الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كفانا حُبَّاً.. كفى وصايةً

حكمت الحاج

2012 / 1 / 20
الادب والفن


في لقطة معبرة، خاطفة وسريعة، على شاشة إحدى الفضائيات الأوروبية الناطقة باللغة العربية، كان هناك رجل مُسنٌّ يصرخ فيما يتوارى صوته تدريجيا خلف صوت المعلق على الشريط المعروض، بما يمكن كتابته بالفصحى تماما أَنْ: اتركونا وشأننا!
 
كان ذلك التقرير التلفزي عن تونس ومن تونس بمناسبة انتخابات المجلس التأسيسي التي تمت مؤخرا وبكل نجاح.
 
ولكن لمن كان ذلك الشخص المجهول يوجه خطابه يا ترى؟
ومن هم أولئك الذين يريدهم أن يتركوه وشأنه؟
 
يمتلئ الفضاء الإتصالي الراهن بعشرات بل بمئات المقالات والأخبار المكتوبة، والمناظرات والحوارات والتحليلات المرئية والمسموعة حول الشان التونسي العام في مرحلة الثورة وما بعدها، وجُلَّها إنْ لَمْ نقلْ كلَّها هي من تلك التي ينتجها غير التونسيين، تتعلق بالخوض في تفاصيل البلاد ثورةً وشعباً وحكومةً وانتخاباتٍ وتشريعات وأحزاباً وحريةً وديموقراطيةً وما إلى ذلك مما جعل تونس مناراً لهُدى الحائرين ومَحَجَّاً يأتيه القوم من كل فجٍّ عربي عميق، كيف لا وتونس مُفْتَتَحُ الثورات وبدء انطلاق عطر الياسمين الذي عطَّرَ بضَوعِهِ ربيعَ أُمَّةٍ ما عرفت طوال تاريخها غير كآبات الخريف الطويل.
 
ولكن المتملِّي والمُمْعِن النظرَ في كل ما أسلفنا ذكره من أنشطة وفعاليات، سيلحظُ ويا للأسف، ومن الوهلة الأولى انتظامها في تعبيرة واحدة تتردد هنا وهناك بهذا الشكل أو ذاك، ألا وهي: النُّصحُ والوصاية.
 
فجأةً، أصبح العرب، سواء أكانوا على ميمنة تونس أم على ميسرتها، أهلَ رُشدٍ وبصيرة، تاركين وراء ظهورهم مشكلات بلدانهم ومعضلاتها التي لا تنتهي، بدءاً من أنظمة الحكم المتهرئة إلى تهاوي البنى الاجتماعية والاقتصادية الرخوة أصلا، مرورا بعوارض الأمية والفقر والمرض، وليس وصولا إلى انعدام الحريات العامة وخدعة البرلمانات المزيفة، وصار لا شغل لهم إلا تونس وثورتها وانتخاباتها وتجربتها الجديدة في الحياة الحرة الكريمة. فَهَاتِ يا نُصحُ وَهَاتِ يا توصيات وَهَاتِ يا "يَنْبَغيَّات"!
 
وهكذا فنحن أمام نوع من أنواع القفز على الذات من أجل نُكْرَان ما تعانيه، وإخفاء الخوف الكامن في الأعماق من نجاح التجربة التونسية في إدارة شؤون الناس والبلاد، بعد أن نجحت الثورة التونسية في إرساء عقدٍ اجتماعي جديد أساسهُ الإنسانُ وأُفُقهُ الحريةُ.
 
وخذ مثالا على هذا الخوف المؤسس المغلف بالوصاية عند العرب العاربة، زيارة صاحبهم التركي إلى مصر وتونس بعد انتصار ثورتيهما. فها هو رئيس وزراء عصري بملابس السلطان سليم الأول وحذاء السلطان محمد الفاتح. يتسول على أعتاب أوروبا لعلها تقبله في النادي الأوروبي لكنه لا يتورع عن إعطاء دروس بليغة لمن كانوا رعايا إمبراطورية آل عثمان السابقين.
 
لم يكلف أحدٌ نفسه لكي يسألَ السيد رجب طيب أردوغان لماذا تقتل الأبرياء في شمال العراق بحجة كونهم أكرادا. لماذا تقصف يوميا كردستان العراق بالطائرات وقد راح ضحية عمليات القصف العشرات من الأبرياء في القرى الفقيرة. ولماذا تركتهم بعد الزلزال في العراء بلا معونات بحجة سوء الأحوال الجوية. إن الرعب التركي من الانفصال الكردي عن الجسد العثماني يجعل أردوغان يُصَدَّرُ أفكاره السخيفة عن النظام العلماني والحزب الحاكم الإسلامي في خلطة مطبخية عجيبة. لكن سيطرة الجهل على عقول النخبة العربية إلى درجة تقديسهم للعثمانلية التي عفى عليها الزمن يجعلهم لا يفرقون بين ما هو تاريخي وما هو ظرفي. المشكلة إن المثقفين الرسميين العرب تسكن دواخلهم عوامل حنين ديني وغيبي له علاقة بالتربية والجذور والخرافة، لذلك فإن أغلبهم يعانون من انفصامٍ حادٍّ سيكولوجي ومعرفي، فما بالك بالرجعيين والسلفيين وأهل القدامة.
 
كم زعقتْ أصوات في فضائيات عربية، وكم دبَّجتْ أقلامٌ شهيرة صفحات وصفحات، تحذر من انقسام مجتمعي وعنفٍ طائفي وحربٍ أهلية ستَلُمُّ بتونس إن هي فعلت كذا ولم تفعل كذا، وَسَتَلُمُّ بالتونسيين إنْ همْ لمْ يستجيبوا للنصيحة ولم يمتثلوا للوصاية.
ولكن أي شئ من هذا لم يحدث. وخابتْ الظنونُ. ومرت الانتخابات الأولى من نوعها في تاريخ المنطقة بكاملها، بلا عنفٍ يُذكرُ.
 
أعتقد إن الشاعر الراحل محمود درويش هو الذي قال للعرب إبان ازدهار الاهتمام بالقضية الفلسطينية كقضية مركزية عند العرب: "ارحمونا من هذا الحب القاسي".
 
وما أحسب إلا ذلك الرجل التونسي الطيب البسيط الذي ظهر لثوانٍ على التلفاز الأوروبي يقول لنفس أولئك العرب الذين قصدهم درويش بكلامه، اتركونا وشأننا. ارحمونا من حبكم القاسي، وكفى وصاية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: خالد النبوي نجم اس


.. كل يوم - -هنيدي وحلمي ومحمد سعد-..الفنانة دينا فؤاد نفسها تم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -نجمة العمل الأولى