الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوكرانيا بين خيار التقسيم والتوازن الإستراتيجي الدولي, الحلقة الثانية: المدخلات الجيوسياسية والرؤية الأوراسية في الأزمة الأوكرانية

هيثم الحلي الحسيني

2014 / 3 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


مقاربة تأريخية وجيوسياسية
الحلقة الثانية
المدخلات الجيوسياسية والرؤية الأوراسية في الأزمة الأوكرانية
هيثم الحلي الحسيني
الباحث في الدراسات الإستراتيجية
المتخصص في العلاقات السوفيتية العربية
واجهت الدولة الأوكراينية منذ إعلانها, إثر تفكك الإتحاد السوفيتي, وتشكيل الدول المستقلة, وفق حدود جمهورياته السوفيتية السابقة, في العام 1991, المشاكل والأزمات الداخلية, نتيجة تقاطع التطلعات والإهتمامت بين الاقاليم الشرقية والجنوبية من جهة, والغربية من جهة أخرى, فالغرب الأوكراييني, يتطلع الى التقرب مع الاتحاد الاوروبي وحلف "الناتو", الذين باتا يستميلانه اليهما, مع تقديم الأحلام الوردية ضمن الفردوس الأوربي, بينما الشرق والجنوب والأوكرايني, يتطلع الى علاقات أوثق بالشقيقة الكبرى روسيا, ضمن المصالح المشتركة, وأواصر القربى والتأريخ والثقافة المشتركة, ولضمان الدعم الروسي السياسي والإقتصادي, وبهدف استمرار النفوذ والحضور الكائن لروسيا, في الحالة الأوكراينية.
وقد استمرت حالة التجاذب وإثبات الذات, حتى قيام ما دعيت بالثورة البرتقالية, التي أطلقت ربيع الدول السوفيتية والإشتراكية السابقة, والتي دعيت بالثورات الملونة, فقد اندلعت شرارتها, عبر سلسلة من الإحتجاج والإعتصامات والتمرد المدني, ضمن الأحداث السياسية وقعت في أوكراينيا، بين العامين 2004 و2005, في أعقاب جولة إعادة التصويت على الإنتخابات الرئاسية, التي رفضت نتائجها، وقد كانت العاصمة كييف, هي المحور والمركز لها, وبالذات في ساحة الإستقلال, أو "الميدان", كما يسميها الأوكرانيون, ولا يخف الجذر المشترك بالعربية في المفردة, مما يؤشر التواصل التأريخي, بين الشعبين.
وقد دفعت تلك الأحداث, العملية السياسية إلى حالة الإنسداد والاختناق، بسبب الصراع والتجاذب، الذي ارتبط بالرموز القيادية المحركة للأزمة, والمتنافسة لكسب جولات السباق السياسي, فقد مثّل الغربيين, "فيكتور يوتشينكو"، الذي كان يقود حزب أوكرانيتنا أو أوكراينيا لنا "ناشا أوكراينيا", فيما كان في سدة الرئاسة, الرئيس "كوتشما", المنتهية ولايته في العام 2005.
وبرزت في الحياة السياسية, زعيمة كتلة الأقلية النيابية, "يوليا تيموشينكو", التي تسمّى بحسناء السياسة الأوكرانية, والتي تقود تحالف الوطن أو أوكراينيا الموحدة, "رودينا في الروسية, أو باتكيفشينا في الأوكرانية", وهي ذات أصول أرمنية, ومن مدينة "دنيبروبيتروفسك" الشرقية الوسطى, ذات الأغلبية الناطقة الروسية, بما يفترض تقاربها من التعاطف مع مواطني الشرق والجنوب, لكن توجهاتها الليبرالية المتطرفة, وإستخدامها المال السياسي, وأدوات ثروتها الكبيرة, المدعومة من الغرب الأوربي وحلف "الناتو", جعلها تحض بتأييد كبير, في أقاليم الغرب الأوكرايني, مما يؤكد حضور العامل السياسي الإقتصادي, والعقدي "الأيديولوجي", في الأزمة, ودون تسطيحها بالمدخلات العرقية والمجتمعية حصرا.
وفي طرف الأقاليم الشرقيية والجنوبية, التي تشكل الحجم الأكبر من البلاد, تواجد رئيس الوزراء "فيكتور يانوكوفيتش", الذي يقود حزب الأقاليم "PARTEA REGEONOV", والذي يلق الدعم من روسيا, وشعب أقالم الشرق والجنوب, من الأوكرانيين ذوي الأصول الروسية أو الناطقين بالروسية, وكان يتطلع لكسب الإنتخاب, وفق معطياتها المعلنة, ومعه حلفاءه زعماء كتل الأغلبية النيابية, الممثلين لرجال المال والصناعة, وتنظيمات اليسار.
أصدر الرئيس مرسوماً جمهورياً بحل المجلس النيابي "الرادا"، وتحديد جولة جديدة للإنتخابات, فكان رد الكتلة الأغلبية النيابية, بقيادة رئيس الوزراء "يانوكوفيتش", بالرفض بحجية تعارضه مع الدستور، وقرروا الإستمرار بممارسة مهامهم, في السلطتين التشريعية والتنفيذية, فكانت الشرارة لقيام "الثورة البرتقالية", التي تفاقمت أحداثها, وحسمت نتائجها, بدعم غربي أوربي, أو أن الغرب قد استحوذ عليها, بعد أن كانت نتاجا شعبيا وشبابيا, "تحاكي بذلك أحداث ثورات الربيع العربي, بعد عقد من الزمن.
فكان بنتيجة الإحتجاج والتمرد والإعتصام, الذي حرّضت عليه "يوليا تيموشينكو", وحليفها الموالي للغرب, "فيكتور يوتشينكو", الضغط على المحكمة الدستورية, لتحكم لصالحهما, وليتولى "يوتشينكو" سدّة الرئاسة, أوائل العام 2005, بحضور وزير الخارجية الأمريكي, ولفت أن زوجة الرئيس "كاترينا", تحمل الجنسية الأمريكية, وعملت في الخارجية الأمريكية, وقد تولت "يوليا" رئاسة الوزراء, وفق برنامج سياسي وإقتصادي ومجتمعي, يتماهى ورؤى الغرب, ويتقاطع مع المصالح الروسية, ومتبنياتها الجيوسياسية, وأمنها الإستراتيجي في مجالها الحيوي.
وقد حاول الرئيس, ممارسة التوازن بين طرفي النزاع والأزمة, وذلك كان صعبا, خاصة إثر التقاطع مع مصالح الرأسمال الصناعي, في مدن الشرق الأوكرانية الكبرى, مثل دونيتسك, وخاركوف, ودنيبروبيتروفسك, وماريوبل, وزابوروجي, إضافة الى خلافه مع حليفته "يوليا", الذي إنتهى الى إقصائها من منصبها, بعد عام من توليتها, فتم في النهاية, إقصاء "يوشينكو" من سدة الرئاسة, بعد أن تعرضت حياته للخطر, ووجهه للتشوه, دون أن يعلن سببه, وبالتالي حسمت الإنتخابات في العام 2010, الصراع السياسي لصالح الكتلة الأوكرانية الشرقية, أو الناطقة بالروسية, إذ سجلت روسيا بذلك, نصرا إقليميا على الغرب, ودفعا لتثبيت حضورها في الإقليم, ونفوذها في حوض البحر الأسود, وعلى مشارف الوسط الأوروبي.
وقد تأكد هذا النصر الروسي لاحقا, في أزمة جورجيا "كروزيا", إثر اندلاع الثورة الوردية فيها, ضمن مسار الثورات الملونة, وهي الجمهورية السوفيتية السابقة, في منطقة ما وراء القفقاز "زا كفكازيا", مع جمهوريتي أذربيجان وأرمينيا, والتي أنجبت الزعيم السوفيتي التأريخي "جوزيف ستالين", الذي قاد الإتحاد السوفيتي, الى الإنتصار التأريخي, في الحرب العالمية الثانية, أو الوطنية العظمى, وفق الأدبيات الروسية.
وبنتيجة الحضور والتدخل الروسي, في العام 2008, تم إستقلال إقليمي "أوسيتيا الجنوبية" و"أبخازيا", عن جمهورية جورجيا, مستقطعة عنها, الجزء الكبير من الساحل الشرقي للبحر السود, بدعم وإعتراف روسي, وتدخل عسكري جرئ, كان مفاجأة لأوروبا وحلف "الناتو", وبداية للحضور الدولي الفاعل, للدولة الروسية وقدراتها العسكرية, والكشف عن مكنوناتها الإستراتيجية.
كما أن تلك المرحلة التأريخية, تعد بداية النهاية, للإستراتيجية الأمريكية, القائمة على التدخل العسكري وسياسة الأمر الواقع والحسم بالقوة, والنظام الدولي أحادي القطبية, التي مارستها في البلقان وأفغانستان والعراق, بما عرف بالحروب عن بعد, أو "السبرانية cybernetic wars", فبدأ بعدها التعدد القطبي, بإسترداد عافية روسيا, فضلا عن بروز دور الصين, وقوى دولية أخرى, في أوروبا وآسيا, مما جعل الولايات المتحدة, تعمل وفق اسلوب القيادة من الخلف, والشراكة في إدارة الأزمات, وذلك قد ظهر جليا, في إدارة الملف النووي الإيراني, والصراع في سوريا, وغيرها من التوترات الدولية, وفي مقاربة الأزمة الأوكرانية لاحقا.
مقاربة جيوسياسية لدول أوراسيا السوفيتية السابقة
ظهرت سياسة إستمالة مجموعة رابطة الدول المستقلة, SNG, "وهي جمهوريات الإتحاد السوفيتي السابق", لتلحق في المجموعة الأوربية ونظمها, عدا دول آسيا الوسطى الخمس, وهي "أوزبكستان وكازاخستان وطاجكستان وكيركيستان وتركمنستان", والتي حسمت أمرها, ضمن المشروع الأوراسيوي, نتيجة بعد موقعها الجغرافي, عن مناطق النفوذ الغربي, وتشابك مصالحها السياسية والإقتصادية والسكانية, مع الجارة الكبرى روسيا, وتحت خيمتها, وبتأثير عرّاب المشروع, الرئيس الكازاخستاني, والقيادي السوفيتي السابق, حليف روسيا القوي, نور سلطان نازارباييف.
في حين شمل الإستهداف الغربي, الدول السوفيتية السابقة, الواقعة في الجغرافية الأوربية, بهدف تقريبها من الحضيرة الأوربية, ضمن نظم وتشكيلات الإتحاد الأوربي, بدعم سياسي ومالي وإقتصادي أمريكي, كما فعلت وأنجزت, مع الدول الإشتراكية السابقة, في شرق أوروبا, الأعضاء في حلف "وارشو" المنحل, والتي أصبحت أعضاءً في الإتحاد الأوربي, وتختط سياساته ورؤاه الإستراتيجية.
لكن تلك السياسة الغربية, لم تفلح مع الجمهوريات السوفيتية السابقة, نتيجة الحضور الروسي الفاعل فيها, سياسيا وإقتصاديا وسكانيا "ديموغرافيا", بإستثناء الجمهوريات البلطيقية الثلاث, وهي إستونيا ولاتفيا وليتوانيا "ليتفا", لخصوصياتها التأريخية والسياسية والسكانية, إذ التحقت مؤخرا في الإتحاد السوفيتي, بنتيجة الحرب العالمية الثانية, دون أن يكتمل تطبيعها فيه, وانفصلت عنه في العام 1990, قبيل تفككه بعام, معلنة إستقلالها وباعترافه رسميا, تحت ضغوط دولية, لتكون الحجرة الأولى في انهياره, ثم انضمّت الى الإتحاد الأوربي, في العام 2004.
ولأجل تكرار التجربة "البلطيقية", مع الجمهوريات السوفيتية السابقة الأخرى, فقد عمد النظام السياسي الأوربي, وبدعم من الولايات المتحدة, الى ممارسة سياسة الطرق على وتر الإقتصاد, وهي الذراع الأكثر إيلاما, في هذه الجمهوريات الفتية, التي ورثت أعباءً ثقيلة, من الحقبة السوفيتية, ولكن الجدار الروسي الصلد, وتشابك المصالح لتلك الجمهوريات, مع الشقيقة الكبرى روسيا, حال دون ذلك, فضلا أن ما يمكن أن تقدمه أوروبا والولايات المتحدة, لا يغني عن الدعم والإسناد الروسي لها, الذي يتمدد في الإقتصاد والبناء والإعمار والطاقة, وحتى نواحي التعليم والثقافة.
وعليه لم يكتب لتلك السياسات النجاح, وفق الأساليب التقليدية المباشرة, وخاصة في الحالة البيلاروسية والملدافية والأوكراينية, فضلا عن جمهوريات وراء القفقاز, وهي جورجيا "كروزيا" وأرمينيا وأذربيجان, التي عدّت ضمن الجغرافية الأوربية, بما في ذلك الأنشطة الدولية, في نواحي العلوم والرياضة والثقافة والفنون, وبديلا عن الأسلوب المباشر, باشر النظام السياسي الأوربي, وبدعم ومباركة أمريكية, تدشين سياسات غير مباشرة, مع تلك الجمهوريات, مستخدما ذات الأدوات, في الإقتصاد والدعم المادي.
فعمدت أوروبا للخيار البديل, في عرض سياسات الشراكة الإقتصادية والتقنية, من خلال المشاريع البينية, التي تهدف لربط تلك الجمهوريات, بمساعدات إقتصادية, برغم أنها غير سخية, لكن تلك الدول في حاجات ماسة لها, خاصة في المستقبل القريب, ومن بين تلك المشاريع, خطة الشراكة الإنتسابية الإقتصادية, التي عرضتها على كل من جورجيا "كروزيا" وأرمينيا وملدافيا وبيلاروسيا وأوكراينيا.
وقد لاقت تلك العروض, الرفض السريع من لدن بيلاروسيا وأرمينيا, نتيجة للأسباب السابقة, فضلا عن تقارب الأعراق والتأريخ والجغرافية مع روسيا, في حالة بيلاروسيا, والعلاقات الدينية والمجتمعية والتأريخية, مع روسيا, في موضوع أرمينيا, والتي حصلت على دعم روسي ناجز, في صراعها الدامي مع أذربيجان, حول إقليم "ناكورنوكاراباخ" الأذربيجاني, الذي تقطنه أغلبية أرمنية, وبالنتيجة فقد رفضت كل من بيلاروسيا وأرمينيا, العرض الأوربي إبتداءً, ودون أن يكون لذلك الرفض, جهد كبير من قبل الفاعل الروسي.
ولنفس العلّة في موقف روسيا منها, فقد تقاربت "أذربيجان", مع شقيقتها القومية والدينية "تركيا", إذ تباعدت عنها سابقا, بأسباب إختلاف المذهب, ومجاورة إيران, ونفوذ روسيا القيصرية ثم السوفيتية فيها, دون أن يغدو عاملا حاكما أو مانعا في التقارب الراهن, وبالنتيجة فقد توطدت علاقاتها, مع حلف "الناتو", ومنطقة إهتمامه, من خلال النافذة التركية والأوربية, دون أثر سلبي كبير, في علاقاتها مع روسيا, لمحدودية موقعها الجيوسياسي, عدا الخلاف حول إستثمار النفط في بحر قزوين.
أما جورجيا "كروزيا", فبسبب الأزمة في إقليمي "أوسيتيا الجنوبية" و"أبخازيا", الذين حصلا على إنفصالهما عن الدولة الجورجية, وإعلان إستقلالهما, في العام 2008, بدعم وتدخل مسلح من روسيا, وإعتراف أحادي من قبلها, جعل من الساحل الشرقي للبحر الأسود, إمتدادا جيوسياسيا لروسيا, لم تستطع أوروبا أو الولايات المتحدة من تحجيمه, سياسيا أو عسكريا, فقد آثرت جورجيا, كردة فعل إزاء روسيا, من إعلانها الإنسحاب عن رابطة تجمع الدول المستقلة "الجمهوريات السوفيتية السابقة", وقبلت بإتفاقية الشراكة الإقتصادية مع الإتحاد الأوربي, مع أنها أبقت على عقودها البينية, والإتفاقات الثنائية والجمعية, قائمة ضمن إطار تشكيلات الرابطة, وبتفهم روسي لموقفها المبرر.
وبأسباب مختلفة, وبنتيجة ضعف دولة "ملدافيا", لصغر حجمها, ولتضررها الجغرافي, في حرمانها من إطلالة على البحر الأسود, إذ يحجزه عنها, إمتداد البرّين الأوكرايني والروماني أمامها, برغم وقوعها على مسافة قريبة منه, مما أفقدها الأهمية الجيوسياسية والجيوستراتيجية, فضلا عن إقتصادها الواهن, ومواردها المحدودة, وما تعانيه من إنقسام عرقي, في إقليم "ترانسيسترا" الشرقي, الواقع شرق نهر "الدينيستر", ذي الأغلبية السلافية, فقد قبلت بإتفاقية الشراكة الأوربية, دون أن يكون لروسيا رفض واضح لذلك, لأنها تعد عبء, قد تحمل أوروبا والولاليات المتحدة, بعضا من ثقله, في مصلحة ملدافيا, وحتى روسيا.
الأهمية الجيوسياسية لأوكرانيا في المدركات الأوربية والروسية
أما الحالة مع أوكراينيا, فهي مختلفة تماما, بالنسبة لأوروبا من جهة, وبالنسبة للمصلحة الإسترتيجية العليا الروسية, من جهة أكبر, فروسيا تعتبر أوكراينيا, حديقتها الأمامية, ومجالها الحيوي, وفي الذاكرة التأريخية الروسية, هي روسيا الصغيرة "مالايا روس", التي تطل روسيا من خلالها على وسط وعمق أوروبا, وتنفذ عبرها على حوض البحر الأسود, في كامل ساحله الشمالي, إبتداءً من مدينة "أوديسا", قرب الحدود الرومانية والملدافية, وحتى الساحل الشرقي, عند أبخازيا في جورجيا.
وضمن هذا الساحل, تطل شبه جزيرة القرم, الجوهرة الروسية المودعة في أوكرانيا, وذات الأغلبية الروسية, الممتدة نحو عمق حوض البحر الأسود جنوبا, ونحو عمق البر الروسي شرقا, في لسانها المطل على بحر الأزوف, حتى مشارف مدينة راستوف نا دانو, على نهر الدون, والتي يتخذها الأسطول الروسي للبحر الأسود, مرتكزا إداريا "لوجستيا" وعملياتيا, وقاعدة أمامية, في مدينة "سيفاستوبل", منذ قرنين من الزمن, ضمن تفاهمات قانونية, مع الدولة الأوكرانية المعاصرة, وبما يعرف بوديعة سيفاستوبل.
ثم يبرز العامل الإقتصادي, لتمتين الأهمية الإستراتيجية لأوكرانيا, في مدركات الجغرافية السياسية الروسية, كونها المعبر البري, الذي يمر فيه أنبوب الغاز الروسي الإستراتيجي, العابر الى أوروبا, والذي يشكل شريانا حيويا رئيسا, في موارد الإقتصاد الروسي, فضلا عن كونها ساحة للتبادل التجاري, ومصدرا للمواد الأولية, وفد كانت موقعا للإنتاج الصناعي النوعي, منذ الحقبة السوفيتية, وخاصة في مجال المكننة الزراعية.
وقد وعى الفكر الإستراتيجي الغربي ذلك, الذي يمكن إسقراؤه, من خلال خطاب "برجينسكي", الأكاديمي المنظّر الجيوسياسي, والمستشار السابق للأمن القومي الأمريكي, الذي صرح بأن روسيا مع أوكرانيا, هي قوة إقليمية أوربية ودولية كبرى, بينما دونها, لا تعدو أن تكون دولة اسيوية محدودة جيوسياسيا, وهو عرّاب المشروع الإقليمي, لتجمع الدول المطلة على حوض البحر الأسود, بمشاركة فاعلة لعضوية أوكرانيا فيه, والذي يهدف الى كبح النفوذ الروسي في المنطقة, وبالتالي الحيلولة دون تمددها نحو الغرب الأوربي.
وقد أفصحت صحيفة "الواشنطن بوست" أن الولايات المتحدة, تنتوي تعزيز حضورها في حوض البحر السود, من خلال تنفيذ تمارين تعبوية "مناورات", بالمشاركة مع بولندا, ولا تخف الأهداف الكامنة فيها.
ويتفاقم القلق الروسي المشروع, نتيجة إقامة قواعد عسكرية لحلف الناتو, في كل من رومانيا وبولندا وبلغاريا، بهدف عزل روسيا, خارج فضاءات البحر الأسود, وتحجيم نفوذها فيه, فيما سيشكل إدخال أوكرانيا في منتدى الإتحاد الأوربي, خنقا للرئة الروسية في البحر الأسود, وحضورا وتهديدا كائنا لها, من قبل أدوات حلف الناتو, عند أبواب روسيا الأوربية, من خلال النافذة الأوكرانية, حيث لم يبق لروسيا حينها, سوى إطلالة خجولة على البحر الأسود, في ميناء "نوفوراسيسك", قرب المنتجع السياحي "صوجي", عند مقاطعة "كراسنادار", لا تشكل تأثيرا فيه, فيتحول البحر الأسود, الذي تسيطر تركيا, العضو الناشط في الناتو, على بقية ساحله الجنوبي, وبعد إنتهاء النفوذ والحضور الروسي فيه, الى بحيرة مغلقة لحلف الناتو.
وعليه فإن الرؤى الإستراتيجية, في أوروبا وحلف الناتو, ترتكز على منع روسيا من الإتصال بأوكرانيا, بهدف إضعافها وتحجيمها دوليا, وذلك هو لب وجوهر الحقيقة, في الصراع الناشء في الأزمة الدولية الراهنة, التي ساحتها أوكراينيا, وطرفاها روسيا من جهة, وأوروبا والناتو من جهة أخرى.
وستنصرف الحلقة القادمة من الدراسة, الى إستقراء المعطيات والمعالم, في نشوء الأزمة الأوكراينية الراهنة, وتداعياتها في النظام السياسي الأوكرايني, وفق أدوار لاعبيها الدوليين, وتأثيراتها الإقليمية, وما يرتبط بها, من إعادة تشكيل وإنتاج الخريطة الجيوسياسية, في منطقة حوض البحر الأسود, ووسط أوروبا, حيث صراع النفوذ, بين الإتحاد الأوربي وحلف الناتو من جهة, وفق سياسية التمدد ضمن الشرق الأوربي, وبين روسيا وحلفائها من جهة أخرى, في مباشرة المشروع الأوراسي, من النافذة الأوكراينية, بما يعيد موقع روسيا الدولي المشروع, ضمن مجالاتها الحيوية, وأمنها ورؤاها الإستراتيجية, وفق قدراتها ومواردها, ومقوماتها الجيوسياسية, وبالتالي إعادة تأسيس النظام الدولي ومرتكزاته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -عفوا أوروبا-.. سيارة الأحلام أصبحت صينية!! • فرانس 24


.. فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص




.. رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس


.. انقلاب سيارة وزير الأمن القومي إيتمار #بن_غفير في حادث مروري




.. مولدوفا: عين بوتين علينا بعد أوكرانيا. فهل تفتح روسيا جبهة أ