الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خلفاء خارج الصندوق

سمير الحمادي

2014 / 11 / 2
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الخلافة المزعومة التي أعلنها، في التاسع والعشرين من يونيو 2014، المدعو إبراهيم البدري (أبو بكر البغدادي): زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، لم تكن الأولى من نوعها في العصر الحديث. سبقه إلى هذا الشرف الاستعراضي "خلفاء" آخرون، لكن الظروف لم تكن في صالحهم، فانهارت أحلامهم على ضفاف الواقع، من قبل أن تبتل بها عيونهم، بعكس البغدادي الذي وجد في الفوضى السورية حاضنة مثالية لمشروع يتحرك، ذهنياً وواقعياً، على حافة جنون مطبق.

شكري مصطفى

أول إعلان "خلافة" في العصر الحديث كان في مصر، مع شكري مصطفى (أبو سعد): مؤسس "جماعة المسلمين" المعروفة إعلامياً باسم "التكفير والهجرة".

ولد شكري في أسيوط في العام 1942، وتخرج من كلية الزراعة، كان شاعراً موهوباً، له قصائد عديدة منشورة في مجلات عربية يغلب عليها الطابع التأملي الوجداني، ومع ذلك لا أحد يذكر اليوم موهبته الشعرية اللافتة، فقد أخذت حياته مساراً غريباً ما يزال محط تساؤل وتعجب كل من قرأ عنها وأوغل في تفاصيلها.

انضم شكري إلى جماعة الإخوان المسلمين في الستينيات، وهو بعد شاب يافع، كان عضواً عادياً مثل أقرانه من شباب الجماعة، شديد العاطفة، مندفعاً، متحمساً لأحلام المجتمع الإسلامي المثالي، لكن حظه السيئ أوقعه في لحظة صعبة ومعقدة تتجاوز مدركاته وأحلامه: لحظة المواجهة بين النظام الناصري والإخوان، التي بدأت مع حادث المنشية في العام 1954، ولم تنته إلا بوفاة عبد الناصر في العام 1970.

اعتقل شكري في التاسع من نوفمبر 1965 مع من اعتقل من الإخوان في قضية "تنظيم 65" الذي كان يسعى لإسقاط النظام والاستيلاء على السلطة، وهي القضية التي كان المتهم الأول فيها المنظر الإسلامي اللامع سيد قطب، وبسببها أعدم في العام 1966.

لم يكن لشكري علاقة بهذا التنظيم، ولم يكن يعلم عنه شيئاً، كان ما يزال طالباً في السنة الثالثة بكلية الزراعة في أسيوط، ومع ذلك أُخذ بسيف الشبهة مثل آلاف غيره، وأودع السجن الحربي الرهيب بتهمة توزيع منشورات الإخوان في الجامعة، لتبدأ من هناك حياته الأخرى.

كانت حياة مرعبة.. متوترة
بلا ملامح واضحة
لا هو اختارها ولا هي اختارته
ومع ذلك التقيا على حد القدر

تعرض الشاب الحالم الجامح الذي لا يملك أي خبرة في الحياة إلا نُتفاً مما قرأه وتعلمه في أدبيات الإخوان، خصوصاً كتابات ملهمه سيد قطب التي ملأت الدنيا، إلى ما تعرض له الإخوان من صنوف الاضطهاد النفسي والتعذيب الجسدي الذي اشتهرت به سجون تلك الحقبة، ولأنه كان طري العود، ولم يسبق له أن جرب مناخات الاعتقال والتعذيب، حار عقله في فهم ما يجري، وتشرد ما بين الأسباب والاحتمالات، كان مستعداً للتضحية من أجل الفكرة الإسلامية، ولكن ليس بهذه الصورة، ولا في ذلك المكان.

وهنا..
في لحظات العسر هذه
تحت وطأة العنف والمهانة
تساقطت أوراقه عن آخرها
لم يستطع أن يتحدى قلقه
فانهار جسده الضعيف
وانسحب وعيه كلياً.. ونهائياً
انسحب إلى ما وراء حدود العقل.. والدين.

في السجن، وعلى وقع الجدل الذي كان لا ينقطع في العنابر حول عبد الناصر ونظامه وسياساته، تعرف شكري على شيخ أزهري من الإخوان اسمه علي عبده إسماعيل: الشقيق الأصغر لعبد الفتاح إسماعيل: القيادي الإخواني الذي أعدم مع سيد قطب، فتوطدت صلته به، ويبدو أن سوء الحظ الذي لازم شكري كان حاضراً هنا أيضاً، ذلك أن الشيخ علي هذا، تاريخياً، هو المؤسس الفعلي لأفكار "التكفير والهجرة" التي لم تكن مطروحة على الساحة الإسلامية في ذلك الوقت.

هو الذي أثر على شكري وتلاعب بعقله، وأقنعه بما صار إليه، وحين تراجع عن ضلالاته، وأعلن براءته منها، رفض شكري، الذي تلبّسته راديكالية تكفيرية صلبة، أن يتراجع معه، وأصر على قناعاته، وقاطعه، وانزوى لوحده يستجمع ألمه وهواجسه الذاتية في انتظار لحظة الثأر.. بعد الخروج من السجن.

بعد وفاة عبد الناصر وتولي السادات الحكم، بدأ عهده بالإفراج عن الإخوان المعتقلين على دفعات، وكان شكري من المجموعة التي أفرج عنها في العام 1971. كان قد تغير كلياً، صار غريب الأطوار، لا يشبه إلا نفسه، بعيداً عن كل شيء، يتحرك، فكرياً، وفعلياً لا مجازاً، في عالم آخر من الهرطقات الدينية، أساسها أن كل المجتمعات القائمة على الأرض هي مجتمعات جاهلية وكافرة قطعاً، وأن الجماعة الوحيدة المسلمة هي جماعته (= الفرقة الناجية) التي تشكل امتداداً تاريخياً وشرعياً لما كان عليه الرسول (ص) وصحابته في عهد الخلافة الراشدة، فعند شكري، بعد هذا العهد لم يكن هناك إسلام صحيح قط.

لم يتوقف شكري بعد إطلاق سراحه عن الحركة، عاد إلى مسقط رأسه أسيوط، وظل يستقطب كل من يعرفه إلى "جماعة المسلمين" التي أنشأها كنواة لمشروع خلافته، والغريب أن دعوته لقيت صدى عند الناس، فانضم إليه موظفون وعمال وطلبة وطالبات كانوا يتركون أسرهم وحياتهم ويبايعونه على السمع والطاعة باعتباره "خليفة آخر الزمان".

كان شكري يحرم الوظائف الحكومية على أتباعه، على أساس أن الدولة كافرة، وكان يحرم التعليم، لأن أمة الإسلام أمية لا تكتب ولا تحسب، ولأن تعلم الكتابة في الجماعة المسلمة يجب أن يكون بقدر الحاجة الواقعية، أما تعلم الكتابة لذاته فهو حرام.

مع الوقت توسعت قواعد الجماعة، وانتشرت أفكارها، وصار لها مجلس شورى، وفروع في مختلف المدن والمناطق، بل صار لها فروع ومندوبون في بلدان عربية أخرى (ليبيا ودول الخليج والأردن).

في سبتمبر 1973 أمر شكري أتباعه بالهجرة إلى صحراء وجبال المنيا (جنوب مصر) للتعبد والعزلة، على أساس أن الأصل في الجماعة المسلمة أنها تُبنى في أول أمرها على "الفرار" و "الهجرة"، فكونوا هناك ما يشبه مجتمعاً صغيراً منعزلاً عن المجتمع العام، مغلقاً ومكتفياً بذاته، وخلال هذه الفترة تقاطرت البلاغات على أجهزة الأمن من أزواج وآباء نساء وطالبات تركن بيوتهن وجامعاتهن واختفين بلا أثر، لتكشف التحريات أنهن عند شكري، الذي زوجهن لأعضاء جماعته، وهنا بدأت السلطات تستشعر خطورة هذه الجماعة، فهاجمت معاقلها، واعتقلت الخليفة مع عدد من أتباعه / رعيته.

كان هذا أول احتكاك مباشر لشكري مع الدولة بعد تجربة السجن الأولى، لكن الظروف خدمته هذه المرة، ففي أبريل 1974، أصدر الرئيس السادات قراراً جمهورياً بالعفو عنه، فخرج من السجن أكثر تطرفاً وشراهة للحركة: تابع نشاطه بشكل مكثف، فأعاد تنظيم صفوف جماعته، ونجح في استقطاب أعضاء جدد من كل المدن والمحافظات، منهم مهندسون وأطباء وصيادلة، ونجح في عزلهم فعلياً عن الحياة العامة، ومن يعترض منهم أو يتمرد، يُتهم بالردة عن الإسلام ويكون الموت عقابه.

مع ازدياد توسع الجماعة، تصاعدت مشاكلها الفكرية والتنظيمية، وكثرت الانشقاقات بين أفرادها ممن راجعوا أنفسهم واكتشفوا زيف ما يعتقدون (أشهرهم صلاح الصاوي وخالد الزعفراني وحسن الهلاوي الذي ناظر شكري وهزمه)، فاحتد الجدل، وتعددت المواجهات، ليس ضد المخالفين والمنشقين فحسب، الذين كانوا يتعرضون مع أسرهم لاعتداءات جسدية خطيرة عقاباً لهم على "ردتهم"، ولكن ضد الجماعات الجهادية الأخرى التي أرسل شكري، تحت تأثير إغراء القوة، يطالبها بالانضواء تحت رايته ومبايعته "خليفة للمسلمين"، وخلال هذه الفترة، كان الأمن قريباً من الجماعة، يرصد تحركاتها وصراعاتها، لكنه لم يتدخل إلا في ديسمبر 1976، فداهم أوكارها واعتقل المئات من أعضائها، لكن شكري نجح في الإفلات، وأثناء هروبه ظل يبحث عن وسيلة للانتقام من السلطات التي أوقفت زحفه "المقدس"، فكانت عملية خطف وزير الأوقاف السابق الشيخ محمد حسين الذهبي وقتله.

كان الشيخ الذهبي واحداً من كبار علماء الأزهر، اشتهر بردوده القوية على أفكار شكري، وأشرف في العام 1975، أثناء توليه وزارة الأوقاف، على إصدار كتيب بعنوان "قبسات من هدي الإسلام" كتب مقدمته بنفسه، يفنّد كل مقولات "التكفير" و "الهجرة" بالدليل الشرعي، فكان شكري ناقماً عليه، وقرر التخلص منه، مع العلم أن هذا القرار يتعارض كلياً مع الأساس الفكري للجماعة، الذي يقوم على منهج "الانسحاب" من المجتمع وعدم الدخول في أي مواجهة مع النظام (= الطاغوت) في تلك المرحلة (مرحلة "الفرار" و "الهجرة")، مهما كان مبررها، استناداً إلى الآية الكريمة [وأعتزلكم وما تدعون من دون الله].

في يوليو 1977، وعبر سيناريو سينمائي بالغ الجرأة، نجحت الجماعة في خطف الشيخ الذهبي من منزله واقتياده إلى أحد مخابئها السرية، بعدها أصدر شكري بياناً أذاعته وكالات الأنباء يعلن فيه مسئوليته عن العملية، ويعرض مطالبه من الدولة للإفراج عن الرهينة، ومنها إطلاق سراح أعضاء الجماعة المعتقلين، وإسقاط التهم عنهم، وعدم التعرض لهم، ودفع مبلغ 150 ألف جنيه للجماعة تعويضاً عن الأضرار التي ألحقها بها الأمن، وتخصيص قطعة أرض كبيرة لها لتقيم عليها دولتها (خلافتها).

طبعاً تجاهلت الدولة هذا الهراء الخارج عن المألوف، وحاولت الوصول إلى الشيخ الرهينة بسرعة، قبل أن يجهز عليه الخاطفون، لكنها حين عثرت عليه في أحد الشقق، كان بالفعل جثة هامدة.

اعتُقل شكري بعد الحادث، وأُعدم في الثلاثين من مارس 1978مع ثلاثة من أعوانه، ليختفي خليفة آخر الزمان من على وجه الأرض كأنه لم يكن. لم يُكتب له أن ينتبه من غيبوبة غرائبه، ولا أن يتحرر من إيحاءات قاعه النفسي المكتظ بالهزائم والأحقاد.. والندوب. لم "يرث الأرض ومن عليها" كما كان يدعي يقيناً (حتى آخر لحظة)، رحل في هدوء تاركاً وراءه هلوسات وحماقات مغطّسة بوحدانية الدين تبحث عن عقول شاردة تائهة تتسع لها: عقول مثقلة بالوهم تقرأ من الكف نفسها، وتجتر "التوسمات" ذاتها.. في انتظار فرصتها.

أبو عيسى الرفاعي

ثاني إعلان خلافة في العصر الحديث كان في مدينة بيشاور الباكستانية، في أوائل تسعينيات القرن الماضي، والخليفة المزعوم هذه المرة هو أبو عيسى محمد الرفاعي، لا يختلف كثيراً عن شكري، ربما كان أقل شهرة وحضوراً في الإعلام، لكنه بالتأكيد أكثر جموحاً.. وجنوناً.

بعد انسحاب القوات السوفيتية من أفغانستان في فبراير 1989، تفرق العرب الذين شاركوا في الجهاد الأفغاني على مسارات متعددة.

هناك من انضم إلى أسامة بن لادن وتنظيمه "القاعدة" الذي تأسست نواته الأولى في غشت 1988.

وهناك من شد الرحال إلى جبهات جهادية أخرى: البوسنة، طاجاكستان، الشيشان.

ومن اختار المشاركة في الحرب الأهلية التي اندلعت بين فصائل المجاهدين.

آخرون عادوا إلى بلدانهم لإسقاط النظام وإقامة الدولة الإسلامية، منهم المصريون من تنظيميْ الجهاد والجماعة الإسلامية الذين نفذوا عدة عمليات استهدفت مسئولين حكوميين، والجزائريون الذين مارسوا أدواراً مهمة في أحداث العنف التي ضربت البلاد خلال التسعينيات.

آخرون ذهبوا بعيداً: إلى الولايات المتحدة الأمريكية، واستقروا بحي بروكلين في نيويورك، وقاموا بتفجير مركز التجارة العالمي في فبراير 1993، في ما توزع غيرهم على العواصم الأوربية (لندن تحديداً)، وعاشوا فيها معززين مكرمين: في مساجدها أولاً.. ثم في سجونها بعد ذلك.

إلى جانب هذه المسارات المعقدة والملغومة، اختار فريق منهم وجهة أخرى تماماً: وجهة لا تخلو من عبث.. وغرابة.. ومفارقات.

في مطلع العام 1992، وفي ما كان المئات من العرب الذين فضلوا البقاء في بيشاور: القاعدة الخلفية للجهاد الأفغاني، يحاولون التكيف مع حياتهم الجديدة، بعد أن انفض الجمع، ولم يعد ثمة جهاد يتابعون أخباره، ولا دور ضيافة يعيشون على تبرعاتها، خرج أحدهم، ويدعى أبو عثمان الفلسطيني، يعمل في تجارة العسل، ويحمل الجنسيتين الأمريكية والباكستانية، بفكرة مغرية عصية على المقاومة لكل من يسير في ركاب الفكر السلفي والسلفي الجهادي: أن يجمع من تبقى من "المهاجرين" من عرب بيشاور والمناطق المحيطة بها (حوالي 2830 شخصاً) على قلب خليفة واحد.

كان الرجل مأخوذاً بالفكرة تماماً، مستعداً لفعل أي شيء من أجل تحقيقها، لكن واجهته مشكلة شرعية أساسية هي العثور على الشخص الذي تتوفر فيه مواصفات الخليفة، وأهمها أن يكون قرشياً بحسب الشروط المقررة عند أهل السنة والجماعة، ومع ذلك لم يتراجع، كان متحمساً جداً، فكرس وقته للدعوة وأخذ البيعة للخليفة الذي كان ما يزال في علم الغيب، لا يعرف أحد من يكون، تزامناً مع البحث في كل مكان عن صاحب النصيب.

في الأول بلغه أن هناك رجلاً كويتياً في السعودية من أهل البيت، يمكن أن يفي بالغرض، فاتصل به عارضاً عليه الأمر، والعجيب أن الرجل وافق على الفور، كمن كان ينتظر، وبدأ يجهز نفسه للسفر، لكن السلطات السعودية اعتقلته، فاستمر أبو عثمان في البحث عن بديل له إلى أن عثر على ضالته في لندن: أردني من أصل فلسطيني، يدعى محمد عيد الرفاعي، وكنيته أبو همام وأبو عيسى، من الرعيل الجهادي الأول في الأردن، كان عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، ثم طُرد منها لميوله التكفيرية، اعتقل لعدة شهور بعد حرب الخليج الثانية، وبعد إطلاق سراحه ضاق عليه الخناق، فتوجه إلى لندن.

اتصل أبو عثمان بخليفة المستقبل، وعرض عليه الموضوع، وبالطبع فرح الرفاعي بهذه الهدية الثمينة التي نزلت عليه من بيشاور البعيدة، وسارع إلى حجز مقعد على أول طائرة متوجهة إلى باكستان، حيث الرعية تنتظر خليفتها الهاشمي القرشي لتبايعه على السمع والطاعة.

بعد البيعة، وكان بعضها يتم عن بعد، بالفاكس أحياناً، اختار الخليفة ومعاونه أبو عثمان وعشرات من الأنصار والأتباع من "جماعة الخلافة" مكاناً منعزلاً بين الجبال في أطراف القبائل لإقامة دولتهم، ومن هناك أخذوا يبعثون الرسائل إلى الرؤساء والملوك العرب يدعونهم إلى تقديم البيعة للخليفة.

كانت عقيدتهم أن الناس كفار بالجملة إلا من اطمأنوا له، وأن من لم يبايع الخليفة ويدخل في طاعته فهو كافر، كذلك من بايع وخرج عليهم يعاقب بالقتل.

كتب مصطفى حامد (أبو الوليد المصري)، وهو من أوائل العرب الذين وصلوا إلى أفغانستان في بداية الثمانينيات، ومن أهم من أرخوا لتلك المرحلة، في مذكراته "صليب في سماء قندهار" (ص 41):

"جنود الخليفة قاموا بعمليات اختطاف وقتل ومعارك بالأيدي مع مخالفيهم، وهددوا من لم يبايع من عرب بيشاور بالقتل وسبي النساء وخطف الأطفال من الشوارع والبيوت. فأثاروا موجة ذعر بين العرب دفعت عديدين إلى الهجرة...
مع ازدياد الجرائم، وتدخلات الشرطة، وتحفز أوساط العرب في بيشاور، اضطرت "الخلافة" إلى الانسحاب إلى مناطق حدودية، ولاقت تعاطفاً من أوساط تجار المخدرات هناك، ولكن سرعان ما اكتشف أتباع الخليفة أن تلك القبائل نفسها لم تدخل في طاعته، فاشتبكوا معهم، فطردتهم تلك القبائل إلى مقاطعة كونار الأفغانية التي بقوا فيها بعد أن فقدوا معظم قوتهم البشرية بين قتيل وسجين وتائب.
وبقي الخليفة البريطاني يصدر الفرمانات المضحكة المبكية، مثل أوامره لأهل فلسطين ألا يزرعوا شجر الغرقد حتى لا يختفي اليهود خلفه أثناء المعركة الفاصلة معهم.
كما أباح الخليفة تعاطي الحشيش، وحرم استخدام العملة الورقية، وأمر أتباعه بحرق جوازات سفرهم (بينما احتفظ هو بجوازه البريطاني، وغادر به لاحقاً إلى بريطانيا!!)".

هكذا، إذاً، هرب الخليفة في العام 1993 إلى لندن: دار الهجرة وجنة الأصوليين الإسلاميين في التسعينيات، بعد أن خسر أتباعه في معارك جانبية، وبقي وحيداً بلا رعية، يتربص به الخطر من كل جانب، بيد أن القصة لم تنته عند هذا الحد، ولم يكن لها أن تنتهي بعد أن بدأت، وتجسدت، وصارت واقعاً.. لكنه واقع كالبكا.

في لندن، نصب الرفاعي خيمته، واستمر في أداء الدور الذي تماهى معه تماماً: خليفة المسلمين، فاستقطب أتباع جدد، وانصرف للدعوة كلياً إلى أفكاره، محاولاً بكل الطرق أن يفرض حضوره الغرائبي على المجتمع الأصولي اللندني، يشده الحنين إلى أيام بيشاور، لكن الوضع الجديد كان مربكاً ومعقداً ومختلفاً، فظل على حاله شبه معزول، بلا أفق، يتصدع عالمه يوماً بعد يوم، ليس معه إلا قلة من الأنصار لا يمثلون شيئاً يُذكر داخل شبكة واسعة من الانتماءات والتجاذبات والمشاريع الإسلاموية: سياسية وجهادية، أكثر تطوراً وتماسكاً.. وبراجماتية.

قامت الثورة السورية في مارس 2011، والخليفة ما يزال يصارع من أجل البقاء، تناقص أتباعه واشتد به المرض، ومع ذلك ظل على مجازفاته، يسابق العمر، لم يتعب من السير حافي العقل كل هذه السنوات، كان متمرساً على الانتظار، لكن حين ثار السوريون، صار أكثر تحفزاً، كانت الثورة بالنسبة إليه فرصة أخيرة لحرق المراحل والقفز إلى النهاية مرة واحدة، فخطط وتحرك غير مكترث بصعوبة الطريق وبُعد الهدف: أرسل أحد أعوانه المقربين: حسين رضا لاري (أبو عمر الكويتي) إلى سورية للدعوة له وأخذ البيعة من "المجاهدين" تمهيداً لانتقاله هو شخصياً إلى أرض الخلافة الجديدة.

وصل المندوب إلى منطقة الدانا بشمال سورية، وشكل جماعة سماها "جند الخلافة" (أصبحت في ما بعد جماعة المسلمين)، سرعان ما ذاع صيتها، لكنه وجد صعوبة في التعايش مع الواقع "الجهادي" السوري المربك تشظياً وتناقضات، فما لبث أن دخل في خلاف مع "جبهة النصرة" وغيرها من المجموعات الجهادية وكفرها جميعاً بدعوى أنها "لا تطبق شرع الله"، وعندما لمع نجم "الدولة الإسلامية"، أراد أن يختصر الطريق ويتسلق على ظهرها، فأرسل إلى البغدادي يعرض عليه جمع "الأنصار والمهاجرين" على بيعة "إمام قرشي" واحد حتى لا يتفرقوا فتذهب ريحهم.

كان يقصد خليفته اللاجئ في لندن
لم يكن يعرف أن البغدادي يدخرها لنفسه
وأنه في طريقه إلى إعلانها.. مدوية.

عند هذه اللحظة، تدخل القدر لترتيب النهايات وحفرها في مشاهد متلاحقة:
في مارس 2014 توفي الخليفة اللندني في صمت
وفي يونيو صارت "الخلافة" إلى البغدادي صوتاً وصورة
أبو عمر، الذي بات معزولاً.. على الهامش، وجد أن الحكمة هذه المرة بغدادية، فارتمى على أعتاب "الداعشي" الأول مبايعاً، وأصبح شرعياً في "الدولة"، يوزع على الناس من فوق منابرها بضاعته الملغومة، لكنه، بطريقة ما، كسر قواعد السمع والطاعة، فأمسى محبوساً انفرادياً في أحد سجونها السرية لأسباب ظاهرها "الغلو الزائد"، وباطنها لا يعلمه إلا الله.

هنا، انتهي هذا الفصل من رواية الخلافة، وقبلها انتهى الفصل الخاص بشكري مصطفى، دون خسائر فادحة، لكن الفصل الذي يؤدي فيه البغدادي دور البطولة ما يزال معروضاً، بثقل سواده ودمه، على شاشة حياتنا اليومية، تتوالى مشاهده المرعبة في كل لحظة، كأنما الرواية هذه المرة مفتوحة على الزمان والمكان: بلا حدود.. وبلا نهاية.

ليته كان زرعاً من دون ثمر
ولكنه زرع بثمر.. مر

هي ذي، إذاً، نماذج معبرة لخلفاء خارج الصندوق، شكلوا من خلال شرارات أفكارهم الطافحة بالغرابة والبؤس والخواء ظواهر، بل عوالم غامضة ومحيرة، وفي غياب ضوء العقل.. وضوء الدين، خرجوا يطلبون العير فوجدوا النفير، غاصوا في وحل تشوهاتهم، أرادوا، على طريقتهم، نقل الماضي (الطوبى) إلى الحاضر (المدنس)، كما هو، بلا مسافات ولا فواصل، فانتهوا إلى المصائر التي ينتهي إليها، عادةً، السائرون، عبثاً، في طرقات مغلقة: الفقدان. منهم من مات شنقاً في أول العمر، ومنهم من قضى وهناً في أرذله، وفي كلتا الحالتين غادروا الحياة دون أن يدركوا، ولو في لحظة أخيرة، أن الإسلام لا يُقام بين العمائم واللحى، وأنهم، بعد كل شيء، ما كانوا، تحت بصر الله، إلا عابرين في أوهام عابرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي


.. كاتدرائية واشنطن تكرم عمال الإغاثة السبعة القتلى من منظمة ال




.. محللون إسرائيليون: العصر الذهبي ليهود الولايات المتحدة الأمر


.. تعليق ساخر من باسم يوسف على تظاهرات الطلاب الغاضبة في الولاي




.. إسرائيل تقرر إدخال 70 ألف عامل فلسطيني عبر مرحلتين بعد عيد ا