الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسان , المجتمع و الدولة لميخائيل باكونين

مازن كم الماز

2011 / 6 / 2
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


ميخائيل باكونين 1871
الإنسان , المجتمع و الحرية

الليبراليون العقائديون , الذين ينطلقون من مواقع الحرية الفردية , يقدمون أنفسهم على أنهم أعداءا للدولة . من بينهم من يعتبر أن الحكومة , أي منظومة الوظائف المنظمة و المخصصة لأداء وظائف الدولة هي شر ضروري , و أن تقدم الحضارة يكمن في الإضعاف الدائم و المتواصل لخصائص و حقوق الدولة , إن هذا تناقض . هذه هي نظريتهم , لكن في الممارسة فإن هؤلاء الليبراليين العقائديين أنفسهم , ما أن يتهدد وجود أو استقرار الدولة جديا , حتى يصبحوا مدافعين متعصبين عن الدولة مثلهم مثل الملكيين أو اليعاقبة .
إن تمسكهم بالدولة , الذي يتناقض بشكل قاطع مع تعاليمهم الليبرالية , يمكن شرحه بطريقتين : بمصالح طبقتهم التي يتشكل منها الغالبية الساحقة من الليبراليين العقائديين و هي البرجوازية . هذه الطبقة المحترمة و العديدة تطالب لنفسها فقط بالحقوق الحصرية و بامتيازات الرخصة الكاملة ( الحرية الكاملة ) . يقوم الأساس الاجتماعي الاقتصادي لوجودها السياسي أساسا على مبدأ الترخيص ( السماح ) غير المقيد الذي يعبر عنه في هذه الكلمات الشهيرة دعه يمر , دعه يعمل . لكنهم يريدون هذه الأناركية فقط لأنفسهم , و ليس للجماهير التي يجب أن تبقى تحت الانضباط الصارم للدولة لأنها "جاهلة جدا أكثر مما يمكن لها أن تتمتع بهذه الأناركية دون أن تسيء استخدامها" . لأنه إذا ثارت الجماهير , و قد أمضها التعب من العمل لحساب الآخرين , فإن كل البناء البرجوازي سينهار . دائما و في كل مكان , عندما تثور الجماهير , فحتى أكثر الليبراليين حماسة سيذهبون في الاتجاه المعاكس و يصبحون أكثر أبطال السلطة المطلقة ( القدرة الكلية ) للدولة تعصبا .
إضافة إلى هذا السبب العملي , ما يزال هناك أيضا سبب آخر ذا طبيعة نظرية يقود أيضا حتى أكثر الليبراليين المخلصين إلى الخلف نحو عبادة الدولة . إنهم يعتبرون أنفسهم ليبراليين أساسا بسبب نظريتهم عن أصل المجتمع التي تقوم على مبدأ الحرية الفردية , و بسبب هذه النظرية بالتحديد فإنهم يعترفون بالضرورة بالحق ( السيادة ) المطلق للدولة .
الحرية الفردية وفقا لهم لم تكن خلقا , أو نتاجا تاريخيا للمجتمع . هم يقولون على العكس أن الحرية الفردية هي سابقة على المجتمع ككل و أن كل البشر قد وهبهم الله روحا أزلية ( لا تموت ) . الإنسان ( الفرد ) بالنسبة لهم كائن كامل , مستقل بالمطلق , منفصل عن المجتمع و يوجد خارجه . كعنصر حر , سابق و منفصل عن المجتمع , لذلك فإنه هو الذي شكل مجتمعه بالضرورة بواسطة فعل طوعي , نوع من العقد , سواء أكان هذا الفعل غريزيا أو واع , ضمنيا أو رسميا . باختصار , بحسب هذه النظرية , ليس الأفراد نتاج المجتمع بل على العكس , هم الذين قاموا بخلق المجتمع بسبب ضرورة ما كالعمل أو الحرب .
ينتج من هذه النظرية أن المجتمع , لكي نكون واضحين , لا يوجد . إن المجتمع الإنساني الطبيعي , بداية كل الحضارات , و الوسط الوحيد الذي يمكن فيه لشخصية و حرية الإنسان أن تتشكل و تتطور غير موجود بالنسبة لهم . من جهة تعترف هذه النظرية بالأفراد المكتفين بأنفسهم و الذين يعيشون معزولين عن بعضهم البعض , و من جهة , فإنهم قد خلقوا المجتمع اعتباطا و هذا المجتمع يقوم على عقد رسمي أو ضمني , أي على الدولة . ( رغم أنهم يعرفون جيدا أنه لم تخلق أية دولة في التاريخ بعقد ما , و أن كل الدول قد قامت بالغزو و العنف ) .
جمهور الأفراد الذي تتألف منهم الدولة يرون على نفس الدرجة وفقا لهذه النظرية , هذا أمر مليء بالتناقضات . يعتبر كلا منهم ( أي من الأفراد أعضاء الدولة – المترجم ) من جهة روحا أبدية منحت إرادة حرة . كل هذه الكائنات الحرة مكتفية بذواتهم و لا تحتاج لأي شخص آخر , و لا حتى الله , لأنهم هم أنفسهم آلهة , كونهم أبديي الوجود . من جهة أخرى , فهم متوحشون , ضعاف , ناقصون , محدودون , و جميعهم عرضة لقوى الطبيعة التي تحط منهم و ستحملهم إلى قبورهم عاجلا أو آجلا ( لأن نواقصهم هذه هي سبب حاجتهم لقوة فوقهم أعلى , تتحكم بهم ليستمروا بالوجود كمجموعة , كان افلاطون يقول : – المترجم ) ...
بسبب وجودهم الأرضي , فإن جمهور البشر يقدم مشهدا محزنا و مثبطا للغاية , كونهم فقراء جدا في أرواحهم , و في إرادتهم و مبادرتهم , بحيث أنه يجب على المرء أن يكون لديه قدرة هائلة حقا على خداع الذات , لكي يكتشف ( ليبحث ) فيهم عن روح أبدية , أو حتى أقل أثر للإرادة الحرة . إنهم يظهرون محكومين بشكل مطلق بالطبيعة الخارجية , بالنجوم , و بكل الظروف المادية لحياتهم , محكومين بالقوانين و بكل عالم الأفكار أو المواقف المسبقة التي جرى التعبير عنها في القرون الأخيرة , التي وجدوا أنها تؤثر في حياتهم منذ الولادة . الغالبية العظمى من الأفراد , ليس فقط بين الجماهير الجاهلة بل أيضا بين الطبقات المتحضرة و صاحبة الامتيازات , تعتقد و تريد فقط ما يعتقد به و يريده كل شخص حولهم . إنهم يؤمنون دون أن تردد بأنهم يفكرون لأنفسهم , لكنهم فقط يرددون بكل خنوع , مع تعديلات محدودة جدا , أفكار و أهداف من يماثلهم التي تشربوا بها .. هذه العبودية , هذا الروتين , هذا الغياب الدائم لإرادة التمرد و نقص المبادرة و استقلالية الفكر هذا هي الأسباب الرئيسية للتطور التاريخي , البطيء المقفر للإنسانية . بالنسبة لنا نحن الماديون و الواقعيون الذين لا نعتقد لا بأبدية الروح و لا بالإرادة الحرة , فإن هذا البطء , كارثيا كما هو بالفعل , هو حقيقة طبيعية . متطورا من حالة الغوريلا واجه الإنسان صعوبة كبرى في تطوير وعيه بإنسانيته و حريته ... ولد كوحش شرس و كعبد , و جرت أنسنته تدريجيا و قام بتخليص نفسه فقط في إطار المجتمع , الذي هو بالضرورة سابق على ولادة فكره , و كلامه و إرادته . يمكنه تحقيق هذا الانعتاق ( الخلاص ) فقط من خلال الجهد الجماعي لكل أعضاء المجتمع , السابقين و الحاليين , الذي هو مصدر البداية الطبيعية للوجود الإنساني .
حقق ( أدرك ) الإنسان حريته الفردية و شخصيته فقط من خلال الأفراد الذين يحيطون به , و فقط بفضل العمل و القوة الجماعية للمجتمع . من دون مجتمع كان سيبقى بكل تأكيد الأكثر غباءا و الأكثر بؤسا بين كل الحيوانات المفترسة .. بعيدا عن أن يكون المجتمع قد حد ( أنقص ) من حريته , فهو على العكس , هو الذي خلق الحرية الفردية لكل الكائنات البشرية . المجتمع هو الجذر , الشجرة , و الحرية هي ثمرته . لذلك في كل مرحلة على الإنسان أن يسعى لحريته ليس في بداية التاريخ بل في نهايته . يمكن القول أن الانعتاق الحقيقي و الكامل لكل فرد هو الهدف الحقيقي و الأعظم , الأسمى للتاريخ ....
المفهوم المادي , الواقعي و الجماعي للحرية , الذي يعارض المفهوم المثالي هو هذا : يصبح الإنسان واع بنفسه و بإنسانيته فقط في المجتمع و فقط من خلال العمل الجماعي للمجتمع ككل . إنه يحرر نفسه من نير الطبيعة الخارجية فقط بالعمل الجماعي و الاجتماعي , الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يحول الأرض إلى مسكن مفضل ( جدير ) لتطور الإنسانية . من دون هذا الانعتاق المادي فإن الانعتاق الفكري و الأخلاقي للفرد مستحيل . يمكنه أن يخلص نفسه من نير طبيعته نفسها , أي أن يخضع غرائزه و حركات جسده للتوجيه الواعي لعقله , هذا التطور الذي يجري تعزيزه فقط من خلال التعليم و التدريب . لكن التعليم و التدريب هما اجتماعيان بشكل واضح و حصري ... من هنا لا يمكن للفرد المعزول أن يصبح واع بحريته .
أن نكون أحرارا يعني أن يعترف بنا و نعامل كذلك من كل إخوتنا البشر . حرية كل فرد هي فقط انعكاس لإنسانيته , أو حقه الإنساني من خلال وعي كل البشر الأحرار , إخوته و مماثليه ( أو المساوين له ) .
يمكنني أن أشعر أنني حر فقط من خلال وجود البشر الآخرين و في علاقتي معهم . في حالة وجود أنواع متأخرة من الحيوانات فأنا لست لا حرا و لا إنسانا , لأن هذا الحيوان غير قادر على أن يدركني و بالتالي أن يعترف بإنسانيتي . أنا نفسي لست حرا أو إنسانا ما لم أعترف بحرية و إنسانية كل البشر الاخرين .
فقط في احترام طبيعتهم الإنسانية فإنني أحترم طبيعتي ( الإنسانية ) نفسها . آكل لحوم البشر الذي يلتهم سجينه .. ليس إنسانا بل وحشا . مالك العبيد ليس إنسانا بل سيدا . من خلال إنكار إنسانية عبيده فإنه أيضا يلغي إنسانيته , كما يثبت تاريخ كل المجتمعات القديمة . لم يشعر اليونانيون و لا الرومان أبدا كبشر أحرار . لم يعتبروا أنفسهم كذلك بالحق الإنساني . لقد اعتقدوا في الامتيازات لكل من اليونانيين و الرومان و فقط لبلدانهم , ما داموا لم يحتلوا بعد و طالما كانوا يحتلون بقية البلدان . لأنهم اعتقدوا أنهم تحت حماية خاصة من آلهتهم الوطنية , فإنهم لم يشعروا بأنهم يملكون الحق في التمرد .. و سقطوا هم أنفسهم في العبودية ...
أنا حر حقا فقط عندما يكون كل البشر , رجالا و نساءا , أحرارا على التساوي . إن حرية البشر الآخرين , أبعد من أن تلغي أو تقيد حريتي , إنها على العكس شيء ضروري لحريتي و تأكيد لها . إن عبودية البشر الآخرين هي التي تشكل عائقا أمام حريتي , أو ما يصل لنفس تلك الدرجة , إن وحشيتهم هي التي تشكل نفي إنسانيتي . لأن كرامتي كإنسان , حقي الإنساني الذي يتألف من رفض إطاعة أي شخص آخر , و أن أقرر شؤوني بما يتوافق مع قناعاتي ينعكس في الوعي الحر بشكل متساوي للجميع و الذي يؤكده إجماع ( مواقفة ) كل البشرية . هكذا فإن حريتي الشخصية , التي تؤكدها حرية الجميع , تمتد إلى ما لا نهاية .
المفهوم المادي للحرية هو لذلك شيء إيجابي و معقد جدا و و قبل أي شيء , اجتماعي بجدارة , لأنه يمكن أن يتحقق فقط في المجتمع و من خلال المساواة الدقيقة و من خلال التضامن بين كل البشر . يستطيع المرء أن يميز العناصر الرئيسية في تحقق الحرية . الأولى هي أنها اجتماعية بجدارة . و أنها التطور الأعلى لكل وظائف و قوى كل كائن بشري , من خلال التعليم , من خلال التدريب العلمي و و الرفاهية المادية , و هي أشياء يمكن تحقيقها فقط لكل فرد من خلال العمل الجماعي , المادي , الفكري , اليدوي و المقيم للمجتمع عموما .
العنصر الثاني للحرية هو السلبية . إنها تمرد الفرد ضد كل سلطة مقدسة , جماعية و فردية .
كانت الثورة الأولى هي ضد الطغيان الأعلى للاهوت , ضد شبح الإله . فطالما كنا سادة في السماء , سنكون عبيدا على الأرض . و سيجري إلغاء عقلنا و إرادتنا بنفس الدرجة . و طالما اعتقدنا بأننا يجب أن نطيع الإله دون شرط , لا يمكن لأي طاعة أخرى أن توجد – علينا بالضرورة أن نخضع بشكل سلبي , دون أدنى تحفظ , للسلطة المقدسة لوكلائه المنصبين و غير المنصبين , للمخلصين ( المفتدين أو للمسيح ) , للأنبياء , و لواضعي القوانين الذي تلهمهم الأديان , للأباطرة , الملوك , و كل موظفيهم و وزرائهم , للممثلين و الخدام المعينين للمؤسستين الأكبر اللتين تفرضان نفسيهما علينا , و التي أنشأهما الإله نفسه ليحكم البشر , أعني الكنيسة و الدولة . تنشأ ( تصدر أو تنبع ) كل سلطة مؤقتة أو إنسانية مباشرة من السلطة الروحية أو المقدسة . لكن السلطة هي نفي الحرية . الإله , أو بالأحرى قصة الإله , هي تكريس لكل عبودية على الأرض و مصدرها العقلي و الأخلاقي , و حرية البشر لن تكون كاملة حتى يتم التخلص من هذه القصة الكارثية و المخاتلة ( الماكرة ) عن وجود سيد سماوي أو مقدس .
هذا يتبعه بشكل طبيعي الثورة ضد طغيان البشر , ضد طغيان الفرد كما طغيان المجتمع , الذي تمثله و تقوننه ( تشرعنه ) الدولة . عند هذه النقطة , علينا أن نميز جيدا بين الامتيازات الرسمية و بالتالي الديكتاتورية للمجتمع المنظم في دولة , و بين التأثير الطبيعي لأعضاء المجتمع غير الرسمي و غير المصطنع و فعلهم الطبيعي .
الثورة ضد هذا المجتمع الطبيعي أكثر صعوبة بكثير بالنسبة للفرد منها ضد المجتمع المنظم بشكل رسمي في الدولة . إن الطغيان الاجتماعي , و هو غالبا هائل و سام ( ضار او مؤذي ) , لا يأخذ ( لا ينسب لنفسه ) الطبيعة التي تعطي الأولوية للعنف و للاستبداد الشرعي و الرسمي الذي يميز سلطة الدولة . إنه لا يفرض في شكل قوانين تفرض على كل فرد , في مقابل العقوبة القانونية ( القضائية ) ليكره على الخضوع لها . إن فعل الطغيان الاجتماعي ألطف , أكثر تخف ( خفية ) , أصعب إدراكا , لكنه ليس أقل قوة و انتشارا من سلطة الدولة . إنه يضع البشر تحت هيمنة العادات و الأعراف , و عدد هائل من الأحكام المسبقة , و عادات الحياة اليومية , التي تتشارك جميعها لتشكل ما يسمى بالرأي العام .
إنها تغمر ( تحيط ) الفرد منذ ولادته , و تخترق كل مظهر للحياة , بحيث أن كل فرد , دون أن يعرف ذلك غالبا , يشارك في نوع من المؤامرة ضد نفسه هو . ينتج عن هذا أنه لكي يثور ( يتمرد ) ضد هذا التأثير ( النفوذ ) الذي يمارسه المجتمع عليه , عليه على الأقل أن يثور ضد نفسه بدرجة ما على الأقل . لأنه في اتجاهاته الطبيعية و آماله المادية و الفكرية و الأخلاقية , ليس إلا نتاجا للمجتمع , و في هذا تكمن تلك القوة ( السلطة ) الهائلة التي يمارسها المجتمع على الفرد .
من زاوية الأخلاق المطلقة , أعني من الزاوية الإنسانية , فإن سلطة المجتمع هذه يمكن أن تكون مفيدة و قد تكون ضارة . تكون مفيدة عندما تنزع إلى تطوير العلم , أو الرفاهية المادية , و الحرية , المساواة و التضامن . و تكون سامة ( مؤذية ) عندما تكون في الاتجاه المعاكس . الانسان الذي يولد في مجتمع من الوحوش , يميل ( ينزع ) لأن يبقى وحشا , و الذي يولد في مجتمع يحكمه الكهنة ( رجال الدين ) , يصبح غبيا , و منافقا , و الذي يولد في عصابة من اللصوص , سيصبح لصا على الأغلب , و إذا ولد لسوء حظه في مجتمع من أنصاف الآلهة الذين يحكمون هذه الأرض , من النبلاء , أو الأمراء , سيصبح مستعبدا حقيرا للمجتمع , أي طاغية . في كل هذه الحالات , فإن الثورة ضد المجتمع الذي ولد فيه لا يمكن فصلها عن أنسنة الفرد .
لكن , أكرر هنا , أن ثورة الفرد ضد المجتمع أصعب بكثير من الثورة ضد الدولة . الدولة مؤسسة مؤقتة , تاريخية , و هي مثل أخواتها من المؤسسات , كالكنيسة , منظمة لضمان امتيازات أقلية ما تستعبد الغالبية العظمى بالفعل .
الثورة ضد الدولة أسهل بكثير لأن هناك شيء ما في طبيعة الدولة نفسها يحرض على الثورة . الدولة هي السلطة , و القوة . إنها التفاخر و الهيام بالقوة . إنها تدعي أنها لا تخطأ أبدا . و هي لا تسعى لأن تغير نفسها , و إذا خففت من طغيانها في بعض الأوقات , فإنها تفعل ذلك بطريقة سيئة . لأن طبيعتها لا تعتمد على الإقناع , بل أن تفرض نفسها بالقوة . و مهما كانت الجهود التي تقوم بها لتخفي نفسها , فإنها تبقى بشكل طبيعي المنتهك الشرعي ( القانوني ) لإرادة البشر , و النفي الدائم لحريتهم . حتى عندما تأمر الدولة بالخير فإنا تنتج الشر , لأن كل أمر تصدره يصفع الحرية في وجهها , لأنه عندما يجري فرض الخير بمرسوم ( بقرار ) يصبح شرا من منظور الأخلاق و الحرية الإنسانية . تكمن الحرية , و الأخلاق , و الكرامة الإنسانية للفرد هنا بالتحديد , في أنه يفعل الخير لا لأنه يجبر ( يكره ) على ذلك , بل لأنه يفهمه بشكل حر , يريده و يحبه بكل حرية .
أما سلطة المجتمع فإنها تفرض ليس بشكل اعتباطي أو رسمي , بل بشكل طبيعي . و بسبب هذه الحقيقة فإن تأثيرها على الفرد أقوى بما لا يقارن من سلطة الدولة . لأن كل الأفراد يخلقون و يتشكلون في وسطها . و هي تنقل إليهم , ببطء , من يوم ولادتهم حتى مماتهم , كل صفاتها ( خصائصها ) المادية , الفكرية و الأخلاقية . هكذا يمكننا القول أن المجتمع يفردن ( يجعله فرديا ) نفسه في كل فرد .
الفرد الحقيقي من لحظة تشكله في رحم أمه يحدد مسبقا و يخصص بنتيجة اجتماع المؤثرات الجغرافية , المناخية , الإثنية , الصحية و الاقتصادية , التي تشكل طبيعة أسرته , طبقته , شعبه , عرقه . إنه يتشكل يما يتوافق مع كفاءاته من خلال دمج ( مزج ) كل هذه التأثيرات الخارجية و الفيزيائية . ما هو أكثر من ذلك , و بفضل التنظيم المتفوق نسبيا للدماغ البشري , يورث كل فرد منذ الولادة , بدرجات مختلفة , لا الأفكار أو المشاعر الداخلية , كما يدعي المثاليون , بل فقط القدرة على الإحساس , الإرادة , التفكير و الكلام . هناك وظائف أولية توجد دون أي محتوى ( مضمون ) . من أين يأتي محتواها ؟ من المجتمع ... من الانطباعات , الحقائق ( الوقائع ) , الأحداث التي تتجمع في نماذج للتفكير و للصح أو الخطأ , و تنقل من فرد لآخر . إنها تتعرض للتعديل , التوسيع , المديح و الاندماج من كل الأفراد الأعضاء و مجموعات المجتمع في نظام متفرد ( واحد ) , يشكل أخيرا الوعي العام ( المشترك ) , الفكر الجماعي للمجتمع . كل هذا , ينقل بالتقليد من جيل لآخر , يطور و يضخم بالأعمال الفكرية لقرون عدة , و يشكل بالتالي الإرث الفكري و الأخلاقي لشعب , لطبقة , لمجتمع ...
كل جيل جديد عندما يبلغ سن التفكير الناضج يجد في نفسه و في المجتمع الأفكار و المفاهيم القائمة التي تخدمه كنقطة فصل ( قطع مع من سبقه ) , تعطيه هذه الأفكار و المفاهيم المواد الخام لعمله الفكري و الأخلاقي الخاص به .. هذه هي أفكار الطبيعة , الإنسان , العدالة , واجبات و حقوق الأفراد و الطبقات , الاتفاقيات الاجتماعية , العائلة , الملكية , الدولة , و عوامل أخرى كثيرة تؤثر على العلاقات بين البشر . كل هذه الأفكار تطبع في عقل الفرد , و تتعدل بالتعليم و التدريب الذي يحصل عليه حتى قبل أن يصبح واع تماما بنفسه ككيان ( كوجود ) . في وقت متأخر أكثر فإنه يعيد اكتشافها , مخصصة و مشروحة , و قد أوضحتها النظرية , التي تعبر عن الوعي العام للأحكام المسبقة الجماعية للمؤسسات الدينية , السياسية , و الاقتصادية للمجتمع الذي ينتمي إليه . إنه هو نفسه مشبع بهذه الأحكام المسبقة بحيث أنه , بشكل تلقائي , بفضل كل عاداته الفكرية و الأخلاقية , يؤيد هذه المظالم , حتى لو لم يكن مهتم شخصيا بالدفاع عنها .
من غير المفاجئ بالتأكيد أن الأفكار التي تمرر ( يجري نقلها أو تمريرها ) بواسطة العقل الجمعي للمجتمع يجب أن تكون عظيمة لكي تتمكن من أن تستحوذ على جمهور الناس . المفاجئ ( المثير للدهشة ) بالمقابل هو أن يكون بين هذه الجماهير أفرادا يحملون أفكارا , إرادة , و شجاعة ليسبحوا ضد تيار التوافق ( التماثل ) . لأن ضغط المجتمع على الفرد هائل جدا لدرجة أنه لا توجد شخصية مهما بلغت قوتها أو ذكاءها من القوة بحيث تكون منيعة تماما على هذا التأثير الاستبدادي و الذي لا يمكن مقاومته .
لا شيء يوضح ( يعكس ) الطبيعة الاجتماعية للإنسان أكثر من هذا التأثير . يمكن القول أن الوعي الجماعي لأي مجتمع أيا يكن , يتجسد في المؤسسات العامة الكبرى , في كل تفاصيل الحياة الخاصة , التي تخدم كأساس ( قاعدة ) لكل نظرياته . إنها تؤلف ( تشكل ) نوعا من المناخ ( الجو ) الفكري و الأخلاقي : رغم أنه قد يكون ضارا , لكنه ضروري بالمطلق لوجود كل أعضائه , الذين يسيطر عليهم بينما يحافظ عليهم , و يقوي الابتذال , و الروتين , الذي يربط الغالبية العظمى من الجماهير معا .
العدد الأعظم من البشر , و ليس فقط جماهير الناس بل أيضا الطبقات صاحبة الامتيازات و المتنورة حتى أكثر من غيرها , تشعر بالمرض بسهولة ما لم يتوافقوا مع ما حولهم بإيمان و ما لم يلتزموا بالتقاليد و الروتين , في كل أفعال حياتهم . إنهم يبررون هذا بأن "آباءهم قد فكروا و عملوا بهذه الطريقة , لذلك علينا أن نفكر و نفعل الشيء نفسه . كل شخص آخر يفكر و يفعل بنفس الطريقة . لماذا علينا أن نفكر و نتصرف بطريقة أخرى ؟" .

نقلا عن http://www.marxists.org/reference/archive/bakunin/index.htm

ترجمة مازن كم الماز








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تطلق الرصاص الحي على متظاهرين سوريين في حوض اليرموك


.. محمد نبيل بنعبد الله في تصريح ل Le360 حول واقعة محطة تحلية ا




.. مطيع البطين: المحتجون في ساحة الأمويين بدمشق يرفضون -الحرية


.. Diffusion en direct de الشرارة




.. وزارة الدفاع التركية: أولويتنا القضاء على حزب العمال الكردست