الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من دفاتر نيتشه الفلسفية : مسألة الفلسفة و التفلسف و الفيلسوف، الأنواع و الوظائف ( 2 )

محمد بقوح

2015 / 4 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


1 – بؤس الفلسفة : المرض يتفلسف، مُوقعا نفسه كصوت صارخ لفيلسوف عدو للحياة .
الفلسفة هنا أداة للدعوة للفضيلة و التحلي بالأخلاق، بحثا عن السعادة، و المثل العليا، في الزمن المفارِق، و ليس هنا و الآن، في الزمن المحايِث، بتعبير دولوز . فلا شك إذن، أن نيتشه عندما وجّه مطرقته النقدية الهدامة للفلسفة الأخلاقية، كان يعني بالدرجة الأولى، المؤسس الأصلي لهذه الفلسفة، شيخ الفلاسفة سقراط، و أفلاطون، في العهد الإغريقي المتأخر، بالإضافة إلى "عامل الفلسفة" كانط الذي عمّق جرح الفلسفة، باعتبارها نظر فكري تأملي، مع الحياة و ليس ضدها . لهذا، كان نيتشه يعتبر نفسه دائما الصوت الفلسفي الصحي المضاد للتفلسفين : السقراطي و الكانطي التابعين و المريضين، اللذين انحرفا جذريا بالوظيفة النقدية الطبيعية التأملية، و العملية الحقيقية للفلسفة، ليلقى بهذه الأخيرة الأنيقة و الواضحة، إلى غياهب بيداء غموض الفلسفة الميتافيزيقية البئيسة، و المريضة و المعقدة، التي غيّبت التفلسف الفعلي، بل وأته إلى ما لا نهاية، فوجدت الفلسفة نفسها، مع الفلاسفة اللاحقين في العصور الفلسفية الموالية، و على رأسهم هيغل، متورطة داخل متاهة غريبة لا حدود لها، جعلت جدل ماركس، و فريقه الفلسفي يعلن، في لحظة من لحظات حياته الفلسفية، موت الفلسفة، نتيجة تحوّل وظيفتها إلى أداة أيديولوجية، في أيدي جهات أخرى، أساءت إلى الفلسفة، بقدر ما أساءت إلى جوهر فعل التفلسف، و إلى حياة وجود الإنسان، ككائن طبيعي و ثقافي بصفة عامة .. !!
من هنا، تساءل نيتشه حول الأسباب، التي دفعت الفيلسوف الأخلاقي، يختار الموقع الفكري و الفلسفي الضعيف، لمّا اتخذ الفلسفة كأداة، و ليس كهدف، لتأسيس تصوره الفلسفي التراجيدي للحياة . يعني الفيلسوف هنا يكون مع ما وراء الحياة الدنيا، ضدّ هذه الحياة الأرضية . يقول نيتشه : " ألا تتحول فلسفتنا هكذا إلى مأساة ؟ ألا تصير الحقيقة عدوة للحياة، للأفضل ؟ يبدو أن سؤالا ما يلح على لساننا، لكنه مع ذلك لا يريد أن يطرح نفسه : هل يمكن أن يستمر في الكذب و نحن نعلم ؟ و لو تطلب الأمر ذلك قطعا، ألا يكون الموت أفضل .. ؟ " 1 . إنها الأخلاق الفاضلة سبيلا لتحدي الموت، بدل سبيل التفلسف الوجودي، الذي اعتبر عند الفيلسوف الأخلاقي، خاصة أفلاطون، مجرد هرطقة و ثرثرة لا نفع من ورائها.

2 – الفيلسوف النظري و غياب الحسّ التاريخي و الواقعي لديه :
هو ذا صوت المرض يتفلسف، لنقل بداية المرض يتفلسف، حين يعرف الفيلسوف، و ليس يعلم، عمق الحقيقة الفلسفية للحياة في الواقع، و يعجز عن البوح بها، كلما أحسّ بهمومها، و أدرك بهجتها دون القدرة على عيشها، أو لمسها بعقله الناظر الباحث و المتأمل، ليجد نفسه ضرورة في واقع الألم الممزوج بمتعة التفكير الفلسفي . غير أنه، ليس من الهيّن أن يبوح هذا الفيلسوف "المتألم"، واقعا، حسب نيتشه، بالحقيقة الفلسفية الأصلية، و الخالصة في قوتها القديمة، كما مارسها فلاسفة الإغريق الطبيعيين مثلا، في الفترة ما قبل السقراطية، إن لم يتسلّح قدر المستطاع، بما يكفي من الحسّ التاريخي العملي، و بالنظر الفلسفي النقدي "المتأمل"، افتراضا، بعيدا عن منطق الانحباس المنفعل، داخل شرنقة أسئلة الذات الأخلاقية، و الخوف الغريزي من حتمية النهاية الطبيعية . و بالتالي، تم اعتبار الحياة هنا، على هذه الأرض، وضعا "مشبوها" و مذنبا، يحتاج إلى تعليله، بتبرئته . يقول نيتشه في هذا الصدد : " ستسألونني عن كل ما يتعلق لدى الفلاسفة بالمزاح ؟ إنه، مثلا، غياب الحس التاريخي لديهم، حقدهم على فكرة الصيرورة نفسها " 2 . أليس مفهوم الصيرورة، كمفهوم فلسفي، هو الواقع الحقيقي الذي فجّر ينبوع إلهام حكمة عمالقة الفلاسفة اليونانيين، كطاليس، و انكسمدريس، و هيرقليطس، و بارمنيدس .. إلخ، و أكسبهم، فعليا و ضرورة، القوة العقلية، و القدرة النفسية و البدنية على مواجهة الاكراهات الطبيعية و البشرية، لمّا اكتشفوا يقينا هذا المبدأ الفلسفي، في واقع تجليات الحياة من حولهم ؟؟
في المقابل، قذف نفس الاكتشاف ( مفهوم الصيرورة ) بالفلاسفة الأخلاقيين الفضلاء، إلى هوة الميتافيزيقا التي لا عمق لها .. ؟

3 – الفيلسوف العدمي : البحث في الأسئلة المعلقة في سقيفة الماورائية البعيدة عن الحياة :
كل من يرى أو يعتقد أنه لا جدوى من هذه الحياة، فهو إنسان عدمي . نعني الحياة على هذه الأرض . نستحضر هنا فلسفة شوبنهاور، التي كانت موضوع النقد اللاذع و الساخر للنص الفلسفي النيتشوي، باعتبارها فلسفة عبثية و عدمية إلى أقصى حد . لأنها فلسفة اختارت لنفسها موقعا، فرض عليها أن تكون ضد الحياة، و عدوة للإنسانية . و هو نفس التوجه الفلسفي الذي سار عليه الموسيقار فاغنر، و الشاعر غوثه . لهذا، كان لهما نصيبهم الوفير من هجوم ضربات نيتشه بمطرقته الفلسفية .
بالإضافة إلى أن أهم الوجهات الأخرى التي نالت حظها الأكبر، من ضربات مطرقة نيتشه النقدية و الهدامة، هي الوجهة الدينية المسيحية، باعتبارها، من منظور نيتشه دائما، تفكير عدمي متخلف و متشدد، لأنه يضمر كل العداء، و الكره، و الحقد الشديد، للحياة البشرية الأرضية . و بالتالي، و لهذا السبب، نظر إليها فيلسوفنا، في جميع كتاباته الفلسفية، و بجرأته المعهودة المميزة، كما لو كانت الوريث الشرعي للفلسفة النظرية، و العدمية الميتافيزيقية السقراطية المريضة . من هنا اعتبر نيتشه الفلسفة في عصره الحديث فلسفة مريضة، تحتاج إلى اللمسات الإشفائية للفيلسوف الطبيب الذي يجب أن يحمل، ليس جهاز التنصت و الكشف التقليدي حول عنقه، بل مطرقة صلبة بين يديه القويتين، من قبيل مطرقة نيتشه نفسه. و هنا لا بد أن نؤكد على اعتبار النظر إلى فعل التفلسف، باعتباره علاج و شفاء للمجتمع الحديث، الذي هو حسب نيتشه مجتمع غارق في أمراضه و أعطابه و أوهامه، و ليس لأي مجتمع كيفما كان، بالمطلق3 . لأن المجتمع الإغريقي و كذا الروماني، في الفترة ما قبل السقراطية، كان مجتمعا قويا و كله حيوية، و لم يكن في حاجة إلى الفيلسوف الطبيب، الذي لا جدوى من وجوده آنذاك، بقدر ما كان هذا المجتمع في حاجة ماسة إلى الفيلسوف الجينيالوجي و الثائر الجريء المتأمل . و بالتالي، فنيتشه هنا، عندما مارس فعل التفلسف، مركزا على وظيفتها الطبية و العلاجية، و العلاج هنا يبدأ بهدم و تقويض أصنام الإرث الفكري السائد، و العقدي التقليدي المتخلف بطغيانه، إنما مارسه بالمعنى الفلسفي العميق، المرتبط بالدولة الحديثة، و الإنسان الحديث في المجتمع الحديث الفاسد، أينما وجد ..، هذا المجتمع العليل و المحشو بكل أصناف التناقضات ، كانت أوجهها البارزة الآلة و المال و الاعلام، على حساب تبخيس أهل الفكر و النخبة المثقفة . لهذا كان نيتشه ينظر دوما إلى هذا المجتمع الحداثي الفاسد، ليس كمجتمع متقدم و قوي، كما يشاع و يطبل له، بل، على العكس، ينظر إليه باعتباره مجتمع مريض و منحط، بل بكونه نتاج الدولة الفاسدة و المستبدة، التي هي " عنف منظم " 4،و " حيوان خبيث "5، يجب على الفيلسوف تجنبه، كلما استطاع إلى ذلك سبيلا .
لكن، يبقى السؤال المطروح : لماذا ظهور هذه الفلسفة العدمية المنفعلة ..؟ و لماذا .. هذا الأفول السريع و المفاجئ للفلسفة الفاعلة و القوية، بصفتها فلسفة للتأمل الطبيعي في الوجود، و ليست مرضا بشريا يتفلسف ؟ و من يكون الفيلسوف
العدمي في أصله ؟
يجيبنا نيتشه، موجزا هذا الأمر المفارق، بقوله، أنه هو الفيلسوف الموزّع بين زوايا بوصلة الوهم، و الذي ضحى بالفلسفة و المعرفة الفلسفية، من أجل تحصيل الحياة الأخرى، أو أية فكرة لها علاقة بعدم هذه الحياة، التي يعيشها الإنسان كل يوم هنا و الآن . إنه الفيلسوف النظري و العدمي المريض بالتفكير الاستغراقي " في التأمل، بصفته فيلسوفا و متوحدا بالفطرة، فقد وجد مصلحته في الحياة بعيدا، على الهامش، وجدها في الصبر، و في التأجيل، و التأخير، مثل مفكر جسور و جريء غالبا ما تراه في متاهات العقل، مثل طائر نبوئي ينظر إلى الوراء حين يحكي عن المستقبل، أول عدمي كامل في أوربا، و لكنه قد تجاوز العدمية "6 .


4 – الفيلسوف الثائر : التأسيس الفعلي لفلسفة المستقبل، فلسفة الحياة و إرادة القوة
لا مناص من تحقيق التفلسف الحقيقي، إلا بتجاوز الفلسفة التقليدية، بصفتها السقراطية، و الكانطية، و الهيغلية .. إلخ، أي باعتبارها فلسفة أخلاقية سلبية، حاكم بها الفيلسوف النظري " المتألم " حياة الانسان على هذه الأرض، بحثا عن متعة حياة موهومة : هي حياة السعادة في الزمن المطلق، بعيدا عن فعل الأحاسيس الطبيعية، و النظر التأملي في حياة واقع التاريخ، و بالتالي، فلا يمكن مواجهة هذا الفيلسوف النظري المنحط و المريض، الذي اغتال الفلسفة و التفلسف الفعليين، بتعمقه اللامحدود، و المتورّط في أسئلته الخاطئة المفارِقة، إلا " بالسخرية و الازدراء، تلك الأهواء التي تنمو في اتجاه المستقبل، و في اتجاه سعادة أخروية "7 .
من هنا، فنيتشه، و بعد استنفاذه التام لكل السبل التفكيرية و البحثية و الحوارية، ضدّ أسس و أصول تلك الفلسفة المعادية للتفلسف الحي و الانسان و الحياة ذاتها، بتعريتها و الكشف عن مستورها المتعفن، توصّل إلى حقيقة فلسفية راهن عليها، مفادها أو لنقل " ستكون خاتمتها النظرية هي فلسفة الهدم " 8 .
غير أننا، آخرا و ليس أخيرا، نجد أنفسنا مجبرين لطرح السؤال المقلق، الذي سبق أن طرحه نيتشه نفسه، على غريمه المضاد : شيخ الفلاسفة سقراط، لكن نطرحه هنا بطريقة مقلوبة : إذا كان كل من سقراط، و كانط، و حتى هيغل و شوبنهاور، مثلا .. قد سقطوا جميعهم في فخ التفكير الفلسفي الميتافيزيقي، لانشغالهم الكلي و الأساسي، بموضوع الفلسفة ( الإنسان )، أكثر من انشغالهم بالفلسفة ذاتها، كمفاهيم فلسفية تخترق جسم كلية الحياة، بتعبير دولوز..، فهل نجح فيلسوف المستقبل و إرادة القوة، في الابتعاد من جانبه عن فخ الميتافيزيقا، كما أراد لمشروعه الفلسفي أن يكون، و نهجه في كتاباته الفلسفية الأولى ؟ طبعا، الجواب عن هذا السؤال لا بد أن يكون بالنفي . لأن نيتشه، بالفعل نجح في تقويض أسس الفلسفة الميتافيزيقا، التي يبقى روحها مشتركا بين جميع الفلاسفة الفضلاء و الأخلاقيين، إلا أنه، بإبداعاته الفلسفية الكبرى الأخيرة، من خلال مفاهيم فلسفية خالدة، من قبيل : العود الأبدي، و الإنسان الأعلى .. و هي المفاهيم التي دشّن بها تصوره الفكري الجديد لفلسفة المستقبل، يكون قد سقط بدوره، ربما دور أن يدري، في فخ جحيم الميتافيزيقا، الذي لا مفر منه، باعتبار الصوت الفكري و الفلسفي العميق لزارادشت، الموجّه أساسا لعوالم طبيعية و بشرية مفارِقة، بحث من خلاله نيتشه عن ماهية جديدة للإنسان الحديث ( المعاصر لنيتشه )، في علاقته الوجودية و الفلسفية و العملية، بكل تجليات و مظاهر الحياة، بمعناها الظاهر و المتواري ؟؟



1 – نيتشه ، إنسان مفرط في إنسانيته، ص 37
2 – نيتشه ، أفول الأصنام ، ص 23
3 – لحسن تفروت، نيتشه : الفيلسوف طبيب المجتمع، الحوار المتمدن، عدد 4715، 2015
4 – محمد الشيخ، نقد الحداثة في فكر نيتشه، ص 39
5 – محمد الشيخ، نفسه ، ص 40
6 - نيتشه ، إرادة القوة ، ص 7 – 8
7 – نيتشه ، إنسان مفرط في إنسانيته ، ص 37
8 – نيتشه ، نفسه ، ص 37








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ألعاب باريس 2024: اليونان تسلم الشعلة الأولمبية للمنظمين الف


.. جهود مصرية للتوصل لاتفاق بشأن الهدنة في غزة | #غرفة_الأخبار




.. نتنياهو غاضب.. ثورة ضد إسرائيل تجتاح الجامعات الاميركية | #ا


.. إسرائيل تجهّز قواتها لاجتياح لبنان.. هل حصلت على ضوء أخضر أم




.. مسيرات روسيا تحرق الدبابات الأميركية في أوكرانيا.. وبوتين يس