الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قبائل الأحلام-قصة قصيرة

عبد الفتاح المطلبي

2013 / 7 / 17
الادب والفن


الرجلٌ العشريني الضئيلُ لا يكادُ يلاحظُه أحدٌ وهو يسيرُ بحذرٍعلى الطريقِ ، عندما يكونُ الشارعُ خاوياً إلا من مارّةٍ يُعَدّون على أصابعِ اليدِ يتّخِذ ُمسارَهُ على الرصيفِ محاذراً أن يلفت وجودُه انتباهَ منْ لا يتورعُ عن سلقهِ بنظرةِ استعلاءٍ وعندما يكونُ الشارعُ مكتظاً بالمارةِ يُسارعُ للإختلاطِِ بالجموعِ مندسّا بينهم وهو لا يتوقع عند ذاك احتكاكَ كتفهِ بكتفٍ أخرى فكل الأكتاف أعلى من كتفه إلا ما ندرَ وحينما يحصل الأمرُ ويحتكّ كتفُ ضئيلٍ مثله بكتفه يشعرُ بنشوةٍ عارمةٍ فيرفعُ عظامَ كتفه قليلا محاولا القولَ لرفيقهِ الآخر إنني أعلى كتفا منك أيها الضئيل ، أفسحْ لي الطريقَ و يبتسم عند ذاك برقة للناس الذين يسيرون بخطوات أوسع من خطوه و لا يظن أنهم قد لاحظوا ذلك لكنه برغم تلك الحقيقة التي تزعجه أحياناً يملك قلباً كبيرا يتسع لكل شطحات الآخرين معه محاولا دائما إلقاءَ اللومِ على نفسه وحده ومنحهم صك برائته من اتهامهم بإزعاجه ، وصحيحٌ أن رأسَه صغيرٌ كما يبدو بالنسبة لرؤوس أخرى كثيرة لكنه يحتوي أحلاما جميلة وسرباً من الأماني و ورودَ آمال لازالت تتفتح تباعاً ، كل ذلك يحتشد في رأسه ويتنقل بين قلبه و دماغه ولهذا هو يصر على إن له أكبر قلب و رأس يتسع لعوالم شاسعة رغم كونه رأساً صغيرا ولا يقولُ ذلك جُزافا فهو يعرف تماما أن الثيران تملك رؤوساً كبيرةً لكنها لا تحلم أبدا قال ذلك مرة لصديقه الرسام وهو يضحك : إذا لم تصدق فكن ثورا ليوم واحد ، ساعة واحدة وستعرف إني أقول الحق ولهذا فهو يعشق وقت رُقاده وتسليم رأسه للوسادة متهيئا لهذه الهجعة كما يتهيأ الأطفال حين يصطحبهم الكبار إلى دار السينما ، أحلامه وآماله هن عائلته وعشيره، آه لو علمتم بمقدار ابتهاجه حين يُداعب النعاس جفنيه ولدُهشتم حين تعلمون أسباب ذلك فبعد إغماض عينيه يلجُ بوابةً البهجةِ حيث تنفق أحلامُه أوقاتـَها السعيدة فوق عشب التنهدات وبين أفواف ورد الأماني وحالما يرينهُ قد اجتاز عتبة النوم يهرعن إليه وقد تهيأن للقائه وكأنهن ينتظرن ذلك وقد لبسن أبهى حللهن، حدائقَ غناء تتمايل في حواشيها زهورالتوق و أشجار الرغبات تظللهن فيتخذن من أفيائها ملاذا من شمس الواقع التي تُطل من وراء دنيا أحلامه وهكذا حين يحين وقت مغادرته بوابة الأحلام ويستيقظ مبتسما وقابضا على أطراف سروره بتلك الأجواء وتلك الصحبة وعندما ينفلت من بين أصابع شعوره آخر خيط سرور يتلبسه الوجوم ساعةً في الفراش متمنيا أن يسارع النهار بقضاء وطره من حياته ليعاود الكرة بلقاء حبيباته أحلامه الجميلة فنهارات الجميع في هذه البلاد كنهارات الثيران أما كدٌّ في حقولِ كديةٍ صُلبة وأما سكينُ الجزّار ، قبل 2003 كان يسخر من عرائس أحلامه التي تطل من كوى السجن الذي أعده لهن قبل ذلك بدعوى الخوف عليهن من الرفاق، يتذكر كذلك كيف كان يُغلق عليهنّ ألفَ بابٍ ليتأكد دائما من استحالة أن تهرب إحداهن وتفضحه بين الرفاق الذين لا يتورعون عن قتلها وقتله في الحال أما في النوم فلم يكن يقترب من بوابة سجن الأحلام في تلك الأيام السود لئلا يرق قلبه في لحظة ضعف وتحصل الكارثة و اليوم بعد 2003 فقد اختلف الأمر،الأحلام أكثر من الناس في الشوارع والأزقة لكنها تمشي بين حواجز الإسمنت ومدرعات المارينز فلم يشأ أن يُطلق أحلامه لتختلط مع أحلام كثيرة بعضها قد تمادى وبعضها صار عنيفا والبعض الآخر ظلّ سائبا كالقطط لا يقر له قرار ، ناشطا في الليل والنهار لا يجد له رؤوسا ليستقر بها ولهذه الأسباب الواضحة حوّل رأسه إلى جنةٍ واسعةٍ وأطلق فيها أحلامه العزيزة ، كان دائما يصف أحلامه ويبالغ في إطراء جمالها حتى إن صديقه الرسام تبرع برسم صورته وهو يتوسط فتيات جميلات قائلا له: هذا أنت تتوسط جميلات أحلامك وكان صديقهُ الرسامُ بارعا و اللوحة باذخةَ الجمال ، حمل الرسم فورا إلى محل الزجاج والإطارات ووضعه في إطار جميل وعلقه قبالة عينيه مقابل سريره في غرفته المطلة على شارع الفلاّح في مدينة الثورة ، كان نائما وقد تسلل إلى مدائن أحلامه، يحطن به كإحاطة الجواري بشهريار بينما كانت أجملهن حكاءةً بارعة قالت أيها الملك السعيد..،ولم تكد تُكمل جملتها حتى دوى صوت انفجار ولعلعَ صوت الرصاص ففرت الأحلام مختبئةً في تلافيف دماغه ، كانت مدينة الثورة* تزخر بجنود سود وبيض بعضهم حمر العيون والبعض الآخر زرق العيون ومجندات شقراوات و أخريات سمراوات، ركلةٌ واحدةٌ من القدم الثقيلة للجندي الأسود أسفرت عن تحطيم باب غرفته وعندما فعلوا ذلك لفت انتباههُ وشم الإفعوان على ساعد الجندي الأصهب ولسانه الأحمر المشطور، لم ينسوا تحطيم كل شيء في الغرفة وكانت صورته وهو يتوسط جميلات أحلامه قد تحطمت أيضا، اختلط عليه اللغط ولم يحر جوابا عندما طرحه الجندي الأمريكي أرضا و كبل معصميه بتلك الإنشوطة البلاستيكية القوية .
سيق مع كثير من الرجال شيوخا وشبابا إلى سيارة الإعتقال الواقفة كفيل أبرهة بخرطوم طويل ولم يعد أحد يراه وعبثا حاول ذووه أن يصلوا إلى مكان اعتقاله ، لقد اختفى مع أحلامه وجميلات أمانيه مع كثيرٍ من الناس الذين تم اعتقالهم ذلك اليوم ، أصرت أمه على تنظيف صورته من آثار أقدام الجنود وأعادت تأطيرها ووضعها خلف زجاج شفيف ثم علقتها أمام عينيها ، وكلما رنت إليها سالت دموعها .
بعد سنين طويله عُثِرَ على مقبرة جماعية خارج سجن بوكا* على بعد أمتار قليلة من سياج المعسكر الكبير الذي كان يقع السجن فيه لم يجدوا في المقبرة الجماعية غير هيكل رجل ضئيل واحد و عشرات من هياكل لنساء شابات رقدن قريبا من هيكل الرجل الضئيل ، وكان ذلك مُحيراً للجميع،إلا أن أمه لم تندهش من وجود هياكل نساء قتلن مع ابنها ، قالت لهم وهي تشير إليهن في الصورة التي رسمها صديقه : ألسنَ هنّ اللائي وجدوهن معه ؟
لازالت صورته تحيطه أحلامه الجميلات على هيئة نساء فاتنات كما رسم ذلك صديقه الرسام معلقةً في غرفةٍ خالية إلا من بساط ومخدةوعجوز عمياء أودت الدموع بنور عينيها .

*سجن بوكا : معتقل أمريكي سيء الصيت قرب البصرة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ


.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث




.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم


.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع




.. هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية