الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات لاجئ عراقي...لحظة وداع...قصة قصيرة

جمال حكمت عبيد

2015 / 1 / 17
الادب والفن



بعد مخاض دام اربعين عاماً... كانت الحقيبتان المركونتان قرب باب حجرة الضيوف؛ تشكل عائقا لمرور إخوته وأخواته وبعض من أصدقائه وأقربائه؛ جميعهم جاءوا يودعونه؛ متمنين له السلامة والتوفيق... في رحلة اللاعودة ! رحلة البحث عن وطن آخر ! بعد أن جَفّت في بلده ينابيع المياه العذبة و فقدت الأنهار وشاحها الأزرق واصبحت جدباء عاريةً كاشفةًً اسرارها؛ وضفافها باتت مزابل تعبث بها الكلاب والقطط السائبة والنباشين ؛..
صدى طنينٍ ملأ اذنيه وسخونة تعالت فيهما من الذبذبات المختلفة من اصوات المودعين، والمليئة بالنصائح والدعاء لسندبادهم. وأحاطت عيناه غشاوة فشلت في اخفاء قاعهما المتزين بمرجانة حمراء.. ورأسه يتحرك بانسيابية كرأس دمية متأرجحاً يميناً وتارةً شمالًاً مجاملاً هذا ومبتسماً لذاك؛ لكن طرفا عينيه كانا منصبان نحو الركن البعيد حيث أطفاله الثلاثة ابنته وولديّه الواقفين بجانب الباب، فكبيرهم عمره سبعة سنين، وكانت وجوههم حائرة وعيونهم تتفحص هذا الجمع الذي حظى به اليوم والدهم.
كان وفي لحظات انشغال المودعين عنه يذهب مسرعاً إلى حجرة نومه لا يعرف ما يقوم به !
كان يفرفر كالطير المذبوح في حجرته، ثم يستقر واقفاً امام المرآة.. ويرى وجهاً خفتَ ضوؤه القمري مع أول خيوط الصبح ؛ يحاكي نفسه هل: هذا فرات؟! هل أنا: اسم على مسمى- كما كان يكنى لي أيام دراستي الجامعية بل وحتى قبل اسبوع. كيف أكون فرات وملامحي بدأت تفقد عذوبتها...وفي كل مرة كان يسرق نفسه من مودعيه ويقف أمام المرآة ...وفي كل لحظة استغراق خاطفة يرى وجهاً غير وجهه ويرى قامته تقصر وتقصر حتى إذا طال النهارتكاد تصل إلى الحافة السفلى لإطار المرآة الخشبي.. وكان كلما خرج من غرفة استقبال المودعين تلاحقه زوجته التي كانت مهمومة بمجاملة النساء المتواجدات وفي كل مرة كانت تفتعل عذراً لهنّ بانه قد نده عليها.. وعيناها كانتا هذا اليوم ذابلةً وشعرها لم تصففه بل اكتفت بلملمته إلى الخلف وقرصته بحلقة مطاطية.., أمّا أمه فكانت لآخر لحظة غير مقتنعة بهذه الرحلة وبترك زوجته واطفاله... ربما اكتفت بقدر سلامته وسلامة اخوته من الحروب التي ابتلى بها البلد , أمّا السفر والهجرة لم يكن له عنوان عندها ولا عند غالبية الأمهات والآباء العراقيين.
وقف شاكر عند باب حجرة الضيوف وهو صديق طفولته وجاره وكان قد فقد احدى طرفيه في الحرب العراقية الإيرانية وحاز على سيارة المعوقين. صاح شاكر وبصوت حزين منادياً : فرات ..فرات.. السيارة جاهزة نهض فرات بسرعة كالمقاتل الذي اراد الهروب من ساحة المعركة، ونهض معه جميع المودعين بحركة لا ارادية وكأنهم في مسرحية شارفت على نهايةِ فصلها الأخير، واخذ الجميع الواحد تلو الآخر يعيدون تقبيله ويكررون امنياتهم ودعائهم له، وهو هامداً جامداً وكأنه صار صفحة من كتاب التشريفات فتحت لاِستلام تواقيع المهنئين أو المعزين على خده.
ركض بسرعة حيث أطفاله واقفين ، وحضنهم وأخذ يشم بهم كأم الجراء بعد الولادة؛ وكانوا قد همّوا بالبكاء بعد ما رأوا المودعين يبكون.
وعيناه المحمرتان ترقرقتا بدموعهما وكانتا كقرص الشمس في الشفق... ودموع زوجته وبكائها وبكائه الصامت وعينا أمه الحسيرتان المختبئتان خلف العدسات السميكة لنظّاراتها كلها عناوين للوداع ..
قبّلَ زوجته والتفتَ إلى أمه وقبّل يدها وانتفض قائلاً: اِدعي لي يا أُمي ؟ وسحب نفسه مسرعاً الى الخارج غير ملتفت ٍوراءه وجلس في سيارة شاكر؛ حيث كان ينتظره وقال لصديقه شاكر :هل الحقائب في صندوق السيارة ؟ أجاب شاكر: نعم انها في الخلف . ثم قال: وبصوت باهت مخنوق، لنذهب: وأدارَ شاكر محرك سيارته وانطلقَ.. وإذا برشة ماءٍ أمطرت خلف السيارة تقليداً لضمان سلامة الوصول.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحياتي
هاتف بشبوش ( 2015 / 1 / 17 - 21:36 )
أحييك على هذا الأبداع وهذه الذكريات التي لم تفارق أرواحنا حتى يهلك الجسد ويمحى من الوجود .... هاتف بشبوش

اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: بحب التمثيل من وأن


.. كل يوم - دينا فؤاد لخالد أبو بكر: الفنان نور الشريف تابعني ك




.. الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: لحد النهاردة الجمهور بيوقفن


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كل ما أشتغل بحس بن




.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو