الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألنص وحرية القراءة التفكيكية

عباس يونس العنزي
(عèçَ حونَ الْيïي الْنٍي)

2013 / 3 / 25
الادب والفن


ألنص وحرية القراءة التفكيكية
ماذا تمثل اللغة في جوهرها ؟ هل تتمتع باستقلال فعلي عن التركيب الدماغي وعن التيار الهائل للتجربة في مستوييها الفردي والاجتماعي ؟ يجب أن نلم بإجابة جادة لهذين التساؤلين قبل معالجة مسألة القراءات المتعددة للنصوص ، فاللغة مجموعة من الرموز والتصويتات المتكونة في واقع جدل ( الفرد ، البيئة والجماعة ) ، أي أنها جزء من الميزة التبادلية التي طبعت شتى مناحي الحياة البشرية وغير البشرية والناتجة أصلا من الجذر الثنائي المتقابل للمادة الكونية الأساس والتي شملت الأشياء المادية برمتها وارتقت لدى الكائنات الحية لمستوى الذكر والأنثى ومن ثم التقابل الطبقي في المجتمعات البشرية وكل تلك المبادلات الحياتية المعتادة ، وأيضا فقد وجدت في الموجودات غير المادية ( الإشارات ، والمجالات اللفظية ) وهي تعبر عن أفكار ذات طابع تصويري مرتبط تماما بما تنقله الحواس من تجربة مع الموضوع بدءا وقبل أن يسمح تطورها وتطور الدماغ للانتقال إلى مستوى التجريد والقدرة على توليد الأفكار والتصورات ذاتيا ، لكن ما اتصفت به اللغة في بدء ولادتها أنها كانت دون قانون وبعيدة عن النحو وقواعده ، أي ينتابها الاعتباط وصدفة تصنيع الصوت بينما سعى لتنظيمها بمدى تاريخي بطئ نمط من التوافق والتواطؤ المجتمعي القائم على التجربة والتشذيب ، واللغة وفق هذا الوصف المكثف لا يمكن أن تكون تكوينا مستقلا منقطعا عن عناصر بيئته المتمثلة بذات الفرد وشروط القمع المجتمعي إنما على العكس تماما فهي ناتج جدلهما .
ومن العبث البحث عن أفكار خارج اللغة وصياغاتها أو بدونها وتكون الاجابة على احتمال ان تكون للأبكم أفكار وتصورات تشابه ما لدى الإنسان الصحيح بأن ثمة خطأ في طريقة التساؤل ذاته ، فاللغة ليست الحروف التي نقولها حسب إنما هي استعداد دماغي مادي بصيغة الشفرات يهيئ لنقل التجربة إلى مستوى الادراك الفكري ، وبذلك فإن كل الكائنات التي تملك تركيبا دماغيا أو ما يشابهه تملك ذلك الاستعداد ما دامت شلالات التجارب منهمرة بقوة عبر الحواس المتاحة على أدمغتها ، إذن يمتلك الأبكم ذلك الاستعداد اللغوي المتكون تاريخيا وبحكم الاستعدادات الوراثية وتتم عملية تحريكه وتطويره وملئه عبر المسموح به من تجارب الحواس العاملة غير المعطلة وباختراع رموز تعويضية جديدة تكفل مستوى فعالا من القدرة على التجريد رغم محدوديته ورغم افتقاده للقدرة البلاغية ، لكن السؤال سيبقى ثقيلا من زاوية بعده الكوني وهو هل توجد أفكار دون لغة من أي نوع ؟ هذا يقودنا إلى علاقة الحقيقة باللغة ، فاللغة ليست بوابة أو منظارا نرى عبرهما الحقيقة مجردة ومطلقة و ثابتة دون أية شكوك ، إنما هي مادة نقل الحقيقة وتمركزها في أدمغتنا أي أنها مصنوعة من طرفي التقابل ، الدماغ والموضوع ، وهي بذلك لا يمكنها الوقوف ببراءة وحيادية بل هي فاعلة في إنشاء وتمتين العلاقة بين الدال والمدلول ، الدال الصوت والمدلول الصورة المنقولة وفق معالجات معقدة الى الدماغ ، فإن وجدت وسيلة للقيام بهذه المهمة من دون اللغة حينها يمكن الاستغناء عنها ، لكن ذلك إلى الآن ووفق كل المتاح من المعرفة غير جاد وغير ممكن بنفس الوقت ، فلا أفكار البتة دون لغة حتى هذه اللحظة .
تمكن العالم الروسي ( رومان جاكوبسن ) وهو من مؤسسي الفونولوجيا أن يكتشف وجود تقابلات نسقية من الأصوات الأساسية عددها ( 12 زوج متقابل ) مثلت النظام الصوتي الأصلي الذي استندت إليه كل اللغات وهذا يعني أن هناك كليات على مستوى التنظيم الصوتي للغات كذلك برهان لوحدة التطور الدماغي البشري من حيث الأبعاد الأكثر أساسية وتحكما وقد توصلت علوم اللغة إلى حقائق مهمة للغاية منها : وجود فكر لا شعوري وراء الأنساق الصوتية وهذا يعني أن هناك ترتيبا دماغيا ناميا ومختصا بذلك ومن المؤكد أنه متشابك بين عدة طبقات دماغية ، وهذا الفكر اللاشعوري جمعي وليس فردي أي أنه متشابه لدى الجميع ، وان هناك بنية للنسيج الفونولوجي تشترك بها عناصر البيئة والفكر .
وفي كتاب التفكيكية - النظرية والممارسة - لكريستوفر نوريس بترجمة د. صبري محمد حسن نجد مادة غنية حيث أن فرناند دي سوسير عرض أن معرفتنا بالكون معقدة ومتداخلة الشكل وان اللغة هي التي تحدد حال تلك المعرفة كذلك فإن المعاني ترتبط بنظام من العلاقات والاختلافات هو الذي يحدد كلا من عاداتنا الفكرية والإدراكية ، كذلك قال سوسير إن معرفتنا نبنيها بطريقة غير حسية، منظومات من الرموز والأعراف التي بها وحدها فقط نستطيع تصنيف وترتيب سيل التجارب المشوش ولا يمكن الوصول للمعرفة إلا باللغة ، إن سوسير يشير الى تعقيد صلة الوعي بالمحيط الشامل ومفهوم التعقيد يتضمن شدة وكثافة العلاقة وتبادليتها لكنه وضع اللغة ككيان خارج صلة التعقيد هذه عندما عزا لها قدرة التحديد المعرفي لدينا رغم أن اللغة هي جزء بالفعل من ذلك التحديد .
ويرى نعوم تشومسكي أن التراكيب اللغوية تتم برمجتها في الذهن فضلا عن أنها تصنع قيدا على اللغة كما تعد من بين وسائل تقاسم الفهم ، لكن لتلك التراكيب اللغوية تاريخا فرديا وأساسا لا شعوريا فرديا مرتبط بالتجربة الخاصة تماما ومقيد بها ، وهذا يدفع إلى تحري عناصر القيم العامة لتفاعل تلك التراكيب اللغوية مع كل تجربة ومع كل تاريخ على حدة . وقد يبدو في كلام تشومكي تناقض مبطن بين فردية التركيب و تقاسمية الفهم لكن التدقيق به يظهر انسجامه التام حيث أن التركيب اللغوي رغم فرديته فهو تقاسمي أيضا وموجود لدى الجميع وذلك هو الذي يتيح تقاسم الفهم .
يطرح كولر معادلة ضمنية بين البنية والحذق والكفاية ، وهذه تؤلف أركان عملية الفهم واستخراج التفسير الممكن للنص ، وهي بالطبع من مسائل الذكاء المدرب أي القدرة الدماغية الناشئة بفعل تكرار فعل القراءة على مدى زمني واسع والتي تبرر للإنسان قراءته نصا معينا بتعيين مكان له داخل شفرات المعقولية والجدارة التي تحددها المعرفة الشاملة بالأدب والخبرة الجدية المتكونة بفعل القراءات المتعددة ، هنا يطل علينا السؤال الفريد : إذن هل يملك النص شخصية ثابتة أو واحدة في كل القراءات المعتمدة تماما على معادلة كولر ؟ .
يرى تشومسكي أن الحذق والكفاية ضمنيان ولا شعوريان إلا عندما يبرزان إلى دائرة الضوء عن طريق النشاط المتخصص الذي يتفرد به اللغوي أو الناقد ، لكن القارئ الاعتيادي ليس معنيا البتة بذلك النشاط ، وهو مصيب بذلك إلى ابعد الحدود مع عدم إغفال دور القياسات النظرية التي أنتجها العقل ونقلها من اللاشعور إلى حيز التعامل الشعوري .
إن قارئا معينا قد يبوح له النص بمعان متشعبة اعتمادا على حذقه وكفايته وهذا ينطبق على قراءات الواقع أيضا ، فطريقة تعامل الناس مع بعضهم مختلفة وفردية الى حد بعيد رغم التأثير الاجتماعي والبيئي فيها كذلك تعاطي النص الادبي فهو تعاطي فردي مكبل بتأثير اجتماعي بيئي مشترك ويمكن إضافة البيئة النفسية للقارئ كعامل مهم متغير ومرتبط بالعوامل الآخرى وإذا كان هيوم وبنفس فلسفي كانطي قال بأنه لا يمكن الوصول إلى معرفة ذاتية محددة للعالم الخارجي فإن الوصول إلى معرفة ذاتية لنص معين هو ضرب من الاستحالة لأن الأمر يتضمن التفسير المستند إلى الحذق والكفاية الذاتيين ، وقد يمثل ذلك اختلافا عن البنيوية في أدق أشكالها التي ترى أن النص يحمل معاني ثابتة ومعقدة والناقد باحث أمين ومخلص عن الحقيقة في النص نفسه ، لكن هناك شك فعلي في صدق و احادية تراسل بنى المعاني مع المجموعة المماثلة في الذهن . كان كانط يرى استحالة وقوف الوعي على الكون ومعرفته بشكل مباشر وبلا واسطة ، كذلك هو رأى أن المعرفة إنما هي نتاج العقل البشري الذي لا تستطيع عملياته سوى تفسير الكون وليس نقله بكل صورته الواقعية الحقيقية ، وقارئ النص أيضا مشمول بأفق هذه الرؤية فعمليات العقل لا تستطيع إلا التفسير الثابت للعمل الادبي وبذلك يبدو الموقف البنيوي من النص قريبا للغاية من هذا الرؤية الفلسفية الكانطية .
إن الحذق والكفاية والذكاء هي أسس يمكن تمثيلها بما قاله المفكر الماركسي مهدي عامل (شرط وجود التفاعل بين الفكر والواقع أن يكون هذا التفاعل بينهما بنيويا ) فتلك الأركان الثلاثة تمثل البنية الأيديولوجية التي تهيمن على المفكر الفرد بينما الواقع التطوري للبنية الاقتصادية - الاجتماعية وبداخلها البنية الفكرية يمثل شرط الواقع ، بعبارة أخرى وكما قال المفكر عامل ( إن علاقة المفكر بالواقع ليست مباشرة يحددها وعيه الفردي بل هي علاقة غير مباشرة تمر بالضرورة ببنية فكرية لها وجودها الموضوعي يحملها المفكر ومن خلالها ينظر بمعنى أن الفرد وأن كان مفكرا لا يفكر بفكره الفردي بل بالبنية الموضوعية التي هو سند لها ) ، لكن دقة هذا الوصف لا يمكن أن تلغي الفرد فهو في نهاية الموضوع موجود بالفعل ويفكر بالفعل كفرد ، قارئ أو ناقد .
إن التفكيكية ترى في معادلة كولر ( وقد يشمل ذلك النظرة الكانطية والماركسية ) نوع من أنواع الخدع التفسيرية وذلك متمثل بقوة في رفض جاك دريدا التسليم للفلسفة بذلك الوضع المتميز الذي تزعم فيه بأنها الوعاء الأمثل للعقل والمنطق حيث هيمن الفلاسفة بفعل تجاهلهم للآثار اللغوية الممزقة ، ويقول " إن الفلسفات التي لا تدخل نشاط اللغة في حسابها إنما تحكم على نفسها بالدخول في تكرار لا ينتهي من المتناقضات " وقد سلط الضوء على تلك المتناقضات عندما درس جان جاك روسو . إن دريدا يشير الى اللغة الواجب تناولها بالوصف الذي طرحه تشومسكي سابقا كونها مادة الحذق والكفاية اللاشعوريان ويطالب بجعلهما موضوع الاهتمام الفلسفي ونقلهما الى حيز الشعور والتعاطي معهما كجزء من عملية الفهم والتفسير .
كان للفلسفة على الدوام وانطلاقا من اهتماماتها المتعالية والمنصبة على الفهم المباشر وتجنب الاستعارات اللغوية موقفا استنكاريا واضحا من كل أشكال التعامل مع فنون اللغة ومنها البلاغة والتي هي في حقيقتها تجمل قيم الكفاءة والحذق لدى أي قاري ناهيك عن الناقد ورأت فيها مصدرا للخداع والخطأ ، فقط تميزت مدرسة السفسطائيين الشهيرة بولعها في المجادلة واعتماد الحجج المنطقية واللغوية بكونها ترى أن التفكير مرتبط تماما ولا يمكن عزله عن الابتكارات البلاغية التي تدعمه ، وقد رأى فريدريك نيتشه أن البلاغة وليس الجدل هي التي تعيدنا إلى الوراء حيث أصل الفكر لدى الإنسان عند مواجهته تجاربه الأولى ، إن الجدل هو الأب الشرعي للمنطق وقد نشأ هو نفسه من البلاغة التي هي طفل الأساطير والخرافات والأشعار القديمة ، وهذا الموقف النيتشوي الحاد هو الذي دعا مارتن هيدجر لأن يقول عن نيتشه ( هو آخر الناطقين اليائسين بلسان الميتافيزيقا الغربية ) .
ويمكن الإشارة الى المنهج البنيوي من خلال متابعة كتابات ليفي شتراوس حيث ترتكز تحليلاته على الخرافة والطقوس التي تمارسها المجموعات البشرية المختلفة من منطلق أن التباينات السطحية التي تفرزها ثقافات العالم المختلفة إنما تكمن تحتها أنظمة و أنماط عميقة تكشف عن نفسها للدراسة والاستقصاء البنائي ، وقد انتشر هذا المنهج كثيرا وتأثر به العديد من النقاد و الأنثروبولوجيين ، ومن المهم أن نشير الى أن شتراوس يعنى بالأثر أي النص المكتوب تحديدا كونه عمل غطاه الزمن وينبغي التنقيب عنه وفيه إذ أن الكتابة عنده هي اشتقاق للمكتوب من خلال أشكال الوجود الاجتماعي . وفي مقالة عنوانها ( التاريخ والجدل ) رد شتراوس على النقاد والمشتغلين بالشأن الفلسفي (ومنهم جان بول سارتر ) والذين وجهوا سهام النقد العنيفة للبنيوية انطلاقا من كونها منهجا تجريديا أي ينشغل بالتنظير المتحرك والمتنامي ذاتيا ويهرب من أحداث التاريخ الحاصلة فعليا والمثبتة صحتها كذلك يهمل المعاش فعليا من التجارب الحياتية ، ومن المفهوم أن التاريخ والتجربة المعاشة هما ركنا الماركسية وظلالها الفلسفية الموصوفة بالوجودية وغيرها ، ورأى شتراوس في تلك الاعتراضات " ناتجا من نواتج الوهم البالي الذي كان يعلق قيمة تاريخية على المعاني التي يفرزها العقل الفردي في عملية عرض الذات " ، بمعنى أن أحداث التاريخ وتفسيره هي اسقاط ذاتي للعقل الفردي أي ان التاريخ كان ينظر له على أنه سلسلة من الانماط الشكلية المتغيرة التي تزداد عتمة بمرور الزمن حسب شتراوس .
قال دريدا : "إن البنيوي ينشد في بحثه دائما شكلا أو وظيفة منظمة طبقا لشرعية داخلية للعناصر فيها معنى من خلال ترابطها أو تعارضها " ، وهذا يعني باتجاه معين أن ثمة صدفة ما قد تلعب دورها للوصول الى ذلك الشكل أو تلك الوظيفة ما دام هناك تنظيم داخلي مستقر والبنيوية كمنهج نقدي يزدهر دورها ويشتد حضورها في المواقع التي يستسلم فيها الفكر لمغريات ومفاتن النظام والاستقرار .
ومع أن دريدا كان يعلق أهمية كبيرة على تحرر البنائية من علتها الكبيرة المتمثلة بإهمالها اللغة فإن الفينومينولوجيا جاءت استجابة لأمنيات دريدا التحررية لتستمد معناها من العلاقة القوية بين الوعي الذاتي وبين التعبير اللغوي ، وهوسرل صرح : "بأن الأساس الحقيقي للمعرفة هو ذلك الموقف الذي يقضي بعدم قبول شيء بدون إثبات وبرهان وبذلك يتم عزل التضليل والخداع " وهذا إحياء لمشروح الفكر الحديث الذي وضعه ديكارت حيث قام بإعادة يقينيات العقل ( certitudes) عن طريق الشك المنظم في كل ما يمكن الشك فيه وبات العقل لديه بمثابة مراقبة واعية مدربة من الناحية النقدية على الأعمال المنطقية وبذلك يمكن استرداده من أخطاء شكوك التجربة المشتركة .
لكن ثمة اشكال لدى هوسرل عندما يميز بين نوعين من الإشارة : الموحية والتعبيرية ، والأخيرة هي التي تهب الكلام المعنى لأنها تمثل الغرض التواصلي أي قوة القصد التي تبث الحياة في اللغة بينما الإشارة الإيمائية خالية من القصد التعبيري وتعمل كعلامات بلا حياة في إطار نظام عرفي ، وهذا يعود بنا الى ما مر سابقا حول اللغة والفكر ، واللغة المنطوقة هي بنية عالية التعقيد وتحتوي بالفعل على مستوى إيحائي يصعب تحديده داخلها لكنه موجود كعمق ثقافي فردي و جماعي ، ويرد دريدا بتوضيحات دقيقة : " لا يوجد أي تعبير أو معنى بدون كلام كذلك فليس كل شيء في الكلام يمكن التعبير عنه " ، أي أن كلية الكلام يحتويها نسيج إيحائي ، و الإمكانية المتمثلة بأن التعبير يمكن أن يحمل أو تلطخه وتشوهه مضامين المعنى الإيحائي من جذوره كافية لزلزلة فكر هوسرل من أساسه .
لقد نظرت الفينومينولوجيا الى المعنى على أنه تفاعل مثمر بين النص وبين بحث القارئ وسعيه للوضوح والجلاء حيث ينسج ذلك المعنى وتحدد نقشاته الضرورية وفق التجليات المتراكمة لمراحل التفاعل ، وحسب هوسرل فإن الفينومينولوجيا تختلف عن البنيوية " في افتراضها أن المعنى كان دوما نوعا من فيض الخلق والإبداع الذي يفوق أي وصف لأصل هذا الفيض قياسا وتأسيسا على فكرة البنيوية نفسها " أي أن المعنى ليس الكنز المخبأ إنما هو الكشف الدائب التجلي . ويقول موريس ميرلوبونتي وهو وريث هوسرل " إن اللغة والكلام خصوصا يمثل ذلك الإعمال للتناقض الظاهري الذي نحاول من خلاله وباستخدام كلمات معلومة المعنى وتتيسر لها معاني أخرى أن نتتبع قصد يتحتم عليه نفسه أن يسبق معاني تلك الكلمات التي تترجمه كما يعدل ذلك التناقض الظاهري من أوضاع تلك المعاني ويجعلها تستقر في التحليل النهائي في الكلمات التي تترجم ذلك التناقض الظاهري " وقد ركز ميرلوبونتي على استحالة تمييز المعنى من البنية أو بمعنى آخر تمييز التعبير عما يسبقه ويجعله أمرا ممكنا .
لكن هل ثمة صلة بين تفكيكية دريدا والماركسية ؟ يقول دريدا " يجب أن تقرأ نصوص ماركس ولينين بتعنت وصرامة وهي الطريقة الوحيدة الممكنة لاستخلاص طرقها البلاغية والمجازية " فهو يقرر وجود الصيغ البلاغية التي تنفيها الماركسية وتحاربها بشدة لكن اكتشاف ذلك بحاجة لصرامة وعنت شديدين ، وكان يرى أن دعاوى علم النص المادي ذاتي الاسلوب يتضارب كليا مع دعاوى التفكيكية خصوصا أن التفكيكية لا ترى أية دلائل أو مؤثرات للخصام الكامل مع الأيدلوجية .
كذلك فإن دريدا يقترح وجهة نظر مبالغ فيها إذ يرى "أن لغة المادية الجدلية محقونة بالاستعارات المتنكرة على شكل مفاهيم و تحمل معها مجموعة كاملة من المعطيات المسبقة غير المعترف بها " رغم أن المادية الجدلية يمكن التعبير عنها بأسلوب رياضي علمي ميت دون اللجوء الى أية استعارات بلاغية . لقد كان دريدا يرفض الاشتباك مع الماركسية على أرضية النصوصية وفي كتابه "الكتابة والفارق " أفرد فصلا كاملا لهيغل ولم يذكر ماركس البتة ! ومن المؤكد أن صاحب التفكيكية يرى فيها مقدمة منطقية لقراءة غير ماركسية للفلسفة باعتبارها ايديولوجية وأن قراءته لهيجل تبرز التناقض والتعارض بين التفكيكية وبين أي شيء من قبيل فهم ماركس . ومن وجهة نظر تفكيكية قال إيجلتون " إن المادية التاريخية التي يعدها ماركس قضية مسلم بها إنما تحداها نيتشه في أغمض مكوناتها بمقاله النقدي الذي يؤكد أن المادية التاريخية بحاجة دوما الى تأكيد وإثبات صحتها " . ولذلك تجيء التفكيكية معادية لفكر كارل ماركس في النقطة التي تبدأ عندها تحري واستقصاء أصالة أي علم أو نظرية ينشئها في عزلة واضحة بعيدا عن التلاعب بمعنى النص .
والآن فما هي التفكيكية ؟ إنها حسب واضعيها تعني حرية التفسير عن طريق التواءات المجاز والمعنى ، أي أنها تعني الابتعاد عن الالتزام النظري الايديولوجي المسبق ويؤكد دريدا أن الهدف المنشود للفكر التفكيكي هو الاعتراف بأن التلاعب الاستفهامي بين نص ونص لا نهاية له وهي تعد بتلاعب حر وبأسلوب غير محدد قابل للتعديل وفكر تأملي لا تحده أو تقيده قواعد من أي نوع كان .
التفكيكية من وجهة نظر متابعة هي أسلوب فكري متحرر يمتد الى العمق الأبعد ليتحرى ويستقصي مفاهيم المنهج والبنية نفسها عن طريق تجريدهما من التعمية البلاغية ، وقال دريدا في مقاله عن هيجل " أن ذلك التحري وذلك الاستقصاء يمتدان الى مجال المعرفة التاريخية بقدر ما تدعي هذه المعرفة بأن لها أساسا في العقل المطلق " .
ومن متابعة النقاد التفكيكيين الكبار يمكن أن نكون تصورا معقولا عن التفكيكية ومواقفها الأساسية ، مثلا هارتمان الذي هو من اتباع دريدا يقول " الأصول خادعة كما أن النصوص تأتي متأخرة بالنسبة للتقاليد التي تسكنها تلك النصوص وهذا هو حال النقاد عندما يحسون انهم ينحصرون في إطار ثانوي فقط يتمثل في التفسير فقط " ويضيف " إن على الناقد أن يتخلص من مركب النقص الذي يعانيه إزاء اللوحة - أي النص المبدع - ويدخل بصدق متبجحا مثل نيتشه ضمن رقصة المعنى ، لقد وصلنا الى حد يتحدى أولوية النص الأدبي اولوية النص النقدي وما كتبه جاك دريدا عن روسو يحظى بذات الاهتمام بما كتبه روسو " .
وينجح ميلر من اتباع دريدا في توضيح أن "المعيار لا يفترض مسبقا وجود بعض التشعب وإنما يحتوي بصورة أو بأخرى على التشعب الذي يحتاج الى إبعاده " .
ويرى اتباع مدرسة جنيف إن التفسير هو جهد للوقوف على حالات الوعي التي تتجسد بالنصوص الادبية ، ومن اولئك الاتباع بوليه الذي قال " أن النقد يبدأ وينتهي مصادفة في عقل كل من الناقد والمؤلف وأن الغرض من النقد كان دائما إعادة خلق النغمة الحقيقية الدقيقة التي تلح على الكاتب في كل أرجاء عمله على اختلافها بحيث تكون اعادة الخلق تلك بأكبر قدر من الصدق والدقة " .
ويرى النقاد الأمريكيون ومنهم هارتمان وهم المتيمون بالرومانسية "أن الرومانسية ترفع لواء فكرة الوحدة بين العقل والموضوع والتي هي حالة من حالات الوعي تتناغم بإحكام مع التجربة وتسقط معها كل الفروق ويصبح العارف والمعروف واحدا " . ومنهج هارتمان الذي يحذف خصائص الشكل الذاتية في الشعر إنما يستمد اندفاعه من مسألة مزج دريدا التفكيكي بين النص والتعليق ، و ياكوبسون الناقد التفكيكي وضع مقولة شهيرة وهي " إن لغة الشعر تخرج مبدأ التعادل من محور الانتقاء لتضعه على محور الربط " .
يرى ميلر أن طريقة دخول حالة المؤلف العقلية تكون عبر اللغة ذلك الوسيط الذي يسكنه الناقد بالفعل ، ويضيف في نص رائع لتوضيح دور الناقد التفكيكي " الناقد أما أن يضيف نسيجه الى النص الذي صنعته بينلوبي أو يكشف ذلك النسيج الى حد تعرية كل خيوط النص البنائية أو قد يعيد الناقد نسج النص أو يتتبع خيطا واحدا في النص استهدافا لكشف ذلك التصميم الذي ينقشه ذلك الخيط " .
ومن وجهة نظر تفكيكية فإن التفسير يجب أن يحتفظ بمعنى مستقل للنص باعتباره موضوعا مستقلا ( موضوعيا كونيا ماديا ) بلغة هيجل وقد يغري الناقد الجري والسباق في وضع المعاني الى لعبة مصطنعة ليست لها نهاية من صنع يديه هو .
إن النقد التفكيكي دخل الى مجال الأدب كنص ابداعي ذو قيمة عالية رافضا دوره الثانوي و اية قيمة متواضعة عن محاولة الابداع نفسها ومضطلعا بحرية الاسلوب التفسيري ومستمتعا بها الى ابعد الحدود " وبهذه الروحية والتقويم كتب اوسكار وايلد مقاله بعنوان " الناقد فناناً " . ويرى بعض كبار الدارسين أن التفكيكية بجانبها غير المرغوب به والمنتقد على الدوام ما هي إلا نقد ينمو ويزدهر على أساس من المثل الذي احتذاه جاك دريدا وسار عليه ولكن ذلك النقد نادرا ما يسعى الى محاكاة أو حتى مضاهاة صلابة الجدل وحجيته عند دريدا ، إن دريدا هو نبي التفكيكية وصاحب كتابها المقدس والآخرون اجتهدوا وفق نصوصه وسياقاتها .
ويأتي بول ديمان ليمثل التفكيكية بجانبها الذي يقوم على الجدل المتعنت الشديد مع المفهوم حيث تقوم قراءاته على الوصول الى العبر المنطقية العميقة غاية العمق والأكثر إيغالا في النص مبينة منهج و اسلوب تكاثر التوترات اللغوية والبلاغية بالذات إلى أن تبلغ نقطة الوهج بامتزاج المنطق ضمنيا مع مضامينه هو نفسه ، ويحقق الناقد أعظم تبصراته "عندما ينتقل من التفسير الى التنظير أي الى الوعي الذاتي " ويذكر ديمان أن مقالاته المعنونة "استعارات ألقراءة " بدأت كدراسة تاريخية إلا أنها حورت نفسها ذاتيا لتتحول الى نظرية للقراءة .
إن الاستعارة هي الاسلوب المميز للنص الابداعي وهي محاولة قد تكون موفقة في كثير من الأحيان للإمساك بسمات التشابه بين حقلين مختلفين من حقول المعاني في إطار الابقاء على مسافة كافية تتيح امكانية لقفز الخيال و الالهام بالسهولة الممكنة مع الاحتفاظ بأقصى مضمون شاعري متاح وملفت . وأخيرا فإن التفكيكية هي من مشجعي العبث الذهني من وقت الى آخر من أجل اللحفاظ على شعلة الحرية الفكرية موقدة على الدوام .
عباس يونس العنزي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع