الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
العالم العربي من ديمقراطية متعثرة لحكامة منشودة
ابراهيم ابراش
2011 / 1 / 17اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
مقدمة
باتت الديمقراطية في عصرنا وكأنها ترياق الحياة للشعوب والأنظمة،والطريق الذي لا محيد عنه للتنمية والتحديث والتطور وكل ما هو نقيض التخلف والفقر والاستبداد،ليس لأنها كذلك بالضرورة ولا لأن البعض قال بنظرية نهاية التاريخ وأوقف التاريخ السياسي عند حد الديمقراطية والليبرالية الغربية الذي ما بعده إلا العدم أو شريعة الغاب، بل لأن ساحة الوغى في الفكر و الممارسة السياسية لم تشهد منذ انهيار المعسكر الاشتراكي وقبله الفاشية والنازية،منافسا جديدا للديمقراطية كنظام حكم. فلم نلمس نمطا جديدا للحكم غير الديمقراطية أو التشبه بها،ولم نقرأ لمفكر أو كاتب تنظيرا لفكر جديد بديلا للديمقراطية،باستثناء نقاد غربيين للديمقراطية ينتقدونها ولكن من داخل ثقافتها وقيمها، أو نقاش مخضرم حول البديل الإسلامي لم يجد تطبيقا ناجحا يدعمه، أو بقايا أنظمة ما زالت تتمسك بآخر خيوط الشمولية.
من مفارقات المشهد الديمقراطي انه بالرغم من أن الديمقراطية تعني حكم الشعب فأنها في العالم العربي مطلب نخبة وإن وُجِدت فهي حكم نخبة، فيما الشعب مجرد جموع توظفها النخب والجماعات المتصارعة على السلطة ومغانمها أو منشغلة بأنشطة سياسية بعيدة عن الممارسة الديمقراطية وثقافتها ،كالانخراط بالجماعات الأصولية وبالجماعات الطائفية والإثنية المغلقة ،ومن المفارقات أيضا أن هامش الحرية الذي أتاحه التحول الديمقراطي بدلا من أن يعزز المواطنة أحيا وعزز القبلية والطائفية والإثنية وكأن الديمقراطية كانت الرياح التي ذرت الرماد عن جمر انتماءات ما قبل الدولة.حيث ثبت صعوبة تجاوز انتماءات ما قبل الدولة فيمكن التعامل مع الحكامة أو الحكم الصالح كنظام أمثل إن كان لا يتطابق مع استحقاقات الديمقراطية فإنه يستلهم روحها آخذا بعين الاعتبار الخصوصيات الثقافية ،مما يدفعنا للقول بأن شعوبنا تحتاج للحكم الصالح وليس للديمقراطية .مع ذلك ما زالت الديمقراطية الايدولوجيا والمؤسسات الأكثر قبولا والأكثر انتشارا .قد تكون السمعة الطيبة التي راجت عن الديمقراطية والمستمَدة غالبا من مستوى الرفاهية التي تعرفه الديمقراطيات الغربية، هو ما جعل شعوب دول الجنوب الفقيرة و التي عانت طويلا من الاستبداد والظلم تتطلع للديمقراطية كمُّخلص ليس من الاستبداد فحسب بل من الفقر أيضا .
الفصل الأول
الديمقراطية :ثباتها لغويا وتغيرها مفهوميا واغترابها ممارسة
كقانون عام يوجد تفاوت ما بين الفكر والواقع أو بين تصور الشيء وحقيقته المستمدة من الواقع أو تثبته الممارسة، وقياسا هناك تباين كبير بين تصور الديمقراطية وواقعها كممارسة.فقد وقَرَ بالعقل السياسي الشعبي كما ثَبَتَ بالنص المدرسي والأدبي السياسي بأن الديمقراطية democracy تعني حكم الشعب أو حكم الأغلبية للأقلية ، هذا هو الأصل اللغوي والتاريخي المستمَد من تجربة الحكم في دولة المدينة في أثينا حوالي القرن السادس قبل الميلاد،هذا المعنى المثالي والأخلاقي-حكم الشعب- بالإضافة إلى ترافق الديمقراطية المعاصرة مع مجتمعات الحداثة والثورة الصناعية ومجتمعات الرفاهية، كان وراء توق كل الشعوب للديمقراطية معتقدة بأنها المخلص مما هي فيه من تخلف وقهر، وكان وراء عدم قدرة الأنظمة على معارضة التوجهات الديمقراطية وإلا ستبدو وكأنها ضد إرادة الشعب ومع استمرار حالة الفقر والتخلف وانسداد أفق التغيير.
المحور الأول::من ديمقراطية الكم –كثرة عدد المشاركين- الى ديمقراطية الكيف – فاعلية المشاركين-.
داخل الديمقراطيات الغربية يوجد نقاد يشككون بان الشعب في الأنظمة الديمقراطية القائمة هو الذي يحكم بل يقولون بأنه ليس من الضروري أن يحكم الشعب لنكون امام نظام الحكم الأصلح.سنتوقف قليلا عند نظرية النخبة وروادها فهؤلاء يرفضون بالمطلق مقولة حكم الشعب لنفسه ويقولون بأنه لا اليوم ولا عبر التاريخ كان الحكم للشعب أو للأغلبية بل كانت الأقلية أو النخبة هي التي تحكم،ولكنهم يقرون بأن النخب الحاكمة اليوم توظف الشعب للوصول للسلطة ولكنها تراعي مصالح الشعب وهي في السلطة . جيوفاني سارتوري في مؤلفه (نظرية ديمقراطية) Democratic theory، ينتقد المفاهيم الكلاسيكية للديمقراطية التي تُضخِم من أهمية ودور الشعب في الممارسة السياسية،وهو يرى أن الخطر على الديمقراطية لا يأتي من الدكتاتورية أو الأرستقراطية، بل من تدَّخل الشعب في عمل النخبة السياسية، وعرقلة قيامها بحقها الطبيعي في الحكم، و عليه، يطالب ببقاء السلطة السياسية بيد النخبة الحاكمة ما دامت تتوفر على عناصر الامتياز والتفوق الذي يعترف لها به الجميع .ومن هنا يرى سارتوري أن دور النخبة في المجتمع يجب أن يكون كبح جماح الأغلبية، فترك العنان للشعب باسم الديمقراطية سيؤدي للغوغائية التي تطيح بالاستقرار السياسي ،وفي رأيه لا تعارض ما بين حكم النخبة و الديمقراطية، فالديمقراطية في نظره هي:"عملية اتخاذ قرارات يستجيب فيها القادة لتفضيلات المقودين -المحكومين-" .فالمهم بالنسبة له ولكل منظري النخبة ليس حكم الشعب بل ضمان الاستقرار السياسي في المجتمع حتى تتمكن الدولة من مواجهة التحديات الداخلية والخارجية .في نقس السياق يرى كارل مانهيايم K. Mannheim أن وظيفة المواطن العادي تنحصر في قيامه باختيار الحكام، وليس من الضروري أن يشارك مباشرة في ممارسة السلطة.
مفكر آخر من نفس المدرسة ويعتبر من أشد المعارضين لفتح المجال أمام الشعب للمشاركة السياسية بلا ضوابط، إنه الاقتصادي وعالم الاجتماع جوزيف شومبيتر،ففي كتابه (الراسمالية والاشتراكية والديمقراطية) وفي محاولة لإغناء النقاش حول ازمة النظام الرأسمالي انتقد المفهوم الكلاسيكي للإرادة العامة الذي صاغه روسو، مشككا بقدرة الشعب على إدارة الشؤون العامة للدولة، وهو يقترح بدلا من ديمقراطية (حكم الشعب) ديمقراطية (حكم معتَمَد من الشعب) أو حكم (لصالح الشعب).تحت عنوان (هل تستطيع الرأسمالية البقاء) يقول شومبيتر Schumpeter بإن الديمقراطية ليست غاية في حد ذاتها ولكنها طريقة أو نمط من التنظيم تكفل الوصول إلى قرارات سياسية تشريعية وإدارية صائبة، أو هي تقنية للحكم أكثر فعالية من غيرها،وقد ركز اهتمامه على حصر حق المواطن السياسي في انتخاب القادة والحكام، والحق في النقاش، دون أن يصل الأمر إلى التدخل في الأمور السياسية التي أسندت للحكام وحدهم، فالحكم على فعالية النظام السياسي الديمقراطي لا يقاس من خلال نسبة المشاركة الشعبية بل من خلال وجود قيادة سياسية ناجحة وفعالة، وكأن شومبيتر يريد القول ان الديمقراطية كنظام حكم ليس غاية بل وسيلة وهو كلام صحيح.وحدد شروط النظام الديمقراطي الناجح فيما يلي:
1- جودة النخبة السياسية.
2- عدم توسيع المدى الفعال لقرار السياسيين أكثر من اللازم.
3- قدرة الحكومة على السيطرة وعلى توجيه الجهاز البيروقراطي وضمان فعاليته.
4- التعامل بروح سلمية وبمرونة ما بين النخب وبعضها البعض، ووضع حد لتدخلات الهيئة الناخبة في العمل السياسي بعد اختيارها للهيئة الحاكمة.
أما تعريفه للديمقراطية فهي:(اتخاذ التدابير المؤسساتية من أجل التوصل إلى القرارات السياسية التي يكتسب الافراد من خلالها سلطة اتخاذ القرار عن طريق التنافس على الأصوات).
على أرضية نفس المنطق في التحليل سار جيوفاني سارتوري الذي استنتج أن الحديث عن دور الجماهير في المجتمعات الغربية المعاصرة هو مرد خرافة، فالجماهير ليس لها دور سياسي ويجب ان لا يكون ، وأقصى ما تقوم به هو كفالة عمل الآلية الانتخابية بفعالية، بل ذهب به الأمر إلى القول إن ما يهدد الديمقراطية هي الأغلبية التي تعرقل عمل الصفوة السياسية وتمنعها من القيام بممارسة حقها الطبيعي في الحكم، وعليه يطالب سارتوري ببقاء السلطة بيد النخبة الحاكمة المتوفرة على كل أسباب الامتياز المعترف بها من الجميع، حتى لو تمت التضحية بديمقراطية حكم الشعب، فالانتخابات ليست دائما حكما عادلا، لان هناك عوامل متعددة تؤثر على نزاهتها .ولذا يقلب سارتوري المعادلة، فالسلطة أو مركز القرار لا يتجه من أسفل إلى أعلى كما تقول الديمقراطية المثالية بل من أعلى إلى أسفل:" إن الناخب العادي لا يقوم بفعل، بل برد فعل، إن التوصل للقرارات السياسية لا يتم من قبل الشعب "السيد" إنما تقدم هذه القرارات إليه إذ أن عملية تكوين الآراء لا تبدأ من الشعب، بل تمرر من خلاله".
في نفس السياق يذهب أوستروغورسكي،ففي كتابه: (الديمقراطية والأحزاب السياسية) يقول: "إن الوظيفة السياسية التي تضطلع بها الجماهير في ديمقراطية ما لا تقوم على حكمها لهذه الديمقراطية بل الأرجح أنها لن تكون قادرة على ذلك على الإطلاق... فسواء كنا حيال ديمقراطية أو حيال أوثقراطية فإن الحكم لن يكون إلا من قِبَل أقلية ضئيلة العدد، والميزة الطبيعية التي تختص بها السلطة مهما كان نوعها هي مركزيتها، شانها في ذلك شأن قانون الجاذبية في النسق المجتمعي. لكن من الواجب الوقوف في وجه الأقلية الحاكمة. فوظيفة الجماهير في ديمقراطية ما لا تقوم على تولي الحكم بل على تخويف الحكومات".
كما نجد كاتبا معاصرا هو روبرت دال الذي يرى أن الحكم الأفضل هو حكم الأوصياء أو حكومة المؤهلين لأنهم أكثر قدرة على فهم مصالح المجتمع وتحسس احتياجاته وحل مشاكله، بينما الغالبية من الناس يجب أن تُستَثنى من حق ممارسة السلطة لأنها إما جاهلة بالمصلحة العامة وبالأمور الاستراتيجية (كالطاقة النووية مثلا) أي أنها غير مؤهلة أو كفئة لممارسة الحكم، أو أنها منشغلة بهموم الحياة العادية وغير مكترثة بالأمور العامة والسياسية. ويتساءل روبرت دال "من هم الأفضل تأهيلا لتولي الحكم؟ هل تتم حماية مصالح الناس الاعتياديين من قِبَلهم شخصيا وعن طريق ما يتخذون من إجراءات خلال العملية الديمقراطية. أم من قِبَل مجموعة من القادة الأخيار القديرين الذين يتمتعون بقدر غير عادي من المعرفة والفضيلة؟" وهو يرى بأن ليس على الديمقراطية أن تقتل مواهب المتفوقين أو عدم إسناد الأمور المهمة للنخبة المتفوقة والمتخصصة فيها، حيث يقول: "وكما يعلم الجميع فإن معظم القوانين والسياسات في البلدان الديمقراطية والحديثة لا يتم إقرارها من خلال اجتماعات المجالس البلدية، أو الاستفتاءات العامة، أو استطلاعات الرأي، أو غيرها من أشكال الديمقراطية المباشرة، إن السياسات لا تأتي مباشرة نتيجة الانتخابات. إن ما يحصل بدلا من ذلك كله هو أن المقترحات التي تطرح يتم النظر فيها وتمحيصها من قبل لجان متخصصة تابعة لهيئات تشريعية، وكذلك من خلال جهات أو وكالات تنفيذية وإدارية يكون أعضاؤها بصورة عامة من ذوي الكفاءات والخبرات العالية. إن للخبرة والمهارة أهمية بالغة في الواقع بحيث أن أنظمة حكمنا عرفت بكونها كيانات حكم تجمع بين الديمقراطية (حكم الشعب) والميرتوقراطية (حكم المؤهلين)".
مما سبق نلاحظ أن شروط نجاح الديمقراطية المعاصرة لم تعد تقاس بنسبة المشاركة السياسية او بعدد الأحزاب القائمة أو بوجود انتخابات دورية حتى وإن كانت نزيهة،بل بالقدرة على خلق التوافق بين مكونات المجتمع وبعضها البعض من جهة وبين المجتمع والحاكم من جهة أخرى وبمدى فعالية مؤسسات النظام السياسي وخصوصا مؤسسة القيادة،ومن هنا فقد تعددت شروط قيام نظام ديمقراطي من مفكر إلى آخر والمشترك بينهم هو استبعاد فكرة المشاركة السياسية الشعبية الواسعة كعنصر إيجابي وحيد للقول بوجود ديمقراطية.
المحور الثاني:الديمقراطية في مجتمعات مغايرة
منذ السبعينيات أخذ المفكرون يولون اهتماما بالتحولات الديمقراطية في الأنظمة خارج إطار الديمقراطيات الغربية التي أنتجتها مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية،واتجهوا بأنظارهم لما يجري في النظم الدكتاتورية ،فنجد المفكر الأمريكي صمويل هانتغنتون يعالج خصوصيات الانتقال من النظم الدكتاتورية إلى الديمقراطية متجاوزا بذلك الجدل الذي أثاره أنصار نظرية النخبة الذين ركزوا على ما اعتبروه أزمة الديمقراطية الغربية في المجتمعات الديمقراطية الغربية ،ليولي اهتماما لازمة النظم الدكتاتورية التي بدأت تتفاقم وظهور ملامح تحول نحو الديمقراطية.فبعد أن تناول هانتغتون تاريخ الديمقراطية بدءا من دولة المدينة إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية قال بأن العالم يشهد الموجة الثالثة للديمقراطية وهو بذلك يستحضر ما جري 1974 في البرتغال ثم إسبانيا واليونان من انهيار لأنظمة الحكم العسكرتارية والدكتاتورية حيث يقول : (بدأت الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي في العالم الحديث بعد خمس وعشرين دقيقة من منتصف ليلة الخميس 25 أبريل 1974 في لشبونه بالبرتغال ) وهو يشير للانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكم الديكتاتوري لمارشيلو كاتيانو ،والملاحظ هنا أن هنتنغتون يرى أن الانقلاب العسكري يمكنه أن يكون مدخلا للديمقراطية .
يرى هنتنغتون أن خمسة متغيرات لعبت دورا في إحداث الموجة الثالثة للديمقراطية وهي:-
1- تآكل شرعية النظم الشمولية .
2- النمو الاقتصادي غير المسبوق الذي عرفته الستينيات.
3- التغيرات في دور وعقائد الكنيسة الكاثوليكية والدين بشكل عام.
4- المتغيرات الخارجية ومنها دعم حقوق الإنسان.
5- "كرات الثلج" أو التداعيات التي نتجت عن تطور وسائل الاتصال.
الموجة الرابعة للديمقراطية والحكم الصالح
ولأن المجتمعات والنظم السياسية لا تعرف السكون بل هي في حالة تحول ،سواء كانت النظم موسومة بالديمقراطية أو النظم غير الديمقراطية،ولأن التحول نحو الديمقراطية في كل مرحلة يتأثر بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات ،فقد نعت بعض المفكرين التحولات الجديدة نحو الديمقراطية بالموجة الرابعة للديمقراطية ، وهو إقرار بصحة ما ذهب إليه هنتنغتون من أن الديمقراطية تترى على المجتمعات على شكل موجات .أرتبط الحديث عن الموجة الرابعة ببعض الأسماء أهمها لاري ديموند Larry Diamond ومايكل ماكفول Machael McFaul فهذا الأخير درس بعمق التحولات التي تشهدها دول المعسكر الاشتراكي سابقا وكذا تعثر الديمقراطية في الشرق الأوسط ،فبعد أن أشار إلى أن الموجة الثالثة لم تنتج بالضرورة أنظمة ديمقراطية مستقرة بل أوجدت أحيانا أنظمة هجينة تجمع ما بين ديمقراطية شكلية وبعض مظاهر الاستبداد،ولا يخفي ماكفول تحيزه للسياسة الرسمية الأمريكية ورؤيتها لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط بل يعتبر زميلا ومشاركا في الرؤية لفرنسيس فوكوياما وأنجزا أعمالا فكرية مشتركة لصالح المؤسسة الرسمية وخصوصا دعمهما لمشروع الشرق الأوسط الكبير.يخلص ماكفول إلى أن الانتقال إلى الديمقراطية يحتاج لشروط بعضها خاص بطبيعة النظام القائم والبعض خاص بقوى المعارضة وقد حدد هذه الشروط بما يلي:-
1-نظام شبه قمعي
2- تلاشي شعبية رأس النظام
3- اتحاد المعارضة
4- فريق مستقل لمراقبة الانتخابات
5- عدد من المنافذ الإعلامية المستقلة
6- تعبئة الجماهير
7- انقسام وسط قوات الأمن
هل أصبح الـحكم الصالح بديلا عن الديمقراطية؟
تواكبا مع تنظيرات الموجة الرابعة ظهرت في السنوات الأخيرة مصطلحات جديدة كالحكامة Governance أو الـحكم الصالح Good governance،ونعتقد أنه يجب وقف تصنيف المجتمعات ما بين ديمقراطية وغير ديمقراطية ،بل بين حكم صالح وحكم غير صالح ما دامت كل النظم السياسية وخصوصا في دول الجنوب تقول بانها ديمقراطية .اليوم أصبحت الديمقراطية مجرد مكون من مكونات الحكم الصالح. الهيئات والمنظمات الدولية الأكثر استعمالا وتعريفا للحكامة والحكم الصالح وخصوصا في تعاملها مع دول الجنوب من حيث الحكم على مدى أخذها بقيم الحداثة والانفتاح واحترام حقوق الإنسان.لم تعد الدول المتقدمة والمنظمات الدولية تعتمد التصنيف التقليدي للنظم السياسية ما بين ديمقراطية وغير ديمقراطية بل تأخذ بمقاييس ومؤشرات أكثر شمولية، إن كانت تمثل اعترافا بخصوصية مجتمعات دول الجنوب واستعدادا لتفهم هذه الخصوصية وتسهيل عملية الانتقال المتدرج نحو الديمقراطية إلا أنها لا تخلو من خبث سياسي أو مصلحية سياسية حيث تسعى هذه الدول والمنظمات لتوجيه عملية التحول بما يتوافق مع قيم ومصالح الغرب وبما يجعل المجتمعات الثالثية ونخبها السياسية والاقتصادية أكثر ارتباطا واعتمادية على الغرب.وهذا التوجه هو (الحكم الصالح) Good Governance.أو الحكامة،صحيح أن الديمقراطية مكون رئيس في هذا الحكم ولكنها ليست الوحيدة لقيام هذا الحكم بالإضافة إلى تعامل مفهوم المجتمع الصالح مع الخصوصيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للشعوب .
يبدو أن توجه المنظمات والهيئات الدولية لتجاوز التقسيم التقليدي للدول والنظم السياسية إلى أنظمة ديمقراطية وأنظمة غير ديمقراطية أنبنى على حقيقة وجود عشرات المجتمعات وخصوصا في دول العالم الثالث تواجه تحديات داخلية وخارجية تحد من قدرتها على التجاوب مع الاستحقاقات الديمقراطية –ثقافية واقتصادية-كما يعرفها الغرب المتقدم وبالتالي سيكون من الظلم تصنيفها تلقائيا كأنظمة غير ديمقراطية بما يتضمنه ذلك من حكم قيمة سلبي على هذه المجتمعات والنخب الحاكمة وغير الحاكمة التي تناضل من اجل تغيير حياة الناس للأفضل بالإضافة إلى أن كثيرا من النخب السياسية في أنظمة سياسية غير الديمقراطية أسست وبنوع من التلفيق، المعتمد على الإعلام وشكلانية المؤسسات والمال السياسي، أنظمة تبدو ديمقراطية ولكنها لم تغير كثيرا من حياة الناس ولم توفر حياة كريمة لهم . هذا التوجه نحو اعتماد مفهوم الحكم الصالح أصبح يُعتمد من الدول المتقدم في تعاملها مع دول الجنوب كما أخذ به تقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر عن الأمم المتحدة،حيث عرف الحكم الصالح بأنه الذي "... يعزز ويدعم ويصون رفاهة الإنسان، ويقوم على توسيع قدرات البشر وخياراتهم وفرصهم وحرياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولا سيما بالنسبة لأكثر أفراد المجتمع فقرًا وتهميشًا".
لا يعني اعتماد مصطلحي الحكم الصالح والحكامة تجاوز كليا لمتطلبات الديمقراطية ولكنهما يؤكدان على أن الانتخابات والمؤسسات الديمقراطية لوحدهما لا يحققا التنمية الشمولية ولا يحدثان التحول المطلوب في بنيان المجتمعات وخصوصا في دول العالم الثالث.يرى لاري دياموند أن النظام الديمقراطي الحقيقي هو الذي يأخذ بمتطلبات الحكم الصالح وهي:
1 ) هيئة قضائية فاعلة ومستقلة، أي التأكيد على فصل السلطات.
2) وجود هيئات مستقلة للمحاسبة وضمان الشفافية وتلقي شكاوى المواطنين، أيضا مؤسسات اقتصادية كالبنك المركزي.
3) ضمان أن تمثل الأحزاب والمجالس النيابية الشعب تمثيلا صحيحا وأن تكون أمينة ومفتوحة وتستجيب للمشاركة العامة ومتصلة بالمصالح المجتمعية على اختلاف أنواعها.
4) خدمة مدنية أو جهاز بيروقراطي يتمتع بالكفاءة والإخلاص.
5) أهمية وجود مجتمع مدني حقيقي يجمع ما بين الاستقلالية عن الدولة واحترامها بحيث يكمل بعضهما البعض الآخر لضمان تحقيق التنمية.
6) وجود ثقافة كحاضنة لكل ما سبق تقوم على أساس الالتزام بالشرعية وبثوابت الأمة أو الصالح العام وخصوصا من طرف الحكام والنخب.
في نفس سياق العلاقة ما بين الديمقراطية والحكامة يرى الكاتب المغربي يحيى اليحياوي أن الحكامة (تضع الديمقراطية التمثيلية (البرلمانية عموما) في محك من أمرها ليس فقط باعتبارها إياها مركزة لآليات اتخاذ القرار ولا لكونها تحتكر (لدرجة الاستصدار) سلطة الولاية على الشأن العام, ولكن أيضا كونها تحجر على قضايا الشأن المحلي والجهوي التي غالبا ما يكون أمر البث فيها من صلاحيات مجالس منتخبة)، وبالتالي فالحكامة تعتبر تجاوزا بنيويا للمرتكزات الشكلية للديمقراطية وتحديا لها (ولكأن الديمقراطية هي آخر المفكر فيه من لدن الحكامة, بل قد لا تعدو أن تكون مكونا من مكوناتها لدرجة تبدو معها الحكامة هي الأصل والديمقراطية هي الفرع...أي أن الحكامة ("الجيدة" تحديدا) هي التي تقود, نهاية المطاف, إلى "الديموقراطية- الحق" وليس العكس).
الفصل الثاني
الديمقراطية في العالم العربي
فشل في التطبيق أم تغيير في المفاهيم؟
المحور الأول:العرب والموجة الرابعة للديمقراطية
هذا الجدل حول الديمقراطية والحكم الصالح في الغرب واكبه جدل حول مآل التغيير الديمقراطي الديمقراطي في العالم العربي حيث أُقحِمت الديمقراطية على مجتمعات تطورت في سياقات مغايرة .التحول نحو الديمقراطي في هذه البلدان لم يتساوق مع تغييرات بنيوية في ثقافة المجتمع ولم يؤد لإحلال علاقات ونخب وأفكار تمثل قطيعة مع مرحلة سابقة، يقدر ما جاء نتيجة ضغوطات خارجية وإرادة نخب وَجَدت في الديمقراطية أيديولوجية جديدة تعوضها عن أزمة شرعياتها التقليدية. وبالتالي فإن الحديث عن الديمقراطية في العالم العربي يحتاج لمقاربة جديدة تؤسس على الواقع لا على الخطاب والنموذج الجاهز ،والواقع يقول بأن التجارب الديمقراطية تحولت إلى أنظمة حكم وشعارات فضفاضة إن كانت تتضمن بعض مفردات الديمقراطية وثقافتها في بعض المجتمعات، إلا أنه يصعب القول بأنها أنظمة ديمقراطية.صحيح حدث حراك سياسي وتقدم نسبي في منظومة حقوق الإنسان وفي وعي المواطن بحقوقه،إلا أن هذا الحراك تعبير عن ألتوق إلى التغيير ورفض الاستبداد والقمع والسعي للحياة الكريمة بغض النظر إن كان النظام المُراد الوصول إليه مُهيكل حسب النظرية الديمقراطية كما هي عليه في النموذج الغربي أم لا. كل الأنظمة القائمة اليوم إما أن تصف نفسها بالأنظمة الديمقراطية أو بأنها تريد أن تكون ديمقراطية،ولكن على مستوى الواقع القائم سنجد أن أوجه التباعد ما بين هذه الأنظمة العربية التي تقول بأنها ديمقراطية والديمقراطية السائدة في الغرب فيما يتعلق بشكل النظام وآلية إدارته وطبيعة الثقافة السائدة فيه.فما الذي يجمع مثلا ما بين الديمقراطية في العراق وأفغانستان والديمقراطية في السويد؟وما الذي يجمع ما بين ديمقراطية الكويت أو باكستان وديمقراطية فرنسا أو اليابان؟الخ .
الديمقراطية الموجودة في غالبية الأنظمة العربية القائلة بها ليست تعبيرا عن إرادة الأمة بقدر ما هي استجابة-بالمفهوم الإيجابي والسلبي للاستجابة- لاشتراطات خارجية وتحديات داخلية ليست بالضرورة تعبيرا عن توفر ثقافة الديمقراطية،فنادرا ما نرى أو نسمع عن مظاهرات ومسيرات كبيرة للمطالبة بالديمقراطية،فيما تستطيع جماعات الإسلام السياسي إخراج مظاهرات مليونية لنصرة غزة أو العراق مثلا أو للتنديد بإهانة الرسول.غالبية الأنظمة العربية سواء كانت ملكية أم جمهورية ثورية أو عسكرية،غنية أم فقيرة... تصنف نفسها بأنها ديمقراطية أو تسير نحو الديمقراطية أو لا تعارض الانتقال الديمقراطي، وفي جميع الحالات سنجد ما يربط كل نظام سياسي بآلية ما أو مظهر ما من مظاهر الديمقراطية كوجود انتخابات أو دستور عصري أو مؤسسات تشريعية أو تعددية حزبية الخ ،ومع ذلك يبقى السؤال: أية ديمقراطية توجد في هذه الأنظمة.
قد نبدو مبالغين إن قلنا بان لكل نظام عربي تصوره وتطبيقه الخاص للديمقراطية وبعضها غير مسبوق تاريخيا ويعتبر اختراعا عربيا بجدارة.بعيدا عن الخطاب الأيديولوجي العروبي ومع عدم تجاهل وجود قواسم مشتركة كاللغة والدين وعادات وتقاليد،فإن الواقع يقول بوجود أثنين وعشرين نظاما وكيانا سياسيا لم تتشكل كلها ضمن نفس الشروط التاريخية والموضوعية،فلا يجوز أن نضع في سلة واحدة الدولة المصرية ذات الخمس آلاف سنة من الوجود مع دولة الإمارات العربية ذات الأربعين سنة من العمر،كما لا يجوز وضع المغرب بتاريخه وخصوصيته الثقافية والسياسية مع لبنان بخصوصيته وشروط تشكله التاريخي،نفس الأمر بالنسبة للكويت أو الجزائر أو فلسطين الخ.
في العالم العربي من تحدث عن الموجة الرابعة للديمقراطية ونسبوا الحراك السياسي في الأنظمة السياسية في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين لها. وفي هذا السياق يتحدث برهان غليون عن الموجة الرابعة للديمقراطية والتي مست في الصميم العالم العربي ،فبعد عقود من محاولات الإصلاح ووضع حد للفساد بالإضافة إلى محاولات انقلابية، كانت الحصيلة ضئيلة لا ترقى لتطلعات الشعوب العربية ،إلا أن متغيرات محلية وإقليمية ودولية توحي بالأمل بأن رياح الديمقراطية بدأت تهب على العالم العربي وهذه الرياح تمثل الموجة الرابعة للديمقراطية ،وهذه التحولات والمتغيرات هي:-
1- إفلاس النظم القديمة واستنفاد رصيدها المادي والمعنوي بعد انكشاف الطريق المسدودة التي قادت إليها سياساتها القاصرة وانحسار قدرتها على تحقيق الأهداف الوطنية والاجتماعية واعتمادها في سبيل البقاء بشكل متزايد وشبه كامل على الاستخدام الموسع للعنف والقوة.
2- تبدل البيئة الدولية الجيوسياسية والفكرية معا، ولعل أكبر مظهر لهذا التحول ما نجم عن زوال مناخ الحرب الباردة الذي غير من قواعد التنافس بين القوى العظمى ...ولعل أهم ملمح من ملامح هذا التبدل هو اهتزاز ثقة واشنطن بسياستها التقليدية القائمة على تأمين استقرار النظم التي كانت تراهن عليها للحفاظ على مصالحها الحيوية والإستراتيجية في المنطقة بأي ثمن وتبنيها، كما يبدو، سياسة جديدة تهدف إلى تجديد هذه النظم وإصلاحها حتى تكون، من حيث الواجهة الشكلية على الأقل، موافقة للمعايير الإيديولوجية التي يقوم عليها خطاب الهيمنة الأميركية.
3- انبعاث الحركات الاجتماعية أو بعثها بعد أن قبرت حية وهيل التراب عليها، وفي مواكبتها انتعاش المجتمع المدني وثقافته ومنظماته ومطالبه، وهو ما يشكل جوهر عملية الإحياء التي تتم اليوم على هامش الخروج من الأزمة الفكرية الطاحنة التي مرت بها العقائديات الكلاسيكية السابقة التي ارتبطت بصراعات الحرب البادرة ومن خلال تبلور النظم والقيم الفكرية الجديدة المتمحورة حول المجتمع المدني وحقوق الإنسان وانتشار الوعي بأهمية الديمقراطية وبقيم المواطنة لدى أوساط متزايدة من المثقفين ونشطاء المجتمع السياسي في جميع أنحاء العالم.
المحور الثاني:انتقال ديمقراطي أم أزمة شرعيات؟
أية مقاربة علمية وموضوعية للتحولات أو التجارب الديمقراطية في العالم العربي،ومع عدم إسقاط البعد السوسيولوجي التاريخي كبعد مهم في مقاربة المسألة الديمقراطية العربية، ستوصلنا لنتيجة مفادها وجود نماذج للانتقال الديمقراطي وليس نموذجا واحدا،أو مداخل وليس مدخلا واحدا ،هذا التعدد ليس بالضرورة مؤشرا على خصب التجارب الديمقراطية بل قد يكون مؤشرا على حالة من التيه والتخبط وهو أمر مفهوم عندما لا يكون خيار الديمقراطية محل إجماع ولا يعكس الثقافة الغالبة في المجتمع،بل نجد هذا التيه يمس البلد الواحد ،فبعض البلدان العربية كمصر والعراق مثلا عرفت تجارب ليبرالية وبرلمانية متقدمة في بداية القرن العشرين ثم انتكست لتدخل في دوامات الفكر الثوري والاشتراكي والعسكري وبعدها عادت لتبحث عن مخارج لازمتها من خلال الديمقراطية ولكن في ظل عالم متغير أهم سماته ثقل الضغوط الخارجية الدافعة للانتقال الديمقراطي لأهداف تخدم الخارج أكثر مما تخدم شعوب المنطقة.
ارتبط الحديث بالتحول الديمقراطي في العالم العربي في السنوات الأخيرة بما يسمى (مشروع الشرق الأوسط الكبير) الذي تفتقت عنه عقلية مراكز القرار في الإدارة الأمريكية. فبعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وبعد الحرب على العراق وتداعياتها وبعد عقود من الدعم الأمريكي والغرب لأنظمة استبدادية دكتاتورية لا تراعي حقوق الإنسان،توصلت الإدارة الأمريكية لقناعة بأن سبب العنف أو الإرهاب كما تسميه الموجه للغرب وللولايات المتحدة الأمريكية تحديدا سببه الفقر وغياب الديمقراطية والتركيبة الاجتماعية والثقافية للمجتمعات العربية والإسلامية ،وعليه وفي إطار مواجهة ( الإرهاب ) أعلنت الإدارة الأمريكية في مطلع فبراير 2003 عن مبادرة تهدف إلى تحقيق إصلاحات اقتصادية وسياسية وتعليمية في منطقة الشرق الأوسط ،وفي يونيو 2004 طرح الرئيس بوش مشروع الشرق الأوسط الكبير حيث ربط ما بين إنجاز عملية السلام في المنطقة ووضع حد للعنف من جانب وإحداث تنمية شاملة سياسية واقتصادية وتعليمية من جانب آخر . بعد سنوات قلائل من التعامل مع الرؤية الأمريكية للديمقراطية وخصوصا في شقها الهادف لاستيعاب الإسلام السياسي ضمن النظم السياسية القائمة كوسيلة للحد من العنف السياسي ،ثبت محدودية النجاح الذي تحقق في هذا السياق .
حتى لا نظلم الديمقراطيين الحقيقيين في العالم العربي ،يجب التأكيد بأنه جرت محاولات جادة للأخذ بالديمقراطية ونشر ثقافتها وانتزاع مكتسبات من الحكام ،قبل أن تتبنى واشنطن الدعوة لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط ،بل يمكن القول إن من الأهداف الأمريكية من وراء دعوتها لنشر الديمقراطية في المنطقة، سحب البساط من تحت أقدام الديمقراطيين الحقيقيين في العالم العربي. حركات وأحزاب وشخصيات ومؤسسات مجتمع مدني دخلت في مواجهات وبعضها مسلحة مع أنظمة دكتاتورية واستبدادية دفاعا عن حقوق الإنسان ولمزيد من الحرية والكرامة،هؤلاء مناضلون من اجل الديمقراطية حتى وإن لم يرفعوا شعاراتها،فكل نضال من اجل الحرية والكرامة وضد القمع والاستبداد هو نضال ديمقراطي أو يهيئ المناخ للانتقال الديمقراطي.
لو أردنا رصد المشهد الديمقراطي في العالم العربي سنجد النماذج أو التطبيقات التالية :-
أولا: ديمقراطية تحت الاحتلال وبإشرافه (ديمقراطية بدون سيادة الأمة)
هذه تمثل سابقة في التاريخ، فلأول مرة يُطرح التحدي الديمقراطي على مجتمع وهو تحت الاحتلال ،فالاحتلال نفي لإرادة الأمة فكيف يمكن لشعب أن يؤسس نظاما ديمقراطيا دون أن يكون حر الإرادة.هذا الشكل من الديمقراطية يعتبر خارج السياق ،خارج سياق حركة التحرر حيث يفترض وحدة الشعب في مواجهة الاحتلال وليس صراع الشعب والأحزاب من اجل سلطة تحت الاحتلال ،وخارج سياق العملية الديمقراطية بما هي شكل من أشكال حكم الشعب الحر والمستقل الإرادة. هذا النموذج متجسد في فلسطين والعراق،حتى ضمن هذه الخصوصية فيمكن تلمس فوارق ما بين النموذجين فلا يوجد في فلسطين طوائف وإثنيات حتى تتشكل الديمقراطية على أساس توازنات طائفية،كما أن العراق كان دولة مستقلة وذات سيادة قبل الاحتلال الأمريكي فيما فلسطين لم تمر بمرحلة الاستقلال وكل ما تعرفه هو سلطة حكم ذاتي.
لا ديمقراطية بدون حرية فالحرية شرط ضرورة لتأسيس الديمقراطية لان الديمقراطية لا يؤسسها إلا الأحرار،والحرية مقياس لناتج الممارسة الديمقراطية،الديمقراطية نضال من اجل الحرية ،فإن لم تضمن الديمقراطية للمواطنين ممارسة الحرية بكل مضامينها في إطار القانون بطبيعة الحال ،فلا يمكن الحديث عن نظام ديمقراطي .ولذا لا تنفصل الديمقراطية عن حرية الوطن وحرية المواطن ،فلا يمكن لوطن ولمواطن غير حر، أي خاضع للاحتلال أن يمارس انتخابات نزيهة أو يمارس تداولا سلميا على السلطة فالاستعمار نقيض الحرية وبالتالي نقيض الديمقراطية . وعليه نلاحظ بان مسألة الديمقراطية لم تكن مطروحة عند كل حركات التحرر في العالم سواء تجربة الثورة الفرنسية أو الثورة الأمريكية أو الثورة الجزائرية أو الثورة الفيتنامية،بل إن فرنسا –ودول أوربية أخرى- التي كانت تعرف نظاما ديمقراطيا قبل الاحتلال النازي ،مع الاحتلال تم تعليق ووقف كل المؤسسات الديمقراطية وتم التعامل مع نظرية "تجاوز الصراعات"التي قال بها هنري لوفيفر ،ومفادها انه عندما يكون الشعب خاضعا للاحتلال تتوقف كل الصراعات الطبقية وكل الصراعات حول السلطة لصالح جبهة وطنية متحدة لمواجهة الاحتلال.بعد القضاء على الاحتلال النازي عادت الديمقراطية لفرنسا وللدول التي كانت محتلة من النازي.
ثانيا:أنظمة ديمقراطية بدون تداول على السلطة (صراع الديوك)
لا معنى للديمقراطية إن لم تؤد للتداول على السلطة على كافة المستويات سواء تعلق الأمر برأس السلطة والنواب والوزراء أو داخل الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني ،هذا التداول غير ملحوظ في غالبية الأنظمة العربية بما فيها القائلة بالديمقراطية مثلا: مصر ، تونس ،الجزائر واليمن والأنظمة (الديمقراطية) الملكية.ففي هذا النموذج تصبح الديمقراطية كنوع من الملهاة للشعب أو حلبة صراع الديوك.الرئيس أو الملك يحكم مدى الحياة وشخصه مقدس وصلاحياته وسلطته مطلقه وهو أمر يمتد حتى لأسرته وأفراد حاشيته،هذا الزعيم الملهم نتيجة ضغوطات خارجية أو لتجديد شرعيته المأزومة ،يُفسح المجال للشعب والنخب والجماعات للتصارع مع بعضها البعض وتتفرج على صراعها من أجل مناصب صغيرة لا تؤثر على بنية النظام وتوجهاته .هذا التنافس والتعددية والصراع على السلطة لا ينتموا للديمقراطية ما دامت تشتغل ضمن قواعد لعبة يحدده النظام ،وبالتالي يتحول هذا الصراع لما يشبه صراع الديوك في حلبات صراع الديكة،وزاد هذا الصراع حدة بعد دخول بعض جماعات الإسلام السياسي للحلبة.
ثالثا:أنظمة ديمقراطية بدون ثقافة الديمقراطية (الديمقراطية الشكلانية)
الديمقراطية ثقافة كما هي مؤسسات ولا قيمة لهذه الأخيرة بدون مجتمع مؤمن بثقافة الديمقراطية وقيمها فلا ضمانة لنجاح الديمقراطية وقدرتها على الوصول لأهدافها في صون واحترام كرامة المواطن وحقوقه بدون ثقافة الديمقراطية ،وقد لاحظنا ضعف هذه الثقافة في المجتمعات العربية أو أن هذه الثقافة تواجه تحديات كبيرة من طرف ثقافات تقليدية ودينية ،وهي مغيبة حتى داخل الأحزاب التي تقول بالديمقراطية وتقاتل من اجلها.إن المفارقة في هذا السياق إن الحديث عن الديمقراطية اليوم يتزامن مع ظاهرتين : الأولى، ظاهرة المد الأصولي أو الديني في العالم العربي ومن المعروف أن ثقافة الجماعات الدينية بشكل عام تناصب الديمقراطية العداء ،والثانية عودة ظاهرة الانقلابات العسكرية ولكن هذه المرة بشعارات ديمقراطية مما يفتح المجال للتساؤل إلى أي حد يمكن أن يكون العسكر والعنف السياسي بشكل عام مدخلا للانتقال الديمقراطي وخصوصا أن هنتنغتون اعتبر انقلاب العسكر في البرتغال بداية التحول للديمقراطية؟. هذه الظاهرة موجودة في إفريقيا أما في العالم العربي فتعد موريتانيا نموذجا لها .
رابعا:أنظمة ديمقراطية كفضاء لصراع الطوائف والإثنيات (ديمقراطية تفكيك الأمة)
التجربة التاريخية تفيدنا بان الديمقراطية تبدأ من النخبة ثم تنتقل للشعب،وأن التقدم تحو الديمقراطية يتواكب مع صهر وإذابة الانتماءات الطائفية والإثنية في إطار المواطنة ،فالانتماء الأكبر للوطن يضعف الانتماءات الصغرى ،ولكن الفرق بين التجربة التاريخية في هذا السياق والحالة العربية أن النخبة الأوروبية التي قادت العملية الديمقراطية كانت تؤمن بفكر وثقافة الديمقراطية فيما النخب العربية التي تتحدث عن الديمقراطية ،بعضها مؤمن بالديمقراطية ولكن غالبيتها توظف خطاب الديمقراطية كايدولوجيا حتى تتسيد على الشعب باسم الديمقراطية،ومن جهة أخرى فبدلا من أن تؤدي الديمقراطية لتكريس مبدأ المواطنة بما يؤدي لإذابة أو إضعاف انتماءات ما قبل الدولة ،نلاحظ أن ما إتاحته الديمقراطية من حريات استنهض الطائفية محولا الطوائف إلى طائفية مما أدى لتعزيز الطائفية والعرقية حيث تحولت الديمقراطية كفضاء لصراع النخب والطوائف على حساب وحدة الأمة.لو كان الأمر يتعلق بأن تكون الديمقراطية مدخلا للاعتراف بالحرية الثقافية للأقليات لكان الأمر مقبولا ولكن ما يجري هو توظيف الحريات كمدخل للإقصاء ولتفتيت وحدة الأمة.وللمفارقة فإن الحديث عن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يفترض أنه يؤسس للديمقراطية بما هي تعزيز لمفهوم المواطنة والتعايش السلمي بين مختلف فئات المجتمع ،تزامن مع سياسة (الفوضى البناءة) التي تبنتها الإدارة الأمريكية في نفس الفترة ،مما يفرض طرح السؤال : هل تريد واشنطن من دمقرطة الشرق الأوسط تأسيس ديمقراطية حقيقية أم خلق (فوضى بناءة)؟.
خامسا: ديمقراطية تعيد إنتاج مجتمع العبودية
بالرغم من التوجهات المتواضعة التي تلامس تخوم الديمقراطية في دول الخليج العربي كالانتخابات ووجود برلمان ودستور ،إلا أن التحول نحو الديمقراطية سيبقى في إطار نخبوي ضيق أي مقتصرة على المواطنين الأصليين وهذا يعني أن حوالي 80% من الساكنة مجرد رعايا وخارج العملية الديمقراطية، وهذا يذكرنا بديمقراطية أثينا حيث كان مفهوم المواطنين الذين تشملهم العملية الديمقراطية لا تتجاوز ربع ساكنة المدينة بعد استبعاد النساء والعبيد والأجانب،ويبدو أن المجتمعات الخليجية تشكل حالة غير مسبوقة تاريخيا من حيث نسبة المقيمين الأجانب لعدد السكان الأصليين وهذا ما يخلق خصوصية عند الحديث عن استحقاقات ومفردات الديمقراطية كمفهوم الشعب والمواطنة والحرية والأغلبية والأقلية وإرادة الأمة الخ.
إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الديمقراطية ليست فقط مؤسسات وآليات شكلانية:برلمان وانتخابات ودستور الخ،بل ثقافة أيضا، وثقافة وقيم الديمقراطية أهم من المؤسسات حيث لا تخلو دولة في العالم من مؤسسات شبيهة بما يوجد في الديمقراطيات الغربية-،فالسؤال الذي يفرض نفسه ما محتوى ثقافة وقيم الديمقراطية التي ستحدد وتحكم وتنظم العلاقة بين الشعب (الأقلية) والمقيمين (الأغلبية)؟.الثقافة كل مركب من عادات ولغة ونمط معيشة الخ، كل ذلك في دول الخليج لا تعبر عن لا ثقافة وطنية ولا ثقافة ديمقراطية.ما دام هناك رخاء وثروة نفطية قد يصمت الأجانب على استبعادهم من الحياة السياسية وبحقوق أقل من المواطنين،ولكن ما هو الحال إن تراجع الاقتصاد الخليجي وقلت الخليج. ؟لن يكون من السهولة عودة ملايين الأجانب إلى بلدانهم وآنذاك قد يقاوموا قرارات الإبعاد وقد يطالبوا بحقوق مكتسبة من الإقامة الطويلة والمساهمة في بناء دول الخليج .تجارب تاريخية تقول بأنه حتى العبيد يمكن أن يثوروا إن لم يشعروا بان لهم حقوق إنسانية ونذكر هنا بثورة العبيد التي قادها سبارتاكوس عام 72 ق.م تقريبا على روما .
خاتمة
نستخلص مما سبق أن المشهد الديمقراطي في العالم العربي لا يتسق مع المفهوم الصحيح للديمقراطية ولا يتوافق مع التطلعات الأولى للمناضلين من أجل الديمقراطية مباشرة بعد الاستقلال، أولئك الذي ناضلوا من أجل الكرامة والحرية وحقوق الإنسان.بات الديمقراطيون الحقيقيون اليوم يعيشون حالة من الاغتراب السياسي في بلدانهم التي يزعم قادتها أنهم ديمقراطيون،وربما أخطر المستجدات في هذا السياق هو إقامة أنظمة ديمقراطية في ظل وجود الاحتلال وتحت رعايته،وإن كان الآن توجد ثلاثة دول تسير في هذه السياق وهي فلسطين والعراق وأفغانستان من خارج العالم العربي،إلا أن الخشية من تكرار هذا النموذج إن لم يكن من خلال تكرار تجربة الاحتلال فمن خلال التوجه الأمريكي نحو فرض أشكال من الديمقراطية تحت الرعاية الأمريكية وبما يخدم مصالحها.
فشل النموذج أو التصور الأمريكي للديمقراطية الذي تضمنه مشروع الشرق الأوسط الكبير لا يعني بالضرورة عدم حدوث تغيرات مهمة داخل المجتمعات العربية ،ولا يعني أن الديمقراطية خيار سيء ،بل إن هذا الفشل سيشكل دافعا نحو بناء نظم حكم سياسي صالح يوفق ما بين المبادئ العامة للديمقراطية وخصوصيات المجتمع الثقافية والتاريخية والمحيط الدولي،وهناك مؤشرات إيجابية على إمكانية التقدم في هذا المسار.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مسلسل -الصومعة- : ما تبقى من البشرية بين الخضوع لحكام -الساي
.. ما الذي نعرفه عن الضربة الإسرائيلية في وسط بيروت؟
.. إخلاء جزء من مطار -جاتويك- في لندن بعد العثور على مادة مشبوه
.. غارة وسط بيروت تستهدف قياديا بارزا بحزب الله
.. مسيرة إسرائيلية تستهدف صيادين على شاطئ مدينة صور