الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خريطة

سها السباعي

2013 / 5 / 10
الادب والفن


قصة قصيرة


أصبح الصندوق ممتلئًا، لا بد أن تحضر صندوقًا آخر. ولا بد أن تبدأ في عمل ملف شامل لمحتويات الصندوق قبل أن تحكم إغلاق غطائه بشريط لاصق استعدادًا لتخزينه تحت السرير. الصندوق الجديد سيمتلئ أيضًا عما قريب.

لا تشعر بأية مرارة تجاه بُعْدِه الذي سيدوم أبدًا. الألم الذي تخلفه خيبة الأمل وطول الانتظار غير موجودٍ أيضًا. لم يخدعها؛ أخبرها منذ البداية أنه لن يعود. أدى ما عليه حين طلب منها أن ترافقه، أن تلحق به ولكنها رفضت. اللعنة على دوار البحر، أو دوار النهر، أو دوار أي قارب يتهادى على الماء. منذ أصبحت مزحة الزملاء والزميلات بعد الذي أصابها في رحلة القناطر خاصمت البحار والأنهار. حجة سخيفة لعدم التنقل والاكتفاء بالحركة في المكان. عندما حاول إبطال الحجة واصطحبها إلى مكتب استخراج جوازات السفر، رفضت بإصرار. ما أدراها كيف سيكون دوار الجو. يئس منها. ولكن حين ودعته في الميناء وعدها أنه لن ينساها. ووفى بوعده. ووعدته أنها ستحافظ على ذاكرته، ووفت بوعدها. اتفقا على فراق آمنٍ، خالٍ من المرارات. فراقٌ برضا الطرفين.

من كل ميناءٍ رست فيه سفينته، من كل بلدةٍ نزلها، أو معلمٍ زاره، أرسل لها بطاقة بريدية، تحتوي كلمات مختصرة وأمنيات بالخير، وصورة له. لم يتغير نحوله بمرور السنوات، ولم يشب شعره. فقط ملابسه تتغير بحسب الجو.

كلما تلقت المظروف الذي يحتوي الصورة والبطاقة فعلت أمرين؛ بحثت في الخريطة الكبيرة التي تعلقها فوق سريرها عن المكان الذي قدمت منه البطاقة، أو في الأطلس الذي تشتري نسخته الأحدث باستمرار كلما أخبرتها نشرة الأخبار عن ظهور دولة أو اختفاء دولة، أو في خرائط أخرى صغيرة بالإنجليزية، الخرائط العربية ليس دقيقة تمامًا. وعلى سبيل التميمة تعلق في مرآة سيارتها نموذجًا للكرة الأرضية، تظهر عليها أسماء الدول بخط منمنم. على المكتب تستقر تلك المبراة في نموذج أكبر قليلاً، لكن الخط لا يزال منمنمًا. الأمر الثاني أنها تقف أمام المرآة الطويلة في غرفتها وقد رفعت الصورة إلى مستوى كتفها في يد، وفي اليد الأخرى صورة لهما معًا التقطها لهما ضابط بحري شاب يوم سافر، بعد وهلة من التأمل في المرآة تعود إلى سريرها لمقارنة التفاصيل المتغيرة. هو لا يتغير أبدًا. لكنها تتغير. الشعيرات البيضاء تواصل التكاثر منذ أعوام ، وزنها زاد بنسبة 50% عن وزنها في ذلك الصيف الذي ودعها فيه. كما تعتقد أن قامتها بدأت تقصر.

أصبحت عليمة بعواصم البلدان، وعواصم الأقاليم، وعواصم الولايات، وعواصم المحافظات. أجابت مرتين على سؤال يخص الدول في مسابقة الإذاعة المدرسية، لم تعرف طالبة واحدة من بين ثلاثة آلاف طالبة الإجابة الصحيحة. بالطبع فليس لإحداهن حبيب مسافر. لم تستطع تمالك نفسها، وتركت مكانها أمام الطابور الخاص بالصف الذي ستلقي عليه درس الحصة الأولى، واختطفت مكبر الصوت لتلقي في وجوههن الإجابة بزهو واحتقار. أحد الأسئلة كان عن الدول الإسكندنافية – ثلاثة دول - ، والأخرى عن جمهوريات البلطيق المستقلة –وهذه ثلاثة أيضًا! من يومها أطلقوا عليها اسم "الأستاذة أطلس".

تعرف أن هؤلاء البحارة لهم في كل ميناء حبيبة، بسهولة يحصلون على ما يشاءون من الهوى. لا يزعجها ذلك على الإطلاق، فهي تصل إلى الذروة في كل مرة تمرر أصابعها على الخريطة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الكاتبة سها السباعي المحترمة
مريم نجمه ( 2013 / 5 / 10 - 09:37 )
تحية الأدب والجغرافيا للزميلة المبدعة سها السباعي

مررت في هذا الصباح على محطات إبحارك الأدبي فاستنشقت رائحة البحار وموانئها الصاخبة بأمواج العواطف الإنسانية الفياضة بالذكريات التي لا تنسى من ذاكرة المحبين التي لا تمحيها مراحل العمر ولا قسوة المعاناة والإنشغالات اليومية
فرحت بكتاباتك الراقية والقلم الجذاّب - أعذريني صديقتي العزيزة بأنني أدق باب صفحتك لأول مرّة ..
تحية من القلب للمبدعة سها
محبتي وتقديري


2 - الأستاذة سها السباعي المحترمة
ليندا كبرييل ( 2013 / 5 / 10 - 16:12 )
تحياتي لك وللأستاذة مريم نجمة ، وأرجو لكما مساء سعيداً
زوج صديقتي بحار ، كأنك تتكلمين عنها وعنه ، هي لا تعرف أسماء البلاد فحسب ، بل والمدن ، والقرى أيضاً ، فكل مدينة وقرية نزل فيها كتب لها نبذة مختصرة وكان دورها في غيابه أن تبحث في تاريخ هذه القرية والمدينة . لها ذاكرة عجيبة ، لا يجمعها بزوجها إلا هذا الهوى ، تشتاق إليه ، فإن عاد إلى البلد ، ضاقت من وجوده بعد أسبوع ، وتمنّت رحيله ، ثم تطلب منه أن يسارع بالوداع . حب من بعيد لبعيد ، ويعيشان حياة طيبة ، ومتفقان في الميول . لكن .. تبقى حياتهما غريبة
مع تحياتي واحترامي


3 - هي الإنشغالات اليومية
سها السباعي ( 2013 / 5 / 11 - 08:26 )
الكاتبة مريم نجمة المحترمة
شرفت بقراءتك موضوعاتي. وشرفت أكتر بتقديرك. هي ذاتها الانشغالات اليومية التي تمنعنا من الكثير. شخصيا تمنعني من المزيد من الكتابة والقراءة. والمزيد من الإبحار في النفوس الإنسانية والأحداث العالمية.
تحياتي وتقديري وخالص شكري


4 - حياة غريبة سعيدة ذلك أفضل جدا
سها السباعي ( 2013 / 5 / 11 - 08:31 )
الأستاذة العزيزة ليندا كبرييل المحترمة
صباحك سعيد. على الأقل صديقتك وزوجها يلتقيان، لكن بطلي أخذ قرارا عنيدًا بعدم الاقتراب من حدود بلده من الخارج وبطلتي أخذت قرارًا أكثر عنادَا بعدم الاقتراب منها من الداخل. فأصبحت نقطة اللقاء مظروف به ثلاثة أنواع من الورق.
دامت قراءتك ودامت كلماتك ودامت حكاياتك الجميلة التي تسعدني جدا مشاركتها معك.

اخر الافلام

.. الجنازات في بيرو كأنها عرس... رقص وموسيقى وأجواء مليئة بالفر


.. إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا




.. شكلت لوحات فنية.. عرض مُبهر بالطائرات من دون طيار في كوريا ا


.. إعلان نشره رئيس شركة أبل يثير غضب فنانين وكتاب والشركة: آسفو




.. متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا