (نعم) وقد ركبتُ العربة؟
(نعم) لا مناص منها من أجل أن أمضي متطفلاً على الشعر زاعماً لنفسي بأن الكلمات ستعمّقُ ظلّي في الرّسم، وتُوسّعُ تعريفي، وتُرسّخ قدمي في الفن على تعدد صوره وتنوّعها، ففي الرّسم من الحيويّ للرّسّام أن يختزن في داخله بعض قوى الشّاعر، يقظة الحواس، ورهافة الإحساس، وعمق النظرة، واتقاد الروح. إنّني، ماثلاً أمامكم الآن بأثقال ما أتحدّث فيه، أودّ لو صفعتُ مزاعمي تلك، وأخرستُها إلى الأبد، ومن أجل هذا سأكفّ عن المضيّ إلى القول بأنّ سرّ ذهابي إلى الشعر يكمن في أن ما كتبته بالكلمات لم أكن قادراً على رسمه بخطوط وألوان، على ما في هذا القول من قوّة لدى كثيرين.
ولكن الرّسّام الذي قالت له روحه التائهة لا بأس عليك، أنا من قادكَ إلى الشعر، وقال له الشعر بلسان شاعر إيرانيّ معاصر: أنا من رآك، وأمسك بك، هذا الرّسّام كم تسرّهُ ظاهرة تبادل المصالح الجارية أبداً بين الشعر والرسم، التي انتهت في بعض التجارب إلى عقد قِران، وزواج، وسكنى في بيت واحد يجمع كلاً من الرسم والشعر.
من يستطيع أن ينكر اليوم ذهاب الرسم في الشعر، ونزول الشعر في الرّسم؟ من يقدر على دحض جوهر عملهما المشترك القائم على الرؤية والتشكيل؟ أليس هناك من أطلق على ضرب من الشعر ذي نزعة تصويريّة بالشعر التشكيليّ؟
إنّ الرسم والشعر عاشا في وفاق دوماً، وفي صداقة يُغبطان عليها، في أغلب الحضارات، وفي صلة لا تتقطّع أسبابها، وتعلّم أحدهما من الآخر، وما يزالان يتجاوران، أو يتداخلان، ويلتصقان ببعضهما كتوأمين يحكي أحدهما حكاية الآخر بمتعة. وفي محترفات الرّسّامين اعتاد الشعراء أن يسكروا بين اللوحات، وعلى أغلفة كتبهم طبعوا لوحات أقرانهم، بعد أن رصّعوا صفحاتها بتخطيطاتهم.
وأعتقد، وأرجو ألاّ أكون مخطئاً، بأنّ الشاعر لو خرج من بيته، وخُيِّر بين زيارة لشاعر، أو زيارة لرسّام، فأظنه، في الأغلب، سيختار زيارة الأخير، ليس لأنه سيجد فيه معالجه من المرض، ولكنه سيعثر في مشغله على جوهر عمله كشاعر.
أظنّني، الآن، أوشك على أن أصفق لنفسي، وأصدع مجازفاً بالقول مع كثيرين إن الشعر في جوهره هو الرسم، وإن الشاعر هو الرّسّام قبل أن يتعلّم النطق، وبعد أن يتعلمه، وأن النصائح التي تُقدَّم للشاعر، لكي يمهر في صناعته، يأتي كثير منها من حقل الرسم.
إنّ تيّارات عديدة تدفقت على سطوح الرسم، وسرعان ما جرت مياهها في أنهار الشعر، وكستْها بألوانها.
وما قيل، هنا وهناك، بهذا الشأن يجعلنا نتفهّم الحماس المتبصّر الذي كتب به شعراء في أعمال رسّامين. وكم من لوحة تولّدت منها قصيدة لشاعر، أو قصّة لقاص.
وربّما غدا واضحاً الآن أنني هنا أحاول أن أدعم وجودي كرسّام في ذرة صغيرة تائهة في فضاء الشعر من خلال " الصلة الجوهرية الضرورية التي تجمع بين الرسم والشعر القائمة على الرؤية" كما يقول فرانكلين روجرز في كتابه (الشعر والرسم) الذي ينقل عن كاتب شغف بالرسم قوله وهو يجيب عمّا إذا كانت ممارسته الرسم قد ساعدته في كتاباته: إنّ "عادة التفكير بالأشياء بصيغة التشكيل والتصوير لا بد أن يكون لها تأثيرها في فن الكاتب حين يقوم بممارسة الاثنين. فأنا أرى والشيء الأول والأخير الذي أقوم به هو استخدام عيني".
وينقل روجز، في مؤلفه السابق، عن جيروترويد شتاين قولها إنني ككاتبة، أكتب بعيني.
وقد سمعت من القاص محمود عبد الوهاب قوله عن بعض تصوّره للقصّة بأنها ليست استيقظ ونهض وخرج ومشى، وإنما هي عبارة عن مشاهد، بما تعني كلمة مشاهد لديه من صور يرسمها الكاتب.
أو كما وصف لنا انطلاقته في (عابر استثنائي) من صورة سيدة رآها تحمل شجيرة ظلّ، وكيف بنى على أساس رؤيته هذه الصورة فكرة قصّته بعد أن عدّل من الصورة كثيراً، وكانت النتيجة صورة فنيّة محوّرة عميقة الدلالة، بالغة التأثير.
وبرأي فرانكلين روجرز فإنّ الرّؤية- منطلقَ كلّ من الرسام والشاعر- تجد أساسها لدى كليهما في ما يسمّيه بـ (الإدراك الحسّي التحويلي) الذي يجري بمقتضاه تحويل عناصر منتقاة من صورة مشوشة تحضر أمام العين إلى ما يُشكّل صورة أخرى تحفزها صور الذاكرة المختزنة بدعم من المخيلة.
وبناء على هذا يمكن وصف العملية التي ينجز بها كل من الرسم والشعر نفسيهما بهذا النحو: تبزغ صورة ما فيجري إدراكها حسيّاً، وسرعان ما تُرى فيها عناصر قويّة جاذبة تصبح مادة أوليّة لعمل المخيلة فتصنع منها بمساعدة الذاكرة والخبرة صورة فنية تكون هي الأخرى مادة لعمل قوى الفنان والشاعر التي تستبدل عناصر فيها بعناصر أكثر حيويّة ورقيّاً بمعايير جماليّة، وهكذا يمضي العمل بسلسلة استبدالات تقترحها المخيلة وترافقها عمليات حذف وتعديل أو إضافة يتمّ تبنيها، أو الإعراض عنها، وتكون النهاية كياناً فنيّاً يقف على طرف أقصى من الاكتمال.
ولست أدري لماذا أظنّ العمل الفنيّ المكتمل مثل شخص يقف على حافة هاوية، وكأنه يحاول الانتحار، وشيء ما يمسك به، ويُبقيه على حافة هاويته، ولعلّ هذا الشيء هو الخيال الذي يدفع مخلوقاته على طريق الانتحار، ويضطرها في النهاية إلى أن تكفّ عنه وهي على شفا حفرة منه...
ولعلّ ما يجعل الشعر والرسم قريبيْن من بعضهما تمركزهما في الانشغال بقيم التشكيل الجمالي لعناصرهما الأساسيّة..
ومثلما يفعل الرّسام أحياناً بالتهيئة لعمله عن طريق وضع مواد معينة بعشوائية على سطحه التصويري تحفزه صور ما، وتكون انطلاقته من داخلها، كذلك يضع الشاعر على صفحته بضع كلمات يطلقها ما يعرض له من صور أو انطباعات، وتصبح هذه المواد عجائن لعمل قوى اللاشعور والذاكرة والخيال، وممّا بدا أنه لا قصد يتبلور قصد، ويخترع كيانه وحياته.
وأظن الرسام والشاعر يشعران، في كثير من الأحيان، بأن كثيرا من النتائج التي يحصلان عليها مع آخر لمسة قد أنتجتها قوى العمل، أو ممكنات موادهما، وطاقاتها، أو تكيّفات تلكم المواد التي تبدو وكأنها تعمل مستقلة، فتنافس قوى الفنان، وتطلق مبادراتها بحيويّة تثير دهشته بما لم يكن يتوقعه. ولعلّه من حسن حظوظنا جميعا أن تنطوي مواد عملنا على مثل هذه الطاقة العجيبة التي تشجّعني على المجازفة بالقول إنّ نصف العمل الفنّي يعود للفنان ونصفه الآخر يعود لمادة عمله..
إنّك بمجرد أن تضع على سطح لوحة خطاً ما فسيدهشك أن ذلك الخط قد اكتسب حياة، وصارت له طاقة، واستقلّ بمطالب هي غير مطالبك، وسوف تجد نفسك مضطراً إلى أن تتحرّك على وفق مطالبه في كثير من الأحيان، فتجلب له ما يشاء من خطوط، وإلاّ فإنه سيفسد عليك عملك. وبمجرّد أن تجلب إلى قصيدتك كلمة جديدة فإنك تصبح أمام معضلة كبرى، لأن الكلمة التي نزلت توّاً قد تبعثر كلماتك السّابقة كلّها إن لم تطح بها، وسوف تجدها تستحضر الكلمات التي تريدها أن تعمل لحسابها الخاص وحده..
شيءٌ من طبيعة الحياة التي أنجزت نفسها بنفسها موجودٌ أيضا في العمل الفنيّ الذي ما أن تسري في أعضائه أولى أنفاس الحياة حتى يصبح قادراً على تغذية نفسه بنفسه، وتنمية رصيده من الحياة، والمباشرة بإغناء كيانه بكلّ ما يدعم تكامله، وفرادته، واستقلاله بحياة خاصة تعلن هوّيته ...
وعلى أساس إحساسهما بجوهرهما المشترك راح الرسم يتدخل في حياة الشعر، ومضى الشعر يتدخل في حياة الرسم، وصار بإمكانهما أن يأتلفا في نص مشترك على سطح جامع تتفاعل فيه قواهما ووسائلهما، وتتحاوران صانعتيْن دراما مشتركة من الكلمات والخطوط والألوان. وإذن غدا ممكناً تحقيق تداخل، أو دمج مثاليين بين الرسم والشعر في فضاء موحد يسمح بتعميق تضافر عناصرهما الأساسية عن طريق تطويع الكلمات، وتحويلها إلى أشكال مرسومة على سطح تصويريّ.
وأظنكم توافقونني على أن شكل الخط يؤثر في تلقي القصيدة، فهي بخط شاعرها غيرها مطبوعة على الورق، وهي غير هذه وتلك بأشكال خطوط مختلفة.
شيء ممّا ذكرناه تحقق في بعض تجارب الرسام العراقي ضياء العزاوي بإقدامه على تحويل عدد من نصوص شعرنا القديم إلى نصوص مرئية، وكأنه أعاد كتابتها بالرسم. أو كما فعل شعراء سرياليون أوربيون طوّعوا الكلمات فتشكّلت في صور أشياء وكائنات.
وتظل تجارب العزاوي ونظرائه تخلق شكلاً هجيناً يتعيّن الحكم له أو عليه بهذا الاعتبار، من أجل أن نرى إلى أي حدّ أفاد الرسم والشعر من توحّدهما، وإلى أيّ مدى أضرّا بمصالحهما...
تؤرقني تصورات يحسن بي أن أصوغها في أسئلة من قبيل الاحتراس، فيقيني فيها مزعزع:
هل هناك جوهر هندسيّ يعمل في كلّ من الشعر والرسم؟
مَن يتمتع بحرية أكبر من نظيره؟ الشاعر أم الرّسّام في مراوغة موضوعه، والإفلات من إطاره، وكسر حدوده؟ هل تحتفظ اللغة البَصَريّة وحدها بقدرتها على التعبير مجردة عن موضوع معيّن، فتتشكّل في تكوين جماليّ غايته إنشاء علاقات جمالية خالصة مكتفية بذواتها، ويظلّ، بهذا الاعتبار، أثراً فنيّاً قادراً على التأثير؟
هل فرصة الرسام، الذي يعمل على مساحة زاخرة بالأشكال والخطوط والألوان، أكبر في الاستمتاع- الاستمتاع الحسيّ خصوصا- بمنتج عمله من فرصة قرينه الشاعر؟ هل لهذا السبب يمكن أن يُحتفى بلوحة تعلّق على جدار، لأنّها لا تخلو من طابع تزييني حتّى لو كانت (صرخة) التعبيري مونش بألوانها الكئيبة؟ في حين يندر أن يعلّق أحد قصيدة على حائطه.
يبدو أن استفادة الرّسّام من السطح الذي ينجز عليه أثره الفنيّ أكبر من استفادة قرينه الشاعر من سطح الورقة الذي ترتسم فوقه كلماته؛ فالسطح التصويري قابل لأن يُستثار بأكثر من مادة تكفل له الانخراط في علاقات حيويّة مع بقية عناصر العمل، كما صار ممكنا في كثير من التجارب الحديثة تنويع هذا السطح، وكسر حدوده، وإطلاق مادته خارج فضائه، في حين مايزال السطح الشعريّ محايداً، بارداً، بعيداً عن الاكتراث بما يجري عليه، مستقلاً ببروده الأبكم عن أية وظيفة يُثمر بها. فهل هناك إمكانية، وبأيّة كيفية، يكون ممكناً تفعيل السطح الشعريّ بما يدخله في عضويّة النصّ؟
يبني النص الشعري كيانه في ذهن متلقّيه عبر التراكم أفقيّاً وعموديأً، ويضطر هذا المتلقّي إلى الهبوط على درجات سُلّم تحوّلات أحوال النص الشعري متنقلاً من سطرٍ إلى آخر، ومن سطح صفحة إلى سطح أخرى، جامعاً ما حصده على كل درجة، ضامّاً إيّاه إلى ما سواه، أيّ أن الأفعال والنتائج وردود الأفعال تجري هنا على دفعات، فهل أنّ النص البصري في اللوحة يجري تلقّيه من قبل مشاهده دفعةً واحدة بجرعة كبيرة لا بجرعات صغيرة؟
في ضوء قراءة النص التي تبدأ عادة من أعلى هل يمكن للشاعر أن يتحكّم بوضع مركز لنصّه في أيّ مكان على جسد قصيدته بحيث تكون انطلاقة قارئه من ذلك المركز، كما هو الشأن بالنسبة إلى الرّسّام الذي تتوفر له إمكانية أن يضع مركز نصّه البصري حيث يشاء على سطحه.. في أعلاه، أو أو أسفله، في وسطه، أو في أية زاوية من زواياه، بحيث يستطيع أن يتحكّم بجذب عين المشاهد، وإرغامه على أن يبدأ انطلاقته من المكان الذي يرغب فيه؟
يعمل الرّسّام في ورشة خاصّة، ويستخدم أدوات ومواد متنوعة، وعمله يتطلّب منه الاحتراس ليتفادى الخلل، وكأنّه يقطع ثلاثة أرباع المسافة يقظاً لكي يبلغ النهاية. فهل يقطع الشاعر ثلاثة أرباع مسافته وهو نصف نائم، نصف يقظ؟
إنني أنظر الآن إلى كل نص كتبته فلا أرى في جسده الذاهب هنا، الذاهب هناك إلاّ ذلك الشيء الخفيّ الذي سطع برهةً ثم اختفى، ذلك الشيء الذي اخترق ضوؤه الخاطف كياني، إنني أراه الآن في كل نصّ ملتماً على نفسه، غريباً ضائعاً بين كلمات لا تعرف عنه شيئاً، ولا تمتّ إليه بصلة، ذلك اللّبّ المتكتم السجين بين الأصوات، المحزون بسبب غربته عن وطنه.
• (عربة النهار) كتاب شعري صدر للكاتب بدعم اتحاد أدباء البصرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - فسحه من جمال
سرور العراقي ( 2010 / 10 / 3 - 11:38 )
رائع وفقتم الى المزيد

اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع