الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المَخاضةُ - قصة قصيرة

عبد الفتاح المطلبي

2013 / 7 / 29
الادب والفن


المخاضة
قصة قصيرة
عبد الفتاح المطلبي
(( من يهن يسهُلُ الهوان عليه**** ما لجرحٍ بميّت إيلامُ))
أبو الطيب المتنبي
كان قلبي يُحدثني أنّ ذلكَ سيحصل إن لم يكن اليوم ففي غدٍ قريب ولم يكن هذا الهاجس الذي يراودني وليدَ صدفةٍ أو حدثٍ مُفاجئ ، إذ أن كل الأمور تشير إلى ذلك فالقيظ العربي هذه المرة جاء شديدا و وكأن لهيب الشمس ترك جميع أصقاع الأرض وانشغل بهذه البقعة من العالم،الشمس تبدو أقرب لهذه الأرض من كل مرة تدور ُ فيها وبكل صراحة شعرتُ أن هاجسي هذا قد بدأ بالظهور كحقيقة ماثلة وراح منسوب النهر يغور رويدا رويدا حتى استحال إلى وشلٍ في قعره نائيا عن الضفاف عصيا على جذور الأشجار والشجيرات وأعشاب الحدائق وبدأ القلقُ يقتات على تلك اللحظات التي كنت أزاول فيها تأملي عندما تحط قدماي على عشب الحديقة المطلة على النهر قبل تراجعهِ ، بتنا ننظر إلى النهر وهو يموت ولطالما استنجدنا به بينما عجزنا عن نجدته الآن ، العشبُ الذي كان في سابق الأيام ممرعا يبدوالآن هشيما تحت الأقدام فمنذ قدومين أوثلاثة لمكاني المفضل هنا في الحديقة لم ألحظْ أي وجود لفلاّح الحديقة أو أي أثر مما تتركه يداه على العشب والسواقي التي جفت وتآكلت منذ هبط منسوب ماء النهر بعد إن خنقتهُ سدود (الترك) الكثيرة وعلمت أن ذلك سيُحوّل الحديقة مع مرّ الأيام لمجرد أرضٍ جرداء وها هو النهر قد تحول إلى شبه مخاضةٍ تتمرغ فيها الكلاب السائبة هروبا من حر هذا الصيف اللاهب فتحيلها إلى نقيعة من الوحل وكثيرا ما رأيتها تفعل ذلك وقت انحدار الشمس إلى المغيب فخمنت أن الكلاب تزدادُ أعدادها في المخاضة كلما اشتدت الحرارة وهي تعرف تماما أن هذه هي الطريقة الوحيدة للتقليل من لهاثها المتسارع من جراء قيظٍ شديدٍ و جفافٍ يندرُ مرورُ مثيلِه وعلى ذلك ستكون الكلاب السائبة قد خاضت في وشل النهر منذ قبل الظهيرة حتى هذا الوقت الذي كنت أتأمل فيه ما لا أفهمه مما يجري حولي وفكرتُ أن هذا الفلاح ربما طُرد َ من العمل أو اختطفه الموت الشائع الآن في الطرقات وحين استبد بيَ الفضولُ سألت صاحب كشك السكائر المطل على حديقة الشاطيء فأبدى امتعاضه من سؤالي وراح ينظر لي نظرة ملؤها الإزدراء وكأنه يقول لي مالك أنت تسأل عما لا يعنيك؟ وليته علم بمدى حزني وأسفي على ما آل إليه عشب الحديقة وشجيراتها وعلى أية حال علمت ُ فيما بعد أن فلاح العشب لم يعد يهتم كثيرا بعشبه بحجة أن منسوب النهر قد ضحل حتى صارت المضخة لا تقوى على رفع الماء من هذا الوشل ، وحين قلّبت الأمر بيني وبين نفسي وجدت أنه ربما يكون ذلك مبررا لعدم تشغيل مضخة الماء لكنه لن يكون مبررا لموت العشب إذ أن كل الأمر يتعلق بالماء فشحّ الماء يعني موت العشب وكان بإمكانه أن يملأ جردلاً من وشل النهر يرش ولو قطرات من الماء على العشب الآيل للموت وتلك شجاعة كان لابد أن يتحلى بها راعي العشب وهكذا رجعتُ بعد الغروب بقليل إلى غرفتي في (فندق الحياة) متسللا إليها عبر ثلاث طبقات من السلالم وفكرتُ أن هذه السلالم التي تصعد بي الآن إلى غرفتي ستهبط بي غدا إلى الشارع المؤدي إلى عملي وعلي أن أتوقع في مثل هذا الظرف الذي جعل النهر العظيم مجرد مخاضة أن سلالم الفندق ربما ستهبط بي ذات مرة دون عودة وعلى أية حال كان صدري منقبضا وحالتي النفسية ليست على ما يُرام عندما تمددتُ على السرير ورحتُ أشاغل نفسي باستعادة منظر تلك الكلاب السائبة وهي تتمرغ في مخاضة الوحل التي آل إليها النهر ورحتُ أتسائل عن محنة الكلاب في الصيف وهي لا تجد ما تبترد به من مستنقعات ومياه متسربة من المواسير العامة وقد كان ذلك شائعا قبل تدهور أحوال النهر وجفافه ومن ثم فشل مضخات الماء بإيصاله إلى المواسير بيسرحتى إن الناس يلجأون إلى استخدام حلاقيمهم لشفط بقايا الماء في المواسير بعد توقف جريانها ، الكلاب حيوانات لا تعرق لذا فإنها تلهث حتى في الشتاء البارد وهذا ما يفسر لجوئها إلى وشل النهر وتحويله إلى مخاضةٍ موحلة، حاولت النوم بشتى الوسائل التي لجأت إليها سابقا عندما تنتابني حالة مشابهة من الكآبة والقلق بدلا من تناول الأقراص المنومة فعددت الأرقام من واحد ٍ إلى مائة ولم أفلح وجربت القراءة بكتاب ممل كنت أحتفظ به لمثل هذا الظرف وفشلت المحاولة وكأن في عيني الملح وبقيت الكلاب وهي تخوض في مخاضة الوحل تحتل دماغي وتطرد النوم من عيني وكان شعوري يتأرجح بين تعاطفي مع الكلاب التي لا تجد سبيلا آخر إلا الخوض في وشل النهر وبين أسفي على النهر الذي آل لمجرد مخاضةٍ للكلاب السائبة وهكذا لم أفلح بإغماض عيني حتى ارتفاع الشمس لضُحاها وكانت الحرارة لا تُطاق ولم استغرب رؤية الناس في الشارع وهم يسيرون على غير هدى مثل أسماك في بركة شحّ فيها الأوكسجين يقطر العرق من مسام جلودهم وقد يأسوا تماما من كل الحلول الممكنة عندما أعلنت السلطات أن الأيام الثلاثة المتبقية من الإسبوع عطلة رسمية بسبب الحرارة العالية التي لا تُطاق وانقطاع التيار الكهربائي بشكلٍ شبه دائم إثر تفجير خطوط النقل الرئيسة وتخريبها ، ارتديت ما خفّ من الملابس وهبطتُ السلالم إلى الشارع الذي قادني مع كثير من الناس إلى شاطئء النهر ، لعل نسيما يهب من وشله وهالني أن أرى الكبار والصغار على صوبي النهر وهم ينظرون نظرة حسد للكلاب السائبة التي كانت تبترد في مخاضة النهر ولم يمض وقت طويل حتى اشتدت الحرارة وصارت لا تُطاق تجرأ إثرَ ذلك الصغارُعلى الهبوطِ إلى المخاضة غير عابئين بالوحل ولم تنفع الكلاب السائبة زمجراتها فانسحبتْ مُجبرةً تاركة المخاضة ووحولها للصغار الذين راحوا يلعبون بالوحل بمرح شاعرين براحة تامة وهم يصبّون ماء المخاضة الموحل على رؤسهم وأجسامهم ، وكانت محنة الكبار الواقفين على الصوبين كبيرةً إذ أن الشمس راحت تحرق جلودهم وتدفعهم دفعا إلى الحل الوحيد المتاح وهو مشاركة الصغار الخوضَ في مخاضة النهر ووشله و وحوله، في البداية نزل إلى المخاضة أولئك المجازفون والفقراء الذين اعتادوا إلقاء أنفسهم في أية محنة فالشمسُ لا تحابي أحدا وهي تُلقي بحممها على رؤوس الجميع وحين لم يجد الباقون حلا آخر بدأوا يتقاطرون نزولا إلى وشل النهر ومخاضته حتى امتلأ النهر بالرؤوس السود وبعض منزوعي الشعر لامعي الصلعات ، خليط لا تستطيع فرزه فيه الأفذاذ والصعاليك وكنت أنا الذي أحكي لكم كل ذلك أجاهد نفسي من شدة الحرّ ولم يكن أمامي إلا أن أهبط إلى حافات المخاضة كي أبلل قميصي بالماء الموحل وأنقع المنشفة التي جلبتها معي لمسح العرق المتفصد من مسام جلدي واضعا تلك المنشفة المرطبة بالماء الموحل على رأسي ولشدة الزحام في المخاضة طـُرِد بعض الصغار الذين جلسوا ليس بعيدا فبدوا كأنهم تماثيل طينية صغيرة تهزأُ من بعضها وبين الفينة والفينة يخرج من الكبار من ظن أنه بخير متخذا مقعدا على الجرف القريب من المخاضة يتأمل هذا الهرج والمرج السائد في مخاضة الطين وحين يجف عليه الوحل متحولاً إلى ما يشبه تمثالاً تلسعه الحرارة من جديد فيعود للمخاضة تحت تأثيرها الحارق غير عابيءٍ بما يبدو عليه منظره وهكذا رأيت الناس قد خاضوا جميعا بمخاضة وشل النهر فبدا النهر من بعيد وقد جلله سواد الرؤوس الكثيرة على طول الشاطئين الذين تُطلّ عليهما المدينة كإفعوانٍ أسود طويل تحول رويدا رويدا إلى لون أغبر بينما راح البعض الآخر يتخذ مقعدا على مقربة من المخاضة يطلق ضحكات عالية مستمتعا بمنظر الخائضين في المخاضة وهم يبدون كتماثيل من الطين ويجاريه الآخرون بالضحك ذاته وهكذا ظلّوا يضحكون على بعضهم البعض حتى هبوط الشمس نحو مغيبها وحين ذاك بدأ الجمع الغفير بالخروج من المخاضة حين هبط الليل وخفّتْ الحرارة على أن يبكرون بالخوض في الوحل من جديد مع شمس نهار آخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع