الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الابنية العقلية اللاواعية والتكوين البنيوي لوعي الذات

عباس يونس العنزي
(عèçَ حونَ الْيïي الْنٍي)

2013 / 11 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الابنية العقلية اللاواعية
والتكوين البنيوي لوعي الذات
اطلالة أنثروبولوجية
من أخطاء الفكر الشائعة والفادحة بنفس الوقت ( ولعلها أخطاء مقصودة أو محتومة فرضتها أزمنة بعيدة ) الاعتقاد البديهي بالحضور الفردي المفاجئ للإنسان في هذا الكون بصيغة المخلوق المكتمل والقادر على اجتياز التجربة بما ضُمٍن من أسس عقلية وفكرية متعالية ترانسندنتالية حسب وصف كانط ، سواء كان هذا الانسان مخلوقا صنعته الالهة الام سيدة الجبل ( نن هور سانكا ) والإلهة ننتو بذبح احد الالهة الارضيين ومن ثم مزج لحمه ودمه بالطين وصياغة المخلوق البشري الاول ( لولو ) أو آدم الطيني الفرد المعزول و المخلوق بإرادة رب التوراة والذي عٌلٍم الأسماء كلها بوصف القرآن فبدا مذهلا لصنف الملائكة التي خرت له ساجدة أو فورونيوس أول البشر حسب الاغريق أو القصص العديدة في كل النماذج الشبيهة التى وردت في الديانات والفلسفات المختلفة ، ذلك الانسان المكتمل في حقيقة قصته كان نموذجا أصما غير قابل للاستقصاء بنيويا ولده العقل البشري في سياق معاركه من أجل وعيه بذاته وفي مرحلة متأخرة جدا من النشأة الإنسانية ألأولى .
وفي فجر الوجود البشري المتأنسن وتمكنه من تسلق سلم الارتقاء النوعي والإحساس بالاختلاف عن كل الموجودات الطبيعية رغم اتصاله الوثيق بها لم يكن متاحا للفرد البشري قدرة وعي ذاته و تلمس حدوده الشخصية أو بمصطلح هيجلي امتلاكه للإرادة ، وتأسس العقل ( و تجسده المادي بالطبع ) على عدم امتلاكه تجربة فردية مستقلة إنما هو مستسلم تماما و مندمج كليا بتجربة القطيع الذي انتمى اليه بالولادة أو بكلمة أدق بالاستنساخ المرن الشبيه بالتبرعم في اطار تلازم طفيلي متبادل ، وكانت بنيته العقلية ذات طبيعة قطيعية تامة لا تعرف معنى الوجود الفردي المنفصل ، وهذا يعني انه كان يحدد وجوده بالمنعكس عبر احاسيسه عن عالمه الخارجي ، فالآخرون المتحدون بالامتداد الطبيعي بمحتوياته الزاخرة هم وجوده وهم معنى شخصيته ، بكلمة اخرى هو محض مرآة وليس ابعد لا تملك مضمونا مختصا بها وهو جزء من بنية عقلية شاملة تضم الجميع بوحدة فعلية .
في اجابة عن تساؤل مهم لرصد الاسباب التي وقفت وراء ولادة العقل القطيعي لدى الفرد وليس العقل الفردي المنطلق من الذات يمكن ان توصف تلك الاسباب بأرجحية وجود الكتلة الحية على اجزائها و بأنها انعكاس متطور لتلازم الخلايا في الكائنات متعددة الخلايا خصوصا ذات العقل المتقدم حيث تتشكل الاستعدادات الدماغية بناءا على التجارب التفصيلية لمكونات الكائن الحي ، وإذ تتضاءل بل وتنعدم فرص الحياة خارج الانتماء المطلق للكتلة القطيعية لذا بات من المستحيل على الوعي الفردي الارتداد للذات وتلمس حدودها ووعيها إنما الاستمرار بالانطلاق نحو الخارج اي نحو القطيع والاتحاد بوعيه . ان توجه العقل الفردي نحو القطيع ليس موقفا اختياريا إنما هو موقف متجذر في منطقة اللاوعي تحدده البنية العقلية المتفاعلة جدليا مع التجربة الفعلية العامة للقطيع بمفرداته التكوينية اي هو توجه موجود بـحكم الضرورة ، وفي طرح مميز يقول كارل ماركس " إن الناس يصنعون تاريخهم وهم يجهلون أنهم يصنعونه " فيما اشار كلود ليفي شتراوس في دراساته الى " دور الابنية العقلية اللاواعية " في رسم حياة الجماعات البشرية البدائية تلك الابنية التي تأسست عليها ابنية عديدة اخرى اكتسبت ذات الفحوى القطيعي اللاواعي ، ويمكن القول بتركيز ان الحوامل اللاواعية للأنظمة الحياتية المختلفة تمثل الاستعدادات الوراثية القائمة بمناطق اللاوعي والمتكونة عبر التجارب التاريخية الطويلة .
ان مسيرة تطور بنية الكتلة البشرية القطيعية المادية باتجاه الانفراط والتحول الى ذوات وكتل فردية تضمنت مراحل عديدة ( متصلة ومنفصلة حسب مفهوم ميشيل فوكوه ) سادها عنف شديد اتخذ في كثير من الأحيان طبيعة دموية اجتثاثية مارا بكل انواع الصراع المؤدي حتى الى تحويل بعض اجزاء الكتلة الى طعام يكفل استمرار بقية البنية وصولا الى الاقتناع الاضطراري بالعلاقة الطفيلية والتعايشية الاقتسامية عبر قوانين الكيمياء الحياتية ، كل ذلك تم في اطار ما نظر له الفيلسوف الالماني هيجل ومن بعده الفيلسوف كارل ماركس بالمفهوم الذائع الصيت " الديالكتيك " واسماه كلود ليفي شتراوس ( بعد ان قلص مضامينه ) ومن تأثر به مثل ميشيل فوكوه فيما بعد " بالتبادل ".
في مجتمع ما قبل الطبقة مثلت موضوعة التبادل صيغة علاقة انطلقت واتسعت على مستوى البنيات كافة : بنية التواجد المتجاور ، بنية القرابة وأحكامها ، بنية الاشارات والرموز والصور واللغة ، بنية الاقتصاد ، بنية الطب والعلاجات ، بنية الملبس و الزي ، وغيرها ومثلت القاسم المشترك للنشاطات القطيعية ومن بعد ذلك الاجتماعية حيث ان فيها كمن اساس الانتماء القطيعي وذوبان الذات وبنفس الوقت وهنا معنى جلي للمفارقة منطلق وعي الذات والانفصال الفردي الحاصل بفعل الانتقال البطيء ولكن النوعي نحو مناطق الشعور .
ان مغادرة عوالم القطيع وبدء مرحلة تحدد المجتمعات ومكوناتها الفردية لم يلغ قوى الشد التكتلية إنما ظلت تلك القوى تفعل باتجاه اختراع وسائل بنيوية تضمن استمرار التكتل الاجتماعي و تقاوم تدفق الوعي الفردي المتصاعد على مستوى البنيات كافة ووفق هذه التبادلية البنيوية ولدت اللغة كحاجة اجتماعية تؤسس لتفاهم اجتماعي عميق يعزز الانتماء الجمعي لكنها غدت بعد حين اداة الفرد لوعي ذاته والنأي بها بعيدا عن جماعته ومصالحها وفي أحيان ضدهما . هل هذا هو منطق الديالكتيك ؟ بالتأكيد هو كذلك . والتنويه هنا ضروري الى ان ولادة الوعي الفردي ليس ناتج عرضي كما قد يفهم إنما هو ضرورة حتمية لا بد منها .
وبفعل العمل ــ الذي تجسد تاريخيا بصيغة آلات وأجهزة و تكنولوجيا كما قال جورج لوكاش ــ وهو ايضا تجسد بعلاقات اجتماعية ونواتج لها فقد مثلت ولادة اللغة والتي هي بناء لا شعوري تنامى و تموضع وراء الانساق الصوتية تطويرا ثوريا مذهلا لقوى الشد الاجتماعي و تعزيز الوعي الجمعي للمجتمع ومن قبله القطيع وبذات المراحل فقد جرى تعزيز بنية المجتمع عبر وضع قواعد ثابتة لصلات القرابة مما دعم ابنيتها وساهم في الشد الاجتماعي وتعزيز الوعي الجمعي ، لكن المفارقة الجدلية تظهر بكل وضوح عندما نكتشف الدور الريادي الذي مارسته اللغة وكذلك انظمة القرابة في دفع الوعي الفردي للتميز والظهور الواقعي .
إن ثمة مفهومين غاية في الاهمية في مجال البحث ، وهما يشكلان ثنائية متقابلة يمكن ان تفسر عملية الانتقال من الاندماج القطيعي الى وعي الذات و هما مفهوم الابنية اللاواعية الذي انضجه شتراوس ومفهوم الوعي الفردي ، وقد استند شتراوس على اساس جدلي ماركسي في افتراضاته لكنه تخلى عن منطلقات ذلك الاساس ومسلماته الاساسية لصالح نظريات فرويدية اصلا وقد افترض وجود منظومة بنيوية تقوم وبحكم قوانينها بتوجيه كل المتغيرات الاجتماعية وميزة هذه المنظومة الجوهرية كونها لا واعية ، اي ان اللاوعي الفردي هو جزء غير منقطع من حالة لاواعية على مستوى المجتمع وهذا يماثل تماما مفهوم اللاوعي الجمعي لدى دوركهايم ، إن هذا اللاوعي الجمعي يتحكم بحالة التجمع القطيعي ويوجهه تحت تأثير فعال للغاية لعامل غريزة البقاء وسيستمر هذا التأثير ويصل الى التجمعات البشرية الاكثر تطورا متخفيا ومتخذا صورا متنوعة ثقافية وأخلاقية وسلوكية ، لكن هذا الفهم للبنى اللاواعية واجه معارضة شديدة من قبل جان بول سارتر الذي رأى ومن منطلقات ماركسية بحتة أن الوعي الفردي موصول بالفعل الفردي وهو لا يعترف بنمط النظام الذي افترضه شتراوس ولم يقبل بالقدر والحتمية التي تضمنها ذلك الافتراض مع انه تقبل قبل ذلك حتميات ماركسية عديدة ، يقول سارتر ( إن العالم يقع في الخارج كما لا تقع الثقافة واللغة في الفرد بل يوجد وعي الفرد في ثقافته ولغته أي داخل مجموعة خاصة من الشروط والفرد يكتشف وعيه بذاته أو بالأشياء عبر الممارسة فالوعي هو ادراك الواقع ) . ان افتراض وجود وعي الفرد في ثقافته هو تحوير لافتراض شتراوس البنيوي وإقرار بوجود بنية ممتدة في وعي كل الافراد لكنها ليست واعية اي انها غير مدركة من قبل الافراد رغم وجودها فيهم . وإذا كان الوعي هو ادراك الواقع فإن وعي الذات هو ادراك الذات بعيدا عن الواقع .
يقول فرانسوا فال ( ان غير المتعقل يمكن ان يقال عن اللاشعور على اعتبار انه توأم الانسان أو ظله وهو غريب عنه وقريب منه في نفس الوقت ..... وهو يذكرنا بالشيء في ذاته عند هيجل والاغتراب عند ماركس والمتضمن عند هوسرل ) ، وعلى مستوى البنية فالكوجيتو الديكارتي هو وظيفة مؤسسية حيث ان هناك قوى ثقافية واجتماعية تدعم بالفعل كوجيتو جمعي مادي متغلغل الاصول في الواقع وهذه القوى هي التي حاول ميشيل فوكوه اكتشافها في كتاب اركيولوجيا المعرفة .
إن التاريخ الفعلي لتطور الوعي الفردي بقي محكوما بجدل الموت والتطور البيولوجي المميز للدماغ وفي مرحلة متقدمة التحقت بهذه الوحدة وكناتج لعمليات التبادل واسعة النطاق واقعة الطبقة كونها طرفا اساسيا في انضاج الوعي الفردي ودفعه بعيدا عن هيمنة اللاوعي الجمعي مع ولادة واستمرار لذاكرة اجتماعية مفعمة بأحداث الماضي البعيد حيث تحولت الى اساطير و ميثولوجيا تفصل بين الاثنين - الوعي الفردي واللاوعي الجمعي - وبنفس الوقت تربطهما بقوة وشد متصاعد ما دامت مرحلة الأذن والفم على حد تعبير مارسيل دينيان قائمة ومستمرة .
ان الصدمات و حالات الكبت الجمعي تحولت مع السنين في الذهن الفردي الى بنيات من صور و افكار و قصص و اساطير و طقوس وسحر وديانات وأنظمة اخلاقية وقانونية عززت اندلاع الوعي الفردي ومنحته القدرة على استكمال حدوده ورسمها ليتميز ويفترق عن سطوة بنية اللاوعي الجمعي وهيمنته لكن لن يكون باستطاعته ابدا مغادرة فضاء البنيات اللاواعية ولا اقتلاع جذوره منها . يقول مهدي عامل في كتابه " مقدمات نظرية " ( يستحيل على الفكر الفردي ان يكون بعلاقة تفاعل مباشر مع الواقع الاجتماعي فعلاقته بهذا الواقع تمر بالضرورة عبر علاقتها بالبنية الفكرية التي تحدده كما ان علاقة هذه البنية بالواقع تمر بالضرورة عبر علاقتها بالبنية الايديولوجية التي تحتويها ) وهكذا يتكشف لنا ذلك التلازم الصارخ بين الوعي الفردي والبنيات اللاواعية التي تتحكم به ، إن انسان اي عصر لا يمكنه ان يكتشف ذاته إلا متصلة بنسق تاريخي كامل عبر البنيات التي تألفت في تكوينه العقلي والنفسي ومن ابرز تلك البنيات اللغة وما تمنحه من قدرة على الفهم والتوجه نحو الذات بمركبة مصنوعة من مواد اللاوعي الجمعي تضم البنية الميثولوجية وما تتضمنه من اساطير .
قدم كلود ليفي شتراوس بحوثا كبيرة في هذا المجال واستفاد الى حدود واسعة من الخبرات العظيمة للعلماء الرحالين والمستكشفين الذين اتجهوا الى امريكا وأفريقيا وآسيا و استراليا لمواجهة المجتمعات العائلية والقبلية البكر وجمع ودراسة اساطيرها وقصصها وما يرتبط بها من طقوس ورقصات و اعياد ، كما استفاد بعمق من استنتاجات ونظريات رومان جاكوبسن اللغوية والتي عدها الهاما مهما من حيث تحويلها علم اللغة الى دراسة البنيات التحتية اللاواعية ودراسة العلاقات التي تنتظم الكلمات والمسميات وطرح مفهوم النسق ، كما إن جاكوبسن نفسه اوضح مفهوم المتعارضات الثنائية بين السواكن والصوائت من ناحية وبين العلاقات المتضادة في وظائف اللغة من ناحية ثانية ، وقد رأى شتراوس أن العلاقات المتضادة في الاسطورة تتطابق مع العلاقات المتضادة في اللغة .
لكن ثمة موضوع آخر يرتبط باللغة ومن ثم بالأساطير كونها كائن لغوي وفي نهاية الامر بمسيرة تكوين الوعي الفردي وهو انظمة القرابة باعتبارها ذات وظيفة تواصلية . فقد استلهم شتراوس افكار سيغموند فرويد الذي قرأه فلسفيا وليس اكلينيكيا كما قالت أديث كروزويل واستفاد منها في دراسة اساطير المجتمعات البدائية ومنها على سبيل المثال اسطورة تحول الاخت الى قمر و الاخ الى شمس ليظهر العملية الجدلية للتحول بين الاثنين من حيث علاقتهما بسفاح المحارم . لكن الامر يتضمن فعلا جدلية التحول الى معرفة الذات والانشقاق عن اللاوعي الجمعي حيث تأكد وجود الذات الممتلئة قطرة فقطرة برغباتها ومتطلباتها الفردية بعيدا عن ضرورات الاندماج الاجتماعي وحيث اكدت التجربة النتائج المفجعة لسفاح المحارم على مستوى التناسل البيولوجي أو في اطار الصراع العائلي الابوي مع الابناء ومع سائر اعضاء العشيرة ، وفي كل الاحوال بات وعي الذات المصدومة والمتطلعة لحدودها الشخصية مقدمة لولادة بنيات اخرى دفعت بذات الاتجاه .
ولاستكمال الأفكار ومنحها عمقا كافيا لابد من استعراض البنيات المترابطة الثلاث بارتباطاتها ودورها في النشوء التاريخي لوعي الذات والانشقاق عن اللاوعي الجمعي ،فقد كانت ابحاث فرديناند دي سوسير في علم اللغة عام 1916 منطلقا اساسيا ومهما لدراسات ظهرت لا حقا رسمت بكل وضوح انتماء اللغة للأبنية اللاواعية في العقل الانساني ، وقد ورد هذا المفهوم بوضوح لدى كلود ليفي شتراوس الذي بين ان علم اللغة هو الانتقال من دراسة الظواهر اللغوية الشعورية الى بنائها اللاشعوري التحتي أي الى ذكاء صوري يعمل على تنقية الواقع اي تخليصه من التفاصيل الثقيلة والتمسك بالضروري واستبطانه عبر بناء استعدادات دماغية تذكرية نشطة قابلة للتوريث حيث يستبعد المعاش وتبقى سلسلة الصور والرموز اي ان هذا المستوى يكشف معنى الوعي الجمعي اللاشعوري المستقطب لكل مكوناته الفردية نحو مركزه وفي هذا المعنى طرح ميشيل فوكوه مفهوم المنطوق والمستوى المنطوقي وقال في "الكلمات والأشياء " : ( إن المستوى المنطوقي يجب ان يدرس هذا الوجود المفرد والمحدد للغة وذلك بأن يتجاهل ما لها من قدرات على نقل المعنى أي يتجاهل المدلول اللغوي كي تنصب الدراسة على نسق الدال ) ، فنسق الدال وهو المستغني عن المعنى يشير الى البناء اللاواعي وغير القادر على الانفصام عن الوعي الجمعي اللاشعوري ، و ذلك لا يستطيع الغاء الترابط بين هذا المستوى المنطوقي والمعنى الجماعي المشترك لكل مفردات بنية اللغة بل هو يؤكدها ، وبنفس الوقت فهو يشير من طرف خفي الى الاستعداد الكامن للانعزال باتجاه الذات ذلك الاستعداد المتمسك بقارب المعنى للنجاة من هيمنة المجموع وتقييده للذات الفردية .
ان كل الانساق اللاشعورية ومنها اللغة في بنيتها التحتية هي في حقيقتها وسائل استعباد للذات الفردية ومسح دائب لحدودها ودمج لها بالمجموع وبنفس الوقت فهي المنطلق الضروري الى درجة الحتمية لتحررها من سطوة المجتمع و ادراكها الواعي لوجودها ، و ايضا فإن ضرورة امتداد اللغة والبنيات اللاواعية الاخرى من ذلك المستوى الى مناطق الشعور هو جزء جوهري من مسيرة وعي الذات وحتميته ، والتصرف اللاشعوري بموجب البنيات التحتية المخفية ينتقل مع الكلمات ( أو مع انظمة القرابة أو الانظمة الميثولوجية ) الى وعي بالذوات الاخرى عبر عملية التبادل " أو لنقل الديالكتيك بمصطلح اعمق " وبنسبة اقل لكنها متزايدة تدريجيا الى وعي بالذات .
يقول كلود ليفي شتراوس : ( إن اللغة ظاهرة اجتماعية وتعرض الخاصتين التاليتين ..تقع جميع التصرفات اللغوية تقريبا على مستوى الفكر اللاواعي ونحن لا ندرك قوانين الغة النحوية والصرفية كما لا نملك معرفة واعية عن الوحدات الصوتية التي نستخدمها لتمييز معاني ما نقوله ) و شتراوس يؤكد ان الذات الفردية لا تملك اي وعي بكل اصول وقوانين اللغة النحوية والصرفية كذلك لا تملك وعيا بالوحدات الصوتية المكونة عبر اشتراكها مع غيرها للحروف والكلمات لكنها رغم ذلك تتكلم اي تنقل المعاني عبر اللغة ، إن هذه الوظيفة اللاحقة والمطورة للغة اي نقل المعاني هي واحدة من اعظم وظائف و ادوات الذات المفردة لوعي وجودها حيث ترجمت بكل دقة كل مختزنات الابنية اللاشعورية بواسطة الكلمات الدالة على الاشياء ومن ثم على الافكار لينتج إرثا هائلا من المضامين الفكرية والتخيلية ومنها الاساطير و البنيات الميثولوجية . يذكر شتراوس ان دي سوسور ميز بين اللغة والكلام واثبت ان اللغة تعرض جانبين مهمين الاول بنيوي والثاني إحصائي ، فاللغة تنتمي الى زمن قابل للارتداد والكلام ينتمي الى زمن غير قابل للارتداد ، ان سوسور يؤشر بعبقرية كون الكلمات هي التي قادت الفرد لوعي ذاته من خلال الالتصاق بزمن قائم غير مرتد الى الجماعة و الى الوعي اللاشعوري . لقد جلبت اللغة الكلام وهذا بدوره جاء بالأساطير التي انطلقت من خزائن اللاشعور لتصاغ كحلم اجتماعي راح ينحت الوعي الفردي ويبرزه في كل البنى الجمعية اللاواعية .
ان ما تحت اللاشعور يحتوي على المخزون الأكثر ثراء من الذكريات الجمعية ومن الاساطير المتصدية بدرجة اساسية للكوارث الطبيعية الجسيمة المهددة بفناء جماعي والتي هي بمثابة وسائل اتصال مع الجماعة توثق وتنعش تلك العلاقات الاندماجية القديمة و تتحول في احيان كثيرة الى ادوات طقسية استشفائية ، والقليل منها تشبث خجول مقاوم للذات بوعيها الفردي المتصاعد والمعارض للاندماجية الاولى كل ذلك متجسد في تكوين دماغي هندسي قابل للإنعاش و اعادة رسم الصور وتحريكها ، ويقول يونغ في تأكيده على خطورة دور الاساطير عند المجتمعات البدائية ( الاساطير تتخذ معنى حياتيا إذ أنها لا تقدم تصورات وحسب لكنها الحياة النفسية للقبيلة البدائية تلك القبيلة التي قد تتهاوى وتختفي على الفور إن هي فقدت تراث أجدادها الاسطوري تماما مثل انسان يفقد روحه ) .
وفي الديانات الأولى " الطوطمية " المبنية على تقديس الاباء الميتين او المقتولين يظل الفرد مندمجا بالجماعة وغير قادر على الاحساس بوجوده الذاتي رغم ظهور بداية التصغير الإنتمائي الى عشيرة معينة ومن ثم عائلة صغيرة وهنا تبرز المقاومة العنيفة لمسيرة وعي الذات المارة من خلال عملية تصغير الانتماء والتي تمثلت بالطقوس الدينية وقوانين التحريم المتشعبة والتي تدفع الفرد الى قلب الجماعة لتديم اندماج وعيه بوعي الجماعة وتمنعه من الانشقاق عنها . ولكن كان لتجربة موت الآخرين المتكرر واختفائهم من التجربة الشخصية الناشئة بما يمثلونه من قيمة ضرورية ( كونهم يمـثلون التجسيد المادي لهيمـنة الوعي الجمعي اللاشعوري ) له الأثر العظيم في تكيف العقل الفردي واستدارته باتجاه ذاته ، ونستطيع ان نلمس بانكشاف تام الدور الذي لعبته مسألة الموت في تأليف الجزء الاعظم من البنية الميثولوجية البدائية للفرد وهي تحدد ملامح بدايات انشقاق الوعي ألفردي وقد كان موت انكيدو عاملا حاسما في انعزال جلجامش وتطور احساسه بفرديته ووعيه بذاته المتألمة واندفاعه للحفاظ عليها بمحاربة الموت ومقارعته بغض النظر عن طبيعة استنتاجاته العاجزة النهائية ، لقد مثل انكيدو تشخيصا للمعونة السماوية الآتية من مجمع الآلهة بمعنى الآتية من الابنية اللاواعية للعقل الجمعي والتي لم تستطع الصمود مع التنامي الكبير للوعي الفردي لدى بطل الاسطورة لينتهي الامر بالانحسار المفجع لتلك المعونة ذات التأثير المهيمن وهزيمتها بتبددها وموتها وتبلور واستقرار الوعي الذاتي عند جلجامش في مسيرته الظافرة لكنها المتألمة والباحثة عن حل لمعضلة الموت الفردي . ومن الجلي أن هذه البنية الاساس ( أي التعامل اللاشعوري المرعوب مع واقعة الموت ) مازالت تشغل كامل فضاء اللاوعي الفردي وهي موجودة في اعماق العقل البشري ومنها تنطلق مجالات القوة المجتمعية الرابطة التي تحول دون فناء البشرية وبالتأكيد وبتوسع مسوغ دون انهيار الوجود الحيواني بأكمله .
إن ولادة الاحساس بقسوة واقعة الموت مرتبط تماما بانشقاق الوعي الفردي وتمرده على قوى الشد الاندماجية التي تشل وعيه بذاته وتدفعه للاستسلام الكامل للأبنية اللاواعية ، فالموت لا يمثل معضلة جذرية لمجتمع باق ومستمر بأبنيته رغم موت بعض أجزائه مادام قادرا على التعويض بل والتضخم لذا ليس هنالك جذر للمعاناة الفردية من الموت في الابنية اللاشعورية الجمعية ، لكن حالما ولدت بدايات الوعي الفردي انطلق الاحساس المرعوب من تلك الواقعة الغامضة المخيفة التي تبدد وجود الفرد من دون اية ردة فعل جماعية وتشكل بعمق في كل بنيات الوعي الفردي اساس للتعامل الاسطوري معها .
ان الاساطير البدائية الأولى ظلت حبيسة في فضاء بنية اللاوعي الجمعي وانعكست على ما ورد فيها من معالجات لمسائل أنظمة القرابة ، فتلك الانظمة ولدت وتطورت في اطار جدل الفناء الجماعي والعلاقات التبادلية مع العائلات والعشائر الأخرى المجاورة حيث وضعت قواعد صارمة للزواج تمنع الزواج الداخلي وتضع سلسلة من اوامر التحريم الاجتماعية على مستوى الفكر اللاواعي ، يشير شتراوس الى ان أنظمة القرابة مثل الأنظمة الفونولوجية يعدها العقل على مستوى اللاوعي ويرى ايضا ان انظمة القرابة هي لغة لكنها ليست كلية .
لقد ساهمت انظمة القرابة والصراعات التي ادت الى اختراقها او تغييرها على مدى زمني طويل بفعالية في انشقاق الوعي الفردي ونشوئه ويمكن ملاحظة تفاصيل تلك المساهمة في اساطير المجتمعات البدائية التي جمعها و درسها علماء الانثروبولوجيا والتي تشير وتحدد طبيعة العلاقات الاجتماعية وصيغ الزواج وصلات الأعمام والأخوال وكذلك عقوبات الانحراف عنها ، كما يمكن دراسة مسألة الصراع ضد القوى الاندماجية للمجتمع البدائي المنطلقة من انظمة القرابة في اساطير مثل أوديب و الالياذة و الاوديسة وغيرها من اساطير اليونان القديمة والتي اسماها فوكوه بأساطير ما بعد بابل .
ان الوعي الفردي رغم تعززه عبر الحقب الطويلة فهو يحاول قدر ما تسمح به البنيات الفردية الاصيلة في لاوعيه العودة الى حالة الاندماج القطيعي والتخلي عن الذات ويتخذ من اشكال النشاط الادبي والفني وسيلة لذلك و لننظر الى دريد بن الصمة وهو يصف التناقض الحاد بين ذاته وجماعته ويقر بأولوية انتمائه على ذاته :
وما انا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية ارشد.....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا تعلن استهداف خطوط توصيل الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا |


.. أنصار الله: دفاعاتنا الجوية أسقطت طائرة مسيرة أمريكية بأجواء




.. ??تعرف على خريطة الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية


.. حزب الله يعلن تنفيذه 4 هجمات ضد مواقع إسرائيلية قبالة الحدود




.. وزير الدفاع الأميركي يقول إن على إيران أن تشكك بفعالية أنظمة