الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موعظة الهوتو والتوتسي: أنف ومليون قتيل

فلاح رحيم

2013 / 8 / 13
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


بين عامي 1959 و 1962 شهدت رواندا تحولا تاريخيا غير مسبوق. فلأول مرة في تاريخ البلاد استلمت الأغلبية من الهوتو (التي تشكل 85 % من السكان) مقاليد السلطة بعد قرون من احتكار التوتسي لها ( وهم أقلية تشكل 14%). وقد تحقق ذلك بدعم من قوات الاحتلال البلجيكية التي تبنت مطالب الهوتو وأشرفت على الانتخابات التي وصلت بهم إلى السلطة. بدا حينها أن الحق قد عاد إلى نصابه وأن ذلك التحول لن يكون قابلا للنقض. عام 1994 شهدت رواندا أعنف وأبشع أعمال إبادة جماعية في تاريخ إفريقيا، قُتل فيها ما لا يقل عن 800 ألف مواطن رواندي خلال مئة يوم من أعمال العنف. وكان من نتائج تلك الأعمال المروّعة أن عاد التوتسي لحكم البلاد دون أن تضع عودتهم حدا للمأساة العرقية التي ظلت تزعزع المجتمع الرواندي حتى يومنا هذا. حكاية رواندا تنطوي على مواعظ جمة، ونحن في أمس الحاجة إلى إلقاء نظرة على الطريقة التي خسر بها الهوتو مكاسبهم وأسباب فشل تجربة بناء دولة المواطنة في حقبة ما بعد الاستعمار في رواندا. إن لدينا هنا فصلا عميق الدلالة في ثقافة الحروب الأهلية.
سأعتمد في هذه المقالة على ثلاثة كتب من أفضل ما صدر عن الأزمة الرواندية هي أولا كتاب فيليب غورفتش المعنون "نود أن نعلمكم أننا سنُقْتل جميعا مع عوائلنا غدا" (بيكادور، 1998) وهو مزيج من السرد التاريخي والتقرير الصحفي الوثائقي، ثم كتاب د. جيرارد برونيير "الأزمة الرواندية: تاريخ إبادة جماعية" (صادر عن جامعة كولومبيا، 1995) وهو أول دراسة أكاديمية معتمدة عن الأزمة ومؤلفها أستاذ وخبير استعانت به الحكومة الفرنسية في تدخلها بالأزمة دون ان يمنعه ذلك من انتقاد سياستها هناك، وأخيرا كتاب البروفيسور محمود مامداني "عندما يصبح الضحايا قتلة: الكولونيالية، والوطنية، والتطهير العرقي" (صادر عن جامعة برنستون، 2002) وهو دراسة أكاديمية رصينة تصدر عن واحد من أهم المنظرين للعلاقات الدولية ومشاكل افريقيا في يومنا هذا.
هنالك الكثير من الدراسات التي حاولت أن تجيب عن سؤال الفرق المفترض بين الهوتو والتوتسي. يرد في كتاب غورفتش أن الطرفين ينتميان إلى الجنس الأسود ويتكلمان لغة واحدة هي الكينيارواندية ولهما ديانة واحدة. وقد حكمت رواندا سلالة ملكية يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر كان الملك أو الموامي فيها يُقّدس على أساس انه يمثل بجسده رواندا كلها. وكان يسود البلاد نظام إقطاعي يمثل فيه التوتسي الارستقراطية بينما الهوتو هم التابعون، لكن خطوط الانتقال بين المجموعتين ظلت مفتوحة بحسب القبيلة والقدرة العسكرية والاجتهاد الشخصي. كما إن المناطق النائية في رواندا ظلت حتى يومنا هذا لا تعير اهتماما لهذا التقسيم. كانت الفوارق إذن ذات طابع اقتصادي وقبلي في الأساس، لكنها ظهرت أيضا في اختلافات طفيفة في الشكل الخارجي. يميل الهوتو إلى القصر والامتلاء، ولهم وجه مستدير وبشرة غامقة السواد وأنف مسطح وشفاه غليظة، بينما يميل التوتسي إلى النحافة والوجه المستطيل وبشرة أقل سوادا وأنف أضيق وشفاه رفيعة. بالرغم من ذلك فإن تلك الفوارق لم تكن من الوضوح بحيث يسهل معها تحديد إن كان الشخص من الهوتو أو التوتسي، وهنالك قصص كثيرة عن خطأ في التشخيص دفع آلاف الناس حياتهم ثمنا له.
كان المستكشف الانجليزي جون هاننغ سبك، الذي عرف عنه أنه مكتشف البحيرة الأفريقية الكبرى ومن أطلق عليها أسم الملكة فكتوريا، هو أول من طرح النظرية الحامية في أصل التوتسي عام 1863. وتذهب نظريته هذه إلى أن كل الثقافة والحضارة في وسط إفريقيا قد وفدت مع مجموعة التوتسي القوقاسية التي جاءت من أثيوبيا، وأن أصل هؤلاء يعود إلى النبي الملك التوراتي داود وبالتالي فهم أرقى من الزنوج الأصليين. وقد أستدل سبك على ذلك من قصة توراتية وردت في سفر التكوين (9) عن النبي نوح الذي نام عاريا بعد أن غلبه السكر فرآه ابنه حام وأخبر أخويه سام ويافث اللذين غطيا ابيهما وهما يوليانه ظهريهما لكي لا يريان عريه. حين علم نوح بالأمر لعن ذرية حام الكنعانيين قائلا "سيبقى وذريته عبدا لأخويه" وهو ما يعني أن الإنسان الأفريقي الأسود هو من ذرية حام الملعونة.
لقد سجّل سبك في يومياته قناعته أن الجنس ألأسود عاجز عن تطوير حضارة خاصة به وأنه بحاجة إلى جنس أرقى منه ليقوده. لكنه قرر أن الصفات الجسمية المختلفة للتوتسي تشير إلى أن لهم دماء أثيوبية. وقد عمل على إبراز الفوارق وركز بشكل خاص على الأنف لأن للتوتسي أنفا له جسر بينما أنف الهوتو مسطح. توصل سبك إلى أن التوتسي جنس حامي شبه سامي من المسيحيين الضائعين واقترح أن قليلا من التعليم البريطاني يمكن أن يرتقي بهم إلى مستوى البريطانيين أنفسهم. هذه الأسطورة التي لفقها سبك أصبحت حتى يومنا هذا حقيقة ثابتة في عقول الروانديين. حين دعا المتطرف الهوتي ليون موجيسيرا عام 1992 الهوتو لإعادة التوتسي إلى أثيوبيا من حيث جاؤوا عبر نهر نيابارونغا (وهو من روافد النيل) كان قصده مفهوما وقد طفت آلاف الجثث التوتسية على هذا النهر خلال مجازر 1994 وتزاحمت على شواطئ بحيرة فكتوريا. الأهالي الذين قاموا بدفن تلك الجثث في مقابر جماعية أصيب الكثير منهم بالجنون لهول ما شهدوا.
حين اجتمع ممثلو القوى الأوربية الكبرى لتقسيم أفريقيا بينهم عام 1885 كانت رواندا وجارتها الجنوبية بوروندي من حصة ألمانيا. ولم يكن قد وصل رواندا أي من البيض حتى ذلك التاريخ. سبك نفسه كان قد رصدها من تلة في تنزانيا. كان أول البيض الذين وصلوا إلى هناك كونت ألماني يدعى فون غوتزن زار ملكها عام 1884، وفي العام التالي أدى موت الملك إلى فوضى سياسية انتهت إلى وقوع البلاد تحت الحكم الألماني عام 1897. منذ ذلك الحين نشأ نظام سياسي ثنائي السلطة يعتمد فيه الحكام التوتسي على الدعم الألماني في فض نزاعاتهم وتكريس سلطتهم على الهوتو.
بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى قررت عصبة الأمم أن تنقل حكم رواندا بوصفها إحدى غنائم الحرب لبلجيكا. وكانت مصطلحات هوتو وتوتسي قد تكرست في الإشارة إلى "عرقين" متضادين فاعتمد البلجيكيون هذه الضدية في رسم سياستهم الاستعمارية. يرى لويس دي لاكير، وهو من مؤرخي رواندا من المبشرين، أن الروانديين حافظوا على لحمتهم الوطنية بالرغم من حقبة الحكم الألماني وأن هذه اللحمة هي الدافع الذي جعل المستعمرين البلجيك يعملون على تكريس الأسطورة الحامية التي مكّنتهم من تقسيم البلاد إلى عدوين متقابلين. لم يكن بوسع البلجيك الإدعاء أن وجودهم ضروري من أجل إحلال السلام بين فريقين متقاتلين لأن البلد كان آمنا. وهكذا اتجهوا إلى تكريس الانقسام فأرسلوا بعثة علمية تحمل معها أدوات الوزن والقياس وانتشروا في أرجاء رواندا يقيسون وزن الروانديين، وحجم تجويف الجمجمة ويجرون تحليلات مقارنة لمعرفة معدل بروز أنوفهم. وقد أثبت هؤلاء العلماء ما انطلقوا من أجل إثباته وهو أن للتوتسي مواصفات "أكثر نبلا" و "أرستقراطية" من الهوتو الجلفين الأقرب "إلى الحيوانات". في مجال الأنوف اكتشفوا أن معدل طول أنف التوتسي يزيد بمقدار ملمترين ونصف وأنه أضيق بحوالي خمسة ملمترات من معدل أنف الهوتو.
وهكذا انطلق الاستعمار البلجيكي الذي دعمته الكنيسة الكاثوليكية في إعادة هندسة المجتمع الرواندي على أسس عرقية مفترضة. وقد حذر الأسقف ألأول لرواندا ليون كلاس عام 1930 من أن السماح للهوتو باستلام زمام السلطة "سيؤدي بالدولة كلها إلى حالة من الفوضى وإلى شيوعية عنيفة معادية لأوربا." عمدت الإدارة البلجيكية في رواندا إلى تفكيك نظام الحكم المحلي الذي كان يسمح للهوتو بحكم مناطقهم تحت سلطة الملك التوتسي ففرضت على هذه المجالس نخبة من التوتسي المتعسفين وأمعنت في فرض الضرائب واستخدام الهوتو في أعمال السخرة، كما تواصلت في البلاد حملة تنصير واسعة بعد خلع الملك المستقل وتنصيب ملك مطيع اعتنق الكاثوليكية وفتح الأبواب أمامها حتى صارت رواندا أشد بلدان أفريقيا كاثوليكية.
لكن أخطر الإجراءات البلجيكية في تقرير مستقبل رواندا كان المسح الذي أجري عام 1933 ـ 1934 وصدرت بعده هويات شخصية تحدد الهوية "العرقية" للمواطن الرواندي فإما أن يكون من الهوتو أو التوتسي أو التوا (وهم أقلية تمثل 1%). تتمثل خطورة هذا الإجراء في أنه قطع الطريق أمام احتمال أن يتحول الهوتو إلى توتسي كما كان الحال من قبل وفرضت بذلك نظاما أقرب إلى التمييز العنصري. يقول غورفتش أن التعايش بين الهوتو والتوتسي استمر بالرغم من ذلك ولكن "مع كل تلميذ تربّيه المدارس على عقيدة تفوق أو انحطاط جنسه كانت فكرة الهوية الوطنية الجماعية تتحطم على نحو متزايد، وبدأت تتطور على طرفي الضدية توتسي ـ هوتو خطابات يطرد بعضها بعضا تعتمد على مطالبات متنافسه في الأحقية والحيف." (ص 57ـ 58)
يذكرنا غورفتش في سرده أن بلجيكا نفسها كانت أمة مقسّمة على أسس أثنية حيث هيمنت أقلية الوالون الفرانكفونية لقرون على الأغلبية الفلمنكية. لكن بلجيكا تمكنت بعد "ثورة اجتماعية طويلة" من تثبيت مبدأ المواطنة الذي حقق قدرا أكبر من المساواة. عندما وصل القسس الفلمنكيون البلجيك إلى رواندا بعد الحرب العالمية الثانية تعاطفوا مع الهوتو وشجّعوهم على المطالبة بتغيير سياسي. الأمم المتحدة من جهتها بدأت تضغط على بلجيكا لتمهيد الطريق أمام استقلال رواندا. وهكذا تزايدت نشاطات الهوتو للحصول على حقوقهم. في آذار 1957 نشر تسعة من مثقفي الهوتو كراسا أسموه "البيان الهوتي" طالبوا فيه بالديمقراطية، ولكنهم ارتكبوا خطأ كبيرا عندما انطلقوا في مطالبهم لا من رفض الأسطورة الحامية التي أسست للنزاع بل إلى تكريسها. وقد جادلوا إن كان التوتسي غزاة قدموا من أثيوبيا فإن رواندا لا تكون إلا بلدا للأغلبية من الهوتو. والأدهى من ذلك أن البيان رفض بحزم التخلص من نظام الهويات العرقية الذي أدخلته بلجيكا خوفا من " أن يمنع ذلك القانون الإحصائي من تأسيس الحقائق على الأرض." وبدا كأن كون المرء من الهوتو أو التوتسي يقرر تلقائيا طبيعة ولاءه السياسي. وقد وافقت السلطات البلجيكية على إجراء الانتخابات، ولكن قبل أن يرى الروانديون صناديق الاقتراع كانت أولى حلقات العنف العرقي قد بدأت في رواندا.
كان سبب اندلاع العنف تعرض ناشط سياسي هوتي يدعى دومينيك مبونيوموتوا عام 1959 للضرب على أيدي ناشطين سياسيين توتسي، وشاع بعدها مباشرة خبر مقتله بالرغم من أنه لم يمت في الهجوم. لم يمض أكثر من 24 ساعة على مقتل الناشط الهوتي حتى بدأت جموع هائجة من الهوتو بالهجوم على مكاتب سلطة التوتسي وبيوتهم. وانتشر العنف خلال أسبوع في معظم أنحاء البلاد فيما عرف انتفاضة "الريح المدمرة". كان من أشد المتحمسين لهذه الانتفاضة جنرال بلجيكي يدعى جاي لوجيست وصل رواندا قادما من الكونغو المجاورة بعد ثلاثة أيام من الاعتداء على الناشط الهوتي للإشراف على الاضطرابات. أما موقف هذا الجنرال فقد عبّرت عنه سلبية القوات البلجيكية التي وقفت جانبا تشاهد حرق بيوت التوتسي دون أن تتدخل، فتواصلت أعمال العنف. وقد أعلن لوجيست عام 1960 بينما بيوت التوتسي تُحرق "كان علينا الاصطفاف مع جانب ضد الآخر" وأضاف فيما بعد أنه لا يشعر بالندم على الوقوف ضد التوتسي. في ذلك العام عمل لوجيست على تنصيب زعماء هوتو بدلا من التوتسي ثم تمت الانتخابات في منتصف العام ففاز الهوتو بتسعين بالمئة من الأصوات. حينها كان حوالى 20 ألفا من التوتسي قد هجّروا من منازلهم وظل العدد يتزايد بجهود الزعماء الهوتو الجدد. كان الملك التوتسي بين المهاجرين.
لابد أن نتوقف هنا لمناقشة العلة الخطيرة التي رافقت الاحتكام إلى صناديق الاقتراع. وهو أمر ناقشه بتعمق نظري مرموق كتاب محمود مامداني. يرى مامداني "أن أخطر فشل عانت منه الثورة [ثورة 1959] هو عجزها عن تغيير الهويات السياسية هوتو/ توتسي التي أنتجتها القوة الاستعمارية. كل ما فعلته الثورة أنها شيدت بنيانها على هذه الهويات وكرستها باسم العدالة." (ص. 16) والأخطر من ذلك أن الثورة اعتمدت أسطورة أن التوتسي غرباء عن البلد وهو ما يؤدي عادة إلى مآسي التطهير العرقي، لأن الخلافات القبلية والإثنية يمكن حلّها في معارك محدودة أما التصدي لجماعة استيطانية قادمة من الخارج فإنه يتمثل عادة في المساعي إلى إبادة جماعية. لقد تحول التوتسي إلى مستوطن غريب بدلا من أن يكون جارا (ص. 14). يعمم مامداني تحليله فيقول "إن الفشل في التعالي على هذه الهويات يقع في صلب أزمة المواطنة في أفريقيا ما بعد الاستعمار." (ص. 14). ولقد وجدتُ أن أهم استبصارات كتاب مامداني تمييزه بين الهويات الثقافية والاقتصادية من جهة والطريقة التي يتم بها التعبير سياسيا عن هذه الهويات. فبينما الأولى حقيقة واقعة تكون الثانية أساطير تشكّلها الحكومات والحركات السياسية بحسب برامجها. وهكذا حولت السلطات البلجيكية الهويات الاثنية القبلية الثقافية إلى هويات عرقية. وقد وقعت الثورة الهوتية في هذا الفخ فتحولت الهويات العرقية على أيديهم إلى هويات سياسية ثابتة وهو الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى نتائج فاجعة.
هل كان بإمكان ثورة الهوتو حينذاك أن تتخلص من الهويات العرقية التي تركها الاستعمار البلجيكي خلفه وتؤسس لهويات جديدة تعتمد مبدأ المواطنة والمساواة الكاملة؟ كان ذلك أقرب إلى المستحيل لأن تمسك الهوتو بهويتهم السياسية الكولونيالية كان ضمانة احتكارهم السلطة، وكان الاحتكام إلى مبدأ المواطنة في ظل تزايد الفساد والتذمر لدى قطاعات واسعة من الهوتو كفيلا بخسارة السياسيين السلطة والنفوذ وهم الذين اعتمدوا الهوية الاستعمارية وسيلة للحصول على الشرعية.

كيف انتهى حكم الأغلبية إلى مأساة مروعة؟

في عام 1962 أعلن الرئيس الهوتي الأول غريغوار كايباندا (وهو من واضعي "البيان الهوتي") أن "الديمقراطية قد دَحرت الإقطاع"، وليته كان يعني ما يقول. كان الجنرال البلجيكي لوجيست قد ألقى كلمة في الحفل نفسه قبل مغادرة قواته رواندا قال فيها ما يُعد تحذيرا أقرب إلى النبوءة "لن تكون ديمقراطية إن لم تنجح في احترام حقوق الأقليات ... إن البلد الذي تفقد فيه العدالة هذه الخاصية الأساسية يمهد السبيل أمام أسوأ الاضطرابات ومصيره الانهيار." (كتاب غورفتش، ص. 61). يعلق غورفتش أن هذه النصيحة لم تكن تمثل روح الثورة التي وقف على رأسها لوجيست نفسه، ويرى مأساة رواندا في أن التغيير الديمقراطي الذي تحقق في عام 1962 لم يغير في شيء البنية الكولونيالية التي أسس لها الاستعمار، ولم يتعد التغيير قلب الصورة نفسها بحيث تضطهد مجموعة من السكان المجموعة التي كانت تضطهدها. هكذا طرحت عنصرية الهوتو نفسها بصيغة ديمقراطية شعبية وصار ثوار الهوتو ما أسماه الروائي ف. س. نيبول "رجال محاكاة" يعيدون إنتاج المظالم التي هبوا ضدها. عاشت رواندا في الستينات عقدا من التوتر والاحتراب سعت فيه حكومة غريغوار كايباندا إلى تأكيد عقيدتها الهوتية الضيقة وضربت عرض الحائط بمبدأ المواطنة الذي لا يَبقى للديمقراطية معنى بدونه.
في عام 1973 قام الجنرال جوفينال هابياريمانا وهو من الهوتو بانقلاب عسكري أطاح بكايباندا وأعلن تأسيس الجمهورية الثانية داعيا إلى إيقاف الهجمات على التوتسي لأن وقت العنف قد مضى وأن انقلابه يمثل اكتمال ثورة الهوتو. يرى البروفيسور مامداني في كتابه الآنف أن هابياريمانا قد بدأ فعلا بمعاملة التوتسي كإثنية محلية وأقلية لها حقوقها لكنه لم يفعل شيئا لحل مشكلة التوتسي الذين هُجّروا من البلاد في الأعوام 1953،1973،1963. بينما تحاور النظام مع توتسي الداخل فإن أزمة علاقته مع توتسي الخارج قد تفاقمت. وهو ما سيكون له أبلغ الأثر في التسعينات. فضلا عن ذلك فإن الرجل سرعان ما تحول إلى ديكتاتور عسكري يترأس دولة فاسدة لا تجد سبيلا إلى شرعنة نفسها إلا بتكريس النزاعات الإثنية ومواصلة الحكم بصيغة نحن وانتم. وقد أدى ذلك إلى زيادة أعداد اللاجئين التوتسي في دول الجوار كما أنه خلق معارضة لديكتاتوية النظام داخل صفوف الهوتو المعتدلين أيضا.
يقدم د. جيرارد برونيير في كتابه "الأزمة الرواندية: تاريخ إبادة جماعية" (صادر عن جامعة كولومبيا، 1995) خلاصة بحثه ومعرفته الدقيقة في الأسباب التي قادت إلى المأساة الرواندية عام 1994 فيجملها في النقاط التالية:
ـ الأسطورة العرقية التي نشأت وتأسست في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أي في حقبة ما أسماه أريك هوبسباوم "الإنتاج الواسع للتقاليد". وهي الحقبة التي أنتجت فيها أوربا "التقاليد" الخاصة بالجماعات على نطاق واسع في ميل، يرى برونيير، أن سببه كان الشعور بالضياع والتحوّل الذي أعقب الثورتين الصناعية والفرنسية. كانت أسطورة أن التوتسي "أوربيون تحت جلد أسود" ملائمة لمزاج القوى الاستعمارية الأوربية التي حكمت رواندا (ألمانيا وبلجيكا). وقد وجدت هذه الأسطورة قبولا حماسيا لدى التوتسي أنفسهم لأنها أكدت مكانتهم المتفوقة في المجتمع ودفعت المَلكية التوتسية التي كانت تسمح بقدر من الحكومات المحلية الهوتية من قبل إلى زيادة تركيز السلطة فيها على أسس عرقية. أما خطورة هذه الأسطورة بالنسبة للتوتسي أنفسهم فهي أنها لم تميّز بين شيوخهم المرفهين ومزارعيهم الذين عاشوا ظروف أقرانهم الهوتو سواء بسواء. يؤكد الكاتب أن "فئتي التوتسي والهوتو لم تكونا من ابتكار البلجيكيين لأنهما كانا جزءا مكوّنا لنسيج المجتمع. إلا أن ما ابتكره البجيكيون أشكالا ثابتة كان على الفئتين التواصل فيما بينهما على أساسها لكي تحققان الخيالات الأيديولوجية الجامحة للأوربيين وحاجاتهم العملية." (ص. 247)
مشكلة مثل هذه الأساطير أنها ما أن تُخلق حتى تحيا حياتها المستقلة كما هو الحال مع فرنكشتين ماري شيلي. بحلول عام 1940 كانت الأسطورة قد تحوّلت إلى واقع إذ بدأ الهوتو والتوتسي يتصرفون بانصياع كامل للصورة المفترضة التي رسمها لهم هذا التقسيم الوهمي. وهو ما يجعل ثورة 1959 التي رفعت لواء حقوق الهوتو تعتمد مطالب وهمية تحولت إلى واقع. فبدلا من المطلب الحقيقي المتمثل في إقامة دولة المواطنة والمساواة كانت الثورة ذات طابع عنصري نظرت إلى الفئة الأرستقراطية التي قمعت السكان جميعا بوصفها عرقا لا طبقة اجتماعية. تتمثل خطورة تلك النظرة الضيقة أن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية اتخذت طابعا ساكنا وميكانيكيا وصار الجدال الذي تعتمده الثورة: ما أن نتخلص من التوتسي الأشرار طوال القامة حتى يصبح حال البلاد على ما يرام. وهكذا تعطل النظر في مفاسد حكم الهوتو التي تضرر منها الهوتو أنفسهم وعُدّ التوتسي جميعا من الطغاة بينما الهوتو جميعا محرّرين. وهو ما يعني أن العقيدة العنصرية التي سادت قبل الثورة تواصلت بعدها ولكنها قُلبت على رأسها وصار من العدالة اضطهاد طغاة الأمس. وهو ما يصفه مامداني بتحوّل طلب العدالة إلى رغبة في الانتقام.
ـ العلة الثانية في ثورة 1959 تكمن في القوى التي رعتها. يُعرف عن الثورات أنها تغسل نفوس الأمم لأنها تخرج من رحم المجتمع، لكن ثورة الهوتو كانت وليدة رعاية الآباء البيض الأوربيين الذين رسموا لرجال الثورة الطريق الذي ساروا فيه عندما ثبّتوا التقسيم العرقي في الحياة السياسية الرواندية وحوّلوا الجدل السياسي المنتج إلى صراع عنصري بدائي بين كتل بشرية صماء تتنافس على البقاء. ما تمخضت عنه الثورة حملة ضد أقلية عُدّت كلها عدوة للعهد الجديد. ويعلق برونيير على ذلك بالقول "ما أن تم التخلص من المستغلين القدماء حتى تم تنصيب مستغلين جدد بدلا عنهم دون أن يُترَك لمن وقع عليهم الاستغلال مجالا لالتقاط الأنفاس." (ص. 348). لقد شهدت حقبة الستينات والسبعينات في رواندا حالة من الركود الشامل والقمع المتواصل الذي تلفع بلبوس الديمقراطية برعاية أوربية كاثوليكية. وهي بحسب برونيير حالة تجعل من المذابح المريعة التي حدثت عام 1994 تبدو وكأنها صورة مشوّهة لثورة جديدة دموية عبر بها الروانديون عن إحباطهم تجاه العقيدة الهوتية.
ـ كان النظام العسكري الذي دشّن الجمهورية الثانية في رواندا وجاء بالجنرال هابياريمانا إلى السلطة عام 1973 قد دعا إلى مزيد من التسامح مع التوتسي. وهي دعوة برّر بها انقلابه العسكري. ومن الغريب أن يكون خلاص مجتمع يدّعي الديمقراطية على يد عسكري يسعى إلى الاستبداد. يرى برونيير أن الجنرال هابياريمانا واصل الاعتماد على العقيدة الهوتية لكنه مارس القتل بانتقائية أكبر وحاول الحد من الفساد الإداري المستشري وهي إجراءات فتحت عليه خزائن الدعم الأوربي (كانت رواندا مثلا تُعدّ أكبر مستلم للمساعدات الخارجية التي تقدمها سويسرا في تلك الحقبة). تكمن أزمة نظام هابياريمانا في حقيقة أن الحكومة لم تطوّر الاقتصاد واعتمدت كثيرا على الإعانات الخارجية. عندما انهارت أسعار القهوة عالميا (وهي المنتج الرئيس في رواندا) في أواخر الثمانينات وتقلص الدعم الخارجي بدأ نظام هابياريمانا بالتفكك، وبدأ أعوان النظام يتصارعون فيما بينهم على الموارد المتناقصة فانطلقت شرارة الفساد والنهب في بلد كانت الكنيسة الكاثوليكية تشارك في حكمه مشاركة فعالة باسم الفضيلة. وترتب على ذلك زيادة التذمر لدى الهوتيين الذين جاءت الثورة لإنصافهم وبدأوا يعلنون غضبهم من المظالم والمفاسد في تنظيمات معارضة متعددة. في هذه الأثناء ظل المهجّرون التوتسي على الحدود يمثلون هاجسا مستمرا يثير لدى الروانديين مشاعر ملتبسة. ويشّبه برونيير طردهم بالنسبة للروانديين بجريمة قتل الأب التي وصفها سيغموند فرويد حيث يختلط الإحساس بالتحرر بالشعور بالذنب، وهو ما جعلهم طوطما ومحرّما في آن واحد.
ـ كان استفحال مفاسد الدولة العسكرية الهوتية قد تزامن مع وضع دولي متغير: انهار جدار برلين، ونظام شاوشيسكو والعقيدة الماركسية اللينينية عموما التي يرى برونيير أن الأنظمة الاستبدادية الرجعية في أفريقيا ظلت تقلّد أساليبها التنظيمية المتطورة وإن اختلفت معها في المبادئ. كل هذا السياق جعل قطاعات كبيرة من الهوتييين من المثقفين المثاليين وأصحاب الأعمال المحبطين والعناصر المهمشة من النخبة، والغرباء الطامعين، والناس الذين ملوا الركود وحلموا بمستقبل أكثر انفتاحا، كل هؤلاء اصطفوا في حركات سياسية جديدة للتصدي لنظام الحزب الواحد. وبالرغم من الأساطير العرقية التي قسّمت الروانديين وجد هؤلاء الناقمون الهوتو أنفسهم يتقاربون مع مئات الآلاف من التوتسي المهجّرين الذين كانت تمثلهم الجبهة الرواندية الوطنية في التصدي لديكتاتورية متشبثة بالحياة.
ـ الدور الفرنسي: تتردد في كتاب برونيير موضوعة التنافس العالمي المستمر بين الثقافة الفرانكفونية الفرنسية والثقافة الانغلوسكسونية الأمريكية. وعندما يحلل الكاتب العوامل التي أدت إلى النكبة الرواندية عام 1994 يرى أن الموقف الفرنسي دعّم من احتمالات وقوعها. كان الرأي العام العالمي موحّدا في إجبار الجنرال هابياريمانا على الجلوس إلى طاولة المفاوضات في أروشا عام 1993 لتوقيع اتفاق المصالحة مع الجبهة الوطنية الرواندية ممثلة الجناح العسكري للمعارضة التوتسية للنظام. لكن زوجة الديكتاتور هابياريمانا المتنفذة والضالعة في الفساد عدّت ذلك الاتفاق اعترافا بالهزيمة ولم يجد الناقمون على الاتفاق من أمل إلا في تدميره تدميرا كاملا. يرى برونيير أن هؤلاء الطامحين في إلغاء الاتفاق لم يكونوا ليتمادوا في مساعيهم التي انتهت إلى ارتكاب المذابح المروّعة لولا معرفتهم التامة أن الفرنسيين اعتبروا الاتفاق هزيمة لهم أيضا. لم تكن المذابح لتقع لو علم الداعون إليها أنها ستؤدي بهم إلى عزلة دولية كاملة، لكن قناعتهم بالتعاطف الفرنسي شجّعهم على الإقدام على فعلتهم. وما زال الجدل قائما حتى يومنا هذا بصدد المهمة الحقيقية لعملية التركواز الإنسانية الفرنسية في أعقاب المجازر مباشرة ومدى دورها في مساعدة المتورطين في المجازر على الهرب.
ـ يضيف برونيير إلى أسباب الكارثة آليات اجتماعية مهمة منها الطاعة العمياء للسلطة، وخوف الأهالي من عودة الشياطين التوتسي للتحكم بهم، والأمل في الحصول على غنيمة وسط الفوضى التي رافقت الأحداث. وهي أمور يشير إليها مامداني الذي يناقش بتوسع الحقيقة المفزعة في أن مئات الآلاف من الروانديين الهوتو قد شاركوا في المذابح بأسلحتهم البسيطة، وهو أمر يكشف خطورة التعبئة الإعلامية في نشر طاعون القسوة والعنف بين الأهالي. يقارن مامداني هذه المشاركة الواسعة من الأهالي في العنف بما حدث عند تقسيم القارة الهندية بين المسلمين والهندوس. ويكشف غروفتش في مناقشته للمساهمة الواسعة في القتل دور الإعلام المحوري في التمهيد لموجة العنف مشيرا إلى أن مثقفين على أعلى المستويات قد شاركوا فيه ومنهم داعية متحمس لإبادة التوتسي بوصفهم صراصير كان يحمل شهادة الدكتوراه من جامعة كندية!
ـ ينفرد برونيير بالتركيز على عامل الاكتظاظ السكاني حيث تضاعف عدد السكان في رواندا برعاية الكنيسة وتحريمها الحد من الإنجاب، وهو أمر ترافق مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، والنزاعات بين الجيران، والمشاكل العائلية حتى وجد الناس أنفسهم تحت ضغوط عديدة متضاربة: ضغوط الرغبة في أن يكونوا صالحين، وفي تحمّل الفقر، وتحمل الجيران، والأهم تحمّل ما يولده الفساد الحكومي من شعور بالإحباط في بلد لا يمنح الحق في التعبير عن الرأي. في ظل هذه الضغوط انطلقت الجموع عندما دعاها القادة مدفوعة بالرغبة في التنفيس عن احباطاتها وبقناعة مبسطة تامة أن التخلص من التوتسي نهائيا سيحل كل المشاكل!
اندلعت شرارة التطهير العرقي بعد سقوط طائرة الرئيس هابياريمانا ولم تخفّ حدتها إلا وقد قُتل ما لا يقل عن مليون ونصف المليون من الطرفين وهُجّر مليونان (وهو ما يعني أن رواندا فقدت نصف سكانها البالغ عددهم سبعة ملايين ونصف المليون نسمة). وقد استغلت الجبهة الوطنية الرواندية والمتحالفون معها من المعارضة الهوتية جو الفوضى والانفلات الأمني لتشن هجوما عسكريا انتهى بسقوط الحكومة المؤقتة. وبالرغم من أن الحكومة التي تشكلت على إثر ذلك كانت تحاول إنصاف الهوتو، إذ حصلت فيها أحزاب المعارضة الهوتية على أغلب الوزارات، فإن هذه الوزارات كانت خاوية لا سلطة حقيقية لها بعد أن اتبع النظام المدحور سياسة الأرض المحروقة وهو يقود مليوني رواندي إلى المهجر تحت تهديد السلاح. كانت السلطة الحقيقية متمركزة في يد الجنرال التوتسي بول كاغاني قائد الجبهة الوطنية الرواندية الذي ما زال يحكم البلاد حتى يومنا هذا. ما حدث بعد المجازر من مآس وأوبئة ومعاناة لهذا الشعب المنكوب أمور تبعث على الصدمة والذهول ولكنها لا تقع ضمن أسئلة هذه المقالة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت يقابلها تل أبيب-.. حزب الله يوسع دائرة هجماته ويتوعد


.. لحظة سقوط صاروخ أُطلق من لبنان على حيفا




.. قراءة عسكرية.. تكثيف الرشقات الصاروخية من حزب الله على إسرائ


.. عاجل | مراسل الجزيرة: غارات إسرائيلية على الضاحية الجنوبية ل




.. صحيفة هآرتس الإسرائيلية: منطقة مخيم جباليا لم تعد صالحة للسك