الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانتفاضة التونسية : شيئان في بلدي خيبا أملي !

فريد العليبي

2011 / 6 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


للمأساة و الملهاة حضورهما اللافت في تاريخ تونس المعاصرة ، ففي أواخر القرن التاسع عشر طوق الجنود الفرنسيون قصر باردو ، في حركة استعراضية طافوا خلالها حول المقر الذي يقيم فيه الباي ، بغرض إجباره على التوقيع على معاهدة الحماية .
و عندما اقترح الجنرال العربي زروق على مولاه مقاومة الغزاة صرخ في وجهه : هل تريد لهذه اللحية أن تخضب بالدم ، مشيرا إلى شخصه ، فما كان من الجنرال إلا أن أجابه : سيدي ، الأفضل أن يقطع رأس فرد واحد من أن يقطع رأس شعب بأكمله ، قبل أن يشهر سلاحه و يغادر القصر مسرعا لكي يلتحق بجموع المقاومين .

و في الخمسينات من القرن العشرين هب أبناء حافية القدمين لمقارعة المستعمرين بقوة السلاح و سطروا ملاحم لا تنسى ، و في لحظة تاريخية ماكرة هُزمت المقاومة المسلحة ، بينما كانت فرنسا و بورقيبة يُعلنان نصرها في يوم تاريخي مشهود . و كانت تلك مأساة كستها الدماء ، التي أراقتها ذات ربيع فيالق جيش فرنسا و عصابات لجان الرعاية ، و ُطلب من كل مقاوم النزول من الجبال و تسليم سلاحه مقابل عشرة دنانير .

و في مطلع القرن الواحد و العشرين تُوشك الملهاة أن تحصل ، فإنتفاضة 17 ديسمبر التي لا نزال نعيش وقائعها المتسارعة أغرقت في الفوضى المُبرمجة ، و مكاسبها المُنجزة تكاد تتبخر ، و أعداؤها يمثلون على خشبة المسرح السياسي دور حماتها.

صحيح أن الظروف التي تجري فيها الانتفاضة الحالية على الصعيد العالمي غير مواتية ، فالامبريالية تلعب في الميدان وحدها تقريبا ، و هي في أوج هجومها على البروليتاريا و الشعوب و الأمم المضطهدة ، و هذا لا يمكن إلا أن ينعكس سلبا علي الانتفاضة ، و لكن في الجانب الآخر من اللوحة هناك أيضا شعب باغتته انتفاضته مثلما باغتت أعداءه ، فوجد نفسه في معمعان المعركة و هو مجرد من أسلحة الثورة الأساسية .

لقد باغتت الانتفاضة السلطة الرجعية ، و بدا بن على غير مصدق لما يحصل و كان و هو يقف قبالة جسد البوعزيزي المغطى بالضمادات كأنما يُعاين ما صنعت يداه بشعب أثخنته الجراح ، فلم يبق في جسده قطعة لحم لم تصبها الحروق ، كان جسد البوعزيزي الصغير المسجى على سرير المشفى يختزل جسد الشعب الكبير الذي أنهكه القهر و الفقر و القمع .

هل كان بن على مزهوَا بما فعل ، أم كان يعتصره الألم ؟ بالتأكيد لم يكن هذا و لا ذاك ما كان يراوده ، فقد كان منشغلا بأمر آخر : ضمان استمرار حكمه ، كان في تلك اللحظة الدراماتيكية يحاول الإيحاء للناس بصورة أرحم الراحمين و لكن ما سماه العقيد الليبي يوما نجم شمال إفريقيا كان قد أفل ، و الشعوب لا تحب الآفلين .

و فضلا عن هذا كان الشعب الذي اندفع مثل إعصار واقعا تحت تأثير الحدث ، فهو لم يختر لحظة انتفاضته ، و متى كانت الشعوب تختار ذلك ؟ لقد اشتعل عود ثقاب و وجد بقعة زيت بحجم وطن ، فتحول إلى كومة لهب ، و في قلب الحريق اكتشفت الجماهير قيمتها و قدراتها ، و تعرفت على بعض مطالبها و آمالها .

وعندما كان الشعب يُغني نصره بعد هروب الطاغية ، و التناقض يحتد بين القبة و القصبة ، قفز إلى قلب المشهد شيخ من رماد التاريخ ، ملتحفا رداء شعبويا ، موظفا في خطبة الآيات و النكات و الأمثال الشعبية ، وصولا إلى مجالسة المعتصمين أمام القصر الذي ُيؤوي حكومته ليقول لـ" أبنائه " بنبرة باطرياركية : إن الاعتصام لا يُفيد و الأفضل الذهاب إلى العمل . ارتدى ذلك الشيخ جبة بورقيبة و استعار كاريزماه ، و هو يعلم أن ملهمه قد مات في وعى من يخاطبهم ، و لكنه كان يعول على لا وعيهم لاستنساخه من جديد ، فهو يعتقد أن داخل أغلب التونسيين ينام المجاهد الأكبر .

كان شعار بورقيبة : الصدق في القول و الإخلاص في العمل ، و بعد سنين من العذاب نطق أحد شعراء الشعب بالحقيقة المرة ليقول : شيئان في بلدي خيبا أملي الصدق في القول و الإخلاص في العمل ، و اليوم يردد ذلك الشيخ الشعار ذاته أما الشعب فيُردد مبتسما ما نطق به شاعره ، فقد علمته الانتفاضة بسرعة الدرس الذي تعلمه فيما مضى بعد طور سنين .

أصبح اليوم أغلب الناس مُدركين أن الثورة لم تقع ، و أن الشعب لا يحكم الوطن ، و شيئا فشيئا أخلى الشعور المفعم بالأمل المجال أمام الإحساس بالإحباط ، وتمكنت الرجعية من أن تجعل من الثورة كلمة مستهجنة لدى كثيرين .
لقد ذبلت زهورالانتفاضة تحت وقع ضربات أعدائها ، يجب الاعتراف بذلك ،
و الأحلام سرعان ما تزول و هي تواجه عناد الوقائع ، و قد شبع الشعب أحلاما و هو يستيقظ الآن و يفرك عينيه ليرى ما لم يرد رؤيته . إنه يستيقظ من حلمه على وقع الكوارث الواقعة و القادمة ، و الفردوس يتوارى ، و الجحيم يفتح شدقيه و ما كان ممكنا أو يكاد توارى خلف جبال المستحيل ، و حل الكفر بـ"الثورة "محل الإيمان بها ، و أكاد أسمع الشعب و هو يبكي " ثورته " التي غدروها .

و من البوعزيزي المحترق الى العاشوري المغتصب كتبت فصل جديد من تاريخ تونس ، تجد فيه بيُسر البطولة و التضحية و الكفاح و المقاومة جنبا إلى جنب مع اللصوصية و النفاق و الخيانة و الغدر و التضليل .غير أنه إذا كان للعقل تشاؤمه فإن للإرادة تفاؤلها و حماستها ، و على الشعب حث الخطى ليكتب فصول معاركه القادمة باقتدار أكبر فالثورة تعلم المضطهدين فنون الذكاء .

في صميم الأحداث المتلاحقة برزت أيضا قوى الماضي التليد ، تلك التي ترعرعت في ظل التحديث الهجين ، وظلت متوارية تحت قشرة عصرانية باهتة ، أطلت تلك القوى برأسها لتنفث الغباء و الظلام و الجهل والتحريم ، وهى التي ورثت عن بن على بنوكا إسلامية و إذاعة دينية و آلاف المساجد و الجوامع فحولتها إلى منابر للشحن الإيديولوجي و السياسي فغرقت " الكائنات المضطهدة " في زفراتها و أناتها التي لا تنتهي .
و انتبه من لهم عقول تفكر أن ارتدادا على وشك الحصول ، وأن ستارا أسود قاب قوسين من أن يُسدل ، فقد أضحت العيون متجهة إلى الخلف ، و هي تحاول أن تستلهم من الأموات حلولا قدسية لما عجز عنه الأحياء .

و اليوم يهدد الماضي المستقبل و يمسك بعنقه متوعدا بإزهاق روحه ، و هناك مخاطر جدية للنكوص إلى الماضي الأليم ، بما يذكر بكلمات ماركس عند حديثه عن وضع مشابه مرت به فرنسا غداة ثورة 1848 : " إن شعبا بأكمله كان يتصور أنه قد سَرع عن طريق الثورة تطوره ، يجد نفسه فجأة يرجع القهقرى إلى عصر انقرض " .

لقد وصفنا فيما مضى الانتفاضة باعتبارها عتبة من عتبات التاريخ ، فهي تفتح طريق الثورة ، و هذا أكبر مكسب من مكاسبها فالشعب يتمرن الآن على الكفاح ، و بين أخذ و رد ، و تقدم و تراجع ، و تردد و ثبات ، يُراكم الدروس ، و يتعرف شيئا فشيئا على أعدائه و أصدقائه ، و لن يطول به البحث طويلا لكي يجد نقطة ارتكاز لهجوم ثوري آخر ، قد يحقق ما عجزت عنه الانتفاضة الحالية ، و من ثمة فإن التراجعات هنا و المراوحة هناك لا يجب أن تزرع اليأس بقدر ما يجب أن تكون حافزا على اندفاع جديد .

لقد عاش الشعب منذ 17 ديسمبر و حتى الآن و هو يخوض معركته ضد جلاديه الدفاع و الهجوم ، في حركة ما فتئت تتعقد خلالها المهمات ، و تبرز فيها مصاعب كبرى ، و في كل مرة كانت تتكشف دروس جديدة مليئة بالعبر، و سوف يتواصل ذلك بحدة أشد خلال الفترة القادمة ، و المهم في كل ذلك هو الإمساك بذلك الشعار التاريخي الذي رفعه المنتفضون : الشعب يريد إسقاط النظام ، فهو يُعبر بكثافة عن الاتجاه الذي يجب أن يسير وفقه الكفاح من أجل الحرية . و ما يُعانيه الشعب راهنا من متاعب ليس إلا آلام ولادة ، وقد يطول المخاض ، و لكن الوليد سيرى النور لا محالة و سيشتد ساعده ، لكي يصيح أخيرا في من حوله : " ما عادت ترهبني القوة ، فالقوة يملكها زندي " .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الحلقة المفقودة
علي البعزاوي ( 2011 / 6 / 14 - 10:33 )
اتفق مع المقال في جملته..واحيي فيه نبرته التفاؤلية.اريد فقط ان اضيف ان الحلقة الضعيفة بل المفقودة في الثورة التونسية هو غياب القيادة السياسية التي تسلحها بالبرنامج والشعارات وتعبئها حولها وتحصنها ضد مخاطر الانفلات والفوضى وتتدرج بها نحو الانتصار على اعدائها حسب خطط مدروسة تاخذ بعين الاعتبار حالة التعبئة والاستعداد لدى الجماهير من جهة وحالة الانسجام او التفكك في المعسكر المقابل...الاكيد ان اليسار الراديكالي كان حاضرا في هذه الانتفاضة وساهم فيها بالتمهيد لها ابتداء من حراك الحوض المنجمي وبالحضور وسط المظاهرات ورفع الشعارات التي تنسجم مع تطلعات الثوار فكان شعار التشغيل استحقاق يا عصابة السراق وشعار شغل حرية كرامة وطنية ثم رفعت في مرحلة ثانية الشعارات السياسية المنادية برحيل الدكتاتور والمطالبة باسقاط حكومتي الغنوشي 1 و 2 والمطالبة بحل جهاز البوليس السياسي وحل التجمع الحاكم والدعوة الى انتخاب المجلس الوطني التاسيسي....لكن هذا الحضور على اهميته لم يرتق الى مستوى القيادة الفعلية السياسية والتنظيمية.فكانت النتيجة نصف نجاح.لكن الثورة مازالت متواصلة وهي في منتصف الطريق وبالامكان التدارك.


2 - الانتفاضة التونسية
ابو ادم ( 2011 / 6 / 22 - 01:27 )
شكرا استاذنا على المقال الادبى الرائع .فقط اردت ان اضيف يا رفيقى ان الانتفاضة فى تونس هى الوحيدة فى تاريخ تونس التى لم تكن لها قيادة فانتفاضة صاحب الحمار قادها احد ابطال الهمامة وكذا الشان مع علي بن غذاهم و الدغباجى و خليفة بن عسكر ومصباح الجربوع و البشير بن سديرة ولزهر الشريطى و غيرهم .وكما قلت الشعب يتدرب على الحرية و النضال والسيطرة على غول الخوف والمهم فى هذا السار التاريخى اننا اكتشفنا اننا عربا و بامكاننا ان ننجز نهضة


3 - مرحبا
سمير بن عمر القيرواني ( 2011 / 8 / 1 - 20:09 )
مرحبا لمن أصبح يكتب في السياسة بعد 14 جانفي. عاشت الماوية.


4 - القيرواني يجهل من هو فريد العليبي
عماد الصالحي ( 2011 / 8 / 2 - 22:24 )
سمير بن عمر القيرواني ليست له الجرأة حتى على النقاش سافر الوجه ، انه يفعل ذلك مرتديا نقابا و مع ذلك سنجيبه الى ما طلب : فريد العليبي من ابطال انتفاضة 17 ديسمبر و هو من تولى في مدينة المكناسي قيادة التحركات الاحتجاجية التي حوصر خلالها مركز البوليس و اجبار قوات القمع على التراجع لاول مرة يوم 24 ديسمبر 2010، في هذا اليوم سقط أول شهداء الانتفاضة محمد العماري غير بعيد عن المكناسي ، و هناك فيديوهات منشورة على الفايس بوك تبين ذلك هذا عمليا اما فكريا فعندما كان القيرواني و امثاله في الجحور كتب الدكتور فريد العليبي مقالا نشر يوم 2 جانفي بموقع الاوان يفضح فيه الجريمة المرتكبة في حق اهالي سيدي بوزيد التونسية ، يومها كان بن على يحكم بامره و كان القيرواني و اشباهه في الكهوف هنا رابط المقال المذكور
http://www.alawan.org/%D8%B3%D9%8A%D8%AF%D9%8A-%D8%A8%D9%88%D8%B2%D9%8A%D8%AF.html


5 - الصدق و الإخلاص و الباجي
رضا ( 2011 / 9 / 30 - 13:54 )
نص يحسن التفاعل مع الأحداث، و لكنه يصمت عن تفصيل القول في باعة المسار الثوري...علمنا أن ما سميناه ثورة كان حكما متهافتا ، و نتاجا للاوعي ثوري...و لكننا بتنا نستحق التذكير بصانعي المأساة، فليست الامبريالية قادرة على اختراق شبكة من الموحدين حول برنامج ثوري ...

اخر الافلام

.. التوتر يشتد في الجامعات الأمريكية مع توسع حركة الطلاب المؤيد


.. ما هي شروط حماس للتخلي عن السلاح؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. استمرار تظاهرات الطلاب المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمي


.. وفد مصري إلى إسرائيل.. ومقترحات تمهد لـ-هدنة غزة-




.. بايدن: أوقع قانون حزمة الأمن القومي التي تحمي أمريكا