الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة المطحنة الحجرية

طالب عمران المعموري

2013 / 2 / 9
الادب والفن


ما ان انتهيت من شكواي إليه ذكرني بالأيام القاسية :
- احمد الله نسيت انك خرجت من فم الموت الحقيقي..
- نعم أتذكرها جيدا ولم تفارق مخيلتي أبدا ..
كان يوم التحاقي الى وحدتي العسكرية بسبب الفوضى وانتهاء العاصفة ، عاصفة الدمار الهرج والمرج الذي عم البلاد ، نشبت انتفاضة الجياع وتوجه الناس إلى مخازن الحبوب كبركان هائج أو كسيل عارم .. الجوع الكافر الذي لا يرحم، لم يكن الجوع وحده سببا للانتفاضة بل سياسة الضغط والتهميش والتميز الطائفي والاعتقال وأسباب أخرى ، أتذكر جيدا كيف كانت أمي تطحن الذرة عوضا عن القمح بمطحنتها الحجرية، تلك المطحنة التي لم تتوقف من الدوران وتنقلها من جار إلى جار ، وكيف كانت الأطفال تتلوى من الجوع .. سرعان ما تحول الأمر إلى السلطة حتى صارت أكثر بطشا من ذي قبل سياسة الحديد والنار،نعم سياسة الحديد والنار.استلمت واجبي في مشجب الأسلحة وما إن هبط الليل حضر آمر دورية حظيرة الأمن، الذي ما من احد يراه إلا ويرى في وجهه الشر ، طلب استدعاء احد الحرس واخبرني برجوعه بعد قليل وما إن لبث قليلا حتى طلب الحرس الأخر وكررها ثالثا ورابعا حتى وصل إلي الدور، وما إن عبرنا ألنقطه، باتجاه الظلام امسك بيدي ووضع (الكلبجات) وقال لا تخف انه مجرد استفسار وانه شيء روتيني ، قادني إلى السلالم المؤدية لحظيرة الأمن والأروقة المظلمة ، وصلنا إلى احد الغرف فتح القيود وأدخلني كانت مظلمة تماما .. تعثرت بإقدام الجنود الراقدين على أرضية الغرفة الباردة جدا، تعرفت عليهم من خلال الصوت الخافت، استلقيت على الأرض همس بإذني وقد تعرفت عليه من خلال صوته :
- سألني المحقق عنك وأخبرته باني لا اعرف عنه شيء، سوى انه كان معي في نفس الفوج وانه إنسان عادي طيب ومسالم .. كان الوقت يمر ثقيلا ولم يستدعيني احد ولم اعرف ما هي الجناية التي ارتكبتها، فالجميع تم التحقيق معهم إلا أنا ،أصوات التعذيب وصراخ الجنود يتعالى.. كانت ليلة ثقيلة ومخيفه ،استلقيت على ظهري وعادت بي الأفكار، تلك المطحنة الحجرية ودورانها والقلق الذي ساورني على أهلي وما جرى على الناس من قتل وتشريد واعتقالات ، استيقظنا صباحا على أصوات الحرس والسب والشتائم وكلماتهم البذيئة .. أولاد .. ألكذا.. تريدون أن تسقطوا النظام .. ها.. ها..كانوا يضحكون بصوت عال ، أوثقوا أيدينا وساروا بنا نحو حافلة نقل ركاب عسكرية ،وقبل أن نصعد كان ضابط برتبه نقيب يقف قرب الباب كان يتفرس في الوجوه ويتمتم بصوت أجش .. خونه كلكم خونه ..
تحرك احد الحرس نحونا، فوضع العصابة على أعيننا ،كنا أكثر من أربعة عشر جندي من جميع الأفواج ،سارت الحافلة، أمر الحرس أن نخفض رؤوسنا ، وضعت راسي المثقل بالتعب والسهر والمصير المجهول على الكرسي .. أفكار كثيرة تجول في رأسي، من يخبر أهلي ، وهل سيطلبون إخوتي أيضا وما حال أمي ووالدي الكبير لو سمعوا بالخبر.. أفكار سوداوية تجول في رأسي، ربما لا ارجع ، وكيف لا و أنا بين أيدي اشد الطغاة و أعتاهم في المنطقة العربية ،عصابة العين كانت ضيقة وبدأت تؤلمني كثيرا، كان احدهم قريب مني ترجيته أن يرخي العصابة ، زجرني بقوه وشتمني، تحملت كل ذلك وعدت ثانية إلى عالمي ، رجعت بذاكرتي الى الوراء من دون أن ادري، تذكرت إحدى الليالي الشتاء الباردة حين انطلقت صفارات الإنذار، التي نفهم منها دخول الطائرات الأمريكية ..نركض جميعنا نحو حفره كبيرة خارج البيت، كان معنا عمي رجل كبير يريد أن يخفي خوفه وقلقه الشديد كونه لم يخدم في الجيش ولو ليوم واحد، بيده الفانوس الذي يتراقص ضوءه الخافت ، كانت أخواتي الصغيرات يلتفنّ حول أمي خائفات ، حيث أمي تواصل دعائها ، وما إن ينتهي القصف نعود إلى الغرفة المظلمة نشعل الفانوس من جديد .. مسكين هذا الشعب متى يرى النور ومتى يستريح ينطبق علينا المثل (جبر من الفقر للقبر)، صوت الفرامل المفاجئ عادني من جديد إلى أصوات الحرس.. لا ترفع راسك وإلا هشمت راسك بأخمص البندقية ، خونه ..
ترجلنا من الحافلة قادونا إلى ممرات ضيقة وأمرونا أن لا نرفع رؤوسنا ،كتب علينا أن لا نرفع رؤوسنا هكذا أرادوا.. كان زاهر يستمع إلي وقد فغرفاه لأنه لا يعرف تلك التفاصيل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الرؤس بقيت مرفوعة رغم دورن الطاحونة
محمد الياسري ( 2013 / 2 / 14 - 07:31 )
أنها نتاج أدبي من أرث الزمن المظلم الذي أطبق على صدور البوساء والفقراء والأغنياء والأميين والعلماء ، لسنوات عجاف لتترك أثراً على مرِّ ألازمنه والأمكنة ، استطعت أن تسلط الضوء على المساحات التي ملئت عتمة سوداوية قاتمة ، لما امتلكت من مقومات جميلة كتبتها بنهج قصصي واقعي ،الزمن المكان الذي كنت تعيشه ويعشه الكثيرون معك ، فقد نجحت في أسهامك هذا بنسج الصرعات النفسية التي كنت تعيشها في أسلوب أدبي أمتلك المصداقية رغم السردية للإحداث إلا أنك عبرت عنها بتوغل مشبع بتلك الرؤيا التي سكنت مخيلتك فتنطلق من مطحنة والدتك الحجرية منتج أدبي له دلالاته وأثره وتأثيره لسلسلة تلك الإحداث والتحولات التي عشتها مع ذلك الزمن المطبق. كان عنوانها جميلاً ورائعاً ارتكز على دعامتين هما البناء : ويشمل : - الحدث والشخصية والمعنى ولحظة التنوير -، والنسيج : ويشمل: - اللغة والسرد والوصف والحوار.
أرى انك وفقت في نسيج القصة ، من لغة ووصف وسرد وحوار، حيث كانت هذه الأغراض مجتمعة على خدمة الحدث وتصويره بهذا الشكل الجميل
محبتي واحترامي
محمد الياسري
[email protected]

اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع