الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


احلام الحضارة ام احلام الهامش والمهمشين( تامل 8) ق- أطباء الحضارة واليقظة من الحلم وفي الحلم

محمد قرافلي

2012 / 3 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


ق- أطباء الحضارة واليقظة من الحلم وفي الحلم
لعل من أصعب المهام ومن اخطر الامتحانات التي يعرفها الإنسان هو معرفة أسرار الأحلام وأصلها وكيف تنبعث في سماء الكائنات لحظة ولادتها،هل قبل الولادة أو أثناءها أو بعدها، في النوم أم في اليقظة أم بينهما، قبل السفر أو خلال مسيرته أو في محطة من محطاته، عند ليل الحضارات وعبر مخاضها، في فجر الحضارات أم أثناء فتوحاتها أو لحظة اندحارها، والأخطر من ذلك كيفية استقبالها وقراءتها وكيفية الحياة فيها ولأجلها خاصة انه يحصل أن تنبثق في اللحظة الواحدة ما لانهاية من الأحلام ليس في قلب الحضارة الواحدة بل عند كل الحضارات المجاورة فكيف يمكن الحسم في ذلك، وهل يمكن للكائنات التنازل عن أحلامها خاصة أن سلطان الحلم حين يتمكن من النفوس يتحول إلى عقيدة ومقدس والى صنم والى ملحمة فردية وجماعية والى عصاب وهوس جماعي ويصير أهم من الهواء والماء. فمن لا حلم له لا هوية له، ومن لا حلم له لا وطن ولا بحر ولا بر له، والناس يتمايزون ويتفاضلون بأحلامهم، فأحلام ساكن القصر ليست هي أحلام قاطن الكوخ وأحلام صاحب الكوخ تختلف عن أحلام من لا مأوى له ، وأحلام من بطنه ممتلئة ومنتفخة ليست تشبه في شئ أحلام من معدته فارغة وأمعاؤه ملتصقة، ومن ينعم بالحرية تختلف أحلامه عن عصفور محبوس في قفص بلاستيكي وأجنحته مقتصة ....وأحلام الرجل الأبيض تختلف عن أحلام الرجل الأسود، وأحلام السماء تختلف عن أحلام الأرض، وان سلمنا أن غريزة الحلم واحدة وموزعة بالتساوي بين كل الكائنات فان كل واحد يعيشها بطريقته ووفق شروطه وإمكاناته. أسوق لك بعض الإشارات ليس بغرض التمويه أو التفلت من المهمة المنتظرة وإنما بدافع الإحساس بثقلها وبأهمية المسؤولية وقصد إيضاح ما أمكن توضيحه للاعتبار فقط ومواصلة المسير.
أما الامتحان الثاني والذي لا يقل خطورة عن سابقه، يتمثل في كون الأحلام لا تقبل النقل والمماثلة أو النمذجة أو الاستنساخ والاستنبات ،رغم غرزيتها وتنوعها وتعددها وتشتتها في المعمور، في بره، بحره، وفي أكوانه ومداراته، وسرعة انتقالها وتداولها التي تفوق سرعة تداول البضائع والأفكار بحكم أن الإنسان قبل أن يقدم على اقتناء أدنى آنية أو أزهد بضاعة أو أرفع منتوج مما تفتقث عنه عقول الموضة فانه يراوده أولا طيفه ويرى أولا نفسه في مرآة الحلم وهو يحصل على مراده مراودة وصل الحبيبة للعاشق ومراودة حرير الصين لحريم السلطان ومراودة الدولار وقوته للرأسمالي.
من الممكن أن تحصل العدوى عن طريق وسائل الدعاية والترويج وعن طريق التحريض والترغيب وحتى بواسطة سلطة الترهيب قصد تحقيق التنميط ...مما يؤدي فعلا الى تناسل وتكاثر نسخ الحلم وأشكاله الى درجة يستعصي فيها التمييز بين النسخة والأصل ويتجلى ذلك خصوصا في مجالات الإنتاج المادي. إلا انه في مجال الحلم عادة ما نسقط ضحية خداع ووهم وعجز عن التمييز ناتج عن فقدان القدرة على إنجاب الحلم، والثقة فيه، فنتلبس حلم الآخر ونستبطنه ثم ما نلبث أن ننتقم من صاحبه ونقتله ماديا ورمزيا ونسلخ جلده وشكله وهيئته وتصير هويتنا هويته وشخصيتنا شخصيته ونمضي نتباهى في الأسواق، قد يدعي فنان انه يحمل حلم عبد الوهاب وألحانه ومشروعه وان عزفهما على أوتار العود واحد، وقد ينكر أن يكون متأثرا بحلم عبد الوهاب مزيدا من ترسيخ تلك الهوية وتكثيف ذلك الحلم مادام النفي في حد ذاته إثبات، وقس على ذلك المدارس الأدبية والفكرية والفلسفية والدينية والتي لا تجد أدنى حرج في تقمص أحلام الآخرين ومسخها وتشويهها بحثا عن بطاقة الهوية وجواز المرور ورغبة في انتزاع الاعتراف. حتى أصبحنا نرى اليوم الواحد يدعي انه نتشوي عند الفجر، وماركسي أثناء الظهيرة، وهيجلي عند المساء، وابيقوري بعد العشاء، وفرويدي عند منتصف الليل، والأخر سني يوم الجمعة، وشيعي في عاشوراء، وعرفاني في رمضان، وثالث تروتسكي في الحرم الجامعي، وباخوسي خارج الحرم، ومتسكع بينهما، ورابع ليبرالي متحرر وديمقراطي إعلاميا، ورأسمالي استغلالي اجتماعيا، ومنافق متزلف سياسيا، أما القطاع العريض فاليوم تجدهم يهتفون للحلم البارشلوني وغدا للريالي ويتناوبون في تقاسم الأدوار وفي المناوبة على الأحلام شان تناوب أحلام البرلمانيين، وكل فريق ونائب فريق يحلم وينتظر نوبته.
أتمنى ألا أحبط انتظاراتكم وألا ابخس أحلامكم مادامت أحلامكم هي أحلامي، ولكن هون على نفسك فلا احد يمكنه القيام بمسح الطاولة وتطهير الأرض من الأحلام التي تعمرها حتى آلهة الأساطير تعجز عن ذلك لسبب بسيط أنها ما كان لها لتكون لولا عالم الحلم وما كان لها أن تستمر وتخلد لولا خلود وأبدية الحلم. فلا غرابة أن يختفي بعضها ويبقى الحلم، وكذا ليس الغرض عرضها في سوق المفاضلة والمراهنة والمضاربة ودعوتكم لا حلى صفقة مجانية حتى تتمكنوا من انتقاء ما يلائم ذوقكم، إذا كان الأمر كذلك ما الغاية من طول ولهفة انتظاركم ومن حرصكم على حلم متميز يزهر في أرضكم القاحلة يبهركم وتبهرون به من حولكم !
عاودوا التحديق والتفتيش في موائد أحلامكم وفي أعماقكم قد تجدون حلما امثل من حلمي لكم ! قبل أن أكاشفكم بحلمي الموعود وبعدما تبين صعوبة المهمة فاني ادعوكم إلى تأمل هذه الحادثة لعلها تمكننا قليلا من تلمس الطريق والإمساك بخيط الحلم الموعود. يروي" مارسيا إلياذ" (1907-1986) عالم الأساطير قصة نقلا عن "هاينريتش زيمر" (1890-1943) المختص في دراسة اللغة السنسكريتية وفي تاريخ الحضارة الهندية، والتي تدور أحداثها حول حاخام ورع اسمه ايزيك يقيم بمدينة كراكوفي البولونية العريقة بتراثها وتقاليدها. حصل للحاخام الورع أن رأى حلما غريبا يدعوه إلى شد الرحال إلى مدينة براغ التشيكية حيث يوجد كنز مدفون تحت القنطرة المؤدية إلى القصر الملكي، تردد في بادئ الأمر ولكن بعدما ظل الحلم يراوده لثلاث مرات متتالية تيقن من حقيقة حلمه، وقرر في الأخير الاستجابة للنداء الباطني. عند وصوله إلى براغ وجد القنطرة مشددة الحراسة، ليل نهار، ولم يتمكن من التنقيب عن كنزه. ظل يتربص ويتحين الفرصة مما أثار انتباه ضابط الحرس، الذي توجه نحوه متسائلا في أدب إن كان ضاع منه شيئا ما. رد الحاخام بلطف ساردا حكايته ومعترفا بسر مجيئه إلى براغ. انفجر قائد الحرس من الضحك: " أحقا أبها المسكين" مضيفا " أقطعت كل هذه المسافة الطويلة بسبب حلم ؟ " "وهل هناك شخص عاقل يصدق حلما ؟" بدوره اخبر الضابط الحاخام انه كان قد سمع في حلمه صوتا يحدثه "عن مدينة كراكوفي ويأمره بالذهاب إلى هناك حيث يوجد كنز عظيم بمنزل حاخام ورع يدعى ايزيك بن جيكل، وان الكنز مدفون في ركن مهجور خلف الموقد " ولكن الضابط لا يؤمن بالأصوات التي تأتيه أثناء الحلم، انه شخص متعقل. انحنى الحاخام شكرا للضابط، وعاد مسرعا إلى مدينته. اخذ يحفر في الركن المهجور من بيته إلى أن عثر على الكنز الذي وضع حدا لمعاناته.
" هكذا يعلق هاينريش زيمر على الحادثة بان الكنز الحقيقي الذي ينهي معاناتنا وابتلاءاتنا، لا يكون دائما بعيدا عنا. فلا ينبغي البحث عنه في مكان بعيد. فهو ملفوف ومحجوب في هوامش بيوتنا الأكثر قربا وحميمية، بمعنى أدق في عمق وجودنا الخاص. يوجد خلف الموقد الذي هو مصدر الحياة والدفء والمتحكم في وجودنا، شريطة أن نعرف كيفية التنقيب عنه. إلا أن انكشاف ذلك النداء الباطني( الحلم) لن يتأتى أولا إلا بعد رحلة إيمان وسفر إلى مناطق بعيدة في بلد غريب وعلى ارض جديدة ، ثم نحتاج ثانيا إلى الآخر، شخص غريب، مختلف عنا من حيث الاعتقاد والعرق."
هكذا يمكننا تأسيس نقطة انطلاقة حقيقية لنزعة إنسانية كونية جديدة.
E .Mircea,le symbolisme religieux et la valorisation de l’angoisse, p81-82 (tome8),les éditions la baconnière, Neuchatel,1953
يتبع............








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التوتر يشتد في الجامعات الأمريكية مع توسع حركة الطلاب المؤيد


.. ما هي شروط حماس للتخلي عن السلاح؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. استمرار تظاهرات الطلاب المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمي


.. وفد مصري إلى إسرائيل.. ومقترحات تمهد لـ-هدنة غزة-




.. بايدن: أوقع قانون حزمة الأمن القومي التي تحمي أمريكا