الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سورية.. أمهات في جحيم السياسة

بلول عماد

2013 / 2 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


مهما اختلف السوريون أو غيرهم على توصيف النزاع الدائر في البلاد منذ عامين، فحتماً يتفقون على أنه لم يورثهم إلا خسارات لا تعوض، و"الأم السورية" مهما كابرت على مصائبها فهي بلا شك الخاسر الأكبر، فإن لم تفقد ابناً، فقد فقدت اثنين وفي بعض الحالات ثلاثة، لم تفقدهم على فراش الموت لمرض أصابهم أو حادث طارئ أنهى أعمارهم، بل فقدتهم بخيار فرض على سورية كلها إرادة الفوضى، والمدهش أن كل هذا الفقد تقبله تلك الأم -وفق وسائل إعلام السلطة- بشجاعة أسطورية، فهل أنجبت وربت وارتبطت روحياً بأبنائها لتقدمهم قرابين على مذابح السياسة المتدثرة بعباءة الوطن، في وقت لم يقدم لها أحد تعريفاً واضحاً لهذا الوطن، وكان لزوماً عليها إدراكه بوعيها الوجودي والإنساني، خلاصة الكلام أصبحت أم الشهيد بعدما عاد ابنها في كفن وأحياناً لم يعد نهائياً بسبب العصابات المسلحة "الإرهابيين"، فمن هم أؤلئك الإرهابيين، هي لا تعرف سوى أنهم سبب دمار البلد وتخريبه وغياب الأمن والأمان، بعضهم تكفيريون مرتزقة أتوا من الخارج ولهم عملاء جواسيس في الداخل، يريدون تدمير الدولة، و"القيادة" في سورية لها فضل بناء هذه الدولة وازدهارها وتفوقها، و"أم الشهيد" ليس لديها مشكلة أن تحارب أيضاً مع ابنها دفاعاً عن الوطن، ولماذا وصل الوطن إلى هنا، أين كان حماته "السياسيون" عن عدم رميه في هذه الهاوية، هي لا تسأل، إنها حرب فرضت علينا، والدة الشهيد العسكري والمدني الحامل لصفة رسمية في القتل دفاعاً عن البلد، هي أفضل وأعلى رتبة ودرجة من أم سورية أخرى، خرج ابنها عن رواية السلطة التي تحمي البلد وتدافع عنه فقتل لأنه إرهابي في نظرها ونظر جمهورها وحلفائها، كيف أصبح ذاك الابن إرهابياً، لماذا حمل السلاح، أين كانت الدولة عن محاربة التطرف واحتواء أبنائها، كيف قاومت السموم الطائفية القادمة من وراء الحدود قبل أن تقع الكارثة، هذا غير مهم، وبعضه من أخطاء الماضي، وعلى الجميع الآن الإصغاء لأوامر الدولة –السلطة طبعاً- وهذه السلطة لا تؤمن بالسياسة ولا الفيزياء ولا الكيمياء ولا أي علم غير علمها، في حين انشغل العالم كله بحليفه وعدوه بإيقاظ الوحش الكامن في النفوس حتى البريئة منها.

"أم الشهيد" على ذمة السلطة
امرأة نسيها الزمن لحظة فرح وتذكرها لحظة موت وثورة، عاد لها ابنها الشرطي مذبوحاً ولم تستلم جثته إلا بعد أن دفعت ثمناً لها، وأخرى قضى ابنها "الضابط" وتم التمثيل بجثته في ريف دمشق قبل أن يقرر أحد الأهالي دفن أجزائها بمبادرة فرضها خشوع الموت وقضت حزنها عليه غيابياً، ثالثة لم تنفك في أمل مستحيل بعودة ابنها الشرطي بعد قتله والتمثيل بجثته ورميه في نهر العاصي، حتى استسلمت للواقع وعاشت حزنها عليه، والدة أخرى اختطف ابنها بعد التحاقه بخدمة العلم الاحتياطية بشهر ومضى على غيابه أكثر من نصف عام وتعب صوتها من التوسل لـ"مخلصي" وزارة المصالحة الوطنية ولا نتيجة، والفاجعة أن دورية أمنية اقتحمت منزلها في الخامسة فجراً للتأكد من أمر اختطاف ابنها، والدة أخرى ليس ابنها أهلاً للارتماء في قلب المحرقة السورية، ومصنف "خدمات ثابتة" لكنه طلب لخدمة الاحتياط فذهب وانقطعت أخباره لأكثر من سبعة أشهر وحتى الساعة، أمهات بالجملة عشن تفاصيل كارثة الخيانة العظمى في كلية المشاة بحلب لحظة بلحظة، وبعد انقشاع الغيمة كانت النتيجة: "ابنك شهيد، ابنك مختطف، ابنك مفقود، ابنك لا أثر له"، قد يظن أي قارئ وتحديداً من هو بعيد عن -مطحنة الأرواح السورية- أن هذه الروايات مشتقة من خيال كاتب له خصومة سياسية مع سلطة لم يعد لها شرعية أخلاقية أو وطنية، ولذلك أؤكد هذه حقائق مثبتة موثقة وقعت في بقعتين جغرافيتين لا يفصل بينهما إلا مسير عشر دقائق على الأقدام، فما بالك بما هو أبعد وأكثر مسافة، ما بالك بسورية كلها؟ أمام هول هذا المأزق الإنساني والوطني، امتهنت وسائل إعلام السلطة بشقها الرسمي والخاص كرامة هذه الأم، وتاجرت بهذا الفائض الهائل من القهر عبر استضافتها أحياناً لصاحبات الشأن في تلك المآسي ليروين تجاربهن بكل ما فيها من لوعة أمام الشاشات، وأحياناً عبر استعراض غير بريء تحت ستار "تكريم أمهات الشهداء" فتظهر حاملة صورة لولدها كآخر ما تبقى لها منه، هل جرب أحد هذا النوع من القهر والاستغلال بحق آلام الأم "أقدس مقدسات الأرض"، هل جرب أحد أن يتعرف على إحدى هذه الأمهات بعيداً عن الكاميرا وتوجيهات معد الفقرة البرامجية، أو أن يتحدث معها دون قيود وقناعات مسبقة؟

"أم الشهيد" على ذمة المعارضة المسلحة
بعيد اغتيال انتفاضة التغيير الحقيقية، وفي إطار التنازع على حماية سورية وبقائها وحرب الآخرين على أرضها، واعتماد السلطة على وسائل وأساليب استيعاب موجهة لسوريين من كوكب آخر، دأبت وسائل إعلام خارجية لها أجندتها الخاصة كما لبعضها خصومة إقليمية ودولية مع النظام الحاكم على شحن الشارع السوري معتمدة على خطاب يوجب الشهادة نصرة للدين والعرض المنتهك والمال المنهوب، فاندفع الشباب إلى الميدان بوازع ديني يلتقي بالضرورة مع الوازع الوطني الساعي لـ"تحرير سورية وبناء الدولة المدنية لكل أبنائها"، وبدأت المعارضة المسلحة وإعلامها تشيع كل يوم شهداءها، وطبعاً لهؤلاء الشهداء أمهات تحترق قلوبهن على أبنائهن دون أن يكون لهن إرادة فيما يحدث أو حتى القدرة على إجراء فعل تغييري على الأرض بعدما امتد الواجب ليصبح حالة تقديس ترتبط بمرجعية دينية أقوى من كل أثر، وطبعاً هؤلاء الشباب السوريون يموتون في مواجهة إخوانهم السوريين الآخرين من الجيش وقوى حفظ النظام ورجال الأمن وأحياناً مع إخوانهم المدنيين، لتتحول الأم في مراحل متقدمة لمصدر شرعي للموت بعد نذرها حياة ابنها المقاتل انتصاراً لدم أخيه أو أحد أفراد أسرته، والسؤال الآن: هل نستطيع مواساة هذه الأم على اعتبارها ضحية ضلال روج له قادة الثورة الإسلامية والمعارضة المسلحة، وبدا في بعض وجوهه انتقاماً طائفياً وفي بعضها الآخر سعي لإرساء دعائم الحكم الإلهي بعد تطويق الوعي المجتمعي والسيطرة عليه في أوساط ترفع غالبيتها شعار الموت في سبيل الله وهذا الموت بأحد تجلياته موت في سبيل الوطن؟

ذات يوم من شهر آب/أغسطس العام 2011 في إحدى محافظات سورية الجنوبية، وخلال إجرائي لتحقيق مستقل حول مجريات ما يحدث، وكادت جرأتي تدمرني لولا رأفة السماء وجرأة أحد السكان المحليين، أخبرتني والدة أحد الهاربين حديثاً من قبضة الأجهزة الأمنية إلى الأردن، "إن أفراد الجيش يقومون باغتصاب وأعمال عنف بحق النساء، في الوقت الذي كانت فيه النساء تعد لهم الطعام وتقدم لهم الشاي والماء"، فوجئت لدرجة الذهول مما سمعت، وحاولت إقناعها أن هذه الرواية غير واقعية ومطلقها يسعى لإغراق البلد في كابوس حرب بين الجيش والشعب، سيخسرها الشعب والجيش معاً ويربحها المجهول، لكن دون جدوى، من جانب آخر وفي محافظة تناقض الأولى في الاتجاه حاولت –في إطار التحقيق نفسه- بمعية صديق الحديث لسيدة مسنة فقدت قبل أسبوعين شهيداً عسكرياً في حمص، لكن هيبة الحزن في وجهها لجمتني عن التفوه بحرف واحد، فاكتفيت بالإنصات لردها على تعزية صديقي لها إذ أجابته: "الله يرحمه ما راح رخيص، كلنا فدا سيادة الرئيس وهـالوطن، الله ينصره على من يعاديه"، استغرقت وقتها في النظر إلى صورة الشهيد تتصدر الجدار قبالتي وخلفه في الصورة ذاتها يظهر الرئيس بشار الأسد متكتفاً بزي عسكري ونظارة سوداء، نظرت بدهشة إليه متسائلاً في سري، هل حقيقة مات هذا الشاب فداءً لك، هل هذه الأم المفجوعة فقدت ابنها من أجلك أم من أجل الوطن، لماذا يقترن حضورك دائماً بالوطن والحياة والموت، ألم ينتفض نصف الشعب ليصحح مفاهيم "السلطة، الدولة، الوطن، المواطنة"، لكن يبدو أن هذه التساؤلات دون جدوى أيضاً، بعد قرابة عام ونصف على تلك الواقعتين، أنظر كإنسان قبل اعتبار المواطنة ولعنة السياسة لكل أم من الطرفين لديها ابن يقاتل شقيقه في الوطن، معايناً أسبابهما لاستمرار المعركة فالأولى دفاعاً عن الوطن في وجه الإرهاب، والثانية دفاعاً عن الأعراض وقتل الأبرياء من جيش النظام أو كتائب الأسد، فتأملوا في حال سورية "المتجددة" أو "المتحررة"، التي غدت بعض ربوعها مقاماً لمجاهدين من خارج الحدود، كل همهم تطبيق مشروعهم القاعدي الخبيث، وللأسف يحظون بحاضن شعبي وشرعية ثورية لغتها حد السكين، سورية الآن -مع اقتراب أزمتها من العام الثاني- صارت معتادة بحكم روتين الموت اليومي "التكتيكي والاستراتيجي" على صورة أم الشهيد، وطورت نسخة المرأة "أم المستقبل" لتصبح المقاومة والممانعة في جيش الدفاع الوطني، والصابرة المجاهدة في سبيل دينها فوطنها بالضرورة في المقلب الآخر، هذه المرأة وتلك هما الوعاء الفكري الأول للجيل السوري الحالي والقادم، الجيل الذي سيرفع رأسه لصمود سورية وانتصارها على "المؤامرة الكونية" أو الجيل الذي ستنتصر "ثورته المباركة من الله"، وفي حال ساد منطق "لا غالب ولا مغلوب" فهذا يعني أن سورية "أم الجميع" بلاد تنام على بركان خامد قابل للانفجار في أية لحظة، يشبه في غليانه بركاناً سابقاً كانت على موعد مع انفجاره في مارس 2011، وهذا يكفي أسياد العالم لمدة ربع قرن للأمام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السيسي ينصح بتعلم البرمجة لكسب 100 ألف دولار شهريا!


.. تونس.. رسائل اتحاد الشغل إلى السلطة في عيد العمّال




.. ردّ تونس الرسمي على عقوبات الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات


.. لماذا استعانت ليبيا بأوروبا لتأمين حدودها مع تونس؟




.. لماذا عاقبت الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات تونس؟