الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العم -توفيق-... خواجة من زمن المصاطب.

محمود عبد الغفار غيضان

2013 / 3 / 10
الادب والفن


العم "توفيق"... خواجة من زمن المصاطب.

يطوي الحاسوب بانفعال... وبافتعال ممثل فاشل يتناسى مناظر الحرق والتخريب التي شاهدها للتو... هل يشكر هذا العالم التكنولوجي الذي جمعه بأهله وأبناء بلده في همهم ومحنتهم أم يلعنه؟!... أليست مرارة تسعة آلاف كيلو متر غربة كافية؟! بسرعة يمد يده لأقرب كتاب: "الحياة داخل بيضة"... : " البرودة القاسية لا تستطيع أن تقتل الحياة داخل بيضة واحد ضعيفة بالثلاجة"! تدهشه العبارة فيواصل القراءة... " لم أحس بما تحسه الأقليات إلا عندما عشتُ فترة خارج بلدي!"... يا الله... القراءة وحدها تضعك ضمن قائمة أصدقاء من تريد دون طلب الإضافة المزعج الذي لا أستخدمه إلا في حالات خاصة جدًّا... أنا أيضًا أعرف شعور الأقلية لأني أعيشه الآن... لكنه بالنسبة لي شعور مؤقت... أليس كذلك؟َ! صفعت العبارة نوافذ ذاكرتي كرياح الخماسين التي أكرهها منذ طفولتي... لماذا هناك الآن بالذات؟ أي قوة تلك التي أحضرت "الخواجة" توفيق النجار وزوجته "تيريزا" بالأبعاد الثلاثية؟ أي ساحر لضم هذه السلسلة من أسماء نصارى قريتنا ثم دون ترددٍ باغت بها رأسي الثقيل"؟!... كانوا جيران كل المسلمين هناك لكن الكثير من المسلمين لم يكونوا جيرانهم!!... كثيرًا ما سمعتُ أثناء طابور الصباح بالمدرسة الأحاديث النبوية الشريفة عن حق الجار... لكني قرأت وحدي بعد أن عرفتُ بقلبي أنَّ فتح الكتاب المقدس لن يغضب الرب: "الجار القريب خير من الأخ البعيد"..." لا تدع الرحمة والحق يتركانك. تقلدهما على عنقك، اكتبهما على لوح قلبك."

أعاود سيرتي الأولى عن "توفيق"... كل منهم كان اسمه مسبوقًا بــ"الخواجة"، ومن فرط اعتياد الأمر لم أتساءل صغيرًا عن السبب... يدلف الخواجة توفيق إلى كل بيوت القرية دون أنْ تعرف البيوت مدخلاً إلى قلبه قط... نعم. البيوت كذلك تسكننا... بكل منًّا منازل بعدد أهله وأحبته... حتى الأماكن التي لم يعد لها وجود فعليّ تظل تسكننا إلى الأبد... يصلح "توفيق" الأبواب والشبابيك والمحاريث... وتحيك "تيريرزا" ملابس النساء... أما باب دارهما فلا يغلق إلا عند النوم... قصير القامة... معتدل القوام... يرد أي تحية بابتسامة يصعب تمييزها عن ضحكة وليدة تم قمعها خوفًا من الاتهام بالجنون... كل مداعبات الآخرين التي أتذكرها عنه يمكن- إراحة لضميري- وصفها بالباردة السخيفة... لا يلعب صغاره مع أطفال الجيران ككل أولاد الجيران!.. وإن حدث ذلك... فجأة يعلو صوت "تيريزا" مستنكرة ما جرى لأحدهم... ومن باب التعاطف العابر يعتذر لها أحد المارة... ترضى وتسكن حتى لكأني أشاهد أم الجاني قد قبلت رأسها أو جثت على ركبتيها في وضع السجود طلبًا للمغفرة كما يفعل الكوريون... هكذا تعلمت "تيريزا" ومعها توفيق وآخرون مثلهم خداع الأحزان بمسكنات اللطف المؤقت وترانيم الصبر الأبدي التي أنشدهم يسوع إياها... كانت عبارة التحية الوحيدة التي تلقى عليه " سعيدة يا خواجة"!! .... صغيرًا كذلك لم أسأل أبدًا عن سر ادخار "السلام عليكم" للمسلمين وحدهم!
يضع الطعام على المائدة وينتظر معنا موعد الآذان في رمضان كي يتناول غداءه... رأيته كل رمضان ورآه الجميع... لم يكن يضع لقمة في فمه حتى يُرفع الآذان... أي حبٍّ كان بقلبك أيها الخواجة توفيق حتى تفعل فعلتك الطيبة تلك؟! أحقًّا تعيشون بتعاليم كتبكم أفضل منا؟! : "أيها الحبيب، لا تتمثل بالشر بل بالخير لأن من يصنع الخير هو من الله ومن يصنع الشر فلم يبصر الله"... لماذا أتذكر الآن مشاهد الاستقواء عليكم؟! ألستم عباد الله مثلنا؟! لماذا يحبب إلي النحيب الآن؟ ولماذا وحدي أحمل عبء الاعتذار؟ ألأنك وحدك يا أبي لم تسخر منهم قط؟! ألأنك وحدك أطعمتني خبز الرحمة مغمسًا برائحة العدل الإلهي... ألأنك وحدك ورثت فروسية عنترة الذي كنتَ تعشقه؟؟ ولماذا أورثتني أنا ما يعذبني؟! أدرب الألم هو السبيل الوحيد لمعاينة الإحساس؟! أبهذا يصبح الإنسان إنسانًا؟! أوحدهم المعذبون مَن عاينوا النبل؟! ... الخواجة توفيق... معذرة... العم توفيق.. العمة تريزا... متأخرًا جدًّا عرفتُ أنكما كنتما بحق... إنسانين! ومتأخرًا جدًّا وحدي أنوب عن كل الجيران والقرية في هذا الاعتذار الصادق... أعرف أنكما مسامحان... لأني أعرف جيدًا بحكم العشرة والجيرة أنكما لم تناما قط وفي قلبيكما بعض ضغينة!

مجموعة "زمن المصاطب"
10 مارس 2013م
هامش تفسيري (الحياة داخل بيضة هو عنوان ديوان شعري للشاعرة الكورية الجنوبية كيم سنغ هي أعكف على ترجمته هذه الأيام)









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية


.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال




.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي


.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا




.. ياحلاوة شعرها تسلم عيون اللي خطب?? يا أبو اللبايش ياقصب من ف