الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منهجية ابن خلدون ونظرية التطابق التاريخي

تيسير خروب
كاتب وباحث

(Taiseer Khroob)

2005 / 2 / 28
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


أن المؤرخ (المحايد) يجب أن تكون له وجهة نظر خاصة ولا يكون مجرد جهاز تسجيل يقف بسلبيته أمام ما يقدم إليه من أحداث التاريخ مكتفياً بالتسجيل فقط ... بل إننا نقصد بحياده أن يسهم بأمانة في الكشف عن القوانين الصحيحة التي توجه مسار التاريخ ...
ومن الواجب أن يكون المؤرخ منزهاً عن الكذب الذي يقام في أساسه على الأثرة وحبّ الذات والسير وراء الأهواء والأغراض والمنافع الخاصة حتى لا تشيع الشائعات بهذا الكذب وتتناقله الأفواه ويسجله الرواة في ما يسجلون من الروايات والأخبار. وحينئذ يختلط الحق بالباطل وتعمى المسالك على الباحثين، حتى لقد يصبح البريء ـ أحياناً ـ مسيئاً والمسيء بريئاً. ويوصف الظلم والطغيان بأنه عدل وإحسان
إن أول مرحلة من مراحل نقد الأصول التاريخية هي إثبات صحتها، لأنه إذا كان الأصل أو المصدر كله أو بعضه (مزيفاً) أو (منتحلاً) فلا يمكن الاعتماد عليه على وجه العموم. صحيح أن تزييف الأصول والوثائق صار اليوم أصعب منه في الماضي، ولكن دوافع التزييف والدس لا تزال قائمة.
وقد تزيّف (الآثار المادية) في أحوال كثيرة لدوافع مختلفة، ومن أمثلة ذلك ما حدث من وجود مجموعة من الأواني والأدوات الفخارية في مدينة القدس سنة 1872م، وقد دلّ على وجودها ((سليم العربي)) الذي كان يعمل في خدمة بعض المنقبين عن الآثار في فلسطين، واشترى بعضها متحف برلين. ولكن البحث العلمي أثبت أن هذه الآثار مزيفة ...
وقد تزيف الكتابات التاريخية والوثائق في أحوال كثيرة لدوافع مختلفة، ومن أمثلة ذلك مجموعة من الخطابات والتواريخ والأشعار طبعت في إيطاليا بين عامي 1863 ـ 1865 على أساس أنها كتبت عن جزيرة (سردينيا) في الفترة بين القرنين الثامن والخامس عشر، وبعد فحص (العلماء) لها وجدوا أن ما جاء بها لا يطابق ولا يشابه ما عرف عن خطوط سردينيا وتاريخها في أثناء تلك الفترة. ومن ثم قرروا أنها مزيفة وغير حقيقية.
وهذا ينسحب على التاريخ الروماني والفارسي والاسلامي وكل تاريخ الحضارات البشريه التي قامت واندثرت او التي لا زال لها امتداد حضاري يصغر ويكبر حسب الظروف السياسيه والمعطيات الدوليه0
وقد اتبع ابن خلدون ( 1332 - 1406 عبد الرحمن بن محمد بن خلدون المولود في تونس وعاش في اقطار المغرب العربي المختلفة ما يقارب الخمسين عاماً . ثم استقر به الامر بعد ذلك في مصر التي وصل اليها سنة 1384 ، وبقي فيها حتى وفاته منهج النقد والاستقصاء والملاحظة توصلاً إلى نقد الأخبار نقداً علمياً ونقد الطرق المتبعة عند المؤرخين والتعرف إلى مواطن الخبر، واستقصاء مظانّه، ومناقشة الروايات، والمقارنة بينها، وبذلك تكمل الرواية وتحقق الدراية ما عسى أن يكون في (الخبر) من تحريف أو مبالغة أو تزوير إذ كثيراً ما يتطرق (الكذب) إلى الروايات تشيعاً لرأي أو زلفى لحاكم أو رئيس وما إلى ذلك.
وكان ابن خلدون شديد الاعجاب بالناحيه التاريخيه من مؤلفاته فهو يعتبر ان هذا التاريخ الذي عني به قد استوعب اخبار الخليقه واعطى للحوادث عللها واسبابها متحاملا بالوقت نفسه على من سبقه من المؤرخين وبيان ماوقع فيه هؤلاء من اوهام واخطاء وتحريف في النقل عاصما نفسه من الوقوع في مثل ما وقعوا فيه من خلال اتباع منهجية التاريخ العلميه وقانون المطابقه الذي ابتكره من خلال اخذ الحادثه التاريخيه او الخبر التاريخي واخضاع كل ذلك لقانون المنهجيه ونظرية مطابقته للواقع00فمثلا ما اورده المسعودي في تاريخه وغيره من المؤرخين من ان جيوش موسى بن نصير التي فتحت المغرب قد بلغت 600000مقاتل فهذا من وجهة نظر ابن خلدون لا يثبت امام النقد التاريخي وذلك لاسباب جغرافيه بعدم اتساع ساحة المعركه لهذا الجيش وجيوش خصومه والاقوام الاخرى التي كانت شاهدة على هذا الفتح وانها اشبه بالقصص والخرافات منها الى الحقيقه وحادثه اخرى نقدها ابن خلدون رواها المسعودي ايضا كما رواها معظم المؤرخين من ان جيوش بني إسرائيل الذين كانوا مع النبي موسى عليه السلام بعد خروجهم من مصر بأتجاه فلسطين أحصاهم في التيه بعد أن أبقى منهم مَن يطيق حمل السلاح وهم الشبان الأقوياء الذي بلغوا سن العشرين فما فوقها ولم يدركهم ضعف الشيخوخة فوجدهم ستمائة ألف أو يزيدون.
ويقول ((ابن خلدون)): إن المبالغة في هذا الرقم واضحة وإن تحديد الجيش بهذا العدد أمر غير معقول. وإن القوانين التي يخضع لها تزايد السكان تحكم بعدم إمكان صحته .. ذلك أن ما بين موسى ويعقوب (ع) هو أربعة آباء فحسب، فموسى هو ابن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب.
وقد كان مقامهم بمصر منذ دخل يعقوب إليها هو وأولاده إلى أن خرجوا منها مع موسى (ع) إلى التيه في شبه جزيرة سيناء، كان مقامهم في مصر مائتين وعشرين سنة فإذا كان عددهم حينما دخلوا مصر سبعين نفساً ـ كما ذكرت الروايات المختلفة ـ فمن المستحيل أن يتشعب هذا النسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد الضخم أي يزيد عدده إلى ما يساويه عشرة آلاف مرة .. من المستحيل أن يكون ذلك بحسب القوانين التي يسير عليها التزايد في النوع الإنساني0 هذه هي نظرية التطابق التي نادى بها ابن خلدون في تدوين التاريخ 000وقانون المطابقه هذا هو الذي يستند عليه ابن خلدون في نفي ما يروى عن معاقرة هارون الرشيد الخليفه العباسي الخمر وانما كان يشرب منقوع التمر على مذهب اهل العراق آنذاك00الم يكن يعلم ابن خلدون ان تخمير منقوع التمر وحفظه في اواني فخاريه ضمن ظروف حراريه لايام او اسابيع او اشهر يصبح في النهايه خمرا مسكرا يذهب بالعقل00فالتمر مثله مثل العنب وبقية الثمار الاخرى التي عرفها الانسان منذ القدم والتي ما زالت تدخل في صناعة اجود انواع الخمور00فكيف يبيح للخليفه شرب الخمر على انه منقوع التمر00؟
منهج ابن خلدون يقوده ايضا الى التعصب لال البيت والمدافعه عنهم بشكل عام حيث يقول: ان الله بنص القرآن اذهب الرجس عن اهل البيت فهم في نظره معصومون عن الخطاء بعيدين عن المعاصي000فهذا ايضا لا يمت بصله لنواميس الطبيعه والتاريخ فليس كل آل البيت من كانت لهم المنزله والمكانه التي نص عليها القرآن من العصمه مثلهم مثل الانياء عليهم السلام00فيعلن ابن خلدون آخر الامر سبب دفاعه عنهم وغرضه من عصمتهم حيث يقول: انه اطنب في هذا الرد والمدافعه والمجادله عن آل البيت في الدنيا رجاء ان يجادلوا عنه يوم القيامه0فهذه مجادله بمجادله ابعادها دنيويه سماويه00فهذه المجادله ليست من التاريخ ومنهجيته في شيء وانما هي مصلحة بمصلحه او خدمه مقابل خدمه00
ثم يورد بعد ذلك اسطورة اتصال نسب السلطان المملوكي برقوق1382_1399م بقبيلة غسان العربيه في بلاد الشام اثر مصاهره تمت بين قبيلة غسان وقبيله شركسيه هاجرت الى بلاد الشام من بلاد القفجاق فصارت القبيلتان مع الزمن قبيله واحده00فما الذي دفع ابن خلدون الى هذه المغالطه التاريخيه وان يصنع للسلطان المملوكي شجرة نسب عربيه ليرفعه هذا المقام وهو يعرف كما يعرف الجميع ان المماليك جلبان من بلاد الروس وما جاورها جمعهم السلاطين الايوبيين وهم صغار السن ودربوهم على الحياه العسكريه والولاء للسلطان فقط ليسطع نجمهم بعد ذلك ويستلمو الحكم في مصر والشام بعد موت اخر السلاطين الايوبيين نجم الدين ايوب لتتزوج ارملته شجرة الدر من قائدهم والمقدم عليهم عز الدين ايبك لينتهي الامر بقتلها واستلام المماليك الحكم بعد ذلك دون ان يعرف لاحدهم نسبا0
وقد عاش ابن خلدون فترة من حياته في مصر تحت رعاية هذا السلطان الذي اثبت نسبه بقبيلة غسان وتقلد في حكومته مناصب اداريه منها قاضي في الديار المصريه وان افتى ضده مكرها حسب ما يذكر في تاريخه عندما خلع عن العرش00وابن خلدون لا يذكر المجاعه او القحط الذي اصاب الديار المصريه في عهد هذا السلطان مع انه كان شاهد عيان ومعايش للواقع علما ان معظم المؤرخين قد ذكروا هذه المجاعه والحاله التي وصلت فيها مصر ايام هذا اللملوك وغيره من المماليك عندما دب بينهم النزاع والتخاصم على الحكم والامتيازات0
ولا شك ان اتصال ابن خلدون باصحاب النفوذ والحكم والانتفاع من عطاياهم جره الى الوقوع في تلك الاخطاء والاهواء التي حذر هو نفسه منها00ففي هذا دلالة كافيه على ان ابن خلدون مهما كانت المنهجيه التي دعى اليها فهو لم يستطع على مستوى التطبيق ان يتخلص من الاهواء السياسيه والنفعيه0 ولنعود الان الى العصر العباسي_عصر الخليفه هارون الرشيد حين نكب البرامكه شر نكبه بعد ان كانوا ركيزه اساسيه من ركائز الحكم العباسي ومنارة من منارات العلم والادب00فلما حصلت محنتهم على يد الرشيد خاض المؤرخين وزادو في بيان الاسباب والتي هي معروفة لدارسي التاريخ او المثقفين المهتمين بالتاريخ الاسلامي0 اما ابن خلدون فقد اراد ان ينفي التهمة عن العباسه اخت الرشيد على انها كانت سبب نكبتهم لعلاقتها الغراميه اللآثمه مع جعفر بن يحي البرمكي وزير الرشيد حيث يقول: هيهات ذلك من منصب العباسه في دينها وابويها وجلالها00كيف تلحم نسبها بجعفر بن يحي وتدنس شرفها العربي بمولى من موالي العجم0 0فهل هذا الدفاع الانشائي العاطفي هو ما يبريء العباسه من التهمه سواء كانت مذنبه ام بريئه00؟ ثم يقول ابن خلدون مدافعا عن الرشيد ومبعدا عنه اي تهمه او تقصير في الناحيه الدينيه والحرص والاحترام للشعائر والطقوس الدينيه واقامة شرع الله في الارض حيث يقول ابن خلدون:حكى الطبري وغيره انه كان يصلي في كل يوم مائة ركعه نافله وكان يغزو عاما ويحج عاما ولقد زجر ابن مريم مضحكه في سمره حين تعرض له بمثل ذلك في الصلاه لما سمعه يقراء: ومالي لا اعبد الذي فطرني00ليرد عليه ابن مريم والله ما ادري لم00فما تمالك الرشيد ان ضحك ثم التفت اليه مغضبا وقال:يا ابن ابي مريم في الصلاه ايضا00اياك اياك والقرآن والدين ولك ما شئت بعدها0
فهل هذه الحجه له ام عليه يا ابن خلدون؟ فكيف لخليفة مسلمين ان يصلي وحاشيته تسمر عنده وتتفكه ويدفعها السفه والتقليل من هيبة الخليفه والاستخفاف بالدين للحد الذي يجعل مضحك الرشيد يرد على خليفته بالصلاه 00ولماذا لم يعاقبه الرشيد بعد ان افسد عليه صلاته00ام تراه كان مكثرا من شرب منقوع التمر الذي اباحه اهل العراق وذكره ابن خلدون دون ان يعلق عليه0
في اعتقادي ان ابن خلدون رغم ما قدمه من خدمات اذ قدم نظريات كثيرة جديدة في علمي الاجتماع والتاريخ ، بشكل خاص في كتابيه : العبر والمقدمة . وقد عمل في التدريس في بلاد المغرب ، بجامع القرويين في فاس ، ثم في الجامع الازهر في القاهرة ، والمدرسة الظاهرية، وغيرها من محافل المعرفة التي اكثرت في ارجاء العالم الاسلامي المختلفة خلال القرن الثالث عشر نظراً لحض الدين الحنيف للناس على طلب العلم. وقد عمل ابن خلدون في مجال القضاء اكثر من مرة ، وحاول تحقيق العدالة الاجتماعية في الاحكام التي اصدرها الا انه لم يكن موفقا دائما بأتباع منهجية التاريخ والعمل على قانون المطابقه الذي ابتدعه في كتابته للتاريخ0
المراجع
مقدمة ابن خلدون
ط4 1978م دار الكتب العلميه
بيروت لبنان
منهجية ابن خلدون التاريخيه
د0 محمد الطائي
دار الحداثه ط1 1981








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلينكن ينهي زيارته إلى الصين، هل من صفقة صينية أمريكية حول ا


.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا




.. انقلاب سيارة وزير الأمن الإسرائيلي بن غفير ونقله إلى المستشف


.. موسكو تؤكد استعدادها لتوسيع تعاونها العسكري مع إيران




.. عملية معقدة داخل المستشفى الميداني الإماراتي في رفح وثقها مو