الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشكالية التحول الديمقراطي في العراق- الفصل الثاني

عبدالوهاب حميد رشيد

2013 / 7 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


إشكالية التحول الديمقراطي في العراق
الفصل الثاني
الحضارة العربية الإسلامية
بعد سقوط الحضارة البابلية واجه العراق لقرون عديدة مختلف أشكال الاحتلال الأجنبي وتدهور الحياة الاجتماعية. ومع ظهور الإسلام وتحرير البلاد ودخولها الدين
الجديد، نهض العراق من جديد، وعاش تغيرات فكرية واجتماعية واقتصادية جذرية على مدى ستة قرون، بل وأصبح في عصر ازدهار الدولة العربية الإسلامية مركزاً متقدماً للحضارة العالمية، قبل أن تواجه هذه الحضارة عوامل الانهيار بسقوط بغداد،
وعودة دخول العراق في ظلام الاحتلال والانحطاط لغاية منتصف القرن التاسع عشر. وفي الصفحات التالية محاولة موجزة لمتابعة أحداث العراق قبل وبعد ظهور الإسلام من النواحي الفكرية- المعتقدية والاجتماعية- الحضارية.
1- العراق بين السقوط والتحرير
كان موقع العراق وغنى ثرواته محط أنظار شعوب عديدة تجاوزت، في أحيان كثيرة، قاطنوا الجبال والصحاري المجاورة. ففي أواخر عهد الحضارة البابلية، وبعد أن أسس كورش (الأكبر) الثاني السلالة الأخمينية وورث العرش الميدي ووحده مع العرش الفارسي وسيطر على كل بلاد فارس، اتجه نحو بلاد الرافدين، واحتل بابل عام 539 ق.م، وبذلك وضع نهاية لآخر حضارات وادي الرافدين. وفي حين نجح الفرس الأخمينيون في احتلال العراق وإحتوائه عسكرياً، لكنهم لم ينجحوا في إحتوائه حضارياً.(1)
ولاعتبارات تتعلق باستمرار الاحتلال، فقد لجأ الفرس إلى الحد من استمرار الهجرة العربية إلى العراق، واتخذوا عدداً من الإجراءات لقطع تواصل عرب العراق والجزيرة العربية، بما في ذلك الحملات المسلَّحة وإعادة توزيع العرب في العراق وتحديد انتشارهم الجغرافي بشكل لا يهدد السيطرة الفارسية، رغم أن الروايات التاريخية تشير إلى فشل هذه الإجراءات، وانتشار واسع للقبائل العربية في البلاد.(2)
واجهت بلاد بابل منذ احتلالها مصيرها الأسوأ والأكثر سوءاً يوما بعد يوم. يكفي معرفة أن الجيوش الأجنبية استباحت بابل تسع مرات خلال أربعين عاماً فقط بعد سقوط الامبراطورية البابلية.(3) ورغم أن كورش حاول إرضاء السكان والكهنة بغية كسبهم، لجأ الذين بعده إلى فرض ضرائب ثقيلة على السكان. وبلغ الفقر بِأهل البلاد إلى بيع عوائل لبناتها بالمزاد العلني أو رقيقاً للمعبد. وهذه الحالة تشير إلى وضع عام سيء ومعاناة هائلة للشعب البابلي، مقابل حياة مرفهة عاشها الغزاة بالاستحواذ على خيرات هذه البلاد الغنية. ولم يكن العراق تحت الاحتلال الفارسي يعيش وضعاً مستكيناً، فمنذ بداية الاحتلال شهدت بابل ثورات مستمرة وواجهت ردود فعل قاسية من قبل الغزاة قتلاً وحرقاً وتدميراً.
كما نشر الفرس الإقطاع في العراق القديم. إذ قام المحتل الفارسي بتوزيع أراضي البلاد باللزمة على جنوده وموظفيه مقابل خدمة مَلكهم بواجبات متعددة أهمها إرسال حصته من الإيرادات وتجنيد الفلاحين لحروبه. وكانت هذه الإقطاعات أول الأمر عسكرية بحيث أن التسميات التي أطلقت عليها كانت ذات طابع عسكري. ومع استمرار تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي لسكان بابل، فقد ازداد خنوعهم للبيوتات المالية والتجارية والإقطاعات الفارسية. كما أن جمود المعابد وانكماشها، وزيادة الفقر لدى عامة الناس، وتتابع الثورات، خلقت حالة عامة من النفور ضد الفرس.
انتهت الدولة الأخمينية باجتياح الاسكندر المقدوني بلاد الرافدين لغاية الهند، ودخل بابل عام 531 ق.م وعامل آلهتها (مردوخ) باحترام، ولكن ما أن عاد حتى توفى في بابل (323 ق.م)، فخضعت إلى سيطرة السلوقيين (نسبة إلى سلوقس أحد قادة الاسكندر). لكن العائلة السلوقية فشلت في خلق مناخ سياسي مستقر بسبب ضعفها ومنازعاتها الداخلية المستمرة، واندلاع الحروب بين ورثة اسكندر. لذلك تعرضت بابل للغزو الدائم. وهكذا بزغ القرن الثاني قبل الميلاد وبلاد الرافدين غارقة في الدم نتيجة الصراعات المستمرة بين القادة والحكام المقدونيين والأغريق والملوك السلوقيين وغيرهم.
ومن الملاحظ أن السلوقيين حاولوا الإنعزال عن المدن العراقية القديمة وسكانها في مجمعات خاصة بهم، كما حاولوا الالتصاق بالكهنة في معابدهم للاستفادة منهم علمياً، وخاصة في مجال الفلك والرياضيات. وقد أعادوا هيبة المعابد البابلية وأتاحوا للكهنة البابليين استعادة جزء من حياتهم الفكرية والدينية، كما أنهم أعادوا جزءاً من الأراضي والثروات الزراعية "المغتصبة" من الملاكين الفرس إلى المعابد وإلى المدن نفسها التي أعفيت من الضرائب لمدة معينة، ولربما كانت هذه الإجراءات جزاً من عملية تنمية محدودة غايتها تقوية بابل مركز الامبراطورية السلوقية، وضمان الهدوء العام مع الرخاء النسبي بعدما بلغ الفقر بعامة الناس حد المجاعة. عليه نشأت نهضة فكرية مصغّرة لتلافي ظاهر الانقراض السريع التي كانت تواجه المعابد والمدارس. ولقد وردت إشارات في نصوص مسمارية حول تأسيس مكتبات جديدة في هذه الحقبة، كما عثر الآثاريون على مجاميع لنصوص قضائية ودينية، وألواح تضم الرياضيات والفلك وعلوم الحياة والقواميس الأكدية- السومرية وكتب الفأل والتنجيم.(4)
مع نهاية الامبراطورية السلوقية، احتل الفرثيون، الذين جاؤوا من الهضبة الإيرانية، بلاد بابل مرتين (153/140 ق.م). وأساؤوا معاملة البابليين وقاموا ببيع عدد منهم أرقاء في بلاد ميديا. فثارت بابل وجوبهت بالقتل والحرائق وتشريد سكانها. وأخيراً، حكم الساسانيون الفرس بلاد الرافدين طيلة الحقبة التي بدأت بدخولهم بابل عام 224 ق.م بعد أن انتزعوا الحكم من الفرثيين وحتى تحرير العراق على يد جيوش العرب المسلمة (636م). وأخذت بابل تتحول إلى خرائب حتى أصبحت فارغة من سكانها عام 115 ق.م.(5) وبذلك تكون أرض ما بين النهرين منذ سقوط آخر حضارتها البابلية قد خضعت للحروب والتدمير والاحتلال على مدى أكثر من أحد عشر قرناً من الزمن لغاية الفتح العربي الإسلامي.
وفي مرحلة الاحتلال الساساني استمرت حركات التمرد العراقية ضد الوجود الفارسي، وعبّرت إمارة الحيرة عن شكل من أشكال الصراع السياسي الذي انتهى بالفرس إلى قتل مَلكها النعمان بن المنذر بعد أن أحسوا بمحاولات النعمان بث الوعي التحريري وجمع العرب حوله، رغم أن مقتله فتح سجل الكفاح فوقعت معركة ذي قار في زمن معاصر للدعوة المحمدية في مكة، وكان انتصار العرب في هذه المعركة بداية لعودة نشاط بؤر ثورات عديدة بغية التحرر من النير الفارسي.
عاشت الجزيرة العربية قبل الإسلام في ظل أنظمة قبلية اعتادت على الغزوات التي قادت إلى انتشار عادة وأد الأولاد، بخاصة البنات، في بعض القبائل تحاشياً لسبي نساء القبيلة عند تعرضها للغزو، وشكلت العصبية روح العشيرة، والثأر شريعة البادية، والنسب مصدر اعتزاز الفرد. وجسّدت الحروب القبلية مميزات القيم العربية في الجاهلية من عصبية وحمية نهضت بعقلية البدوي تارة إلى الفضيلة: حماية الجار، الشجاعة، المروءة، الحلم، العفو عند المقدرة. وهبطت به تارة أخرى إلى الرذيلة: التنازع والتقاتل والعداوة والثأر.(6)
ومن الناحية الدينية، خرج هذا البدوي، في أول الأمر مشركاً، لأِن عزلة الصحراء الشاسعة قد صبغت نفسيته بالخشوع وكانت مخيلته تتصور أن أقصى حدود الصحراء مأهولة بمخلوقات غريبة غير منظورة تأوي إلى كل صخرة وشجرة ومرتفع من الأرض أو نبع من الماء. وأمثال هذه المخلوقات كانت تمثل آلهته. ورغم تقبل الإسلام ووحدة الإله، بقيت الخرافات وتأثيرات الصحراء قائمة بصفة دائمة. وفي الوقت الذي فرّق الكفاح في سبيل الوجود هؤلاء البدو إلى جماعات معادية، كان كفاحها المشترك ضد الطبيعة، قد طبعها بطابع الكرم المعروف على نطاق واسع. يقول أحد الرحالين المحدثين "لا يوجد في العالم شيء ما يعادل كرم البدوي. فما أكثر البدو الذين حللتُ عليهم ضيفاً. قد حرَّموا أنفسهم من أفضل ما هو موجود في مخازنهم، أو آخر حمل أو عنزة، في سبيل أن يكرموني".(7)
كشفت ظروف الصحراء بواطن الخلق العربي، فإذا بصاحبه مطبوع على التحمس لقيم الاستقلال البدائية، والحرية الشخصية، النفاد الجماعي للصبر، الضغوط الشخصية، وروابط قوية من الوحدة تسود بينهم. فالعرق، العقيدة، اللغة، والجغرافيا، والمكوث عدة قرون في موطن مشترك على التقاليد العربية الموروثة، كل هذه العوامل كانت تعمل لصالح عزلته الاجتماعية. وعلاوة على شعوره الفردي، فهو عنيد، صعب المراس، تسوغ له أنفته وكبرياؤه القتال دفاعاً عن قبيلته سواء أكانت محقة أو مخطئة، ويأبى الانقياد للنظام. من هنا ظهر الإسلام والعرب متفرقون ومفككون سياسياً واجتماعياً، وأجزاء كبيرة من أرضهم تحت الاحتلال. فقد بسط البيزنطيون نفوذهم على بلاد الشام ومصر والمغرب، بينما سيطر الفرس على العراق واليمن.(8)
ساهمت الدعوة الجديدة بين عرب الجزيرة وفرضها الجهاد لنشر الإسلام، علاوة على الاحتلال الأجنبي لأِجزاء من البلاد العربية، في بدء العرب المسلمين فتوحاتهم بتحرير الأراضي العربية. وتحقق الانتصار العربي الإسلامي في معارك تحرير العراق في القادسية- غرب النجف/ منطقة الحيرة، بينما جاء الانتصار على الفرس (معركة نهاوند قرب همذان) بنهاية الامبراطورية الفارسية. وقد انجزت هذه الجهود مهماتها في تحرير العراق وتحطيم الامبراطورية الفارسية خلال الفترة 15-21 هـ/ 636-641 م. وكما فتحت معركة القاسية أبواب العراق ، فإن معركة اليرموك ضد البيزنطيين فتحت أبواب الشام أمام العرب.
بعد تحرير العراق من الساسانيين أقام العرب الفاتحون معسكرين في الكوفة والبصرة في سنة 14هـ/635م (و) 16هـ/637م بغرض الاستقرار، تطورتا إلى مدينتين عامرتين. وفي سنة 64هـ/748م بنى الحجاج بن يوسف الثقفي مدينة واسط. وبانتقال الخلافة إلى العراق تم بناء مدينة بغداد. لعبت هذه المدن دوراً اجتماعياً وحضارياً مهماً، نتيجة اختلاط العرب الفاتحين بسكان البلاد الأصليين بعد أن تحققت ظروف الاستقرار في مرحلة تالية. ساهم هذا الاختلاط في تعزيز القاعدة الاجتماعية الجديدة في العراق، وأدت علاقات المصاهرة والأشكال الاجتماعية الأخرى للاختلاط إلى تقوية القاعدة البشرية وهيأت أرضية النشاط الحضاري.
عاش إلى جانب العرب في أمصارهم الجديدة عناصر وطوائف أخرى نتيجة للتسامح الديني الذي اتصف به الإسلام، وعُرف هؤلاء بِأهل الذمة، ومنهم أتباع الديانة المسيحية الذين استقروا في العراق قبل الفتح بضمنهم أهل الحيرة ومعظمهم من العرب المسيحيين. وكان الفرس يسيئون معاملة هذه الطائفة ويضطهدونها، ولما فتح العرب المسلمون العراق رحب أهل الذمة بهم أملاً في الخلاص من ظلم حكام الفرس والإعفاء من الخدمة العسكرية والتمتع بالحرية الدينية التي يسمح بها الإسلام مقابل دفع الجزية.(9)
يمكن تلخيص أهم أسباب نجاح الفتوحات العربية- الإسلامية والانتصار على الامبراطوريتين الفارسية والبيزنطية في العوامل التالية: الإنهاك الذي حلَّ بالامبراطوريتين نتيجة الحروب الكثيرة التي وقعت بينهما.. ممارسة الاضطهاد الديني.. فرض ضرائب ثقيلة والاستياء الشديد نتيجة الظروف القاسية. يضاف إلى ذلك أن أهل الشام والعراق – بحكم الجوار- قد تسامعوا بما تحمله الدعوة الإسلامية من تخفيف الشقاء المادي عن الفقراء والمعدمين والمضطهدين. وما سهل للعرب السيطرة على أرض العراق (وكذلك أرض الشام) هو العلاقات المشتركة التي تعود إلى أقدم عصور حضارة وادي الرافدين، بما فيها من صلات ثقافية واختلاط مستمر بين معاشر البدو وأهل البلاد "أرض السواد"، أرض الخيرات.(10)
يضاف إلى ذلك أن الممارسة العربية الإسلامية لسياسة الفتح ساهمت كذلك في نجاح تلك الفتوحات وانتشار الإسلام والتي تلخصت في:(11)
+ بعد الاستيلاء على الغنائم التي يحرزها الفاتحون في ساحات المعارك من جيوش العدو المغلوبة، تقسم حسب تشريع الحرب في الإسلام بين المحاربين بعد دفع الخمس إلى "بيت المال"- خزينة الدولة.
+ فرضوا على غير المسلمين من أهل الكتاب ضريبة "الجزية" وسمي دافعوأ هذه الضريبة "أهل الذمة"، ومعنى هذه التسمية أن أهل الكتاب (المسيحيين واليهود) من شعوب هذه البلدان يصبحون في "ذمة" العرب، أي حماية العرب لحياتهم وملكياتهم الخاصة وحرياتهم الدينية والشخصية والمهنية وضمان حرية ممارسة شرائعهم وتقاليدهم التي كانوا يمارسونها قبل الفتح.
+ إذا دخل في الإسلام أحد من "أهل الذمة" رفعت عنه الجزية وأصبح يؤخذ منه بدلاً عنها فريضة "الزكاة" الواجبة على المسلمين المقتدرين. وإذا أسلم الفلاح غير المسلم وبقي على مهنته في العمل الزراعي فتؤخذ منه ضريبة "الخراج" وهي ضريبة عقارية تؤخذ عن الأرض من المحصول بنسبة العشر.
+ منذ أوائل الفتوح بادر الفاتحون العرب إلى إنشاء معسكرات خاصة بجيوش الفتح سميت "أمصاراً"، وسمي كل معسكر "مصراً". وهذه الأمصار أصبحت مراكز رئيسة في الدولة العربية للنشاط الفكري والاقتصادي والسياسي. أفرزت حركة الأمصار ثلاث ظواهر: أنها خُططت على أساس قبلي، وسكنت كل قبيلة أحد أحياء المدينة وسمي باسمها.. أن كبار أغنياء مكة من التجار الذين عُرفوا بالثراء قبل الإسلام هاجروا إلى هذه الأمصار، ومنها الكوفة والبصرة ونقلوا إليهما نشاطهم التجاري واستثمار أموالهم، وتبعهم عدد كثير من الحرفيين للعمل في خدمة الأغنياء، حتى نشأت في المدن الجديدة ظاهر طبقية واضحة الملامح وبرز فيها العمل الزراعي على أيدي الأسرى الأرقاء والأحرار الفقراء.. أن قادة جيوش الفتح وكبار الأغنياء والتجار أقاموا، بداية الفتح، في عزلة عن السكان المحليين متخذين من هذه المدن شبه قلاع منعزلة، تشكل ظاهرة قلاع عسكرية وقلاع طبقية في وقت واحد.
+ لم يجر العرب الفاتحون على عادة الغزاة في تلك العصور من نهب المدن المفتوحة. بل أقتصروا على أخذ ممتلكات الأغنياء و "الأشراف" الذين كانوا يهربون من هذه المدن حين يدخلها الفاتحون. أما الأراضي فلم تؤخذ إلا في عهد عثمان، الخليفة الثالث، حين أخذ الحكام الأمويون من أقربائه يؤلفون ارستقراطيتهم الغنية على حساب خزينة الدولة وفقراء العرب وفقراء البلدان المفتوحة.
يضاف إلى ذلك، يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
+ في مقابل الاضطهادات الاجتماعية والدينية والمذهبية التي كانت تمارسها السلطات البيزنطية والفارسية، تقدم الفاتحون العرب إلى السكان المحليين، لدى دخولهم البلاد المفتوحة، بمبادئ وشعارات رأى فيها عامة الناس أملاً في الخلاص وتحسين ظروف حياتهم.
+ رفع الفاتحون العرب شعار: لا حرب إلا ضد الذين برفضون الصلح، ثم شعار "لا إكراه في الدين" وأنهم إذا دخلوا بلداً بصلح كان لأِهل هذا البلد الأمان والحماية لأِرواحهم وأموالهم ولحرياتهم الشخصية والدينية. وما كانت غنائم الحرب إلا من البلدان التي أبى رؤساؤها إلا الحرب ورفضوا الصلح.
+ اقتصرت الغنائم على ما كان لدى مؤخرات الجيوش المحاربة، وعلى أموال الأغنياء وقصور النبلاء الذين هربوا من المدن. وحتى البلدان التي دخلها العرب بحرب من غير صلح لم ينهبوا مدنها ولم يسلبوا أهلها أموالهم سوى أموال أولئك الهاربين من الأغنياء والنبلاء.
+ أتاح الفاتحون العرب لرجال الدين المسيحيين من أهل البلاد الأصليين أن يتولوا هم المناصب الروحية العليا، بدلاً من رجال الدين اليونان الذين كانت تفرضهم الكنيسة البيزنطية على المؤسسات الدينية في سورية وفلسطين ومصر. ومن هنا نال الفاتحون تأييد رجال الدين المحليين هؤلاء، بل أصبحوا دعاة للحكم العربي في هذه البلدان.
+ ساوى الفاتحون في ضريبة الأرض (الخراج) بين العرب المشتغلين في الزراعة وغير العرب. من هنا كسبوا تأييد هذه الفئة من السكان.
+ كان التجار المحليون يربحون أموالاً كثيرة من الفاتحين، لأِن هؤلاء كانو يبيعون ما يأخذونه من الغنائم لأِولئك التجار بِأثمان بخسة، بالرغم من أن كثيراً من هذه الغنائم كانت ثمينة جداً. وذلك لجهل العرب بِأقيام تلك النفائس. من هنا كان التجار المحليون حريصين على استمرار حسن العلاقة بينهم وبين الفاتحين.
+ أبقى العرب أجهزة السلطة الإقطاعية في البلدان المفتوحة على ما كانت عليه ولم يستولوا عليها، ولم يشاكوا فيها مباشرة في أوائل عهد الفتح، بل استمروا في عزلة عن العملية الاجتماعية نفسها بعض الزمن، محافظين على الإقامة في معسكراتهم (المدن المنشأة حديثاً عقب الفتح/ الأمصار)، ومحافظين بذلك أيضاً على تقاليدهم القبلية. من هنا بقيت سلطات الإقطاعيين في هذه البلدان تتمتع بمراكزها وامتيازاتها الطبقية، فلم يكن لدى هؤلاء الإقطاعيين ما يدعو إلى إثارة المتاعب و "الثورات المضادة" بوجه الفاتحين العرب.
+ ظهر أثناء عملية الفتح، شعار: أن العرب هم جيش الإسلام. وبمقتضى هذا الشعار كان يسمح للعرب وحدهم من سكان البلدان المفتوحة الأصليين أن ينتظموا في سلك الجيوش العربية العاملة في هذه البلدان. وبفضل ذلك انظمت إلى هذه الجيوش قبائل عربية كانت تعيش في العراق وسوريا منذ زمن بعيد قبل الفتح العربي. من هنا ضمن الفاتحون العرب كذلك تأييد القبائل العربية القاطنة في البلدان المفتوحة، سواء ذلك بدوافع عرقية/ قبلية، أم بدوافع مادية حفاظاً على امتيازات المساواة التامة بينها وبين الفاتحين المنتصرين.
+ أتخذ الفاتحون العرب- وفقاً لتوصيات القرآن وتشريعات عمر بن الخطاب بشأن سياسة الفتح- قاعدة جديرة بالتقدير، وهي عدم البدء بالحرب المسلحة، وعدم اللجوء إلى استخدامها إلا في حالات ثلاث: الدفاع ضد الاعتداء "ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين".. حماية الضعفاء وإنقاذهم من ظلم أو هلاك "القتال في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان...".. حين يكون البدء باستخدام السلاح من قبل المعارضين "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة...".
تبين هذه الملاحظات أن العوامل الدافعة لحركة الفتح العربي لم تقتصر على العامل الديني، حسب، بل أن للعوامل الاجتماعية دورها المؤثر دفعاً وحسماً في خروج العرب من محيط جزيرتهم إلى المحيط الفسيح الزاخر بالحياة والنشاط والتنوع. وهذا يعني أنه رغم عدم إنكار الدور التاريخي الذي كان للعامل الديني الإسلامي بين عوامل الفتوحات هذه، لا سيما الذين شاركوا فيها مخلصين لإسلامهم وإيمانهم، فإن العامل الموضوعي حفز جميع الإرادات المتدفقة من مختلف قبائل الجزيرة المشاركة في الفتوحات والانتصار على أقوى دولتين في العالم المتحضر آنذاك.(12) ومع أن هذه اللوحة تكشف الكثير من الحقائق التاريخية: الاجتماعية والسياسية والفكرية. لكن هذه الملاحظات كلها لا تنطبق إلا على فترة محدودة. وربما صح القول أن هذه اللوحة بدأت تتغير منذ عهد الخليفة الراشدي الثالث، عثمان.
2- الإسلام والصعود الحضاري
ولد محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم في مكة (عام الفيل/570م). لفت انتباه القوم لحسن سيرته وأمانته حتى لقب بـ "الأمين". أعلن نبوته عام 610 م وهو في الأربعين من العمر. أحتوت التعاليم المحمدية قيماً دينية- إنسانية جديدة، وجدت لها هوى مباشراً لدى أتباعه، بما تميز به الإسلام من المرونة، بحيث سهلت التوفيق بين تعاليمه وبين المستلزمات الدنيوية في تلك الظروف. وتوفى عام 11هـ، بعد أن نشر الإسلام في الجزيرة العربية.
قام الإسلام على الإيمان بالله والملائكة ورسله وحياة الدنيا واليوم الآخر، كما أقرَّ الإسلام أن الإنسان يتكون من جزئين مادي وروحي، واعترف بالوحي والملائكة والجن والشياطين، إضافة إلى الإيمان بالقضاء والقدر، بمعنى أن جميع ما يصيب الإنسان في حياته الدنيوية من خير أومن شر، مرجعه إرادة الله. وإذا كانت الشهادة بوحدانية الله وخاتمة أنبيائه محمد، تشكل المدخل للإسلام، فإن واجبات الصلاة والزكاة والصوم والحج، كل حسب قدرته وطاقته، شكلت الأركان الرئيسة للدين الجديد.
وكالأديان السابقة، بدءأً بالديانة السومرية ثم الديانات التوحيدية التي أعقبتها، أكد الإسلام على الصفات الحميدة، ودعى إلى الالتزام بقواعد الأخلاق الطيبة: الصدق والأخوة والمحبة والمساعدة، الوفاء بالوعد، الصبر في الشدائد، العفو عند المقدرة، عفة النفس، تجنب الأفعال الشريرة، تأكيد مسؤولية الفرد عن أعماله، دون أن يتحمل وزر الآخرين. وكذلك طاعة الوالدين واحترام الأقارب واليتامى والمحتاجين، ومساعدة الفقراء وأبناء السبيل. بينما بدأت أول كلمة في القرآن بـ "إقرأ..."، وبذلك حثّ الإسلام على القراءة والتعليم واعتبرهما ضرورة للعقيدة الجديدة. وبذلت جهود واسعة منذ عصر الرسالة في التعليم، وكانت بداية وضع الأساس للحياة الثقافية للعصر الجديد.(13)
كما وضع الإسلام إطاراً من المبادئ العامة للأسترشاد بها في الحياة اليومية، تعرف بالوصايا العشر: النهي عن الإشراك بالله.. الإحسان إلى الوالدين.. النهي عن قتل الأولاد.. النهي عن قربان الفواحش.. النهي عن قتل النفس إلا بالحق.. المحافظة على مال اليتيم وتثميره.. إيفاء الكيل والميزان.. العدل في الأقوال والأفعال والأحكام.. الوفاء بالعهد.. إتباع الصراط المستقيم.(14)
لقد اجتمع العرب بالإسلام لأِول مرة في إطار دولة واحدة تضم عرب الشمال وعرب الجنوب بتراثهم الحضاري، وتجمع بين البدو والحضر في دعوة واحدة وحركة واحدة، وأنهى بذلك حالة المجابهة والصراع بين البدو والحضر لفترة تناهز قرنين. وحمل العرب الرسالة إلى الخارج. من هنا كانت المأثرة الأولى للثورة الإسلامية أنها دفعت الجزيرة العربية التحرك من مرحلة البداوة والتنقل إلى مرحلة التحضر والاستقرار. وإذا لم يتمكن الإسلام من القضاء على النزعة العصبية بصورة تامة وشاملة- لكونها تشكل ميراثاً تاريخياً تعود إلى آلاف السنين، وتتطلب معالجة مستمرة بعيدة الأمد- فقد قيدتها وحاربتها، بادخالها على المجتمع، فكرة الشريعة والقانون بدلاً من القيم القبلية القائمة على العرق والنسب، ونشرت فكرة الوحدة السياسية للأمة محل التجزئة العشائرية.(15)
ولم يكن مجيء الإسلام حدثاً تقليدياً في عصره لسببين أساسيين: طبيعة الإسلام نفسه، ديناً ذا نظرة ثورية شاملة للحياة.. وطبيعة العصر حيث وصل التدني في العلاقات البشرية حداً أصبح لا ينفع معه إلا التغيير الجذري وإعادة بناء علاقات إنسانية على أسس جديدة تقوم على العدل والمساواة. وعمل على تنقية الحياة الفكرية العربية من عوامل التخلف والخرافة وأخذ يدعو إلى استخدام القدرات العقلية في توسيع مدارك الناس وإثراء الخبرة البشرية. واعترف بالأديان السابقة وشجع على معرفة ما عند الأمم الأخرى من العلوم والأخبار. ورسم قواعد سليمة ينبغي على الإنسان مراعاتها في حياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مما فتح المجال لنهضة فكرية واسعة. وهكذا، لم يطرح الإسلام نفسه منقطعاً عما حوله أو من سبقه، بل قام على شمولية النظرة إلى الكون ودور الرصد والحوار العقلي. لذلك لم يكن الإسلام مجر دين للوعظ والإرشاد إنما حقبة تاريخية جديدة باتجاه التحضر الاجتماعي.(16)
يقدم تاريخ الفكر العربي الإسلامي أمثلة كثيرة عن مدى تداخل الميول الفكرية المتناقضة في ظل حضارة تواقة إلى التكامل بين الثنائيات. فقامت النظرة الإسلامية في التعامل مع وقائع الحياة الدنيوية على أساس نظرية الوسط "الوسطية الثنائية"، وفق ثقافتها الخاصة، التي تقول: أن الفضيلة وسط بين رذيلتين هما الإفراط والتفريط. عليه انطلقت في موقفها من الأقوام الدينية (اليهودية والمسيحية) من ثلاثة مبادئ رئيسة بلورها القرآن: تأكيد مبدأ التاريخ الوجداني الحق الذي تمثله الإسلام.. إظهار مبدأ الوحدانية باعتباره حقيقة أوسع من أن يمثلها إدعاء أياً كان.. الإقرار بِأن الإسلام هو التمثيل الخالص للوحدانية، باعتبارها معلماً للواحد الحق. شكلت هذه المبادئ أساساً للمواقف الإسلامية من أهل الذمة (أهل الكتاب) التي يمكن حصرها في خمسة أسس عامة: ضرورة التميز بين المهتدي والفاسق في الأمم السابقة.. أن لا يجري خوض الجدل معهم من منطلق لكل أعماله وإلى الله المصير.. محاربة التعصب والغلو.. إدانة الإنحراف العملي الذي قام به "رجال الدين" عن حقيقة الوحدانية التي بشر بها الله باتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله.. الدعوة لقتال من لا يدين بدين الحق. كما أن إقرار الإسلام بتعدديتها (وتنوعها الداخلي) يعني أيضاً إقرارها بالتعددية الخارجية، وبالتالي توجهها نحو بناء حضارة إنسانية كبرى ذات ثقافات متنوعة. مما يعني بالمقابل رفضها للقهر الثقافي و "الهيمنة القطبية" في الحضارات.(17)
نتج عن الفتوحات احتكاك العرب بشعوب تنتمي إلى ثقافات مختلفة، وجرى نقل واستيعاب التراث الأغريقي- الفارسي- الهندي الخصب، ليصبح على مر الأيام والسنين تراثاً إسلامياً خالصاً. هذا الامتزاج الثقافي، صبغ الثقافة العربية الإسلامية بصبغته طوال العصور الوسطى: حركة الترجمة، والشروحات، والإبداعات الخصوصية. ولم تميز الهوية الثقافية الإسلامية بميزتها الخصوصية، حسب، في "النهضة الأولى" وإنما شكّلت خميرة للنهضة الأوربية نفسها في العصر الوسيط. فالمعروف أن الفكر الكلاسيكي القديم لم يصل إلى العصر الوسيط الأوربي إلا بنسخته العربية في بادئ الأمر. فضلاً عن ذلك فإن بعض أفكار المفكر الإنساني بيك دي ميراندال التي اعتبرها ثمينة (الإنسان أشرف المخلوقات) والتي اعترف أنه استقاها من العرب، كانت مقتسبة من مناخات الفكر الصوفي الوجودي ومصطلحاته، كفكرة الإنسان الإلهي (المتأله) التي جرى تقريبها في الفلسفة الإنسانية الغربية Humanism من الفكرة الرواقية (الإنسان مقياس كل شيء)، مما ساهم في انبثاق الفكر النهضوي. ويرتبط بذلك أن تحرر الإسلام من الإيغال في الأمور الدينية، وميله إلى أن يصبح هو الدين الطبيعي للإنسان، هيأ ظروفاً وفّرت إمكانية إطلاق الحوافز البشرية على مستوى كان قابلاً للتطبيق في ذلك الزمان وملائماً للمكان والناس. وإذا أخذنا في الاعتبار خلفية العراق/ العرب بتراثهم الواسع، والانفتاح الفكري على ما كان لدى الشعوب الأخرى في سياق الاختلاط وانتشار اللغة العربية، لغة مشتركة للتفاهم والفكر، والتي اجتمعت جميعها في بغداد خلال خمسة قرون، عندئذ يمكن الاستنتاج أن هذه المدينة أنتجت حضارة عالمية فريدة من نقاط استشرافها، ومصادر تطلعاتها.(18)
أفرزت الحركة الإسلامية، وما رافقها من توسيع الحدود الجغرافية والبشرية للعرب، ظاهرتين بارزتين: انتشار الإسلام، واللغة العربية/ التعريب. وعزز ذلك نظام الولاء. ففي بيئة قبلية تتمسك بمفاهيم النسب، كان على غير العربي الذي يسلم أن يرتبط بشخص أو بجماعة ليجد مكاناً في المجتمع، بخاصة في صدر الإسلام. كما أن عاملاً مهماً لعب دوره في تسريع عملية التعريب، وهو زواج المحاربين والمستوطنين العرب بنساء المناطق المفتوحة. يلاحظ أن معظم الخلفاء العباسيين كانوا من أمهات غير عربيات، بل أن خلفاء القرن الرابع الهجري كانوا جميعاً أولاد إماء. وكانت الجماعات الأولى من الموالي أرقاء أعتقوا وأرتبطوا بمواليهم. كما أن عمر بن الخطاب أوقف سبي العرب، وحاول وقف استرقاقهم وعتق الأرقاء منهم. لذا صارت كلمة الموالي تشير إلى المسلمين من غير العرب.(19)
ويلاحظ أن أسلوب الموالاة ساهم في فتح الطريق لكسر العزلة العربية من جهة، ووفّر لغير العرب من المسلمين الاندماج في المجتمع العربي الإسلامي من جهة أخرى. فالتحالف والموالاة في القبائل العربية تقليد متواصل. من هنا أطلق العرب تسمية "مولى- موالي" على السكان الأصليين الذين دخلوا الإسلام وتعربوا. وبعد بضعة أجيال تحصل عملية الإندماج وتزول صفة "المولى" عن الشخص (والجماعة)، ليصبح بعدها حاملاً اسم القبيلةً.(20)
شكّلت مسألة التفاعل الاجتماعي والثقافي أو التفاعل الحضاري، وأثرها في تطور التفكير العربي والمجتمع العربي، من الظواهر التاريخية الكبرى. لكن ظروف الفتح المعقدة التي شغلت الجاليات العربية في البلدان المفتوحة بمسائل الحماية والتظيمات العسكرية والإدارية والضرائبية، قد أخَّرت عملية التفاعل هذه، وحكمت على العرب الفاتحين أن يعيشوا في البلدان المفتوحة منفصلين عن حياة السكان الأصليين، بخاصة عن عملية الإنتاج المادي، لذلك يمكن القول أن ظروف التفاعل الاجتماعي والثقافي لم تكن قد توفرت بعد في عهد الخلفاء الراشدين. ولكن ما كادت هذه الظروف تتوفر بحكم الاستيطان الثابت وتعمق جذور الجاليات العربية في الأرض التي استوطنوها، وتطور شكل "الدولة" وأجهزتها في البلدان المفتوحة ودخول العرب في عملية الإنتاج المادي وتوطد ملكياتهم العقارية وغير العقارية، حتى أخذت آثار هذا التفاعل بالبروز، وتفعل فعلها التاريخي.(21)
كان "الاجتهاد" في التشريع قد استخدم قبل ظروف الفتح على نطاق ضيق ارتباطاً بظروف الحياة العربية الضيقة في نطاق الجزيرة، وسهولة تطبيق النصوص الجاهزة على كثير من الحالات المحدودة بطبيعتها في تلك الفترة. لكن الحياة العربية أخذت بالتوسع مع تطور الحركة الإسلاميةً، وتطور العلاقات الاجتماعية نحو التعقيد. فكان على التشريع الإسلامي أن يواجه الحاجات والمشكلات التي يخلقها هذا التطور، وأن يطبق قواعده العامة عليها بطريقة جديدة تحتاج إلى استخدام العقل. وهذه الممارسة الأجتهادية، فسحت المجال للفكر أن يتحرك ويجد التفسيرات المنطقية للحالات المستجدة. تعمقت هذه الممارسة في ظروف الفتح العربي، فوجد الخلفاء والصحابة أمامهم في هذه الظروف الجديدة كلياً ما يستوجب تعميق النظر العقلي في أمر التشريعات العامة أو الخاصة عند تطبيقها على ما يمارسونه من حالات لم يمارسوها من قبل. وكان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أجرأ الخلفاء الراشدين على الاجتهاد بالرأي في هذه الحالات الجديدة، مستخدماً في ذلك فهمه المرن لعلاقة الظروف بالتشريع، أو العكس. وهذا الموقف الاجتهادي يدلل على أن الفكر العربي أصبح يتجه إلى استنباط القواعد العامة من النصوص والتصرف بالأحكام التشريعية وفق العلل المتغيرة مع تغير الحاجات الطارئة والظروف الاجتماعية المستجدة.(22)
استمرت دعوة محمد لنشر الدين الجديد 22 عاما. وحال وفاته (632م) ظهر ما كان مكبوتاً من الصراعات القديمة بين مختلف الأطراف القبلية والمذهبية وفيما بين كل منها، ولا يزال جثمانه في منزل زوجه عائشة لم يدفن بعد. ورغم حسم الموقف بمبايعة أبي بكر أول خليفة بعد النبي، فإن الأمر لم يحسم تاريخياً ولا دينياً، إذ نشأت منذ ذلك الحين أولى بذور "الحزبية السياسية" المذهبية الإسلامية التي بقيت تنمو مع الأيام والأحداث حتى أفرزت حربين خطيرتين (الجمل، صفين) قبل أن ينتهي عهد الخلفاء الراشدين. وهذه "الحزبية السياسية المذهبية" جسّدت الصراع السياسي مغلفاً بالنازع الديني في مفهوم الخلافة: فريق طالب أن يكون على أساس المبدأ الإلهي وآخر جعله على أساس الاختيار وفق مبدأ الشورى، أي بالمشاورة بين المسلمين. رغم تباين مفهوم وطريقة الشورى في "انتخاب" كل من الخلفاء الراشدين الأربعة. وهكذا دخل المجتمع العربي- الإسلامي في نهاية حقبة الخلفاء الراشدين، التي لم تتجاوز 30 عاما، في حروب أهلية تمحورت بصورة رئيسة حول مسألة أصول الحكم. ومنذ تلك اللحظة التاريخية فصاعداً، ستحتل مسألة الحاكمية والسيادة التاريخ السياسي للإسلام، وستكون محوراً لنقاش دائم الحضور.(23)
بعد اختيار أول الخلفاء الراشدين، أبو بكر الصديق (632-634م)، ألقى خطبة حدد فيها نهج سياسته، بقوله "أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوّموني. الصدق أمانة والكذب خيانة والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ حقه والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع أحد منكم الجهاد فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم". يستنتج من هذه الخطبة أن الخليفة: شخص اعتيادي من المسلمين ويتم اختياره "انتخابه" بالتوافق بين المسلمين، وكيل عن المجتمع في الدفاع عن الصالح العام، خاضع للمساءلة والمحاسبة، من واجباته إقامة العدل والجهاد، وأن ممارساته مقيدة بِأحكام القانون الإسلامي. وأخيراً، أن الخلافة هي رئاسة دينية ودنيوية نيابة عن النبي، أي أن الخليفة يجمع بين السلطتين الدينية والزمنية.(24)
تعود نظم الفتح الإسلامية في معظمها، التي طبقت خلال المرحلة الأولى لعملية الفتح العربي، إلى الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب (634-644م) الذي استخلص من القواعد العامة للشريعة الإسلامية ومن اجتهاداته الخاصة الجريئة تفاصيل خطة عملية تطبيقية لسياسة الجيوش الفاتحة، وأسس أول "ديوان" في الإسلام (نوع من الإدارة الحكومية يشبه الوزارة)، وأحدث تعديلات في نظام الضرائب واجتهد في تطبيق ضريبتي الجزية والخراج لصالح المساواة بين المسلمين من عرب وغيرهم، وأباح للمسيحين العرب، حتى وإن لم يدخلوا في الإسلام، أن يخدموا في الجيش العربي الفاتح متساوين بالحقوق كلها مع العرب المسلمين، في حين لم يكن يباح لغير المسلمين من أهل البلدان المفتوحة الدخول في هذا الجيش. وشدد الأوامر الداعية إلى التسامح في معاملة سكان البلدان التي تقصدها جيوش الفتح، وأكد على ولاته التزام سياسة التسامح هذه تجاه البلدان المفتوحة، وحرص على مراقبة سلوكهم ومحاسبتهم بشدة وحزم حين يبلغه عنهم شيء من أعمال ظلم السكان، بما في ذلك العزل ومصادرة الأموال والممتلكات التي يكون هذا الوالي أو ذاك قد انتزعها من أصحابها ظلماً واستأثر بها. ولقد دعيت تدابيره وتوجيهاته واجتهاداته تلك بـ "نظام عمر" وعرف بـ "عمرالعادل". وبالنتيجة مهّد لتأسيس الدولة بمفهومها التنظيمي.(25)
وقيل أن عمر بن الخطاب وضع أربعة شروط لما يجب أن يكون عليه عامله: "ألا يركب برذوناً، ولا يلبس ثوباً رقيقاً، ولا يأكل نقيّا، ولا يغلق بابه دون حوائج الناس ولا يتخذ حاجباً".(26) كما ويقر المؤلفون العرب القدامي بِأن الخليفة الثاني هو واضع التاريخ الهجري الذي شكل بداية نشأة التاريخ الإسلامي.(27)
ولكن ما أن جاء عثمان بن عفان (644-656م)- وهو واحد من الارستقراطية الأموية ومن كبار أغنيائها في الجاهلية- إلى سدة الخلافة حتى بدأ الناس يحسون أن الأموال المتجمعة من ضرائب الجزية والخراج وغيرهما، لا تذهب إلى "بيت المال" بل تذهب إلى فئة من الحكام الذين ولاّهم الخليفة الثالث عثمان على الأمصار، وهم في الأغلب من أسرته وعشيرته- بني أمية، بل زادوا في ذلك فأخذوا يجمعون ثرواتهم الفاحشة من فرض ضرائب جديدة جائرة وباهظة على الناس، ومن اغتصاب سكان البلاد المفتوحة أملاكهم وأراضيهم. حتى أنشأ هؤلاء الحكام طابعاً شبه إقطاعي للدولة، وأصبحوا من كبار الملاكين للمزارع والعقارات. علاوة على مظاهر البذخ المادي في حياة عثمان الخاصة، حتى قيل أنه منح ابنته عند زواجها 600 ألف درهم من "بيت المال". أوجدت هذه العوامل أسباب الثورة بين بسطاء الناس، وفي صفوف الجماعات السياسية في "المدينة"، ولا سيما أولئك الذين أزيحوا عن مراكزهم مع بداية عهد عثمان. وهذه السياسة ولّدت النقمة بين مختلف الجماعات الإسلامية في "المدينة"، وامتدت لتنفجر بين فقراء المسلمين في سائر الأمصار. وبعد وصول الحجاج عام 656م من مصر والعراق إلى مكة يشكون سوء معاملة الولاة الأمويين، حاملين طلب مواطنيهم إلى عثمان باعتزاله منصب الخلافة.. ومع رفض الخليفة، حاصروا داره وقتلوه. سميت هذه الحادثة الخطيرة بـ "فتنة عثمان"، لكن المغزى الاجتماعي لهذه "الفتنة" عبّر عن استياء فقراء المسلمين ممن يظلمونهم ويغتصبون أرزاقهم ويكدسون الثروات باسم الدين الجديد. وهذه الأسباب فجّرت أول "ثورة اجتماعية" في الحركة الإسلامية.(28)
كان علي بي أبي طالب (656-661)- الخليفة الرابع- المرشح الوحيد، موضوعياً، لهذا المنصب حينذاك، لأِنه كان منذ بداية عهد الخلفاء الراشدين يذكر في عداد المرشحين ثم "ينتخب" غيره. وعند مقتل عثمان لم يبق من أولئك المرشحين سواه، فكان المفترض أن يكون صاحب المنصب الآن تلقائياً في نظر جمهور المسلمين بلا منازع. لكن المطامع والصراعات السياسية، انتهت بإعلان أمير الشام "معاوية" نفسه خليفة (660) قبل مقتل على (661)، لينتهي عصر الخلافة الراشدية، وتنتقل السلطة عن طريق السيف إلى الأمويين.(29)
وإذا أمكن تجاوز الأحداث التي شهدتها فترة الخليفة الثالث التي قادت إلى قتله، واستمرت تتفاعل لغاية مقتل الخليفة الرابع، فأن نهاية هذه المرحلة، شهدت الفراق بين المبادئ التي رسمها القرآن والسنة وبين الممارسات الذي سار عليها الحكام العرب والمسلمون. فما أن انتهى عهد الخلفاء الراشدين، حتى تحول الحكم إلى هدف للحاكم بغية كسب القوة والسلطة، وأصبح الدين وسيلة لخدمة هذه السلطة. وصار الخليفة صاحب الحول والطول، حاكما فردياً متسلطاً مستبداً، وتركز همه في الاحتفاظ بالسلطة ونقلها إلى ورثته، وما كان التمظهر بالدين إلا لكسب الشرعية وللسيطرة على عامة الناس وإخضاعهم باسم الدين.(30)
تحولت الخلافة في العهد الأموي (661-750م) إلى نوع من المَلكية الوراثية. وبرزت منذ عهد معاوية ظاهرتان: العصبية القبلية، وظاهرة الطبقية.(31) قادت هذه الممارسات إلى الاعتماد على بني أمية وحلفائهم، وتضييق قاعدة الحكم، مما فسح المجال واسعاً أمام الصراع القبلي في الدولة الأموية.(32) ورغم تكاثر عدد المسلمين من غير العرب، فلم يكن لهم موقع في الحكم أو في الحياة الاجتماعية والأدبية، لأِن سياسة الدولة الأموية كانت عصبية عنيفة. وكان هذا التمييز أحد عوامل ساهمت في تقويض الدولة الأموية قبل أن تستكمل قرناً من الزمن.
في عهد معاوية، كانت السمة البارزة للنظام الاجتماعي في المنطقة كلها، بما فيها بلاد الشام وبلاد الرافدين، ومنذ العهود البيزنطية والفارسية، هي السمة الإقطاعية ذات الطابع العسكري. ووجد الحكام الأمويون أن من مصلحتهم الاستفادة إلى أقصى الحدود من هذا النظام وترسيخه. فأصبحت بحيازتهم أراضٍ واسعة كانت قبل الفتح العربي الإسلامي ملكاً لاِمبراطور بيزنطة وارستقراطيتها. وحسب نظام الأراضي في الإسلام، يفترض أن تكون ملكاً عاماً للدولة الإسلامية، لكنها تحولت تحت سلطة معاوية وأقربائه وبطانته إلى ملكية خاصة، حتى صاروا من أكبر الملاكين العقاريين وتألفت منهم الارسقراطية شبه الإقطاعية الجديدة بعد الفتح.(33)
وفي المصادر العربية الكبرى (الطبري، البلاذري، اليعقوبي) ما يفيد أن الملكيات العقارية التي دخلت في حوزة العائلات الأموية وأنصارها أصبحت من السعة ووفرة المحصول بحيث تركزت الثروات الكبرى في أيدي طبقة عربية جديدة ومحدودة. وتضيف أن طرق استثمار هذه الملكيات الكبيرة أصبحت قاسية في العقود الأخيرة من العهد الأموي، حيث استشرت طرق معاملة الفئات الدنيا من السكان بالشدة والاعتباطية في فرض الضرائب وفي جبايتها معاً، وبدلوا التشريع الذي أتبع في بداية عهد الفتح من إعفاء الذين يدخلون الإسلام من ضريبة "الجزية" والاكتفاء بِأخذ الخراج ممن يملكون الأرض ويستثمرونها، بفرض ضريبة مزدوجة عليهم: "الجزية" و "الخراج". قادت أساليب الحكم هذه إلى تدهور أحوال شغيلة الأرض من أهل البلاد ومن الأسرى العبيد لما انتهت اليه أوضاعهم من سوء العيش وفتك الأمراض الوبائية. وهذا مما زاد في أعداء الدولة الأموية، من هنا كثرت الانتفاضات ضد الحكم الأموي، وذلك في ظروف نمت وتعمقت فيها الخلافات والصراعات بين مختلف الفرق الإسلامية.(34)
يسجل للعهد الأموي، عهد معاوية، تحقيق جوانب في التطور الاجتماعي، منها: عنايته بالاقتصاد الصناعي والزراعي في بلاد الشام طوال أيام حكمه هناك، بتطوير وسائل الري وإخصاب الأراضي واعتماده خبرة ذوي الأختصاص من السكان المحليين، وتعزيز نظام الحماية الجمركية للصناعات المحلية بشكل ساعد على تطويرها وجعلها ذات أثر ملحوظ في تمويل الدخل العام وتحسين الدخل التجاري ورفع مستوى الحرفيين فنياً ومعاشياً. وفي زمن عمر، بدأ العرب بعناية خاصة من أمير الشام (معاوية) بناء أول اسطول بحري. كما ساهم معاوية أيضاً، في أيام خلافته، بتطوير عملي ملموس لمفهوم "الدولة" العربية الناشئة، مكنها أن تصبح ظاهرة حضارية في تاريخ العرب. فقد أسس لها "الدواوين" المختلفة، كدواوين الضرائب والمكوس والحسابات والرسائل والقضاة. وفي عهد عبدالملك بن مروان وابنه الوليد تم تعريب مؤسسات الدولة وإنشاء نقد خاص بها.(35) وكان هذا الإصلاح جزءاً من سياسة تعريب مؤسسات الدولة باتجاه تأكيد السيادة الكاملة.(36)
وفي العهد العباسي (750-1258) ، كما في سابقه، قامت الدولة على السيف ولكن على نحو أعنف بكثير. وقد بنى العباسيون حكمهم على الأسس التالية: الوراثة في الحكم وفق القاعدة التي سار عليها الأمويون.. الاستناد إلى الدين في الحكم بالإدعاء أن سلطتهم مستمدة من الله وليس من الناس، على طريقة إدعاء الأمويين.. الحضور المكثف للفرس، بالعلاقة مع دورهم في نشر الدعوة/ الثورة العباسية وبناء دولتهم، ومن ثم إشراك ارستقراطية الفرس في الحكم والإدارة. لكن اعتماد الخلافة العباسية على وزراء وكتاب من أصول فارسية أدى إلى إدخال القيم والتقاليد الفارسية لمؤسسات الدولة، بما في ذلك احتجاب الخليفة عن الرعية وإحاطته بالقداسة والرهبة وتقبيل الأرض بين يديه. وهذا ما حمل الجاحظ على القول " كانت دولة بني أمية عربية ودولة بني العباس أعجمية".(37) وبذلك لبست الخلافة العباسية لباس "الحكم المطلق" على الطريقة الفارسية.(38) وكان المهدي العباسي أول من بادر من خلفاء بني العباس إضفاء مظاهر الأبهة والفخامة التي غلبت على بلاط الخلفاء العباسيين وسادت المجتمع منذ بداية خلافته، بما في ذلك الإسراف في العطاء والبذخ في الإنفاق.(39)
كانت انتصارات الجيوش الإسلامية في عهد المهدي والرشيد على البيزنطيين سبباً في تألق نجم هذا العصر. لكن تألقه الحقيقي تجسّد في اليقظة الفكرية التي شكّلت معلماّ ساطعاً في تاريخ الإسلام، وأفرزت نهضة هامة في تاريخ تقدم الفكر العالمي، وقبل أن يمر ثلاثة أرباع القرن الأول على تأسيس بغداد.(40)
ومع اتساع رقعة الدولة العباسية، خف دور العرب لصالح الموالي، وأصبح الرابط بين أجزاء الدولة العباسية الدين الإسلامي على خلاف صدر الإسلام والعهد الأموي حيث ساد العرب.(41) وشهد هذا العصر امتزاج العرب بشعوب البلدان المفتوحة. ساعد على ذلك تعدد الزوجات والتسرّي وتجارة الرقيق. وفي سياق هذا الامتزاج، ظهرت طبقة من الموظفين من مختلف الجنسيات كانت أكثريتها أولاً من الفرس ثم أصبحت من الترك، وذلك في ظروف استقرار أعداد كبيرة من غير العرب في المدن العراقية، وفقدان القبائل العربية مركزها كقوات محاربة بعد أن أسقطها الخليفة المعتصم من ديوان العطاء.(42)
بعد أن أصبح العراق مقراً للخلافة العباسية، احتفظ بخصائص مميزة لخصوبة أرضه وغناها، وهو مركز حضارات قديمة، وله بِأهل الجزيرة العربية صلات بشرية وحضارية مستمرة، واستوطن فيه على أثر الفتوح الكثير من المقاتلة العرب. كما أن الازدهار الحضاري الذي شهده العراق خلال العصور العباسية الأولى أدى إلى خلق مناخات ملائمة لنشأة أنواع عديدة من العلوم الإنسانية والصرفة. ونشأت المدارس المتخصصة بمفهومها المنهجي وانتشرت شرقاً وغرباً. وظهرت المدرسة العراقية ذات السمة الخاصة المعروفة في الفقة ، وكذلك النحو العراقي بمدرستيه البصرية والكوفية. وقد عنى أهل البصرة باللغة والنحو والخط، أما أهل الكوفة فكانوا أكثر عناية بالشعر وعلوم القرآن وبدراسة الحديث والفقه. وكان للعراق دوره البارز في ازدهار الحضارة العربية الإسلامية التي انتقلت إلى بلدان العالم داخل وخارج حدود الدولة الإسلامية. وكانت المدرسة الطبية البغدادية أرقى مدرسة في العالم وصلت اليها المعرفة الطبية في العصور الوسطى. ناهيك عن دور العراق الواسع في الأدب والفلسفة والفلك والكيمياء والموسيقى وغيرها. وكان الوراقون وتجار الكتب يحملون الكتب العراقية إلى خارج العراق فكانت خزائن مكتبات الأندلس ومصر والقيروان والمهدية وفاس وخراسان وغيرها تضم أهم ما أنتجه العراق.(43)
ولما أراد المنصور بناء بغداد (762-766م)، "أمر منجم البلاط بِأخذ الطالع ففعل وأخبره بما تدل عليه النجوم من طول بقائها وكثرة عمارتها"!(44) وبانتقال الملك إلى بغداد، بلغت مدينة السلام أبهى عهودها وأصبحت مركز الحضارة، بل حاضرة الدنيا و "باصرة الإسلام" في عهد الرشيد (786-809). ولم يكن مجدها إلا متناسباً مع درجة تقدم الامبراطورية التي كانت بغداد عاصمتها.(45) حتى قيل "لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة أمرها وكثرة علمائها وأعلامها وتميز خواصها وعوامها وعظم أقطارها وسعة أطرادها وكثرة دورها ومنازعها ودروبها وشعوبها ومحلاتها وأسواقها وسككها وأزقتها ومساجدها وحماماتها وطرزها وخاناتها وطيب هوائها وعذوبة مائها وبرد ظلالها وأفيائها واعتدال صيفها وشتائها وصحة ربيعها وخريفها".(46) وإذا أخذنا في الاعتبار خلفية العراق بتراثه الواسع، والانفتاح الفكري للناطقين بلغة الضاد على ما كان لدى الشعوب الأخرى في سياق الاختلاط وانتشار اللغة العربية، لغة ثقافة مشتركة للتفاهم والفكر، والتي اجتمعت جميعها في بغداد خلال هذا العصر، عندئذ يمكن الاستنتاج أن هذه المدينة أنتجت حضارة عالمية رائدة في عصرها.
أمتدت تجارة بغداد من اسبانيا وأفريقيا إلى الشرق الأقصى، ونشطت العلوم وازدهرت وغدت مطبقة على نحو واسع في الحياة العملية في ذلك العصر، وعلى الأخص في ميدان الزراعة. كذلك صنعت الجداول الفلكية، وبوشر بوضع التقاويم العامة، ووضعت المعاجم والموسوعات، ولأِول مرة تم فحص البقايا المتحجرة فحصاً دقيقاً، وحظيت علوم الجغرافيا والتاريخ بالاهتمام العظيم، "واتسع الاهتمام الفكري إلى درجة أن رجال الآداب لم يدعوا أي موضوع إلا وتناولوه". وكان الاهتمام الفائق بِأمور الزراعة في العراق من الأمور المدهشة. فقد أجريت الكثير من التجارب لإنتاج النباتات التي غالباً ما تم جلبها من أماكن بعيدة. وبذلك راجت في هذا العصر الأبحاث التي تتحدث عن الإخصاب والري وتطعيم النباتات وأمراضها، ودخلت إلى البلاد زراعة الرز، قصب السكر، البرتقال، المشمش، الخوخ، الليمون، دود القز، التوت، البردي، الموز وغيرها من الثمار والنباتات. ولم ير العالم آنذاك ما يقارع بغداد في ميدان التجارة ووفرة الثراء وتطور الفكر والعلوم. ذلك لأِن بغداد بقيت حوالي خمسمائة سنة، خلال العصور الوسطى، لا تدانيها مدينة أخرى في عدد السكان والغنى والنفوذ وفي المنجزات الفكرية.(47)
ولكن رغم ما كانت تمتاز به هذه الحضارة من مفاخر، كانت هناك نقاط ضعف أساسية رافقتها وأضعفتها وساهمت في سقوطها. فالخراج (المال العام) القادم من البلدان التابعة لدولة الخلافة لتستقر في أحضان الخليفة ، شكل نهراً لا ينقطع من الذهب، وشجع على البذخ والإسراف في غياب المساءلة. وكان الكثير من هذا المورد يذهب إلى الخدم والحشم وإلى الموظفين الذين يتقاضون مرتبات عالية. كما أخذت قيم الترفيه، وفق الاسلوب الشرقي، تستنزف الحياة الاقتصادية والمعنوية للطبقات الحاكمة. وانتشرت: الخمور والمسكرات، الإسراف في الإنفاق، حياة التبذير، ضعف الهمة، إنهاك قوى الرجال في أحضان الجواري.. كل هذا ساعد على الإسراع في تدهور السلطة السياسية. يضاف إلى ذلك أن السلطة المطلقة والحياة المرفهة التي كان الخليفة يتمتع بها، جعلت منصبه باعثاً للمطامع والمكائد والانقسامات السياسية الحادة.(48)
من مظاهر تدهور القيم الأخلاقية، وتفشي العادات الشرقية القديمة، ظاهرة الأكثار من الغلمان الخصي، ورغم أن الإسلام حرًم خصاء الإنسان والبهائم، وأنكره النبي بالمنع الصريح، لكن الأسلوب التلفيقي في تفسير وتبرير انحرافات السلطة، وجد طريقه للافلات من حرمة الخصاء بشراء الخصيان، وترك إثم هذا العمل الشنيع لأِهل الذمة، حيث شكّلت هذه الممارسة تجارة مربحة ورائجة، فكان سعر العبد يتضاعف إلى حدود عشرين أمثاله عندما يتم اخصاءه. ودخل هذا الأمر على الإسلام حوالي عام 200هـ/815م. ولما ملك الخليفة الأمين ابن هارون الرشيد، بلغ من ولعهِ بالخصيان أنه "طلبهم، وابتاعهم، وغالى بهم، وصيّرهم لخلوته في ليله ونهاره وقوام طعامه وشرابه وأمرِه ونهيه... ورفض النساء الحرائر والإماء، حتى رُمي بهن"! يعلق أبو نواس على ذلك بهذه الأبيات الساخرة:(49)
احمدوا الله جميعاً يا جميع المسلمينا!
ثم قولوا لا تملوا: ربنا أبق الأمينا!
صيّر الخصيان، حتى صيّر التعنين دينا
فاقتدى الناس جميعاً بِأمير المؤمنينا
كان الخليفة وأسرته على رأس الطبقات الاجتماعية العالية، ويتبعه كبار الموظفين ثم أهل البيت الهاشمي ثم أتباع هؤلاء جميعاً. علاوة على جند الدولة والحرس والأصدقاء المقربون والندماء والموالي والخدم. وأكثرهم أرقاء من الشعوب غير المسلمة ومنهم الخصيان، بينما كانت الجواري من الرقيق ويتخذن مغنيات وراقصات وسراري (ومنهن أيضاً حفظة القرآن والحديث والشعر)، وكان لبعضهن نفوذ عظيم على أسيادهن الخلفاء. امتلك المتوكل أربعة آلاف سرية، وضمّت دار المقتدر أحد عشر ألف خادم خصي، وأحتوت دار خلافته بمرافقها المختلفة تسعة آلاف من الجند والخدم. وعدت بقصورها ومرافقها مساوية لمدينة شيراز في أوائل القرن الرابع الهجري. واتسع بلاط الخليفة وما فيه من دور للحريم وللخصيان ولأِهل الخاصة ليشمل ثلث المدينة المدورة. وأصبحت مجالس الخلفاء وحاشيتهم تغص بكبار المغنيين والجواري المغنيات والموسيقيات وانتعشت تجارة الرق. وكانت الفجوة ضخمة بين هذه الأقلية وبين عامة الناس من الفلاحين، صغار التجار والباعة وأصحاب الصنائع، وأهل الكدية والمتسولين. من هنا تباينت أشكال دور السكن بين القصور الفخمة والبيوت المبنية من الطين والأكواخ. ولم يقتصر البذخ والإسراف على الخليفة والأمراء، بل امتدت إلى كبار رجال الدولة الذين اعتادوا أيضا على تقديم الهدايا الضخمة للخليفة، فهذا الرشيد يتلقى هدية من ألف غلمان تركي بحليهم وملابسهم الفاخرة، وعلى أثرهم جاءت ألف جارية تركية وأيضاً بحليهن وملابسهن الحريرية، ثم مائة غلام هندي ومائة جارية هندية وبيد الغلمان سيوف هندية من أجود ما عرف من السيوف وغير ذلك من الهدايا الثمينة.(50)
وكانت ترافق المناسبات الاحتفالية للفئة الحاكمة- الثرية من زواج وولادة أبناء وختان، نثر النقود وتوزيع الهبات. ففي زواج هارون الرشيد بابنة عمه زبيدة وزعت فيه هبات كثيرة بضمنها أواني الذهب مملوءة بالفضة وأواني الفضة مملوءة بالدنانير، وكان مجموع النفقات حوالي خمسين مليون درهم. أما زبيدة زوج الخليفة فكانت تشارك الخليفة البذخ والإسراف. ولم تكن تقتني من آنية المائدة غير المصنوع من الذهب والفضة المرصع بالجوهر. وكانت تضع الطراز للأزياء بين النساء المترفات، وهي أول من اتخذ الخفاف المرصعة بالجوهر حتى تشبهت نساء الطبقة الراقية بها. وقيل أنها أنفقت في طريقها إلى الحج ثلاثة ملايين دينار(51). ولم يكن زواج المأمون، من بوران (خديجة) أقل أبهة أو بذخاً للمال من زواج أبيه إن لم يكن يفوقه بمراحل، فرش المأمون حصيراً منسوجاً من الذهب، ونثر عليه من اللآلئ النادرة ما قدر بِألف حبة. ثم نثر على المدعوين العديد من الرقاع بِأسماء ضياع وقرى وجواري أو خيل ودراهم ودنانير، وغير ذلك.. أما والد الفتاة الحسن بن سهل وزير المأمون فإنه نثر على رؤوس الناس من النقود والهبات أكثر من خمسين مليون درهم. كما أن عطايا الخلفاء والوزراء والأمراء كانت كبيرة وممارسة مستمرة، وكلها من المال العام- بيت مال المسلمين.(52)
ومن الجدير بالإشارة في هذا السياق أن وارد بيت مال الخليفة بلغ خلال 25 سنة (296 هـ- 320 هـ) 83ر89 مليون دينار، صرف منها 17 مليون دينار لأِغراض رسمية، بينما صرف الباقي على نفقات البلاط التي بلغت 88ر2 مليون دينار سنوياً أو 240 ألف دينار شهرياً. وهذا يبين مستوى البذخ وترف البلاط. مقابل هذا البذج كان العلماء، بخاصة من غير أصحاب العلاقة مع أهل الحكم، يعانون شغف العيش. (53)
3- العراق في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)
يقف الباحث في هذه المرحلة عند مفترق طرق الحضارة العربية الإسلامية بِأحداثها الجديدة المتميزة، فمن ناحية بلغت الفتوحات نهايتها، وبدأت مرحلة تفكك دولة الخلافة إلى دويلات منفصلة فعلياً عن بغداد، ومن ناحية ثانية وصلت الحركة الفكرية الحضارية أوجها، ومن ناحية ثالثة عاصرت هذه الفترة السيطرة البويهية على الخلافة وشكّلت بداية سيطرتهم فاصلاً بين مرحلتين. ومنذ هذه اللحظة، ورغم محاولات بعض الخلفاء إصلاح الأمر، استمرت هذه الحضارة باتجاهها نحور الانحدار لغاية السقوط.
بدأت العلاقات بين مركز الخلافة والبلدان التابعة لها منذ حوالي سنة 324هـ/935م بالتراخي نتيجة تصادم المصالح والعصبيات والأغراض. ونشأت فيها الدويلات المنفصلة عن بعضها البعض. لكن أصحاب الدويلات استمروا الاعتراف بالسلطة الاسمية للخليفة بالدعاء له في المساجد وشراء ألقابهم منه وإرسالهم الهدايا إليه. كما أن مرحلة تفكك عرى الدولة العباسية قابلتها حركة فكرية زاخرة بمشاركة العرب وغير العرب من خلال العربية التي صارت لغة ثقافة مشتركة. وبذلك جسّد هذا القرن بلوغ هذه الحضارة في مختلف مجالات الفكر والعلوم والفنون ذروتها. (54)
أقامت الأسرة البويهية إمارة مستقلة في بلاد الديلم جنوب بحر القزوين، ثم أخذت تتوسع باتجاه مركز الخلافة في العراق، بعد أن جعلت عاصمتها شيراز (بلاد فارس). وسيطروا على الخلافة، واستمرت سيطرتهم قرناً من الزمن (334-447هـ/ 945-1055م). والديالمة شعب إيراني جبلي، شكلوا الجزء الأهم من الجيش البويهي الذي ضمّ: الرجالة الديالمة، والفرسان الترك. وكانت للديالمة مكانة خاصة لقربهم من الحكام البويهيين، ولم يسمح لغيرهم الإندماج بهم، وشكلوا الجماعة الرئيسة بين السادة الإقطاعيين ملاك الأراضي.(55)
تعتبر فترة التسلط البويهي على الخلافة امتداداً للفترة السابقة من حيث طبيعتها،
فقد لقب الأمراء الجدد بلقب (إمرة الأمراء) واستبدوا بالسلطة دون الخليفة، وأبقوا على الخليفة رمزاً يمارس بعض الصلاحيات ذات الطابع الديني تحت نفوذ أسياد جدد من الشيعة الفرس، يحكمون من عاصمتهم في شيراز ويتولى أحد أمرائهم الحكم على بغداد، مما جعل دولة الخلافة تابعة لإمارة أجنبية هي الإمارة البويهية.(56) ودرج بنو بويه طيلة فترة حكمهم على مبايعة الخلفاء واسقاطهم متى شاؤوا وكيف شاؤوا، حيث اشتهر هذا العهد بسمل عيون العديد من الخلفاء وقتلهم وإبدالهم.(57)
مع انتقال السلطة للأمير البويهي (334 هـ/945 م)، منع الخليفة من التصرف بِأموال الدولة، وتم تخصيص راتبه بمقدار 7% مما كان يحصل عليه في الفترة السابقة. وكانت أمواله عرضه للمصادرة، ولم يعد له وزير بعد أن انتقلت سلطات وزير الخليفة إلى الأمير البويهي ووزرائه وكتابه، وشارك الأمراء في امتيازات الخلافة وشاراتها وفي ضرب العملة. وفي ظروف انحطاط مركز الخلافة في بغداد انتشر التنافس على اسم الخليفة ، بادر أولاً الفاطميون في مصر فاتخذوا لأِنفسهم لقب الخلافة بعد فتح القيروان 297هـ/909م، ثم أسرعت قيمة هذا اللقب بالهبوط، وتسمى العديد من الأمراء والحكام بلقب الخليفة.(58)
شجع البويهيون الانقسامات المذهبية، وحدثت فتن طائفية عديدة في بغداد خلال السنوات 338-340هـ/949-951م، 346هـ/ 957م، 348هـ/ 959م. واختل الأمن وازداد القلق، وتفككت وحدة المدينة، وتقلصت الأحوال العمرانية فهجر كثير من الناس بغداد وخربت العديد من مناطقها العامرة. وكانت الأحوال الاقتصادية في بغداد عند مجيء البويهيين سيئة، ثم ازدادت سوءاً بعد مجيئهم. وهكذا خلت المنازل ببغداد من أهلها. (59) وفي هذا العصر يصف المقدسي بغداد فيقول "كانت أحسن شيء للمسلمين، وأجلّ بلد، وفوق ما وصفنا، حتى ضعف أمر الخلافة، فاختلّت، وخف أهلها، فأما المدينة فخراب، والجامع فيها يعمر في الجمع ثم يتخللها بعد ذلك الخراب... وهي في كل يوم إلى وراء، وأخشى أنها تعود كسامراء، مع كثرة الفساد والجهل والفسق وجور السلطان".(60)
استمر تدهور الأوضاع في ظلّ التسلط البويهي، باستثناء فترة إصلاحات الأمير البويهي عضد الدولة 369-372 هـ/ 979-982 م التي تركزت على نظام الري وتحسين طرق الجباية، حيث أعاد تأهيل القنوات التي أصابها الخراب، وبنى الكثير من السدود والقناطر، ووجه عنايته نحو منشآت الري بصورة خاصة، ووضع الحراسة عليها، ووسع مجرى بعض الأنهار. كما تمتع العراق ببعض الخدمات الاجتماعية- لأِول مرة في العصر البويهي، بمنح الدولة الأعطيات للأئمة والمؤذنين في المساجد، وللفقراء والمرضى الذين يلتجؤون إليها، وللأطباء والفقهاء والشعراء والنحويين والمنجمين، وللمهندسين والنسابين، وأيضاً لأِشراف المدينة وفقرائها. كما شمل أهل الذمة بعنايتها ومساعدة فقرائهم بالمال. وكذلك تم بناء المستشفى الرئيس في بغداد وخصصت واردات أوقاف كثيرة للمستشفى. وفي أول كل سنة تم تخصيص مبالغ كبيرة من المال للصدقات إلى أشراف الولايات وقضاتها لينفقوها على الفقراء والمحتاجين في مناطقهم. لكن هذه الخدمات، رغم أهميتها، كانت وقتية وتوقفت بانتهاء فترة حكم عضد الدولة.(61)
كانت المناطق الريفية في البلاد أكثر تجانساً بسكانها على خلاف المدن التي ضمّت مزيجاً من أناس مختلفي اللغات والطباع والثقافات والأديان والمهن والعادات. استمر أكثر العرب بدواً ينفرون من الحياة والمهن المدنية. بينما استقر قسم منهم في المدن، ورغم انعزالهم في البداية إلا أنهم انخرطوا في الحياة الجديدة واختلطوا مع الأقوام الأخرى. وكان في العراق، إضافة إلى الديالمة، كتلة من الفرس المتحضرين، إلى جانب غيرهم من الفرس الذين جاؤوا في عهد المأمون. وظهر الترك في عصر المعتصم (218-227هـ/833-842م) وصارت لهم الكلمة العليا في البلاد، وحافظوا على سلطتهم حتى الفتح البويهي، وسكن الأكراد في القسم الأعلى من الجزيرة- الجهات الشرقية والشمالية الشرقية- يمارس أكثرهم الرعي تليه الزراعة. وعاش النبط في البلاد (الفلاحون الذين يتكلمون الآرامية) وكذلك الآراميون، حيث ساهموا بدور مهم في الحركة الثقافية في العراق، بضمنهم أطباء كبار، وفلكيين وعلماء مترجمين. يضاف إلى هذا التنوع الزط (أصلهم هنود ويشتغلون في تربية الجاموس)، و"الجرامطة" ولعلهم من الآراميين، والزنج وأصلهم من السواحل الشمالية الشرقية لأِفريقية، وكانوا يجلبون للخدمة في المزارع والمعامل.(62)
ولم تكن تلك العناصر مختلفة في أجناسها فقط بل في مهنها أيضاً. عرب المدن: التجارة والمهن الحرة، النبط: الزراعة، البدو: تربية المواشي والرعي، الترك والديالمة: جنود. ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يمنع أهل الذمة طرق أي باب من أبواب العمل، فكان من بين المسيحيين من يشتغل بالترجمة والطب، وبين اليهود من يشتغل بالتجارة والصيرفة. وهكذا كان تنوع السكان يتناسب مع تقسيم العمل والإنتاج. وقد ساعد هذا على تنظيم المجتمع وجعله وحدة اقتصادية. ومن ناحية أخرى كان اختلاف المهن يقوي الشعور بالنفرة الاجتماعية بين مختلف العناصر. وبالنتيجة "أدى التقارب والتنافس في المجتمع العراقي إلى أن يصبح هذا المجتمع مليئاً بالحيوية وبالمفرقعات في آن واحد".(63)
كانت الزراعة تشكل محور الاقتصاد العراقي. وبعد الفتح الإسلامي اعتبرت أراضي العراق ملكاً مشتركاً للمسلمين، وكان المزارعون يدفعون الخراج إيجاراً للأراضي التي يزرعونها. ومع ذلك وجدت في العراق أنواع مختلفة من الأراضي، منها حسب مبالغ خراجها سنة 306هـ/918م: الأراضي السلطانية (ضياع الخليفة التابعة لبيت مال الخاصة)- 447516 ديناراً.. الأراضي الفراتية (تقع على ضفاف الفرات) 126617 ديناراً.. العباسية (ضياع ترجع إلى بيت المال): 760144 ديناراً.. المستحدثة (ضياع أضيفت حديثاً): 036289 ديناراً. ثم تقلصت ضياع الخلافة كثيراً عن طريق البيع بعد سنة 317هـ/929م نتيجة إفلاس الخزينة، وضرورة دفع رواتب الجند. وبالإضافة إلى الملكيات الخاصة من الأراضي والأراضي الوقفية المخصصة للأغراض الدينية، وجدت أربعة أنواع من الإقطاعات: إقطاعات مدنية تمنح للموظفين بدل الرواتب، إقطاعات خاصة تمنح لأِفراد نتيجة خدمات أو قابليات خاصة، كالشعراء والمحدثين والمغنين، إقطاعات الخليفة ويدخل في هذا الصنف الأراضي المتروكة والموات التي يتم استصلاحها، وفي العصر البويهي تم الاستيلاء على ضياع الخلافة وخصص للخليفة إقطاعاً خاصاً به، إقطاعات عسكرية وزعت على الجند بنطاق واسع في العهد البويهي.(64)
أدركت الحكومة العلاقة القوية بين الزراعة والمالية العامة للدولة، نظراً لأِهمية ضريبة الأرض مورداً رئيساً للخزينة. لذا كانت مساعدة الفلاحين ذات أهمية اقتصادية واجتماعية، رغم أن مصلحة الفلاح لم تؤخذ دائماً في الاعتبار. ولم تنشأ سياسة زراعية موحدة، وإنما كانت التدابير فردية تعتمد على شخص الحاكم ومشورة حاشيته. واعتمدت الزراعة في العراق على شبكة واسعة وكثيفة من القنوات. وكانت الحكومة تشرف على توزيع المياه، ويتولى ديوان الخراج مسؤولية إنشاء القنوات والسدود وخزانات المياه. وتطلب الحكومة من الملاكين أحياناً أن يشاركوا في تطهير القنوات. وكانت المزروعات تسقى سيحاً أو بواسطة آلات رافعة، وأكثرها شيوعاً النواعير والدواليب والدوالي والشواديف. واستمرت "طريقة المناوبة" في الزراعة شائعة، واستخدمت في حراثة الأرض المحراث البسيط. (وهي نفس طرق الزراعة التي ابتكرها السومريون) وكان للتسميد أهمية خاصة في الزراعة.(65)
أهملت القنوات وخربت البلاد في مرحلة التسلط البويهي 324-334هـ/935-945م، نتيجة المنازعات والحروب بين الأمراء وفوضى الجند. كذلك أهملت مصلحة المزراعين الفترة 334-368هـ/ 945-978م بسبب عجز الخزينة وأنشغال الحكومة بسد حاجاتها المالية، بِأي وسيلة كانت. وأدت الفيضانات وجفاف بعض القنوات إلى تخريب بعض أقسام السدود. ولم يكن بالإمكان إعادة إصلاح أمور الزراعة إلا سنة 369هـ/ 979م عند مجيء عضد الدولة. وبقيت كلمة "نبط" تطلق على عامة فلاحي السواد، وعانوا في العصر البويهي بصورة خاصة من كثرة الضرائب ومن جشع الموظفين. واستخدم العبيد للعمل في مزارع أسيادهم، وخاصة في منطقة الفرات الأوسط، ومنهم الزنج في منطقة البصرة. وانقسم العبيد في الزراعة إلى نوعين: أولهما العبيد ممن لا حقوق لهم مثل الزنوج الذين كانوا يعاملون كالماشية، وثانيهما الأقنان وهم أصلاً من الفلاحين النبط الأحرار الذين ارتبطوا بالأرض كجزء منها وينتقلون إلى المالك الجديد مع انتقال ملكية الأرض ويعاملون معاملة العبيد. وقد حصل هذا قبل الإسلام، وجاء الإسلام فألغى الفوارق الطبقية، وحرر العاملين في الأرض، إلا أن قسماً منهم بقوا عبيداً في الواقع. ورغم أن الدين الجديد أوصى بحسن معاملة العبيد، لكن الكثيرين شذوا عن هذه التوصية، فحتى عهود الخليفة كانت تؤكد على وجوب إرجاع العبيد الهاربين (الأبّاق) إلى أسيادهم.(66)
كان أصحاب الصناعة يشكلون عادة أوطأ طبقة في المدينة، وهم صنفان: الأحرار- أصحاب الحرف- ويطلق عليهم "العامة" والرقيق وهم بالطبع أدنى من فئة العمال الأحرار. وكانت سياسة الحكومة تجاه أهل الحِرَف، تقتصر على الإشراف على أعمالهم، بمنع الغش في الصناعة والإنتاج، ومنع الحيلة والتدليس في المعاملات، والتأكد من صحة الموازين والمكاييل. وكانت الحرف مفتوحة للمسلمين وغيرهم، ومع ذلك فإن بعض الحرف كانت فيها أكثرية من دين واحد، ويعود ذلك إلى الوراثة والظروف الاجتماعية، وأحياناً- كما هو الحال في الصيرفة- إلى الدين. ويتعاون أهل الحرفة لضمان السرية المهنية ولحماية أفرادها. وكان العراق مشهوراً بصناعاته في القرن الرابع الهجري. وتركزت مصنوعاته الرئيسة على أدوات الترف التي يستعملها الأغنياء. أما الصناعات التي تنتج لاستهلاك العامة فكانت محدودة الأثر في التجارة، رغم تنوعها لتشمل: الحياكة والنسيج (الملابس، الستائر، الأنماط، السجاد، البسط، الوسائد).. الخيام والحصر.. الصباغة.. الزجاج.. الصياغة.. النجارة.. الصابون والدهون والعطور.. الدباغة وصناعة الأحذية).. صناعات أخرى (النبيذ، تجفيف الفواكه، حفظ الأطعمة: القديد والجبن، الأدوية والعقاقير، مهنة الكتب وتجليدها/ مهنة الوراقين- باعة الكتب).(67)
بالإضافة إلى حالة فقر العمال وسوء معاملة الرقيق، شهد القرن الرابع مؤثرات جديدة أثارت هذه الفئة لدرجة لا سابق لها، وزلزلت الخلافة بصورة عنيفة، كما في ثورة الزنج، وأهم هذه المؤثرات ثلاثة:
أولها- بروز فئة غنية، تمتلك ثروات ضخمة من الموظفين الكبار كالوزراء والقادة ورؤساء الكتاب، وكلهم يتسلمون رواتب ضخمة تتجاوز رواتبهم في أية فترة سابقة، مقابل استمرار فقر معيشة عامة الناس.
ثانيها- تجمع العمال أكثر من ذي قبل، كما هو وضع الزنوج في جنوب العراق. وتطور تنظيمات أهل المهن، مما ساعد على تكوين الشعور بالمصلحة المشتركة، وتزايد شعور العمال بقوتهم.
ثالثها- انتشار الأفكار التي تدعو إلى العدل الديني بالتأكيد على إصلاح الأحوال المادية، كما في أفكار القرامطة وأخوان الصفا، والتي أضافت بذور تذمر جديدة إلى بذور التذمر الموجودة بين الفئات الفقيرة وأثارت الوعي فيها.(68)
أمتدت تجارة بغداد لتغطي مناطق شاسعة في الشرق والغرب. ومن العوامل التي ساعدت على نمو التجارة: موقع العراق الجغرافي جسراً بين إيران والهند وأواسط آسيا والصين من جانب، والجزيرة العربية والشام ومصر والغرب من جانب آخر.. تشجيع الدولة للتجارة بصورة مباشرة وغير مباشرة.. نفوذ البلاد السياسي واتساع رقعتها الجغرافية. وكان التجار يشتغلون بشراء وبيع البضائع التي يحتاجها الناس عامة، إلا أن تجارتهم كانت، بالدرجة الأولى، في أدوات الترف كالبسط والجواهر والرقيق، كما سبقت الإشارة. وبذلك اعتمدت سوقهم أساساً على الأثرياء وكبار الموظفين. وبعد السيطرة البويهية (334 هـ/934 م) وما رافقها من التحول الاقتصادي، بانتقال الخزينة من الخليفة إلى البويهيين، وزوال ترف البلاط العباسي، تقلّص سوق التجار إلى حد كبير. وأصبح الاتجاه الاقتصادي نحو الإقطاع. كما تدهور النظام النقدي والصيرفي، حيث لا وجود إلى ما يشير لفعاليات صيرفية في العهد البويهي مما يدل على ضعف أهميتها. وكل هذه الاعتبارات تجعل سنة 334 هـ خطاً فاصلاً بين فترتين.(69)
ظلّ الخليفة وحاشيته والوزراء وكبار الموظفين وكبار التجار يتربعون على قمة المجتمع، ثم الطبقة المتوسطة التي ضمّت عامة التجار والموظفين وأصحاب الملكيات الصغيرة من الأراضي. بينما ضمّت عامة الناس: الكادحين والفلاحين، أهل الخزف والصناع والباعة المتجولين، أهل الكدية والمتسولين.(70) وتميزت الدخول بتباين كبير، عدد قليل من أصحاب الدخل الكبير، طبقة متوسطة صغيرة، في حين كان دخل العامة بسيطاً. بلغ الدخل الشهري للخليفة 240 ألف دينار قبل تخفيضه، كما سبقت الإشارة، وارتفع دخل الوزير السنوي من 110 إلى 299 ألف دينار (315هـ) قبل أن يتم تخفيضها في العصر البويهي إلى 19.4%. وبالمقابل استمرت دخول عامة الناس ضئيلة ربما لا تتجاوز حد الكفاف، فحسب أحد الصناع في عهد الرشيد (170-193 هـ/ 786-809 م) كان يرى أن ثلآثمائة درهم في الشهر تكفيه وزوجته. وفي عهد المعتضد تشير حادثة سرقة (282 هـ/895 م) إلى أن عشرة دنانير كانت تكفي للرجل الواحد ليعيش عيشة مقبولة. وفكر فقيه (252 هـ) ضمان مستقبل ابنه بِأن يخصص له ديناراً في اليوم طيلة حياته. وفي الربع الأخير من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) كان الزجاج النحوي، وهو فتى، يكسب من عمله يومياً درهم ودانقين، أي درهم ونصف، دفع أجور تعليمه النحو درهماً واحداً يومياً.(71)
4- سقوط بغداد ومرحلة الانحطاط
مرّ المجتمع العراقي منذ سقوط الخلافة العباسية (1258م) بفترة انحطاط دامت حوالي ستة قرون استمرت لغاية منتصف القرن التاسع عشر عندما شهدت البلاد بصيصا من الفكر الحضاري الجديد وشيئا من وسائل الحضارة الحديثة القادمة من الغرب ببطئ شديد. اقترنت هذه الفترة باندثار الحضارة السابقة والانحطاط الاجتماعي وسيطرة قيم بعيدة عن التحضر وركود المجتمع العراقي وتراجعه الحضاري ودون أن يشهد أية خطوات إصلاحية تستحق الذكر. كما واجهت البلاد منذ سقوط بغداد ومن ثم وقوعها تحت السيطرة العثمانية (1534م) مختلف أشكال الغزوات الخارجية علاوة على الحروب الطائفية الفارسية- التركية الطويلة المتقطعة من أجل السيطرة على العراق، مع ما صاحبتها من تعميق الانقسام والتناحر الطائفي بين أغلبيته المسلمة. ومع دخول البلاد القرن الثامن عشر، بلغ الانحطاط أسفل درجاته عندما انخفض سكان العراق إلى حدود نصف مليون نسمة.(72) مقارنة بعدد سكانه المقدر بـ 30 مليون نسمة في عصر الازدهار العباسي.(73)، مقابل انتعاش سلطة القبائل الرحل، وانتقال زمام الحكم فعليا من الحكومة إلى أيدي رؤساء الاتحادات القبلية.(74)
وتقدم اللوحة التالية الكوارث التي حلّت ببغداد خلال القرون 1917 (و) 1918 (و) 1919: 1621 مجاعة.. 1623 الفرس يذبحون "مئات الألوف" من السنة ويبيعون "آلافاً" منهم عبيداً.. 1633 فيضان.. 1635 وباء.. 1638 مجزرة عامة نفذها الأتراك راح ضحيتها 30 ألف شخص معظمهم من الفرس.. 1656 فيضان.. 1689 فيضان.. 1733 حصار فارسي: "أكثر من 100 ألف ماتوا جوعاً/ طاعون.. 1777-1778 حرب أهلية.. 1786 فيضان/ محصول فاشل/ مجاعة/ اضطرابات مدنية.. 1802-1803 وباء.. 1822 وباء/ فيضان.. 1831 وباء/ فيضان/ حصار/ مجاعة- هبط سكان بغداد من 80 ألف نسمة إلى 27 ألفاً.. 1877-1878 وباء/ مجاعة.. 1892 فيضان.. 1895 فيضان.(75)
وكانت الحكومة المركزية في استانبول خلال هذه الفترة- وبسبب ضعفها وتفسخها- غير مهتمة بأقاليمها سوى بجباية الضرائب وفرض الجندية. وفي غياب سلطة الحكومة انهارت سلطة القانون وحلّ العرف العشائري. وشاعت قيم البداوة من عصبية وغزو ونهب وسلب وقطع الطريق وغسل العار، واحترام القوة (العنف) والغلبة والانتصار والتفاخر، كما شاعت هذه القيم أيضاً في المدن بالتعصب للمحلة. وهذه الانقسامات عبّرت عن نزعة فطرية للحصول على الحماية من خلال وحدة الجماعة (العشيرة، الطائفة، المحلة..) في غياب حماية الدولة. ويرتبط بذلك أن التراث الاجتماعي الذي ظلّ سائدا في العراق طيلة هذه الفترة- ولا زالت آثارها باقية- قد تميّز بأمرين: اولهما التعصب الطائفي وثانيهما المد القبلي.(76)
وفي السطور التالية متابعة موجزة لمجموعة من قيم التراث الاجتماعي للفترة المظلمة التي طغت عليها قيم البداوة، وما تضمنتها من مظالم اجتماعية سادت المجتمع العراقي قرونا عديدة واستمرت بقاياها مؤثرة في أفكار وتصرفات العراقيين، بل وانتقلت- بهذا القدر او ذاك- الى الساحة السياسية العراقية:(77)
* البداوة والغزو والانتصارات- قادت هذه القيم البدوية إلى إنكار الحلول الوسطية عند حدوث خلافات، والتوجه نحو ممارسة العنف بدل الحوار، والتطرف في المطالبات والحقوق بدلاً من البحث عن نقاط اتفاق متوازنة لصالح الطرفين، وذلك من منطلق تبجيل العنف، بما يجسده من إلغاء حق الغير و/ أو وجوده.
* البداوة والحرية الفطرية- فرضت الحياة الصحراوية/ الطبيعية على البدو النفور من سلطة النظام والقانون، وخلقت لديهم نظرة الشك والعداء تجاه الحكومة والنظام. تعززت هذه النظرة في ظل الحكم العثماني الذي اتصف بشدة ظلمه لعامة الناس. من هنا انتشرت ظاهرة الخوف والعداء والكراهية للسلطة الحكومية. ولعلّ هذا يفسر اندفاع البعض نحو نهب وتخريب المؤسسات العامة في حالات غياب السلطة الحكومية.
* العصبية والنسب- تقدر الحضارة الحديثة الفرد على أساس أفكاره وممارساته، وبالتالي فهو مسؤول وحده عن أفعاله أمام القانون والمجتمع دون أن يتحمل جريرة أفعال غيره. بينما القيم البدوية تقدر الشخص ليس بأفعاله، حسب، بل كذلك بأفعال أهله وأقربائه وعشيرته والموقع الاجتماعي لعائلته. ويرتبط بذلك الاهتمام المفرط بالأنساب بما يوقعه في حالات كثيرة من الظلم الاجتماعي نتيجة احترام الشخص أو احتقاره بسبب نسبه. وامتدت من مجالها الاجتماعي، بما في ذلك اختيار المراكز والوظائف، الى المجال السياسي بحيث أصبح الفرد يحاسب على فعل غيره من أصدقائه وأقربائه وأهله وعشيرته. يضاف إلى ذلك أن هذه الظاهرة المتفشية في المجتمع العراقي يمكن الوقوف عندها أيضا حتى في شتائمنا العامية. فالشتيمة لا تقتصر على الفرد، بل يمكن أن تمتد إلى عائلته ولغاية عشيرته.
* القبلية والسلطة الأبوية- يقوم منطق القبيلة على السلطة الابوية وينطلق من النظرة الشخصية لشيخ العشيرة. وهذه النظرة الأبوية انتقلت إلى الساحة السياسية، وانحصرت بشخص الحاكم دون نظام الحكم. ويحاول الحاكم نفسه تعزيز هذه النظرة. من هنا تركزت مناقشاتنا على الحاكم شخصيا في المدح والقدح. نجعله زعيما أوحداً ورئيساً مؤمناً وقائداً تاريخياً عندما نرضى عنه، وبعكسه ننعته بأردأ الوصفات.. ننسب إليه كل ما يتحقق من إنجازات وإخفاقات. متناسين أننا بذلك نهمش ذاتنا وغير واعين بأننا غارقون في الاتكالية والتهرب من المسؤولية والتمسك بتلاليب القيم البدوية. وبالنتيجة يكون تركيزنا على تغيير الحكام في سياق إهمالنا أو عجزنا عن الاتفاق على عقد اجتماعي يوفر أولا أسس بناء نظام اجتماعي- سياسي مقبول.
* العصبية والغلبة والمغالبة- تقوم البداوة على كسب الرزق بحد السيف. لذلك فهي تحط من قيمة العمل خاصة الحرف اليدوية. من هنا شاعت في المجتمع العراقي النظرة المتدنية للعديد من الحرف اليدوية. وكان هذا الموقف الاجتماعي وراء الزخم الشديد للناس التوجه نحو الوظائف الحكومية. وهنا يذكر الدكتور علي الوردي حادثة طريفة شهدها عام 1958 وراء السدة الشرقية ببغداد التي كانت تسكنها جماعات من المهاجرين الريفيين: بائع خضار متجول ينادي عليها بين البيوت.. يخاطبه رجل آخر من المنطقة (فراش) شاتما إياه بقوله- أنك صرت بقالاً فمن ذا الذي يتزوج بناتك.. أجاب البائع- البقال أفضل من الفراش.. رد الأخير- الفراش حكومة أما البقال فهو حقير!(78) كما أن نظرة الغلبة والمغالبة تركت آثارها في الممارسات غير النزيهة في التعامل الاجتماعي- التجاري والمالي، كما في ابتلاع الحقوق وأعمال الغش.
* البداوة والرجولة- قامت القيم القبلية على الحط من مكانة المرأة في سياق عادات وممارسات تجلّت في: نظرة الاحتقار إلى الحرف اليدوية بما في ذلك عمل المرأة في المنزل.. النظرة المتدنية إلى الضعف البدني وازدراء فئة غير المقاتلين في القبيلة.. تعظيم "الرجولة" متمثلة في القوة والمنزلة الرفيعة لمقاتلي القبيلة.. تقدير واحترام الشخص إذا كان غالبا منتصرا، وباختصار تبجيله إذا كان "فاعلا" في حياته الاجتماعية حتى الجنسية واحتقاره إذا كان "مفعولا به".
* العصبية والتفاخر والحماسة- تقوم قيم التراث القديم على الولاء للجماعة، والاعتقاد بالصواب المطلق لأِفكارها وممارساتها. وهذا ما عبّر عنه الشعر البدوي الذي يتميز بالمفاخرة والحماسة للعشيرة من جهة والقدح والذم لأِعدائها من جهة أخرى. وهذا المنهج الشعري الحماسي انتقل ليس فقط إلى شعرائنا وكتابنا، حسب، بل كذلك طغى على الساحة السياسية العراقية حكومات وأحزاباً.
* البداوة والشهامة والنخوة- يقوم منطق البداوة على الشهامة والنخوة والدخالة ومبدأ الخطية واحترام الجيرة والفضل والملح والزاد والصداقة والقرابة وعلاقات النسب- الدم والألقاب وما يماثلها. وهي قيم لها مزاياها في ظل السلطة الأبوية والعلاقات الشخصية التي تنظم المجتمع البدوي. لكنها لا تتفق مع العلاقات الحضارية الحديثة التي تقوم على مبدأ الفردية والنظرة الوظيفية للمسؤولية والتزام مبدأ الكفاءة والخبرة في إدارة شؤون المجتمع. إن بقايا آثار هذه القيم البدوية في العراق المعاصر تجلّت في مظاهر عديدة منها الوساطات وإخلالها بمبدأ تكافؤ الفرص وتطبيق مبدأ الولاء قبل الكفاءة والتوجه نحو ابتلاع حقوق الدولة، والتأكيد على الحقوق قبل الواجبات.
* العصبية والتعصب- تتسم العصبية بتصنيف أمور الحياة الدنيوية وفق نظرة أحادية مطلقة: خير أو شر، حق أو باطل.. وهذه النظرة المثالية تهمل بشكل تعسفي نسبية الحياة الدنيوية. تعمقت العصبية في الفترة المظلمة مع زحف البداوة على المدينة. وتعددت أشكالها لتمتد من العصبية القبلية والدينية والمذهبية والطائفية إلى العصبية للمدينة والمحلة. وظلّت آثارها تطبع سلوك العراقيين حتى بعد نشوء دولتهم المعاصرة. بل وزحفت نحو الساحة السياسية العراقية، كما في ظهور أحزاب تفاخرت بـ "العقائدية" التي تقوم على المثالية والأحكام المطلقة والموعظة الخطابية والحط من الواقعية المبدئية.
* صراع البداوة والحضارة- وهذا الصراع يمكن أن يولد نوعين من التناقضات على مستوى الفرد والمجتمع: تناقضات في أفكار الفرد وممارساته، وتعود إلى نموه في طفولته ومن ثم نضوجه تحت سقفين حضاريين متغايرين. اذ ينشأ في طفولته على قيم التراث القديم. أما في شبابه فهو يعيش أفكاراً عصرية مثل الحرية والديمقراطية. وهذا التناقض يمكن أن يولد مشكلة "ازدواج الشخصية".. تناقضات في أفكار المجتمع وممارساته- وتظهر على مستوى السلوكية الاجتماعية نتيجة الصراع بين الجديد والقديم. وهنا يسود في المجتمع خطابين: أحدهما قديم يقوم على الوعظ بدعوة الناس الى التمسك بالقيم المثالية المطلقة القديمة، وثانيهما حديث يقوم على المنهج العقلاني الواقعي، ويهتم بحياة الناس وممارساتهم الفعلية. وهنا قد ينشأ لدى البعض وهم الجمع بين القديم والحديث، في حين أن الحضارة ظاهرة كلية غير قابلة للتجزئة.(79)
استمر العراق يعيش وضعه الراكد حتى مطلع القرن التاسع عشر. وعند ذاك بدأ تاريخ حضاري جديد تمثل في نمو السلطة الحكومية. وأخذ المجتمع العراقي يتحول في اتجاهاته الفكرية من الشرق (إيران) إلى الغرب (مصر والشام). أو بعبارة أخرى بدأ التحول من الوعي الطائفي إلى الوعي الوطني. وأخذت رياح التحديث تهب من جهة الغرب، ولتشهد البلاد ظاهرة اجتماعية لم تعاصرها من قبل. فبعد أن كان الصراع الطائفي هو الذي يشغل أذهان الناس وأحاديثهم، ظهرت بوادر من نوع جديد تجسد في الصراع بين القديم وبين الحديث.(80)
جاءت بدايات الاتصال الحضاري للعراق مع مجيء داود باشا الذي تولى ولاية بغداد (شباط/ فبراير 1817) ليستمر خمسة عشر عاماً، حيث أهتم بتقوية الجيش وتدريبه على النظم الحديثة، وأقدم على شراء مصانع للبنادق من أوربا وجلب الفنيين لإدارتها. وأسس مصانع المنسوجات لتفي بحاجات الجيش. ورصد المرتبات المنظمة للجنود لكي تغنيهم عن فرض الأتاوات على الناس. وحارب القبائل وعمل على كسر شوكتهم وإخضاعهم لسلطة الحكومة. وحاول تقليد محمد علي باشا في مصر بإدخال المخترعات الأوربية الحديثة إلى البلاد. كما تميز عهده أيضا بكثرة ما قام به من أعمال بناء وترميم الجوامع والمساجد والمعاهد الدينية. ويعتبر جامع الحيدرخانة ببغداد من أعماله. وأخذ يجتذب إليه الشعراء والكتاب والفقهاء وأرباب الطرق الصوفية. ويعتبر البعض عهده بداية النهضة الحديثة للأدب العراقي. ويذكر روفائيل بطي أن من بين الأمور التي استحدثها داود باشا في العراق هو أنه أصدر أول جريدة في بغداد باسم"جرنال العراق". وبالمقابل عرف عن داود باشا ممارساته- كبقية السلاطين والولاة- أعمال الظلم من مصادرات وفرض الضرائب الثقيلة والإفراط في جباية الأموال التي أثقلت كاهل عامة الناس خاصة الفقراء.(81)
سجل عام 1869 حدثين تاريخيين بارزين مؤثرين من حيث أهميتهما الاجتماعية وتأثيرهما الحضاري في العراق، هما افتتاح قناة السويس وتعيين مدحت باشا والياً على بغداد. قاد الحدث الأول إلى تقريب المسافة البحرية مع أوربا، وسهّل سبل السفر ونقل البضائع، بالإضافة إلى إسراع التأثير الفكري الأوربي في البلاد. أما مدحت باشا (1869-1872)- فهو رجل مصلح عرف بجهوده في مجال الاعمار والتجديد في العراق، خاصة في بغداد- فقد أحدث ما يشبه الثورة. بدأ عهده بمحاربة الرشوة والفساد وتنظيم الجهاز الإداري وفق قانون الولايات العثماني الصادر عام 1864. إذ شمل كل من الولايات الثلاث تقسيما إدارياً متدرجاً ترتبط بكل منها مجموعة أقضية، وكل قضاء مقسم إلى عدد من النواحي، وارتبطت بكل ناحية مجموعة قرى. وبذلك تم إرساء دعائم الإدارة الحديثة لأِول مرة بخلق إدارة مركزية منظمة يكون مركزها بغداد وتتولى الإشراف على شؤون العراق بأجمعه.(82)
كما تقرر تشكيل مجالس محلية شبه منتخبة في كل وحدة إدارية. وبقيت تمارس أعمالها، خاصة مجلس ولاية بغداد حتى الاحتلال البريطاني للعراق (1914-1918). وبانسحاب الموظفين الرسميين بعد انهيار الدولة العثمانية أصبح مجلس الولاية نواة لما عرف فيما بعد بـ "مجلس الوزراء العراقي".(83)
كذلك امتدت هذه الإصلاحات إلى مجالات أخرى بإنشاء ديوان التميز للنظر في الدعاوى القانونية المستأنفة. وتطبيق نظام القرعة في اختيار المكلفين بالخدمة العسكرية وتطبيق التجنيد الإجباري لأِول مرة في البلاد. لكنه تجنب تطبيقها بين القبائل خشية إثارة حفيظتها وإقدامها على التمرد. مفضلا أن يقتصر التجنيد على سكان المدن والفئات المستقرة حولها. ولم يتردد في استخدام القوة لحمل السكان على قبول مشروعه للتجنيد الاجباري.(84)
كانت لسياسة مدحت باشا أثره في استقرار بعض القبائل الرحل ونشوء مدن جديدة. اتسمت سياسته في هذا المجال بالحذر والذكاء. إذ استخدم وسائل ترغيب متعددة، ونجح في إقناع بعض زعماء القبائل بفوائد التجديد وحصل على موافقتهم لإنشاء بعض المدن والمرافق الحكومية في مناطقهم. وفي نفس الوقت تم إدخال قانون الأراضي العثماني لعام 1858 إلى العراق بهدف تحويل القبائل المتنقلة إلى قبائل مستقرة وتشجيعهم على الاستيطان والزراعة.
وبغية تسجيل العقارات وإصدار الوثائق الخاصة بها تم إنشاء أول دائرة للطابو (التسجيل العقاري)، بالإضافة إلى تشكيل لجنة تسوية الأرض والتي اقتصر عملها على منطقة الفرات الأوسط والبصرة. شكلت هذه المبادرة أول خطوة جدية نحو إرساء المِلكية العقارية وتسجيلها في العراق. وكانت لها آثاراً بعيدة خلال المرحلة التالية باتجاه دمج القبائل بالمجتمع العراقي. رغم أن هذه السياسة أدت إلى تعزيز ظاهرة طبقية جديدة لصالح أغنياء المدن وشيوخ القبائل. من جهة أخرى، ساعدت هذه السياسة على ظهور عدة مدن جديدة على ضفاف الأنهار مثل الرمادي والناصرية والعمارة. وأخذ سكان العراق بالزيادة من 2.25 مليون نسمة عام 1900 إلى 2.97 و 3.21 مليون نسمة عامي 1927 و1935 على التولي.(85)
كذلك نالت التربية والثقافة شيئا من اهتمامات مدحت باشا. تم إنشاء مدرستين حديثتين بالإضافة إلى المدرستين العسكريتين في بغداد. أولاهما مدرسة مهنية "مدرسة الصنائع"، والثانية إعدادية لتخريج الموظفين "الرشدية الملكية". كما اشتهر عهده بإصدار أول جريدة عراقية حديثة لجمهور المتعلمين "الزوراء". وصدر عددها الأول في حزيران/ يوليو 1869. وزاد عدد المدارس الابتدائية والمتوسطة حتى بلغت زهاء مائة مدرسة. وتم إنشاء مدرسة متوسطة للبنات (1899) زاد عددها إلى أربع عام 1900. كذلك افتتحت مدرسة خاصة لتخريج المعلمين (دار المعلمين) ومدرسة تطبيقات ملحقة بها. وازداد عدد المتعلمين مما ساعد بعض المثقفين على إصدار صحف جديدة غير رسمية في مرحلة تالية من أواخر العهد العثماني. وفي السنوات الأخيرة من العهد العثماني أجريت بعض الإصلاحات المحدودة: إصلاح نظام الجندية (1919)، إنشاء غرفة تجارة بغداد (1910)، وافتتاح سدة الهندية (1913).(86)
هوامش الفصل الثاني
(1) العراق في التاريخ، ص235-238.
(2) نزار الحديثي، "العراق عند مجيء الإسلام"، حضارة العراق، ج5، ص7- 9.
(3) العراق في التاريخ، ص251- 252.
(4) نفسه، ص252 – 253.
(5) نفسه، ص 257، ص259.
(6) ناجي التكريتي، "فلسفة الأخلاق"، حضارة العراق، ج8، ص293.
(7) هنري فوستر، نشأة العراق الحديث، ج1، بغداد 1989، ص29- 30.
(8) فيليب حبيب وآخرون، تاريخ العرب، بيروت 1974، ص130- 132..، هنري فوستر، ص31.
(9) محمد حسين الزبيدي، "المجتمع العراقي في صدر الإسلام"، حضارة العراق، ج5، ص40.
(10) حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج1، بيروت 1979، ص414..، جميل قاسم، "الإسلام والحداثة الفكرية"، الوحدة، العدد 85، الرباط 1991، ص41- 41.
(11) حسين مروة، ص415- 422.
(12) نفسه، ص419..، عبدالعزيز الدوري، "الإسلام وانتشار اللغة العربية"، ندوة القومية العربية والإسلام،ندوة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت1981، ص62.
(13) ناجي التكريتي، ص297..، عبدالعزيز الدوري، ص62.
(14) عبدالوهاب الأمين، النظم المقارنة- دراسة مقارنة: الرأسمالية، الاشتراكية، الإسلام، الكويت، 1986، ص321- 322.
(15) عبدالعزيز الدوري، ص62.
(16) العراق في التاريخ، ص354- 355..، نزار الحديثي، ص18- 19.
(17) ميثم الجنابي، "الروح الثقافي الإسلامي"، الثقافة الجديدة، العدد 303، دمشق2001، ص79- 83..، ناجي التكريتي، ص291.
(18) هنري فوستر، ص44.
(19) عبدالعزيز الدوري، ص65-66..، نفسه، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت1995، ص35.
(20) سليم مطر, الذات الجريحة- إشكالات الهوية في العراق والعالم العربي (الشرقاني)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت1997، ص262-263.
(21) حسين مروة، ص427- 248.
(22) نفسه، ص430- 431.
(23) نفسه، ص447- 448.
(24) هاشم يحيى الملاح، "الخلافة: نشأتها وتطوراتها سنة 11-656هـ"، حضارة العراق، ج6، ص11- 12..، فيليب حبيب، ص247.
(25) حسين مروة، ص422- 423، ص435- 436.
(26) آدم ميتز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري (أو عصر النهضة في الإسلام)، ج1، تعريب محمد عبدالهادي أبو ريدة، دار الكتاب العربي لبنان، (بدون سنة طبع)، ص161.
(27) علي أومليل، الخطاب التاريخي- دراسة لمنهجية ابن خلدون- التاريخ الاجتماعي للوطن العربي، بالأصل رسالة دكتوراه، بيروت، ( بدون سنة طبع)، ص16.
(28) حسين مروة، ص436- 438.
(29) نفسه، ص439.
(30) جوزيف مغيزل، "الإسلام والمسيحية العربية والقومية العربية والعلمانية"، ندوة القومية العربية والإسلام، ص365- 366.
(31) حسين مروة، ص522.
(32) هاشم يحيى الملاح، "الخلافة: نشأتها وتطوراتها"، حضارة العراق، ج6، ص14.
(33) حسين مروة، ص473.
(34) نفسه، ص474- 475..، جوزيف مغيزل، ص363.
(35) حسين مروة، ص474- 476.
(36) عبدالعزيز الدوري، تاريخ العراق..، ص236.
(37) هاشم يحيى الملاح، ص19- 20.
(38) فيليب حبيب، ص359.
(39) عبدالعزيز سالم، العصر العباسي الأول، الاسكندرية (بدون سنة طبع)، ص295.
(40) فيليب حبيب، ص374.
(41) جوزيف مغيزل، 363.
(42) بدري محمد فهد، "المجتمع العراقي في العصر العباسي"، حضارة العراق، ج5، ص56.
(43) تقي الدين عارف الدوري، "تأثيرات العراق الحضارية"، حضارة العراق، ج8، ص499- 500..، محمد جاسم المشهداني، "الفكر التاريخي والجغرافي"، حضارة العراق، ج8، ص145- 146..، العراق في التاريخ، ص363.
(44) فيليب حبيب، ص358- 359.
(45) العراق في التاريخ، ص388..، هنري فوستر، ص39- 40.
(46) فيليب حبيب، ص368.
(47) هنري فوستر، ص41- 43.
(48) نفسه، ص44- 45.
(49) آدم ميتز، ج2، ص157- 158.
(50) فيليب حبيب، ص409- 422..، عبدالعزيز سالم، ص296-297..، بدري محمد فهد، ص61.
(51) فيليب حبيب، ص368.
** استمرت عادة نثر النقود في العراق بمناسبة تلك الاحتفالات لغاية العصر الحديث. كذلك استمرت عادة لبس الخفاف الذهب والعبارة المطرزة بالذهب وغيرها بين نساء الذوات من العوائل الثرية. وكان هذا الأمر محل أحاديث معروفة بالنسبة لنساء عائلة كليدارالإمام الكاظم أثناء عمل الباحث في أوقاف الكاظمية للفترة 1960- 1969.
(52) بدري محمد فهد، ص100.
(53) عبدالعزيز الدوري، تاريخ العراق..، ص274.. بدري محمد فهد، ص70- 71.
(54) جوزيف مغيزل، ص363- 364..، آدم ميتز، ج1، ص19- 20.
(55) العراق في التاريخ، ص439- 441..، عبدالعزيز الدوري، تاريخ العراق..، ص36.
(56) هاشم يحيى الملاح، ص27.
(57) فيليب حبيب، ص547.
(58) آدم ميتز، ج1، ص20- 21..، عبدالعزيز الدوري، تاريخ العراق..، ص474- 475..، هاشم يحيى الملاح، ص28- 29.
(59) هاشم يحيى الملاح، ص27..، العراق في التاريخ، ص442.
(60) آدم ميتز، ج1، ص31- 32.
(61) فيليب حبيب، ص548- 549..، عبدالعزيز الدوري، تاريخ العراق..، ص287- 288.
(62) عبدالعزيز الدوري، تاريخ العراق...، ص36- 38.
(63)آدم ميتز، ج1، ص87..، عبعالعزيز الدوري، تاريخ العراق..، ص39.
(64) عبدالعزيز الدوري، تاريخ العراق..، ص43- 46.
(65) نفسه، ص70- 77.
(66) نفسه، ص62- 69، ص87- 88، ص302- 303.
(67) نفسه، ص107- 113، ص117- 132.
(68) نفسه، ص91- 92.
(69) آدم ميتز،ج1، ص41..، عبدالعزيز الدوري، تاريخ العراق..، ص138- 141.
(70) بدري محمد فهد، ص69- 70..، فيليب حبيب، ص409- 411.
(71) عبدالعزيز الدوري، تاريخ العراق..، ص282- 284.
(72) علي الوردي، لمحات من تاريخ العراق الحديث، ج2، لندن1992، ص9.
73. IRAK, Utrikspolitiska Institutet, Stockholm1995,p.11.
(74) علي الوردي، لمحات من تاريخ العراق الحديث، (ستة أجزاء)، دار كوفان، لندن 1992، ج4، ص402.
(75) حنا بطاطو، العراق، (ثلاثة أجزاء)، ترجمة عفيف الرزاز، ج1، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت1990، ص34.
(76) علي الوردي، ج4، ص402..، حنا بطاطو، ج1، ص40.
(77) للتوسع، أنظر، للباحث، العراق المعاصر، دار المدى، دمشق 2002، ص256- 268.. وتعود خلفية الموضوع إلى كتابات الوردي في المرجع السابق بِأجزائه الستة.
(78) علي الوردي، في الطبيعة البشرية، تقديم: سعد البزاز، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن،1996، ص48.
(79) نفسه، ج1، ص304..، في الطبيعة البشرية، ص125.
(80) نفسه، ج2، ص3-4..، ج4، ص402.
(81) نفسه، ج1، 232- 256..، ج3، ص163.
(82) نفسه، ج1، ص278..، ج2، ص239..، خالد التميمي، محمد جعفر أبو التمن- دراسة في الزعامة السياسية العراقية، رسالة دكتوراه، دار الورق للدراسات والنشر، دمشق1996، ص18- 19.
(83) العراق في التاريخ، ص642- 643.
(84) علي الوردي، ج2، ص240.
(85) خالد التميمي، ص14- 17..، العراق في التاريخ، ص643.
(86) العراق في التاريخ، ص645.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات الطلبة في فرنسا ضد حرب غزة: هل تتسع رقعتها؟| المسائ


.. الرصيف البحري الأميركي المؤقت في غزة.. هل يغير من الواقع الإ




.. هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتحكم في مستقبل الفورمولا؟ | #سك


.. خلافات صينية أميركية في ملفات عديدة وشائكة.. واتفاق على استم




.. جهود مكثفة لتجنب معركة رفح والتوصل لاتفاق هدنة وتبادل.. فهل