الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الربيع العربي بحسب العلوم الاجتماعية

فالح عبد الجبار

2013 / 1 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


حركات الاحتجاج التي أطلقت فك النظم المغلقة نحو نظام سياسي مفتوح للمشاركة، ابتداء من أواخر 2010 حتى اللحظة، عمدت باسم الربيع العربي (أو الخريف العربي عند القطاع المتشائم)، هي في الأساس بدايات عملية إشاعة الديموقراطية، بصرف النظر عن أرديتها الأيديولوجية الضيقة.

الاندفاع العربي لفك النظم التوليتارية والسلطانية باغت السياسيين مثلما فاجأ المشتغلين بالعلوم الاجتماعية، العرب منهم والأجانب. بل إن الانتقال الجاري الآن والذي سيغطي مدى زمنياً طويلاً شأن أي انتقال، لايزال يشكل تحدياً للعلوم الاجتماعية، لتفسير ظاهرة تتعارض مع مألوف نظريات الدمقرطة.

هناك في الأقل ثلاثة اطر نظرية عالمية لفهم وتفسير الانتقال، وهي تقوم على سؤال أساسي: لماذا نشأ النظام الديموقراطي في العصر الحديث، المعروف بتقسيم السلطات، وارتكاز الحكم على الرضا عبر الانتخابات، وعلى مبدأ حكم الأكثرية؟ معروف أن نظرية تقسيم السلطات نشأت في جمهوريات المدن الإيطالية (منع الحاكم من تولي أمور القضاء في العقود التجارية التي يكون طرفاً فيها)، ثم تطورت الفكرة عند جون لوك، الفيلسوف الإنكليزي، بإسناد سلطة التشريع إلى البرلمان، وإبقاء سلطة التنفيذ والقضاء بيد العاهل، ثم تطورت عند مونتسكيو إلى الفصل بين السلطات على قاعدة لا تحد السلطة إلا السلطة المعاكسة. لكن يبقى السؤال كيف ولماذا تمكنت المجتمعات الحديثة، الصناعية بالتعريف، من بلوغ هذا التنظيم الجديد، بعد قرون من حكم إكليروسي، وسيادة الملكية المطلقة، وحكم الفرد الواحد (الأوتوقراطية)؟

يبدو الربيع العربي من منظور النظريات أو الفرضيات المفسرة لنشوء الديموقراطية محالاً، أو تبدو النظريات شذوذاً أو استثناء، أو يبدو النموذج العربي والعالمثالثي حالة جديدة.

إن صح ذلك، فأمامنا خياران: إما البحث عن توليد فرضيات جديدة، وإما النكوص عن اعتبار الربيع العربي حركة ذات مآلات ديموقراطية. الكتابات عن الفرضيات حول نشوء الديموقراطية الحديثة غزيرة نختار منها ثلاثة مراجع معاصرة، لنرى إلى التفارق بين الخطاب والتطورات.

أمامنا أولاً أطروحة بارينغتون مور جونيور في كتابه الشهير: الجذور الاجتماعية للديكتاتورية والديموقراطية. يقدم مور صيغته كالآتي: وجود طبقة وسطى= ديموقراطية، فمن دون طبقة وسطى لا توجد ديموقراطية. من هنا تركيزه على توازن القوى بين الطبقات الوسطى وغيرها من الطبقات التي قد تعرقل التوق إلى الديموقراطية، ومدى قدرة الطبقات الوسطى على مد نفوذها الثقافي والفكري والسياسي اعتماداً على موقعها المركزي في الاقتصاد والمعرفة.

وأمامنا ثانياً أطروحة ثيدا سكوتشبول في كتابيها: الدولة والثورات الاجتماعية، وكتابها الآخر: الثورات الاجتماعية في العالم الثالث. وهي تعدل فكرة الطبقة الوسطى=الديموقراطية بفكرة الدولة القوية إزاء الدولة الضعيفة. الأولى تسمح للطبقة الوسطى بالانتقال إلى الديموقراطية، والثانية تعطله، وتأخذ على ذلك مثال الثورة الإنكليزية في القرن السابع عشر التي أرست النظام الملكي الدستوري، مقابل فرنسا التي تعطلت فيها هذه الثورة قرناً ونصف قرن عن نظيرتها الإنكليزية. فالدولة الأولى كانت بلا جيش دائم، جزيرة لا تحتاج إلى دفاعات مستديمة، وليس لها جهاز إداري، ونظامها لجمع الضرائب محدود، مقابل فرنسا الدولة البرية، المهددة، ذات الجيش الدائم، والجهاز الإداري الصلد، والنظام الضريبي الممركز، الخ.

هناك أخيراً المقاربتان الماركسية والفيبرية، فكلتاهما تفسر انطلاقة الرأسمالية ببزوغ عصر التشكيلة الرأسمالية (ماركس)، أو عصر الحداثة (وفق تسمية ماكس فيبر). في هذه الحقبة أدى نشوء المشروع الصناعي إلى قلب عالم الثروة والمجتمع، بالتالي السياسة، عاليه سافله. فأولاً انتقل إنتاج الثروة من قطاعات الريف إلى مصانع المدن، ومن النبلاء إلى طبقة رجال الأعمال، ونشأت المدن الحديثة المكتظة بطبقات اجتماعية جديدة، وقامت الطبقة الثالثة (الرأسماليون)، والطبقة الرابعة (العمال والشرائح الهامشية،الخ)، واقترن ذلك باتساع دور العلوم الطبيعية، وهتك الخرافات الدينية، واحتكار جديد للمعرفة، رافقه انقلاب في القيم، بالتحديد تهرؤ قيم التفاوت، وتدهور فكرة الدم النبيل، وصولاً إلى إعلاء المساواة أمام القانون وتقييد العاهل بدستور. فلنتذكر شعار الثورة الفرنسية: حرية، أخاء، مساواة.

لو أخذنا هذه الفرضيات الثلاث كنموذج مثالي للمقارنة لتوصلنا على الفور إلى استحالة استخدامها كأداة تحليلية مقارنة لتفسير أحداث الربيع العربي قيد المعاينة.

فالطبقات الوسطى في هذه البلدان رغم نموها العددي، هي في الغالب الأعم موظفو دولة، أي طبقة تعتمد على بيع المعرفة لقاء راتب، وليست في جزئها الأكبر مالكاً لأصول منتجة، رأسمالاً أو عقارات. وهذه الشرائح الوسطى تدين بحراكها الاجتماعي لرعاية دولة تسلطية، وهي بالتالي تفتقر إلى الغرائز الديموقراطية التي ميزت نظيراتها، سواء في الغرب أو حتى في بلدان عالمثالثية كالهند مثلاً. كما أن الدول العربية هي، بتوصيف سكوتشبول، دول قوية، تمتلك مصادر شرعية مستمدة من العرف القديم، ومن الدين، وهما منتجان تاريخيان سابقان لنشوء الأمة الحديثة، ومحميان بمؤسسات تقليدية وخطاب فوق تاريخي، ما يعيق توليد شرعية معاكسة. فضلاً عن ذلك فهذه الدولة هي المالك الحصري للأرض وريوع النفط، أي المحتكر للثروة الاجتماعية، التي لاتزال حتى الآن، في حدود متفاوتة، مندمجة بالسلطة السياسية، ولم تشهد الانفصال الذي تحقق في العصر الصناعي عالمياً. بل إن الدولة العربية دخلت حقل الاقتصاد كمالك ومنتج، وتحولت إلى اكبر رب عمل منفرد، وأقوى فاعل اقتصادي ثراء وقدرة. وعليه فعمليات التحديث تمنع نشوء قوى اجتماعية مستقلة، مسلحة بالثروة والعلم لتحد من تركز السلطة، الشخصي في معظم الأحايين. لقد صوَّر بعض الكتاب هذه الظاهرة بأنها «خاصية شرقية»، والواقع إنها ظاهرة عالمية تشمل كل القادمين المتأخرين إلى العصر الحديث، حيث الرأسمالية القرابية، أو رأسمالية المحاسيب والأتباع. والخلاصة: طبقات وسطى هشة، طبقات رجال أعمال تابعة ومعتمدة على الدولة، دولة قوية بل شرسة، حداثة مبتورة: هذا كله يقودنا إلى ما يمكن أن نسميه: الديموقراطية المستحيلة! هل من فرضيات بديلة تقربنا قيد أنملة من تفسير الانقلاب نحو فك النظام السياسي نحو الديموقراطية؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الأستاذ عبدالجبار تحية طيبة
آکو کرکوکي ( 2013 / 1 / 14 - 08:48 )
تكتبون التالي:
يبدو الربيع العربي من منظور النظريات أو الفرضيات المفسرة لنشوء الديموقراطية محالاً.

ولتفسير هذه المقولة أوردتم ما جاء في المقالة من النظريات التي تفسر نشوء الديمقراطية.

السؤال الذي يتبادر الى الأذهان هو التالي:
هل ما يسمى بالربيع العربي أنتجت ديمقراطية فعلاً؟ حتى نبحث عن نظرية مناسبة لتفسيرها.

وفي بداية مقالكم تكتبون:
حركات الاحتجاج التي أطلقت فك النظم المغلقة نحو نظام سياسي مفتوح للمشاركة...هي في الأساس بدايات عملية إشاعة الديموقراطية.
ورغم إني لاأدري مالذي يبعث على كل هذا التفاؤل. لكنه إقرار بعدم إنتاج الإحتجاجات تلك للديمقراطية -على الأقل لحد الآن-.

أخيراً في عرضكم لتعريف الديمقراطية بتقسيم السلطات، وارتكاز الحكم على الرضا عبر الانتخابات، وعلى مبدأ حكم الأكثرية...لماذا لم تذكروا دور المجتمع المدني في الإنتقال الديمقراطي؟

ودمتم.


2 - مفهوم الديمقراطية الاجتماعي
محمد لفته محل ( 2013 / 1 / 14 - 17:20 )
استاذ فالح هذه الحركات الاحتجاجية غيرت انظمة ولم تغير نمط الانظمة، فمجتمعنا الابوي الذكوري المتسلط يتعارض مع الديمقراطية التي هي في جوهرها قتل الاب رمزيا، لذلك فالديمقراطية ستبقى عندنا مجرد آلية انتخابية فقط كما حدث بالعراق حين جلبت الديمقراطية لنا اصناما جديدة مقدسة، والديمقراطية تعتمد على الحرية والمساواة والمواطنة والحوار والعدالة والتسامح والاختلاف، وهذه الاشياء مفقودة في عالمنا العربي، بالتالي ستكون ديمقراطية التغيير العربية ديمقراطية الاقتراع فقط.


3 - تحية طيبة للباحث
شعوب الجبوري ( 2013 / 1 / 15 - 15:53 )
شكرا لمثل هذه الاثارة، لكن الدراسة او وجهة النظر المطروحة، جاءت بأراء ونظريات الخلفية للدراسة/المقترح، جاءت بمنظور تقليدي، في النظرة النقدية للحراك الاجتماعي-السياسي للتاريخ، المستمدة من قطيعة العقل وأنفصاله، أن تم ببنية القرار للحرية الفكرية للفرد وبيئته المعرفية. أن الدراسات الحديثة تختلف تماما بالتحليل والمنهج، لما جاء به الباحث. وتحديثيها جاء بالتطور الاداري والاجتماعي النقدي، بتواصل الشبكة المعرفية للتطور الثقافي-التعليمي، والصناعي التقني-الكلي والجزئي، والابنية الاقتصادية النقدية، والقوة السياسية الناعمة وتأثيرها في المسار التكاملي بين الاتصال والقطيعة والتشابة والاختلاف والانفصال، بالاضافة الى نموذج التطور في قدرة القيادات الحديثة في صنع القرار ومناخ رؤياه المستقبلية في التغيير. فالتغيير او التفاؤل بتحسين الاداء، جاء من طيات كامل عناصر المحمولات للعلوم الاجتماعية والسلوك والمعرفة التنظيمية، ومصطلح الربيع هو الملاحقة في ثورة الشأن العالمي للعقل وشرعنة حقوقه في الاتصال والتلاقح بالادارة والتنظيم في صحبة صنع القرارعبر البحار،بعيدةعن مصطلح الديمقراطية التقليدي بتفعيل خطاب الاخر

اخر الافلام

.. احتجاجات الطلبة في فرنسا ضد حرب غزة: هل تتسع رقعتها؟| المسائ


.. الرصيف البحري الأميركي المؤقت في غزة.. هل يغير من الواقع الإ




.. هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتحكم في مستقبل الفورمولا؟ | #سك


.. خلافات صينية أميركية في ملفات عديدة وشائكة.. واتفاق على استم




.. جهود مكثفة لتجنب معركة رفح والتوصل لاتفاق هدنة وتبادل.. فهل