الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استحالة لاودي عن سنخه إلى إنسان

نعيم إيليا

2015 / 4 / 19
الادب والفن


الإهداء: An Marie-Layal
لا يذكر السيد (متاي) عالم الأحياء، والأستاذ في جامعة (تشارلز داروين) ليلةً ألمّ به فيها أرقٌ عنيد شبثٌ مثل هذا الأرق الذي يلمّ به الآن. إنه مذ استتبّت دروبه في دنياه، وجرت حياته على وتيرتها الهادئة المطردة في نعومتها وإيقاعها المنتظم الرشيق؛ لم يكد جفنه أن يخادن أرقاً.
كان الأستاذ متاي، أوى إلى النوم من بعد أن أكلَّ بصره، واستفرغ جهده على مدى ساعات طويلة متصلة امتدت من العصر حتى الثانية عشرة والربع ليلاً في إعداد محاضرته الجديدة ليوم الاثنين القادم في حجرته الخاصة (مختبره) دفعةً واحدة؛ على خلاف عادته التي جرت على أن يعدّ محاضرته على دفعات متقطعة في أوقات متفرقة من يومي عطلته الأسبوعية. وإنما اضطره إلى هذه المشقة أن زوجه (باريناس) رغبت إليه بُعيد عودته من الجامعة إلى البيت رغبةً فاضت رجاء وإلحاحاً في أن يتفرغ قليلاً لواجبه الأسري يومي العطلة؛ فيرافقها في زيارتها لابنتهما فابي (تصغير التحبب من فابيولا) التي تسكن مع زوجها (رابو) وحفيدهما الصغير (تومي) في دارتهما الجديدة الفسيحة الأنيقة المطلة على بحيرة الغرنوق التي تسيجها أشجار الآهورن والبلوط والسرو والكستناء، وهي تقع في الحي الغربي الهادئ من المدينة العملاقة.
زوجه باريناس، كانت سبقته إلى المخدع بساعتين، على أقل تقدير، فور أن انتهت من مشاهدة فيلم السهرة الممتع الذي انتظرته بشوق ضارع على القناة الأولى.
ولج غرفة النوم وهو يغالب تعبه. باريناس مضجعة في فراشهما المشترك. ضوء النوّاسة المنسدل عليها قاتم شديد الحمرة؛ فأحدّ إليها بصره، تأملها بغبطة: كانت باريناس مستلقية على جنبها الأيمن مطوية الركبتين، يغطيها اللحاف الرقيق حتى كتفيها، غارقة في نوم صامت بلا غطيط، وخدها راقد رقاداً مستسلماً وديعاً فوق راحة يدها اليمنى، وشعرها الخرنوبي الجثل الذي نسيت أن تحزمه بجديلة واحدة خلفها، منفلت مفروش بفوضى فنية ماتعة على المخدة، تضوع منه رائحة طيبٍ زكية تشمّمها أنفه عن بعد.
جمع شعرها باحتراس، أزاحه عن موضعه من المخدة؛ كي يوفِّر لخده موضعاً يمكِّن معالم وجهه البارزة، ولا سيما أنفه، من الالتحام بعنقها من الخلف، وارتشاف رائحته الشهية المخدرة. رفع طرف اللحاف، اندس تحته، التصق بالدفء المنبعث من ظهرها اللدن، ثم أرخى ذراعه التي أحسها باردة متخشبة، حول خصرها.
وفي اللحظة التي أغمض فيها عينيه الكليلتين، ومدّد بحذر وتباطؤ ساقيه المتصلبتين، من طول جلوسه إلى مكتبه، كربت زفرة ارتياح صائتة أن تنطلق من بين شفتيه بجوار أذنها، ولكنه كان أسرع منها؛ سبق إليها فأخمدها من خشية أن توقظها.
انطبق جفناه.. أوشك انطباقهما أن يسافر به إلى نوم عميق بزورق آمن متهاد خلي البال، حالما أرخى عضلات ساقيه المتصلبة بتلك الطريقة الحذرة المتأنية المتعمدة، لولا أن دهمه طيف (بينار) ووسوس في جفنيه المنطبقين بذاك النبأ الذي سيجفّل النوم منهما تجفيل طائر من عشه.
بينار تلميذته.. في عامها الثاني على مدرج الكلية، على نجابة ووعي يقظ، مفعمة بالنشاط والجرأة والثقة بالنفس، يتألق من جبهتها ذكاء يلمع كأنه نبض شعاع يلمحه الناظر إليها عن قرب وعن بعد؛ لها شغف لاهث بالمعرفة قلَّ أن اتصف به أحد من تلامذته كاتصافها هي به. وإنه ليخصُّها بمودة مكنونة داخل صدره مذ استكشف خصالها ومواهبها، وإنه ليحدب بتحنان وإعجاب وترقب على جناحها الغض وهو يختفق في رحاب العلم. وإنه ليفخر بها.. لطالما فخر بها أمام زملائه في مجلس الإدارة! ما أكثر المرات التي فخر أمامهم بها فخراً ربما حمس فيه وغالى.
ولكنها بينار! فلا تخلو أحياناً من أن تشاكسه في أمر لم يحلُ في عقلها، فتروح تلجّ فيه آبية أن تبتعد عنه. كما حدث عندما عرض في نهاية إحدى محاضراته لسؤال الغاية من الانتخاب الطبيعي، وحينذاك أصرت بينار إلا أن تعانده، وتنقض رأيه بحجج تستمد أكثرها، كما لاحظ، من الفلسفة. لقد بذل في ذلك اليوم جهداً غير قليل لإقناعها بأن الطبيعة لا تنشد غاية محددة من التطور والانتقاء، ولكنها ما برحت متمسكة برأيها لا تحيد عنه، قالت يومها محتجة:
- لفظ التطور بذاته يتضمن مبدأ الغاية. فالكائن الذي يتطور، فإنما يتطور لغاية. ولو كان اللفظ غير متضمن معنى الغاية، لجاز إحلال لفظ محلَّه لا يتضمن معنى الغاية. فلما امتنع في اللغة أن يحل محله لفظ بديل لا يتضمن معنى الغاية، فقد ثبت وجود غاية منه. ولنأخذ الخلية مثلاً: فإنها عندما (قررت) بعد مضي أكثر من ثلاثة مليارات من السنين على ولادتها، أن تتخذ لنفسها جسداً، لم تقم بتنفيذ قرارها إلا لغاية واضحة جلية هي أن تحسن شروط حياتها.
فرد عليها يومذاك بقوله: صحيح أن الكائن الحي يسعى إلى البقاء بتحسين شروط حياته ووظائف أعضائه، ولكن الكائن الحيّ ليس هو الطبيعة. إن الطبيعة لا تعبأ بالكائن الحي. فسيان عندها أن يبقى الكائن حياً، وألا يبقى. فتعترض:
- ولكن مبدأ السعي للبقاء لدى الكائنات الحية، أوجدته الطبيعة فيها! أليست الطبيعة هي التي أوجدته فيها؟
يذكر أن بينار في ذلك اليوم، حبسته عن الراحة في الممر المفضي إلى مكتبه، متجاهلة توقه الشديد إلى الراحة. ويذكر أنه صوب من خلف نظارته السميكة نظرة خاصة إلى ساعته، اندلق منها تعبير موارب غير مباشر عن حاجته إلى الفكاك من حبسها ليستريح ويسترد قواه المتلاشية في مكتبه مع قهوة سوداء يبلّ بها ريقه الجاف. إلا أن بينار، على الرغم من أنها في تلك اللحظة فهمت ما في نظرته من المعنى – بينار ليست من ضعف الذهن والحس في شيء لكي لا تفهمها - ووعت بحسّها الرهيف وذهنها اللماح ما فيها من توق مقهور، تجاهلت - لسوء حظه - توقه المقهور إلى الراحة، وذهبت إلى مرامها وغايتها بشكسٍ، لم تدع للحرج معه أن يثنيها عنهما، ولم تدع لرأفتها معه أن تبدي تأثراً بحالته المضعضعة. فلم يجد، إذ ذاك، بدّاً من أن يصبر على ما به.. أن يتجالد تجالد الأب أمام ابنته العنود، فيحادثها باشّاً لها مسترسلاً إليها شارحاً مستفيضاً في الشرح والإبانة ورد الاعتراض بالحجة والدليل العلمي؛ حتى طال به الوقوف على ساقيه في الممر، وشقّ ذلك عليه.
وربما تورطت بينار في حكم متعجل على صحة نتيجةٍ متوخاة من تجربة يزمع القيام بها في المختبر كتجربة الصوم الطويل عن الطعام. وهي تجربة كان أول من قام بتنفيذها زميله (راكافان) الطبيب المدرس في جامعة (ألكسندر فون هومبولدت) فأثبت بها أن الصوم الطويل عن الطعام لعدة أسابيع متتالية، يخفف من الآثار الجانبية الخطيرة الناجمة عن معالجة مرض السرطان بالأشعة والمواد الكيماوية. فلما أراد أن يكرر التجربة عينها أمام تلاميذه كي يدفع شكوكهم عنها، ويجريها في مختبر الجامعة على الفئران، تنبأت لها بينار بالفشل. ولكن التجربة نجحت على يديه أيضاً: عاشت الفئران الصائمة التي عالجها من السرطان بالأشعة والأدوية الكيماوية، وماتت الفئران تلك التي عولجت منه بها ولم يمنع عنها الطعام. ولكن بينار التي عجلت بحكمها على التجربة بالفشل، لم تعترف بخطئها في التنبؤ. قالت بدهاء مراوغ حين سألها عن رأيها الأخير بالتجربة: " إن الأولى بها أن تحتفظ برأيها وتنتظر حتى تسفر التجربة، التي ابتُدئ قبيل أيام بإجرائها في مستشفى (جالينوس) على البشر، عن نجاح مماثل".
اعتقد إثر عودته إلى منزله من الجامعة، أن نفسه شفيت من القلق الذي عراها في نهاية دوامه بتأثير ذاك النبأ شفاء كلياً. غير أنه يكتشف الآن أن اعتقاده ذاك لم يكن إلا وهماً باطلاً وقبض الريح. فها هو القلق يبلوه من جديد؛ يهاجمه بعنف، بقحّة، بضراوة متخذاً من النبأ اللعين الذي حملته إليه بينار نهاراً مطرقة ثقيلة يطرق بها قرب أذنه في ليلته هذه التي زادت فيها حاجته إلى الراحة والنوم على الأخص. ولما كان يعلم أن الأرق إذا ما هاجم المضطجع في فراشه بليلة بليدة ليلاء كهذه الليلة وكان المضطجع يعاني حالة الإرهاق التي يعانيها؛ فإنه لا بد أن يكون أرقاً فاحشاً أهوج مشوّشاً له قدرة فائقة على أن يستبيح ذهن المضطجع الأرِق مثل فيروس نشيط مقاوم خبيث؛ فيمنو ذهنَه بالعجز والوهن، ثم يشرع بعد ذلك يعيث به على كيفه وهواه! إنه ليعلم كل ذلك من الأرق، ولكم يسوءه علمه به ويؤذيه!
بدأ ذهنه يسترجع الأحداث التي وقعت له في يومه الطويل حتى لحظته الراهنة.. بدأ يفكر بها وبآثارها؛ بل إن الأرق في الحقيقة هو الذي يرغم ذهنه الآن على استرجاع ما وقع له من أحداث متشابكة كثيرة: صغيرة تافهة، وكبيرة جليلة. وهو الذي يرغمه على التفكير بنتائجها المؤثرة فيه. ها ذاكرته تتداعى تحت سلطة فيروس الأرق تداعياً قسرياً قهرياً بأحداث يومه، فأما هو، فمغلول الإرادة عاجز مثبَط لا يملك حيالها أن يفعل شيئاً:
في السادسة استيقظ - وهذا وقت استيقاظه كل يوم من أيام الأسبوع ما عدا يوم الأحد فإنه يطيل فيه النوم إلى الثامنة أو دونها بقليل – دحرج ثقله من السرير إلى الأرض بخمول متثائباً متمطمطاً. اتجه نحو الحمام، استحم، أدخل عريه المبلل ببرنس التنشيف، جفف شعره الرمادي الخفيف، حلق ذقنه النابت، كواه بعطر، مضمض في فمه سائلاً بطعم النعنع، ثم عاد إلى حجرة النوم متجرداً عارياً، فارتدى ثيابه التي اختارتها له زوجته. دخل المطبخ. باريناس في المطبخ، قد ائتزرت بمريلة فوق قميص نومها الأبيض الليلكي الرقيق الشفِّ، وعقصت شعرها الغزير في ضفيرة واحدة. كانت فرغت من إعداد مائدة الإفطار، كانت كأنما تنتظره واقفة على ساق واحدة مائلة بقامتها إلى الخلف مستندة بعجيزتها إلى رخامة المجلى جادلة ذراعيها فوق صدرها تصغي إلى نشرة الأخبار تذيعها محطة محلية، وفنجان قهوتها على الرخامة إلى يمينها ينفث في الجو أشواقه إلى شفتيها.
تقدم من المائدة منشرح القدم مبتسماً. جعلت باريناس تقلب نظرها في هيئته وهندامه؛ تتفحصه من شعره حتى حذائه. واتسعت ابتسامته إذ رأى شفتها السفلى تتهدل بحركة عبرت عن رضاها. سحب كرسيّه وجلس، فتركت مكانها وجلست بإزائه في الطرف المقابل له من المائدة المستطيلة المثقلة بما صفّ فوقها. باشر الطعام، فإذا بأساريرها تنطلق، وبثغرها يفتر عن فرحة واستبشار، وإذا هي تتقلقل فوق كرسيها بنشاط، وتتأرجح بحبور. بدت باريناس وكأنها تذكرت في التو شيئاً محبوباً مشوقاً نسيت أن تخبره به. ولم يطل بها.. أخبرته أن حفيدهما تومي شق له سنٌّ ليلة البارحة. كان نبر صوت الجدة باريناس وهي تقص عليه الخبر مبتلاً بذوب من الحنان معدٍ سرعان ما اخترق قلبه فأعداه، وأسال منه شوقاً دافقاً إليه. فلما أطلعته على رغبتها في أن يمضيا معاً عطلة الأسبوع لدى فابي ابنتهما؛ كي يستمتعا بطلعة حفيدهما تومي، ويتذوقا حلاوة نعنعته؛ تريث هنيهة، إذ تذكر أن برنامجه مكتظ بما يجب عليه أن ينجزه في عطلة الأسبوع، قبل أن يجيبها:
- اذهبي أنت، سأحاول أن ألحق بكِ...
إلا أنه، وقد رأى إلى سحنتها، أسرع فطمأنها قائلاً: سأبذل وسعي!
ولكن باريناس لم تقنعها (محاولته) أن يلحق بها وأن يبذل وسعه. إن فكرة المحاولة وبذل الوسع تستبطن التردد، ولا تقي من النكوص عنها؛ فعمدت إلى الضغط عليه.. استنفرت باريناس عاطفته لتستحصل منه وعداً صادقاً بالزيارة. ولم يخب مسعاها؛ أذعن الزوج الطيب لرغبتها الملحاحة، غير أنه رجاها أن تذكره بها حال عودته من الجامعة. فمن يدري! فقد، ربما سها عنها أو حال دون تنفيذه لها طارئ ما.
نهض عن المائدة، نظف أسنانه بالفرشاة. دخل مختبره؛ ليزود فئران تجربته الجديدة بما تأكل وتشرب. ثم حمل حقيبته، وعجل بالخروج. كان ذهنه خلال هذه المدة القصيرة قد ازدحم بكثير من الأفكار الجانبية، وعج بملاحظات هامشية تتعلق بخطة الدرس التي أعدها ليلاً لتلاميذه. عندما بلغ الباب وهمّ بفتحه، استوقفته باريناس بنداء ممدود، فتوقف عن السير طائعاً على نحو آلي. جاءت إليه حاملة شالاً صوفياً، لفّته حول عنقه، وهي تقول ناصحة محذرة:
- ينبغي أن يحتاط المرء من البرد وخصوصاً في هذا الشهر!
فتح الباب على صبح معتكر بالرماد، ارتعشت رئته من لذع برودة الهواء. رفع نظره إلى السماء. الغيوم لجيّة تموج ببطء متوعد. سار على الرصيف المحاذي للحديقة؛ ليصل إلى مرأب السيارة. لمح (سو) مساعدة زوجته في تدبير شؤون المنزل، على مدخل حديقة الدار. كانت سو محنية الظهر تربط عجلتها الهوائية بالقيد إلى العارضة الحديدية المخصصة للدراجات، وخوذتها الصفراء المحلاة بخطوط حمراء، تحمي رأسها. استقامت بظهرها إذ رأته، حيَّته بتحيتها الصاخبة المجلجلة المشهورة وهي تبسم له ضاحكة. على بعد خطوات من المرأب، لقي جاره العجوز الأرمل (كروف) منتصباً خلف السياج النباتي الواطئ الذي يفصل بين داريهما. كان الشيخ يتأهب للقيام بجولته الصباحية المعتادة مستعيناً بعصويه الطبيتين اللتين أقنعه طبيبه بوجوب استخدامهما في مشواره الصباحي؛ وهو الأمر الذي حال، أغلب الظن، دون أن يرفع له العجوز قبعته التي اعتاد أن يرفعها له كلما لقيه مصادفة. بيد أن الذي عطل يد جاره العجوز عن رفع قبعته، لم يعطله عن الاستفسار الذي دأب عليه عن صحة زوجته باريناس بصوته القوي المدهش، وبأسلوبه الطلق المطعّم بألفاظ متخيَّرة كأنما من معجم طبقة النبلاء العريقة في القدم.
لم يسعفه الحظ بالعثور على موقف قريب من المعهد فارغ يركن فيه سيارته؛ مما تسبب بتأخره قليلاً على تلاميذه الذين كانوا اجتمعوا في قاعة المحاضرات الأولى منتظرين قدومه وهم يلغطون. قدم اعتذاره لتلاميذه، ثم خرج بهم، وفق الخطة المعدة لهذا النهار، من قاعة المحاضرات إلى مركز البحوث والتجارب.
المركز بناء ضخم فخم مهيب يتكون من أجنحة كثيرة، زوّدت بأحدث الأجهزة والمعدات الالكترونية التي يُحتاج إليها في إجراء الفحوص الدقيقة والتجارب السليمة والاختبارات المحكمة على الحيوان والبكتريا والفيروسات والنبات وعلى الإنسان أيضاً. يقع المركز خلف قاعة المحاضرات، بينه وبين القاعة، حديقة فسيحة ذات رفيف تشبه البستان، يشقُّها من منتصفها ممرّ يصل المركزَ بقاعة المحاضرات الرئيسة، مرصوفٌ بحجارة صغيرة على شكل مكعبات يجنح لونها إلى الحمرة.
كانت خطته التي أعدها لتلامذته، تتضمن أن يطلعهم على التغيرات الأخيرة التي طرأت على (لاودي) عقب الجرعة التي حقنها في وريده قبل ما يزيد عن خمسة عشر يوماً. وهي الجرعة الكيميائية التي ابتكرها بعد الفشل الموجع المخجل المحبط الذي منيت به اختباراته الابتدائية الأولى التي اعتمد فيها على أشعة إكس المخفّفة في محاولة منه يائسة لدمج جينومين في واحد عند لاودي. ولجرعته هذه صيت ذاع وانتشر بسرعة عجيبة بفضل الشبكة العنكبوتية في جميع الأوساط العلمية، وبفضل الحملة غير المظفرة التي شنها ضده وضد جامعة تشارلز داروين، حقوقيون من منظمة حماية حقوق الحيوان.
وعلى الرغم من أن الأوساط العلمية، كانت على دراية بأمر جرعته الكيميائية، فإنها لم تكن، أو لم يكن عالم واحد من علمائها بتعبير أدق، على دراية بمحتويات الجرعة أو مكوناتها؛ وذلك لأنه بقي حريصاً إلى حد الشره أن يترك مكونات جرعته الكيمياوية سرّاً مختوماً حتى تحين المناسبة المنتظرة منه بكثير من الجلد للكشف عنها وقطف ثمارها في إبّانها.
ولكن، أيُّ شيء هو لاودي؟
لاودي، لمن لا يدري ما لاودي ، قرد من فصيلة البونوبو. ولد في محمية (راتسي) إحدى محميات قردة الشِمبانزي في وسط القارة السوداء. وكان هو الذي ألف منذ ثلاث سنوات الإقامة في مخيم الأبحاث التابع لجامعة تشارلز داروين في فترة إجازاته السنوية، يراقب هناك سلوك البونوبو، ويعاين طرائق عيشها وأنماطه، ويحلل أمراضها، ويختبر سبل علاجها بمعاونة زميلته طبيبة الحيوان السيدة (شينو)، حاضراً يوم ولد لاودي. إذ حدثت ولادته في الصيف؛ في بداية شهر آب من عام إقامته الثالث الأخير في المحمية.
ماتت القردة الأم عقب إنجابه بأيام قليلة موتاً فجائياً نجم، حسبما أكدت زميلته، عن جهد ثقيل سقط سقوطاً مروعاً على قلبها فمزقه مزقاً وأسكت نبضه إلى الأبد. وقع ذلك في اللحظة التي قفزت فيها الأم قفزة شاهقة ممطوطة غير مدروسة النتائج من شجرة إلى أخرى هرباً من أفعى ثخينة مترصدة، كانت ملتفة على غصن تغطيه الأوراق من تلك الشجرة ولكنْ غطاء رقيقاً شفّ عنها. وكانت القردة الأم، وقتما قفزت، حاملة رضيعها ذا الكتلة الزهيدة مضموماً إلى ثديها ولكنه - لحسن الحظ - لم يصب بمكروه. نجا الرضيع من الموت الذي لم تنج منه أمه المنكودة؛ فظأره الأستاذ وتولى رعايته والعناية به، وقد ذكا بالرضيع حلمُه بتحويل القرد إلى إنسان، كما تذكو جمرة من الفحم تنفَّس دفقة من هواء.
فلما استوفى أيام إجازته العملية التجريبية الأخيرة هناك في المحمية، حمل الرضيعَ معه وطار به إلى منزله. مكث الرضيع أسابيع في حضن أسرته متدثراً بعطفٍ دافئ حانٍ، وفي حضن أسرته نال علامة اسمه الفارقة. فباريناس وفابي هما اللتان، بعد دفع وجذب وأخذ ورد، اتفقتا على منحه هذا الاسم، وهما اللتان أشاعتاه بين الناس. وكان لاودي أسر قلبيهما من النظرة الأولى بحركاته الخرقاء وشقاوته وفضوله الجم وبراءته الطفلية.
لبث لاودي في حضن أسرته منعماً إلى أن نجح في استحصال الموافقة الخطية من الجهات المسؤولة عن هذا الشأن في وزارة التعليم العالي، على أن يقيم إقامة دائمة في شقة حسنة التأثيث داخل مبنى البحوث والتجارب.
وضع لاودي تحت إشرافه، يساعده في الإشراف عليه فريق عمل تألَّف من الدكتور السيد (بارهيا) المتخصص بعلم النفس والسلوك؛ والدكتورة (شينو) المتخصصة بطب الحيوان، والدكتور (زوديك) طبيب الدماغ والجملة العصبية، والسيدة (لينارس) أستاذة اللغة، والسيدة (سيراف) خبيرة التغذية، والبستانيّ المجتهد السيد (ياد) الذي اهتم اهتماماً خاصاً برياضة لاودي في بستان الجامعة، وبزياراته لأفراد من نوعه في حديقة الحيوان، وبنزهاته في غابة (الامبراطور) الواقعة على مشارف المدينة بمسافة تقطعها سيارته في ساعة وعشر دقائق.
انتظم الطلبة حول لاودي في حلقة نصف دائرية. فغرت أفواههم وأحداقهم، تبدلت سحناتهم وهم يرونه يؤدي بلياقة عالية وكفاءة منقطعة النظير اختبارات الذكاء وامتحانات السلوك. علا ضجيجهم، اشتد هرجهم، تصاعدت أنفاس دهشتهم، ولا سيما عندما رأوا لاودي ينجز أمام أبصارهم المأخوذة رسمَ صورة بالفرشاة والألوان، عبرت تعبيراً جلياً عن شوقه إلى قردة فتية شاهدها، كما روى البستاني ياد، داخل قفص في حديقة الحيوان تغنج وتتثنى بغواية الأنثى المشتهاة؛ فانجذب قلبه إليها انجذاب مسمار خفيف إلى كتلة ممغنطة.
حيال هذا المشهد البديع المونق بالعاطفة والدهشة والإثارة، لم يملك عدد من الطلبة أن يضبط نفسه عن الانفعال الهادر؛ فطفق يصفق بحرارة وحميّة معلَنة ظاهرة: (جالِه)... توردت وجنتا (جاله) تلميذته الواقفة بحذائه في الطرف الآخر من الحلقة، اندفعت تهتف بلاودي:
- هيا لاودي، تكلم! لاودييي.. تكلم!
كان صوتها مشحوناً بطاقة متوترة مضغوطة ذكرته بتلك الطاقة التي عبّأت صوت ميشايل أنجلو الصارخ في وجه تمثاله دافيد: انطق! أما تلميذه (جيرد) الذي كان بجواره عن يمينه فصرخ، وقد عصفت به نوبة من الحماسة المفرطة الهستيرية:
- لا لا.. لا أصدق! هذا ليس قرداً، هذا ليس قرداً أيها الناس.. هذا إنسان حقيقي، إنه إنسان! أقسم... إنه إنسان حقيقي!
وإذ سمع غيرَ واحد من الطلبة، يكرر صرخة جيرد - وإن بهمهمة وحماسة أرقّ من حماسته المجنونة المستعرة - ترقرقت في نفسه بهجة صافية نقية نشوى، وانسجمت في أعطافه مشاعر قطرت ثناياها برضى لذيذ الطعم، قوّت أمله وإيمانه بقرب إدراك مراده. ولولا تيقظه الذي ألهمه أنه لا يليق به في هذا المقام أن ينجرف في تيار الانفعال المفرط، لهتف عالياً بمثل هتافاتهم الحماسية: "يا لجمال المشهد، يا لفتنته، يا لسحره!" ولأردف هتافه بما ينفي وجود شيء، أي شيء، يرقى إلى رتبة هذا المشهد في روعته وقوة جاذبيته وفي ما يستثيره في النفس من ألوان الغبطة؛ لكان هتف، لكان صرخ: "أفي الدنيا ما هو أجمل وأبعث على البهجة في نفس الإنسان من أن يرى سعيه مكللاً بغار الفوز والنجاح؟".
وبلغت الحصة التي دامت قرابة ثلاث ساعات نهايتها، ولكن جمع الطلاب المحيط بلاودي، بقي متلبثاً في مكانه يتموج مثل سنابل القمح تموج مع الهبوب ولكنها لا تفارق مكانها. كان الجمع كأنه منغرس حتى أعلى ساقيه في تربة التعجب والانبهار؛ فلم يغادر حلقته المضروبة حول لاودي ولم يتبعثر، كما يتبعثر عادة بعد انتهاء المحاضرات في اتجاهات متفرقة شتى خارج شقة لاودي والمركز؛ إلا بعد طول تردد.
وحين انصرف الطلبة وخلت منهم شقة لاودي، قام فودع مساعديه الموجودين من فريق العمل وداعاً متأنياً بعبارات وحركات ومض فيها مرح وبهجة ولفَّعها زهو وافتخار. ولم يفته أن يداعب لاودي، وأن يضمه برأفة الأب المشجع إلى صدره لحظة الوداع.
على بلاط الممرِّ الملتمع بغسل من السحاب، انذرع في سيره نحو حجرة مكتبه بخطوات حثيثة منفرجة؛ عساه أن ينجو من بلل المطر الذي بدأ تساقطه في هذه اللحظة يغزر ويشتد. كان قد أمسى قادَ مترين أو أدنى من باب الدخول إلى المعهد، لحظة أن بلغت أذنيه جلبة من خلفه يؤازرها بمساوقةٍ منغمة قرعُ أحذية على البلاط أحس بأنها تتبعه راغبة في اللحاق به. فوقف، التفت، فلمح بينار. لم تكن بينار وحدها. كان بصحبتها اثنان: تالين زميلتها المقربة منها، وداريوش زميل الاثنتين، فأبقى الباب مفتوحاً أمام الثلاثة، وانتظر.
دخلت بينار، بادرته على الفور، خاطبته بصيغة المفرد، وهي تضحك ضحكتها الظريفة، وتنفض قطرات المطر عن خصلات شعرها المتطايرة، بعبارتها المازحة:
- في هذه المرة، لن تتملص من دعوتنا لك إلى فنجان قهوة...
فجاراها قائلاً:
- ولماذا "لن تتملص" ؟ فهبيني تملصتُ، ما عساكم عندئذ تفعلون؟
- لن نتراجع قيد أنملة عن قرارنا..
- قراركم؟
- نعم.
- وقراري أنا؟
- ههههه.. قرارنا أولى بالاتباع. نحن ثلاثة وأنت واحد.
ثم كأنها تذكرت شيئاً. قبضت على حقيبتها، وقد جفت ابتسامتها الضاحكة، عكفت بينار على الحقيبة ثوانياً حتى أخرجت منها مجلة مصورة. ناولته المجلة، فتناولها وقال:
- آا.. ( كوزموس) ما الجديد فيها؟ لم أقرأها بعد.
أخذ المجلة، وقلب صفحاتها دون أن ينظر محتوياتها.
أجابت تالين:
- استكشاف جديد لعلماء (ناسا). كان صوتها فاقداً صفاءه مبحوحاً، وكان في عينيها قلق غامض، وهي تتكلم بصيغة الاحترام.
- ربما يهمكم الاطلاع عليه.
- شكراً! سأطلع عليه في مكتبي، تعالوا معي.
- أترفض دعوتنا!؟
احتجت بينار بدَلّ طفلة، تراجعت خطوة إلى الوراء بحركة خفيفة جسّمت استنكاراً لطيفاً.
أجاب بمخاتلة:
- لا أرفض دعوتكم ولكن إلى مكتبي. فلنذهب إلى المكتب! لديّ قهوة طازجة تكفينا جميعاً.
اعتذر داريوش، كان عليه أن يلحق بزملاء حلقته في المكتبة، وأذعنت الاثنتان لدعوته. سارتا معه: إحداهما إلى يمينه، والأخرى إلى شماله، وحديثهما المتعاقب حيناً والمتشابك حيناً عن (المعجزة) لاودي، وعن انطباعاتهما الجميلة عنه، يختلط بوقع حذاءيهما المنغم على بلاط الممر. كان حديثهما عن لاودي حلو المذاق. فلما اتخذتا مجلسيهما على الكنبة الواسعة، قال من خلف طاولته مؤيداً رأيهما بلاودي بثقة هادئة:
- لاودي أعجوبة فعلاً.
ثم أضاف :
- إن الأمل في تحوله، بات وشيكاً.
لكن بينار، ما إن عبرت أذنها كلمة التحول، حتى تحركت في مجلسها إلى جانب تالين كأنما ضاقت بها الأريكة التي تتسع لثلاثة. اتجهت برأسها إلى الزاوية التي انطلقت منها قرقرة إبريق القهوة، وقالت بلهجة من يدلي باعتراف خطير ويخشى عواقبه:
- المعذرة! أظن.. أخال أن لاودي... أظن أنه رغم الخطوات المتقدمة التي خطاها.. أظن أن لاودي رغم تفوقه على أقرانه من نوعه بفضل العناية الخاصة الموكلة به، عفواً، أعني ، أظن أنه لن يتحول.. !
فاجأته بينار، فاجأه تلعثمها، تقطع كلامها وارتباكها. حدجها بنظرة ثاقبة، استفسر مستغرباً:
- من أين لك أنه لن يتحول؟
أشارت بينار بسبابتها وبحركة من حاجبيها إلى المجلة الغافية أمامه على سطح الطاولة، فسألها:
- أجاء فيها أنه لن يتحول؟
- ربما ... قد يكون جاء فيها شيء من هذا القبيل، نعم بهذا المعنى! ولكن لم يرد فيها ذلك بصيغة مباشرة صريحة، عفواً! لم يرد فيها جهرة أن لاودي لن يتحول، لا... لاودي لم يأت له فيها ذكر. إنه (فقط) استكشاف جديد، استكشاف مهم كما ذكرت تالين..
- وما الذي تمّ استكشافه؟
- استكشف علماء ناسا أن الخلايا المجهرية الحية التي عثروا عليها داخل الأجزاء المتفتتة من النيزك الصغير الذي سقط في آلاسكا؛ تخص الإنسان.
سأل:
- ماذا يعني أن تكون تلك الخلايا تخص الإنسان؟
- يعني ذلك أن جرثومة الإنسان، ما دامت جاءت من الفضاء الخارجي من كوكب (نيروبا) تحديداً، كما جاء في تقريرهم، فإن الإنسان إذن، هو نسيج وحده في مسار تطوره على كوكبنا؛ أي أنه كائن مستقل بأرومته، ليس يرتبط بأصل واحد مع الكائنات المحيطة به التي عاشت وتعيش معه على الأرض ما انقرض منها وما لم ينقرض.
- ولا حتى بالثدييات الأوضح شبهاً بالإنسان؟
- ولا حتى بالثدييات الأوضح شبهاً بالإنسان.
- فكيف يفسرون تشارك الإنسان مع الشِمبانزي، والأورانج أوتان، والغوريلا، في الجينات بمثل هذه النسبة العالية من التوافق؟
- إنهم يعلِّلون التشارك الجيني بعامل النشأة في بيئة واحدة. إنهم يرون أن خلية الإنسان وخلايا الثدييات الشبيهة به، قد تجاورت وعاشت جنباً إلى جنب في بيئة تحكمها ظروف واحدة؛ فكان من الطبيعي في هذه الحالة أن يتشارك الجميع في جيناته بمثل هذه النسبة العالية من التوافق. إن المعوّل عليه عندهم ليس نسبة الاشتراك والتشابه، وإنما الفرق والاختلاف فيما بينها! وهم يشرحون ذلك بقولهم: لماذا علينا أن نركِّز عنايتنا، عند البحث عن الأصل الواحد، على ما هو مشترك بين الأنواع، ثم نتخذ من هذا المشترك برهاناً على انتماء الأنواع إلى أصل واحد، بدلاً من أن نركز عنايتنا على ما بينها من فروق في الجينات والخصائص والصفات مما يتفرد به كل نوع عما سواه من الأنواع، ثم نتخذ من تلك الفروق، حجة ودليلاً على أن فكرة الأصل الواحد لا ترقى إلى مرتبة اليقين؟ وأحب هنا أن ألفت إلى رأي مثير صدر عن أحدهم، يطابق رأي العالِم (...) في وجوب " قلب شجرة الحياة" برسمها الحالي على رأسها.. إن هذا الأحدهم يرى أن رأي أو فكرة العالم (...) خليقة بأن يؤخذ بها دون سواها. فإن الكثرة على رأيه، أحقُّ بأن تكون هي الأصل لا الوحدانية. وأنا – وأرجو المعذرة - أجدني منحازة إلى رأيه، وقد أتكل في انحيازي له، على نظرية الوجود الكونية الحديثة التي تقول بإن للكون أكثر من أصل مادي واحد، بعد أن كان القدماء في زمانهم لا يرون له إلا أصلاً واحداً: فإما التراب، وإما الماء، وإما الهواء، وإما النار، وإما العدد، وإما اللانهاية.
تناول المجلة، راح يقلب صفحاتها للمرة الثانية، عثر على المقال، شمله بنظرة عامة، قضم بنظارته سطوراً منه متفرقة، ثم رمى بالمجلة على الطاولة بإهمال، وسأل كلتيهما:
- وأنتما؟ ماذا تريان؟
أجابت بينار.
- أحس بقوة لا تقاوم تجذبني إلى هذه النظرية!
- وأين تكمن قوتها؟
ردت بينار بحزم في هذه المرة وطلاقة:
- في تفسيرها لتعدد الأنواع الحية على الأرض تفسيراً أراه أكثر رجحاناً وإقناعاً من تفسير داروين.
ولم تنتظر لتسمع تعقيبه على رأيها، أضافت بحمية وإعجاب:
- أليست فكرةً مدهشة، فكرةُ سقوط خلية الإنسان على الأرض من كوكب آخر!
ردت تالين:
- إنها فكرة خيالية!
- ولكنها تفسر لنا شوق الإنسان إلى التحليق في الفضاء نحو الكواكب البعيدة، نحو كوكب نيروبا! ألا يكفي هذا أن يجعل منها فكرة واقعية وجيهة؟ تالين، دعيني أسالك: لماذا تقدّم أكثر من ألف رجل وامرأة بطلب التحليق إلى كوكب (نيروبا) إثر الدعوة المفتوحة التي نشرها معهد التكنولوجيا الفضائية في وسائل إعلامه، علماً بأن الدعوة إلى التحليق حوت شرطاً قاتلاً، انتحارياً - إن جاز التعبير - نصَّ على استحالة الرجوع إلى الأرض؟ ألك عزيزتي، أن تدلّي على السبب؟ ما هو؟ هل هو حبّ المغامرة؟ هل هو الفضول؟ هل هو اليأس من الحياة على الأرض؟ هل هو التوق الفطري إلى الاستكشاف؟ هل هو الاشتهار وتحقيق الذات؟ هل هو الريوق بالنفس من أجل العلم؟ ما هو السبب الذي أوقد رغبة التحليق في قلوب كل هؤلاء المتطوعين على ما في التحليق من المخاطرة بحياةٍ نفيسة لا يملك المتطوعون حياةً أخرى تغني عنها؟
- لا بد أن يكون في نفس كل واحد من هؤلاء المتطوعين، باعثٌ يحضه على التطوع في هذا البرنامج الفضائي.. لا أدري بينار! ما الذي بودك أن تستنتجيه؟
- ألم تعلمي بعد!؟ ألم تعلمي أن المجازفة، تعبير عملي عن شوقهم إلى العودة إلى المصدر الأول لحياتهم، تماماً مثلما هو حال سمك السلمون إذ يرجع بعد الهجرة الطويلة في البحار والمحيطات إلى مسقط رأسه في مياه الأنهر العذبة مهما تكثر العوائق؟
- لا، لم أعلم بعد، وكيف يكون ذلك؟ بل كيف علمتِ أن في نفوسهم شوقاً إلى المصدر الأول لحياتهم؟
- علمت بذلك من الاستطلاع الذي أجرته معهم إحدى القنوات التلفزيونية. لقد أكد الذين سئلوا عن دافعهم إلى التطوع، أن هذا الدافع كامن في دواخلهم؛ أي هو قديم.. كان فيها دائماً، منذ البدء. شعروا به فور أن وعوا حقيقة وجودهم. وما معنى أنه دافع قديم تالين؟ هل معنى ذلك، إلا أنه دافع موجود في فطرتهم، مطبوع في خلاياهم، مكتوب على صفحة جيناتهم بخط لم يدرس، ولن يدرس على وجه الدهر؟
قالت تالين بتهكم رقيق:
- إذا كان الأمر على ما تقولين، فمالي لا أشعر بما يشعرون به؟ لماذا ليس في نفسي مثل ما في نفوسهم من الشوق للرجوع إلى كوكب (نيروبا) الذي تتوهمين معهم أننا منه جئنا؟ أأنا من كوكب الأرض، وهم من كوكب (نيروبا)، كيف هذا ونحن جميعاً بشر لنا أصل واحد؟
- لا تالين، أنت لست من الأرض. أنت أيضاً من هذا الكوكب البعيد، ولكنك بسبب انهماكك بشؤون دنياك على كوكب الأرض، فقدت شعورك بارتباطك بالمصدر الأول لحياتك.
- ولكنْ.. بينار، اعذريني! هذا منطق لا يقره العلم! فإن الاعتماد على استطلاعات مأخوذة من هنا ومن هناك لتثبيت حقائق ضخمة كحقيقة الأصل الواحد للكائنات الحية على الأرض، منهجٌ لا يمت إلى مناهج العلوم المحترمة.
- وهل تجدين فكرة خروج الأنواع من أصل واحد حقيقة علمية!؟ حسناً عزيزتي، إذا كانت هذه الفكرة حقيقة علمية، فلابد لها من دليل علمي. فأين الدليل العلمي عليها، أين الدليل قبل كل شيء على أن الواحد الوحيد الصرف يمكن أن يتنوع ليصح الاعتراف بها؟ أيتعدد الواحد ؟! كيف؟ كيف يتعدد الواحد الصرف، وليس معه واحدٌ ثان يختلف عنه، يقابله، يحتك به؛ لينتج كائناً جديداً؟ قولي لي: ما الذي جعل جرثومة الحياة الأولى، تنتج – على رأي أستاذنا متاي ورأي علماء الأحياء أكثرِهم - خلية مختلفة عنها؛ خليةً قادرة على البقاء، على الصمود في وجه الفناء، قادرة على تكوين نوع جديد مغاير لها مؤهل للاستمرار؟ تالين، أليس يجب علينا أن نطرح على أنفسنا مثل هذه الأسئلة، وإن كانت صعبة عويصة؟ أليس يجب أيضاً أن نبحث لها عن أجوبة باستخدام أدوات متعددة: كالعقل، والتجربة العلمية، والرصد والاستقراء والمراقبة؟ أليس الواجب يحتم علينا أن نتساءل، ونبحث؟ ولكن هبينا لم نجد جواباً في عقولنا عما نسأل عنه، وهبينا لم نخلص بالتجربة والمشاهدة والمراقبة إلى نتيجة مرضية محسومة، فما علينا عندئذ أن نفعل؟ ألا ينبغي عندئذ أن نقر بعجزنا المؤقت قبل مواصلة رحلة البحث والسؤال؟ ألا يجب أن نعترف بأننا لم نتوصل بعد إلى جواب أو نتيجة؟ إذن فلنقر أولاً بأننا لم نهتد حتى يومنا هذا إلى جواب قاطع، ولم نبلغ نتيجة فاصلة! فأما إن كنت تظنين أن علماءنا الأجلاء، توصلوا إلى الجواب، واستخلصوا النتيجة المحسومة، فأنت بذلك إنما ترددين على نحو آلي ما قيل لك ويقال دون مراجعة وتدقيق. هه! وما فائدة الذي قيل لك ويقال إن لم يكن فيه برهان علمي صادق على أن الجرثومة الأولى التي كانت تسبح وحيدة داخل حساء الحياة البدئي؛ تنوَّعت أنواعاً؟
احتدت تالين قالت:
- كأني أناقش طالبة من كلية اللاهوت! أأنت حقاً بينار التي تحلم بأن تغدو عالمة من علماء الأحياء؟ من أنت؟ كيف لمثلك أن يتنكر للحقائق العلمية التي أظهرها علم الأحياء؟! يا للغرابة! أوتجهلين حقيقة نسخ البكتريا الأولى لنفسها؟ كلا بينار، أنت لا تجهلين هذه الحقيقة! ولكنك تتجاهلينها. لماذا تتجاهلينها، وأنت لا تجهلينها!؟ كيف تسمحين لعقلك أن يشيح عن حقيقة أن البكتيريا المفردة إبان عملية النسخ، كانت تخطئ أحياناً في عملية نسخها لذاتها كما يخطئ الكاتب أو الناسخ عند كتابة نص من نصوصه؛ فينشأ من هذا الخطأ بكتيريا بصفات جديدة؟ هل أذكرك بأن هذه الأخطاء أو الطفرات التي يعزى إليها الفضل في تكوين بكتريا جديدة مغايرة لها في صفاتها؛ ستمتلك فيما بعد قدرة طبيعية على تشكيل الخلية الأم (لوكا) التي ينتسب إليها جميع الأحياء على الأرض؟ غريب أمرك بينار! إنه لغريب أن تتجاهلي هذه الحقيقة العلمية، أليس ذلك غريباً!؟
ردت بينار بعناد وبشيء من النرفزة:
- عن أي خلية أولى تتحدثين بمثل هذا اليقين؟ هل لدينا حقاً برهان أو دليل علمي على وجودها؟ هل لدينا إثبات يثبت أن خلية وحيدة تنوعت؟ حسناً، فليكن! فلنفترض عزيزتي، أنه كان ثمة خلية أو جرثومة أو كلمة أولى، وأن هذه الجرثومة الوحيدة استطاعت أن تكوّن سلفنا الأول المسمى (بلوكا)، ولنفترض أن لوكا، استطاعت بعد ذلك بدهور أن تتنوع كل هذا التنوع المذهل، أفلن يكون حرياً بنا في هذه الحالة أن نسأل أنفسنا: ما هي القوة التي فجرت طاقة لوكا على التنوع؟ همم، ما رأيك؟ ألنا من السؤال مناص؟ فإن سألنا، فكيف نجيب؟ هل نجيب بإن إلهاً فجر داخلها طاقة سحرية عجيبة، تأدى عنها كلُّ هذا التنوع؟ ههههه... ولكنْ، حتى الإله لا يبدو مكترثاً مقتنعاً بفكرة أن الواحد يمكن أن ينتج غير ذاته. فهو عندما خلق آدم، في أسطورة التكوين، وأحب له أن يتكاثر؛ أن يخرج من صلبه وفرةٌ من (الأوادم) لم يمنحه قدرة على نسخ ذاته وتكرارها هكذا تكراراً آلياً؛ لأنه لو كان أخطأ ففعل ذلك، ما كان آدم، حاز القدرة على أن ينتج سوى نسخة مكررة مكرورة من ذاته ثابتة لا ينالها تغير ولا تحوير. بل هذا الذي دعا الرب إلى أن يخلق له من ضلعه حواء.. خلق الرب لآدم حواء جنساً ليس يشبه جنسه تمام الشبه (خلية جديدة مغايرة) كي تتحقق باندماجه بها قدرة الاثنين معاً على أن يأتي من جيناتهما بالتناصف ذرّية تتعدد صور أفرادها، وتتباين ملامحهم، وتتنوع مشاربهم، وتتنافر طبائعهم...
قامت تالين من مكانها إلى حيث يربض جهاز القهوة ومستلزماتها في الزاوية خلف مكتبه. صبَّت كمية إضافية من الحليب في كوب قهوتها، ثم عادت إلى مكانها فجلست إلى جانبها ثانية، ولكنها تركت بينهما فاصلاً أوسع مما كان قبل قيامها عن الأريكة. قالت ووميض حجة قوية يتوهج في عينيها:
- إذا كانت الأرض صالحة للحياة، فلا بد أن تكون الأرض ولودةً منتجة للحياة أيضاً. هذه متلازمة ضرورية يلحظها العاقل دون جهد. إذن، فما دامت الأرض منتجة للحياة، فما عسى أن يفيدنا الافتراض بأن الحياة جاءت إلى الأرض من كواكب بعيدة، وأرضنا لا تشكو من العقم؟
- قد يكون رحم الأرض لفظ أنواعاً عديدة من الكائنات الحية، وقد يكون جاءها، فضلاً عن ذلك، أنواع غيرها من الكواكب ومنها نوعنا، فأين الاستحالة يا عزيزتي؟ أين هي؟ أويستحيل – مثلاً - أن نحيا، أو ننمو على سطح كوكب مأهول بحياة لها نفس الشروط التي للحياة على أرضنا؟
- ...........
-..........
وطال الجدال بينهما وتفرع، وشابه غير قليل من الحدة والحرارة والتزمت غير المقيت. وكان هو على الرغم مما شاب جدالهما، يصغي إليهما بأذن رضية وقد انفرشت على وجهه ابتسامة طيبة مشجعة انطوت على زهو دافئ بهما! كان يرى إليهما كما يرى الزارع إلى شجيرتين له بدأت تلوح ثمارهما. وكان كلما زاد انفعالهما بتأثير اختلافهما في فهم وتصور وتفسير الأمور الخاصة بعلم الأحياء، زاد رضاه عنهما، وتضاعف سروره بهما.
وبينما كانت تالين تحاول جهدها أن تقنع بينار بصحة نظرية الأصل الواحد للبشر والثدييات التي تشبهه، وتحاول أن تقنعها بأن البرهان القاطع على صحتها ستأتي به قريباً تجربتُه الوشيكة النجاح على لاودي، وبينما هي تحذرها من أن بعض ما ينشر في الدوريات العلمية حتى تلك الغالية في الجد والرصانة، قد يكون أقرب إلى الخيال العلمي منه إلى الحقيقة العلمية، رنّ هاتفه الخاص. فسكتت عندئذ بينار، وسكتت تالين. مسحتا خضاب الانفعال عن خديهما بلهوجة، ثم نهضتا معاً. فأشار إليهما، وهو يرفع الجهاز إلى أذنه: أن اجلسا وتابعا، فلقد ودّ لو يطول الجدال بينهما، ولكن التأدب منعهما من تنفيذ رغبته الجميلة؛ فخرجتا من مكتبه تاركتين إياه في خلوة مع مَنْ هاتفه.
كانت فابي على الخط. سألته بنبر غصّ بتهديد ووعيد:
- بابا، ألن تحضر غداً؟ ألن تشهد المناسبة!؟
رد مفتعلاً لهجة تقريع زائفة:
- من قال لك إنني لن أشهد المناسبة؟ هل سمعتني قلت شيئاً من ذا؟
- لم أسمعك بابا، ولكني خفتُ أن تغيب كما غبتَ في المرة السابقة عن مناسبة عيد ميلاده.
- أما زلت تذكرين المرة السابقة!؟ ولكنْ، ألم أك في المرة السابقة مشغولاً بتصوير لاودي لقناة ( م، ك، ت)؟
- لاودي! كيف حاله؟ ألن نراه قريباً؟ آاا... صحيح بابا، أتدري؟ أمس شاهدت الحلقة الأولى من سيرة لاودي العظيم، بثتها قناة (م. ك. ت) حلقة رائعة بحق! ولكن الأروع أن تومي في هذه الأثناء كان مستيقظاً؛ فما رآك في التلفزيون، حتى قفز إلى الأرض من حضني.. أسرع في مشيته كأنه القرد منتصباً في بادئ أمره على ساقيه المعوجتين، ثم تعثر، فسقط، فحبا.. دنا تومي من الشاشة ماداً ذراعه اليمنى إلى صورتك، وهو على ركبتيه كالجرو مرفوع الرأس يصيح بلعثمة، بجذل، بدهشة: يِدّو، جدو، دِدّو... هكذا، أووه، يا إلهي، ما...!
- لكم اشتقت إليه! سأحضر من كل بد، سأحضر. أمك تعلم أنني سأحضر، ألم تخبرك بذلك؟
- بلى، كلّمتني ماما في صبيحة النهار. ولكنَّ أمي أخبرتني أنك متردد...
- لا، لا، لا. لست متردداً. متردد!؟ أخْ، هذه أمك، دأبها أن تفسر الأمور تفسيرات غريبة! لا بأس بنيتي، أخبريني: كم عدد المدعوين؟
- عدد مدعوينا ثابت بابا، إذا استثنيت (ساديكا).
- ومن ساديكا؟
- إنها مساعدتي الجديدة التي ستحل محلي في الصيدلية فترة غيابي. قد اتفقنا، رابو وأنا، أن نبعد عن المدينة أياماً.
- إلى أين؟
- إلى أقصى الجنوب إلى حيث الشمس. رابو سيحدثك عن رحلتنا بتفصيل وإطناب. وحميَّ أبو رابو، سيحضر غداً رغم ارتباطه بموعد هام جداً، جداً، جداً! أتسمع؟
وأضافت بمكر طفلة:
- ألا تنزع نفسك إلى تحريك غيظه بدَسْتٍ من الشطرنج يا ترى؟
- بلى، وسأذيقه دستاً لم يذق مثيلاً له في المرارة قط، وقد أجعله يندم على أن حضر!
ضحك، سرّ بمجاراته لها بدعابة بدت له فكيهة.
- أهذا وعد منك بابا؟ ألن تنكث به إذا ما شغلك شاغل؟
- أبداً صغيرتي، هذا وعد مني أكيد، لا تقلقي...!
- اموّوااااه.
أرسلت إليه قبلتها عبر الأثير، فقبلها بقلبه وضغط على الزر الأحمر لهاتفه. رمى ساعته بنظرة خاطفة. الرابعة عشرة وخمس دقائق. ساعة واحدة وينتهي دوامه الرسمي. بدّل مكانه، جلس على الكرسي الذي أمام الحاسوب. أراد؛ بل همّ باستغلال ما فضل له من الوقت في مراجعة نِسَب المواد الجديدة المضافة إلى خلطته الكيمائية السرية، بيد أن نفسه كانت تزغرد داخلها انفعالات بهيجة، غدا معها التركيز على ما أزمع أن يقوم به من مراجعةٍ محفوفاً بالتشتت والانتثار؛ فعزم أن يرجئ ذلك إلى وقت لاحق.
أغلق حاسوبه بأصبع ليس يوجعها أسفٌ على ساعة من حياته تتكتك ثوانيها على مسمعه بلا نفع. وإذ نهض ليخرج من مكتبه، وقد خطر له أن يزور زميله (هراير) أستاذ علم الإحاثة يحادثه في شأن مستحاثته الأخيرة حتى تلفظ ساعته آخر دقاتها، أبصر المجلة التي تركتها بينار ولم تأخذها معها. تعلَّق بصره بها، بدت له المجلة كأن لها عيناً ترمقه، خيل إليه أنها تتضرع إليه أن يقرأ ما احتواه صدرها من الأنباء، فإذا به ينكص عما خطر في باله من زيارة زميله، ويعود إلى كرسيه والمجلة في يده. أراد أن يذبر على عجل الصفحات العشر لنبأ الاستكشاف ويمضي بعدها إلى شأنه. ولكنه حين وقع نظره على تصريح العالم الفيزيائي الشهير( روزالينو) وقرأ شهادته على صحة الاستكشاف، غاص في كرسيه وشرع يقرأ المقال من أوله قراءة متأنية وقلبه منقبض، والدم يكاد يتوقف عن السير في أوردته. فما انتهى من القراءة حتى ساوره قلق شديد مازجه شعور بالإحباط والدونية؛ فقام يذرع حجرة مكتبه ورأسه منكس إلى الأرض، إلى قدميه. ولم يسترد هدوءه إلا بعد أن أمده ذهنه بفكرة معزية مسلية ألا يكون تصريح (روزالينو) صائباً؛ فسري عنه إذ ذاك وعاد إليه مزاجه الرائق، فقفل باب مكتبه ومضى فقاد سيارته إلى متجر لألعاب الأطفال، فاشترى لحفيده هديتين واحدة باسمه والثانية باسم باريناس ناسياً ما اعتراه من قلق وشعور بغيض.
عندما وصل إلى داره، كان المطر توقف عن التهطال، وأطلت الشمس بشعاع منها حائل أصفر من خلل غيمة اهترأ نسجها، ودنت من المغيب. رأى أفرع شجيرات الحديقة متهدلة، وذوائب النباتات الخضراء مطأطئة تنوخ من ثقل القطر فوقها، ولكنها كانت تسطع وتتلألأ. وشمّ رائحة (تورته) ورائحة لحم مقلي تتسرب من نافذة المطبخ إلى عتبة الدار، وتمتد منها إلى مسافة أبعد.
تناول الغداء دون مشاركة من باريناس وسو اللتين ادعتا أن الرائحة والتذوق الاختباري للأصناف المتعددة من الحلوى الناضجة الخارجة من الفرن، أشبعا حاجتهما إلى الغداء. ثم شرب قهوة ثقيلة سوداء طبختها سو على طريقتها الخاصة، غادرهما بعدها إلى مختبره خالعاً عن ذهنه وقائع يومه المورق – لم يتذكر هنا فاجعة النبأ - وأكبّ من ذلك الوقت على محاضرته إكباباً متصلاً طويلاً أصر على ألا ينقطع، مما اضطر باريناس إلى أن تحمل له عشاءه إلى مكتبه، وهي ترجوه أن يريح بصره قليلاً.
طيف بينار يعاود طرق أذنيه (بهرطقة) علماء ناسا. إنه يشتد ولا يتوانى، فيحاول أن يصمّ أذنيه عن الطرق بإرغام ذاكرته على التلبّث بالمشاهد الملونة المفرحة التي عاينها في نهاره تلك التي علَّ مذاقها الطيب العذب، ولا سيما مشهد لاودي الذي ترجم آماله أمام تلامذته بلغة فصيحة مشرقة. ولكن ذاكرته تتمرد عليه فلا تواتيه على ما يريد؛ بل إنها بفعل الطرق البائس الشديد المتتابع من مطرقة طيف بينار، لتجنح به إلى مشاهد مؤلمة مخزية مكروهة من ماضيه الغابر، فتزيد طين ليلته بلّة وأرقه فتكاً:
يتذكر حكايا جده عن فظائع الحرب وأهوالها، يتذكر أوجاع جدته بفقد ابنها (أبيه) فيها؛ أوجاعَها التي لم يشفها الزمن وشفاها الموت.. يسمع تنهدات جدته الثكلى المخنوقة، يرى دمعها يطفر من مقلتيها الغائرتين المحتقنتين بالدم، ويزحف على خديها الأجعدين الصفراوين الضاويين كلما خطر في وجدانها خيال ابنها، يتذكر حالة الاكتئاب التي عرته في طفولته عقب زواج أمه من رجل غريب دخيل والتي لم ينفض منها إلا بعد جلسات طويلة شاقة في عيادة طبيب النفس الدكتور (زورلن)، يتذكر عذابه المتدفق كالرعاف من منافسته لعشيق باريناس قبل فوزه بها وبنائه عليها، يتذكر خيانته الدميمة لها في إحدى رحلاته العلمية مع كاعب أفريقية كانت تعمل في المخيم برتبة طاهية مساعدة لفحه صهد فتنتها لفحاً أذاب حديد مقاومته.
ثم لم تلبث مخيلته أن لوت به إلى هواجس ومخاوف سوداء كالقير تكاد نفسه تطير منها فرقاً: يتخيل الطائرة التي ستنقل فابي ورابو وحفيده تومي إلى الجنوب تسقط فجأة في المحيط فتبتلعها أمواجه الهادرة المظلمة الرهيبة؛ يتخيل تومي وقد عضه مرض ناشئ عن خلل جيني لا دواء ينفع فيه ولا رجاء، يتخيل باريناس تفارقه إلى حبها الأول، يتخيل لاودي صريعاً في شقته بحقنةٍ سامة حقنه بها حاسد من حساده، يتخيل نفسه مريضاً بفقدان الذكرة، أو السرطان، أو الرعاش؛ فينتفض غصباً عنه، ينتفض رغم حرصه على ألا يوقظ بحركة عنيفة منه طائشة زوجته النائمة. إنها إرادة الخلاص مما انتهك سكينته من ذكريات كابوسية - كان يخالها منسية - ومن خيالات مرعبة، تدفعه دفعاً إلى أن يفتح جفنيه المطبقين اللذين أحسّ بهما يرشحان عرقاً.
فتح جفنيه، بدأ يجول ببصره المرهق الضعيف في أركان الحجرة المغمورة بحمرة النواسة القاتمة، وبدأ بنفس الوقت يمرر راحته بنعومة على فخذ باريناس وردفها؛ علَّ نفسه تثوب من مخاوفها فتهدأ. تحركت باريناس، انقلبت على جنبها الأيسر، شمخت برأسها إلى أعلى، رفعته فوق المخدة قليلاً، وجهها ملثم محجوب مغطى بشعرها الكثيف. جذبت نفساً عميقاً ملء أنفها قبل أن تترك رأسها يسقط فوق المخدة. مرّت ثوان فغيرت وضعها؛ تمددت باريناس على بطنها طاوية ذراعها اليمنى تحتها، ومرفقها يجأ خاصرته؛ ولكنها لم تستيقظ.
تفرق ذعره. إثر ذلك نفث منخره نفثاً أبكم لعنةً على ليلته البليدة الجهمة؛ لعنةً احتشد في ساحتها سخط وتبرم وغيظ. غير أن اللعن، من سوء حظه، لم يسرِّ عنه، ولم يغنِ...، إذ سرعان ما هاجمه شعورٌ جديد من نوع آخر حلَّ محل ذاك الذعر؛ شعورٌ بالتوجِّس من أن حدثاً منكراً غير اعتيادي منذراً بشؤم يتربص به.. يطرق بابه على غير ميعاد كما يطرق طيف بينار أذنيه بمطرقته الثقيلة مردداً: " لن يتحول لاودي، لن يتحول" وهو بلا ريب حاسد لا قصد له من هذا الطرق غير أن يزعزع يقينه الثابت، وأن يكدر أمله الصافي في تحول لاودي.
يتمتم لنفسه في يأس كالح، يحاول بما يتمتم أن يستنهض همته للفرار من عذابه:
" ماذا أفعل في السرير، ما معنى بقائي فيه؟"
ويفلح في استنهاض همته فينسل في حذر من الفراش إلى غرفة الجلوس متدثراً بروبه واضعاً نظارته على أنفه.
وقف أمام الباب الزجاجي المطل على الحديقة، تحيط به ظلمة غبشاء خلخل حلكتها ضوء شحيح ينبعث من مصيبيح في جوف تمثال جيريّ من التماثيل التي تزين حجرة الجلوس. أزاح الستارة عن الباب، راح يحدق في الظلمة تغلف الحديقة بعينين فارغتين لا تريان شيئاً من كائناتها الحية ولا من موادها الجامدة. ملّ التحديق، أحس بالتهاب بحرقة في عينيه؛ فالتمس قطرته المهدئة للالتهاب في البراد في المطبخ. بلل عينيه بقطرات باردة، شرب كأس ماء معدني، ثم عاد إلى غرفة الجلوس؛ فتمدد على الأريكة الطويلة.
التعب ينفذ إلى عظامه.. تأوه! لكم يزعجه أن بصره لا يسمح له بالفرجة على التلفزيون، ولا بقراءة كتاب! ولكم يزعجه فوق ذلك هذا الشعور المسيطر عليه، هذا الشعور المقرف الخاذل بعدم جدوى القيام بأي نشاط، مهما يصغر، في مختبره. وما زال على هذه الحال حتى أخذ ذهنه يهوم بين النوم واليقظة، يسرح داخل المساحة المشتركة بينهما التي ليست بنوم، وليست بقيظة.
يرأى بينار، وهو في طريقه إلى قاعة المحاضرات، تتقدم نحوه مسرعة الخطى، في وجهها بشرى طافحة، تصرخ بها من بعد أمتار، وذراعها مرفوعة نحوه في الهواء كأنها تستوقفه:
- لاودي يا أستاذ، لاودي...
- ما به؟
- صار إنساناً!
- ماذا!؟ لاودي صار إنساناً؟ متى رأيته؟ أين ؟ كيف استطعت في هذا الوقت أن تريه وهو في شقته المغلقة؟
- رأيته يا أستاذ، رأيته.. ولا تسلني كيف استطعت أن أراه، لقد رأيته وكفى!
- إذا كنتِ رأيته حقاً، فلا بد أن تكوني رأيته في مكان ما. أين رأيته؟
- أستاذي العزيز، أنت تكلمني بلغة أجنبية لا أفقه شيئاً من مفرداتها الغريبة. ما معنى "رأيتِه في مكان"؟ أويحتاج المكان إلى رؤية والرؤية إلى مكان ونحن في هذا المقام!؟ انظر عزيزي الأستاذ، انظر خلفك، أليس الرجل الذي خلفك هو لاودي بلحمه وعظمه وشحمه ودمه وجيناته؟
التفت إلى الوراء، فرأى رجلاً منتصباً على ساقين متوسط القامة متين البنية، عريض الألواح له ذراعان طويلتان ووجه كوجه لاودي بتقاطيعه الخشنة الغليظة النافرة وبلون بشرته، يعتمر قبعة مخملية رمادية مستديرة، ويرتدي بدلة بيضاء وقميصاً أسود، تتدلى من عنقه ربطة حمراء حريرية، ينتعل حذاء أسود لامعاً بلون قميصه، ولكنه لم يكن يبدو سعيداً مثل لاودي عندما كان قرداً. كان الحزن يقطر من نظراته، وكانت الكآبة قد أثقلت عنقه وأجبرته على شيء من الإطراق.
عادت بينار تصرخ لتُسمع – ربما - زملاءها الذين بدأوا يتقاطرون على المكان:
- ألم أكن واثقة من تحوله؟ إنها المعجزة التي انتظرتها طويلاً.
تعجب مما سمع منها، قال مرتاباً:
- واثقة؟ معجزة؟ بينار، ماذا أسمع منك!؟ ألم تكوني في الأمس القريب غير واثقة من تحوله؟ ألا تذكرين جدالك مع تالين؟ فماذا عدا مما بدا؟
- كان ذلك في الأمس القريب.
- وهل كنتِ في الأمس "واثقة" من تحوله؟
- إنك تحقق معي في أعمق أسراري، لماذا تفعل هذا أستاذي العزيز؟
- أسرارك!؟
- نعم، أسراري.. كانت ثقتي بتحوله سراً من أسراري الخبيئة بجوّي.
- فلماذا تشبثت يومها باستحالة التحول؟
- هذا سر من أسراري يا أستاذي العزيز، وأنا اعتدت ألا أبوح بأسراري.. أسراري؟ إنها لشأن تافه زهيد من شؤوني الخاصة، فدع الآن هذا الشأن عنا! دعه إلى البحث عن المهم. أستاذي العزيز، أليس المهم هو المهم عندنا؟
أجاب دون تفكير:
- بلى!
- إذن فإن المهم هو المهم عندنا. وما هو المهم عندنا؟
أجاب دون تفكير أيضاً، من غير أن يشعر بضيق من قيامها بدور المحقق المتسلط:
- تحوّلُ لاودي إلى إنسان.
- ولقد تحول لاودي بفضلك إلى إنسان. وماذا بعد؟ ماذا بعد هذا الإنجاز العلمي الخارق!؟ هل لي من بعده إلا أن أكون سعيدة؟ وإني لسعيدة! انظر إلي! ألست سعيدة؟ ولم لا أكون سعيدة!؟ كيف لا أكون...، وأستاذي العزيز قد ضمن حقه بنيل جائزة نوبل؟
- وما الفائدة من ذلك يا صغيرتي؟ قالها في أسى.
فتصنعت بينار حالة جزع وهمية وهي تستفسره:
- أوتعني أن لا فائدة من التحول؟
- كلا! لست أعني هذا، وإنما عنيت أن لاودي ليس سعيداً مثلك.. تأملي سحنته، أترينه سعيداً؟
رفع لاودي هامته، حدج بينار التي شرعت بتأمل سحنته بإمعان ثم قال بنبرة طفل غاضب معاند:
- لست سعيداً.
فسألته بدهشة:
- ولماذا لست سعيداً؟ لاودي، ما الذي ينقصك لتكون سعيداً؟
- تنقصني (أناي) القديمة.
- والجديدة؟ عجباً! ألا تجد في الجديدة تعويضاً لك عن (أناك) القديمة؟ ألست الآن (بأناك) الجديدة أوفر حظاً من السعادة من تلك القديمة؟ لاودي، أنت الآن إنسان! أنت إنسان عاقل يا لاودي، ألا تفهم ما معنى أن تكون إنساناً عاقلاً؟
- لا، ما قيمة أن أكون إنساناً عاقلاً؟
- ما قيمة أن تكون إنساناً عاقلاً!؟ لاودي، أهذا سؤال يطرحه عاقل في زماننا؟ لاودي أتعتقد حقاً أن لا قيمة للعقل؟
- هو ذاك! لا قيمة للعقل في اعتقادي ولا بمقدار ذرة من الغبار. العقل؟ وما نفع العقل ليكون له عندي قيمة؟ بل إن ضرره لفادح! وهأنا، خذيني مثالاً آنستي، وعبرة: ألم أك سعيداً فيما مضى قبل أن أعقل؟ والآن، كيف ترينني؟ أما زلت أبدو لك سعيداً وقد عقلت؟ أبداً، أنا لست سعيداً الآن، هذه هي الحقيقة. لقد كنت سعيداً عندما كنت فارغ النفس من هموم العيش وغوائله؛ حتى رزئت بالعقل. فلما رزئت به امتلأت نفسي منه بهموم عيشي الحاضر وغوائله امتلاءً أشقاني أمرَّ الشقاء! أأشرح لك حالتي؟ سمعاً وطاعة! سأشرحها لك.. سأشرحها لك بكلام فصيح عار من كل ما لا يليق بالتصريح الشجاع والبوح الصادق: أنا خائف آنستي، نعم، أنا خائف! والخوف يؤرقني في ليلي، ويُمرّ حلاوةَ عيشي في نهاري. وأكثر خوفي على أبنائي وأحبائي من الموت والمرض والفاقة وذل الحاجة.. وأنا معذب! يعذبني الشوق إلى حريتي المفقودة الضائعة داخل سور هذا الزحام الإنساني اللامعقول من حولي.. وقلبي يدميه شوك الكراهية الذي أنبته العقل فيه إلى كل من لا يرى رأيي، ولا يكتسي بزيّ مثل زيّي.. وهأنذا قد بات عشق امرأة لا تحبني ووطنٍ يحتقرني بليةً ومحنة ومصاباً جللاً من بعد أن لم يكن لهما في حياتي السابقة وجود وتأثير.. فأما شهوتي إلى المال والجاه والشهرة والأنثى، فمتقدة أبداً بين جوانحي كنار المجوس لا ينطفئ لهيبها اللاذع ولا يبرد.. وإيماني؟ ماذا أحكي لك عن إيماني وأغلاله؟ ماذا أحكي لك عن الرعب الذي سينتابني، لو اعتنقت الإيمان بالله فخنت وصاياه ولم أقض حقّ فروضه؟ ثم ماذا عن مكابدة القلق والحيرة والوجوم والإرهاق من سؤال المعنى أمام ألغاز لوحة الوجود؟ وما كل هذا الذي بحت لك به عن حالي إلا غيضاً من فيض، فكيف تحبين لي أن أحمد العقل وهو، كما ترين، ظالمي وجلادي وكاتب مأساتي!؟
اضطربت بينار بكل جوارحها الظاهرة، اهتاجت، ردت بقسوة:
- أنت رجل ناكر للجميل يا لاودي! أنت أناني عدميّ لا تهمه إلا منفعته، لا يهمه إلا أن يرضي حاجاته الذاتية الخاصة ويشبعها. لو كنتَ وفياً كريماً حقاً لفكرت مثلي بالإنجاز العلمي العظيم الذي أتمّه أستاذنا (متاي) والذي سينال عليه جائزة نوبل قريباً.. لكنت فكرت بنا، بي أنا، أنا التي يزهوني الفخر والكبر أني تلميذة عالم حاصل على جائزة نوبل. أنت غبي جاهل يا لاودي، ولو لم تكن كذلك؛ لأدركت أن العقل ليس صانع الحضارة فحسب، بل هو، فضلا عن ذلك، عاصم لنا من الانقراض. لولاه لانقرض نوعنا كما انقرض النياندرتال من أسلافنا لضعف عقولهم.
- وأين الخطر في انقراضنا وأين الضرر؟ ما أهمية بقائنا؟ قد انقرض سلفنا النياندرتال، فماذا نابه من الانقراض؟
- أنت يا لاودي...
قاطعها لاودي، قال برنة أسيانة:
- أعلم ماذا ستقولين آنستي الجميلة، فاسمحي لي أن أقاطعك وأقول لك مضيفاً باختصار: سينال الأستاذ جائزة نوبل قريباً - وهذا مؤكد - وأنتِ ستنالين شرف التلمذة عليه. سيشار إليك بالبنان أنك تلميذته أينما حللت، والبشر سينعمون بالحقيقة التي أماط عنها الأستاذ اللبس، وأنا؟ ماذا عني أنا؟ هل فكرت بي؟ هل تحسست آلامي؟
- لماذا ينبغي أن أفكر بك وأتحسس آلامك؟ ما أنت يا لاودي أمام هذا الإنجاز الساطع البديع؟ أأنت ضحية؟ ولكنك ضحية العلم.. أنت ضحية غاية شريفة نبيلة بليغة النفع عظيمة القدر يا لاودي، ألا تفهم؟
- بلى، أفهم... ولكنني لم أختر بمشيئتي أن أكون ضحية غايةٍ شريفة نبيلة، كما تصفينها.
- وما المشكلة يا لاودي؟ ما هو الفرق بين أن تختار وبين ألا تختار؟ إن العبرة في النتيجة يا عزيزي.
تحوّز لاودي في هذه اللحظة كما يتحوز ثعبان ضخم، بدأ يلتف على نفسه كمن أصيب في بطنه بمغص شديد حاد. فما انقضت ثانية واحدة على تحوزه، حتى استحالت كتلته، كأنما قرعتها ساحرة بعصاها الموسوية، كما في أفلام الأطفال، إلى زوبعة عمودية من ذرات ضوئية نجمية الشكل ذهبية اللمعان دارت في مكانها حول محورها دوراناً لولبياً سريعاً جنوني السرعة؛ وإذا بها تنفجر كبالونة، وتتطاير في الجو نثاراً سرعان ما ذاب في العدم؛ ليظهر لاودي في مكانها حيث كانت تزبع، بهيئته الأصلية الأولى قرداً كما كان من قبل.
طاف ببصره الحائر الذاهل الدهش في وجوه الطلاب الذين أحاطوا به وبلاودي وبينار، يستطلع تأثير الحدث العجيب فيها، فلم ير أو يقرأ في وجوههم ما يدل على الحيرة والذهول والروع مما قد حدث! فكأن ما حدث، كان أمراً مألوفاً لديهم طبيعيَّ الحدوث.
ولكنه سمع قهقهة تنطلق بصخب جارح من بينار، فالتفت إليها مقطباً، فابتلعت بينار ققهتها على الفور، ولكنها راحت تشير ببنانها إلى القرد لاودي الذي بدأ يؤدي حركات تحاكي حركات البشر أمام أنظار الطلبة الذين سرتهم حركاته وأضحكتهم، وتخاطبه بلهجة متخمة بالسخرية والشماتة:
- ألم أقل لك؟ إنك لتبذر جهدك في أرض صلبة لا تنبت زرعاً، لاودي لن يتحول!
- بينار، ماذا دهاك! أأنت بينار!؟ كأنك لست هي.. بينار، من أنت؟ أرجوك كفي عن مضايقتي! أتوسل إليك أن تكفي عن الطرق بهذه المطرقة الثقيلة قرب أذني! إن الطرق بها يدوي في أذني دوياً يروّعني، وينتزع النوم قهراً من عيني.
وإذ حانت منه نظرة إلى الجهة اليمنى من الصف الذي انتظم فيه الطلبة؛ رأى طالبة نسي اسمها، تخرج من ذاك الصف، فتقترب من بينار بحركات تمثيلية غاضبة، ثم تقف أمامها في وضعية التحدي:
- ألم تري لاودي كيف استحال إنساناً قبل هُنيّة يسيرة من الآن؟
أجابت بينار باستهانة:
- بلى، قد رأيته. ولكني رأيته بعد ذلك يرجع إلى أصله.
- فما دمت رأيته استحال مرة إلى إنسان، فلماذا تقضِّين مضجع الأستاذ بزعمك أن تحوله محال؟
- هأ هأ هاا... جلجت ضحكة بينار.
- مم تضحكين؟ سألت الطالبة بغيظ.
- أضحك على كلامك. كلامك نكتة تضحك. أليس نكتة يا زميلتي العزيزة، أن تحسبي تحول لاودي حدثاً واقعياً يجري في اليقظة؟
تقلص وجه الطالبة، سألتها بإنكار:
- فمتى حدث تحوله، إن لم يكن حدث في اليقظة؟
- في زمن الحلم. ما حدث قبل هنيّة، إنما حدث في الحلم. وأنت؟ ألا تفرقين بين الحلم واليقظة؟ ههههه... اسمعي إذاً: أستاذنا العالم الجليل يحلم حلماً جميلاً، ولقد جذبنا جمال حلمه إلى ساحة حلمه، وجعلنا نحلم معه فنرى فيما يرى النوَّمُ لاودي يستحيل إنساناً. ولكن أين الحلم من الواقع؟ أين هو من اليقظة؟ هيهات..! إن علماء ناسا قد نجحوا نجاحاً مبهراً ساحقاً في الفصل بين الحلم واليقظة، ألم يأتك بعد خبر استكشافهم الأخير الفاصل الساحق يا زميلتي؟
وفجأة رأى زميلتها الطالبة التي نسي اسمها، تلتفت نحوه وتباشر التحديق في عينيه تحديقاً جريئاً لم يشك في بلوغه حد الوقاحة، وكان الغضب ما يزال يلفها حتى قدميها، وقد اشتد عندما خاطبته بصرامة كما تخاطب أم ابنها المذنب:
- وأنت؟ ألا تخجل!؟ ألا تخجل وأنت العالم المجرب المحنك ذو الصيت والشهرة من الاتضاع بمذلة أمام تلميذة غريرة!؟
- أرجوك! هذه بينار..
- فلتكن بينار! ليس هذا ما يشغلني. يشغلني ضعفك؛ ضعفك الذي يثير في نفسي شفقة مزرية؟ لا أفهم كيف لعالم بمنزلتك أن يؤرقه طرقٌ قرب أذنيه بنبأ عابر تبثّه (ناسا) وتنقله صبية!؟
تنبه ذهنه إلى أن الطالبة التي نسي اسمها والتي تحدق في عينيه بوقاحة، ليست الطالبة التي نسي اسمها، وإنما هي زوجه باريناس. ولكن ذهنه شغل عن هذا الأمر، فلم يتح له أن يعجب، كما يقتضي الموقف ذلك، من وجود باريناس المباغت وحلولها محل الطالبة التي اختفت بأسرع من رفة الهدب. هتف بصوت متوجع:
- باري، أنت منفعلة أكثر مما ينبغي. إنك غاضبة مني لأنك لا تفهمينني. باري، أنا إنسان مثل سائر الأناسي. فإن أكن عالماً، فإن عالميتي لا تقيني من عصف المحن بمشاعري، مَثَلي في هذا مثل أي إنسان مكون من لحم ودم وأعصاب وخلايا وجينوم. أرجوك افهميني! أنا لا أتضع بمذلة.. ما هذا الكلام يا باري؟ ما قولك "أتضع بمذلة!؟" من أين جئت به؟ أيليق بي كلام كهذا؟ أنا إنسان مقهور فحسب. لقد قهرتني الخيبة. باري، أملي الذي أعيش حياتي كلها لتحقيقه، أمسى سراباً بل خراباً يباباً، فكيف...
- هس!
قاطعته باريناس بصرامة، فسكت. رآها وقد زايلها الغضب، سمعها تقول له برزانة وهدوء وكأنها تواسيه وتشد من أزره:
- ما أكثر أن يخفق العلماء في تجاربهم! وما أكثر الذين مع إخفاقهم ينهضون، يواصلون السير ولا ينهارون، ينامون ولا يأرقون! بل ما أكثر أن صارت تجارب هؤلاء العلماء أو آراؤهم الفاشلة المخفقة، محط عناية الأجيال عبر العصور. ألم يكن أرسطوطاليس مثلاً يعلِّم في زمانه أن الإنسان أحسن الكائنات وأرقاها بحجة أن الإنسان مزود بالتفكير وله يد لها قدرة على صنع الأدوات؟ وهأنتم - علماء الأحياء - تهدمون اليوم نظرية أرسطوطاليس، وتثبتون أن الإنسان في عين الطبيعة ليس أرقى الكائنات ولا أحسنها تكويناً. إن بكتيريا في أعماق المحيطات، كما قلت لي يوماً، ربما تكون أقدر من الإنسان على التكيف مع بيئتها، وأبرع منه في نسخ ذاتها نسخاً مجدولاً بحبكة متينة تحول دون انقراضها. فهل يقلل فشل نظرية أرسطوطاليس من شأنه، ومن شأن نظريته؟ أرى الإخفاق لا بد منه لكي يكون ثمة نصر ونجاح...
- باري، رفقاً بي، حدّثي عن شيء آخر غير الإخفاق! تجربتي لن تخفق. أنا واثق من أنها لن تخفق.. وسترينني أصمد، لن أنهار. هم الذين أخفقوا. إني لواثق من أن علماء ناسا هم الذين أخفقوا. باري، هل هي المرة الأولى التي يخفق فيها علماء ناسا في تجاربهم؟ قد لا أكون متأكداً تماماً من أمر إخفاقهم في هذه التجربة بالذات، ولكن ألا يحتمل مع ذلك أن يكونوا أخفقوا فيها؟... أخفقوا في تحديد نوع البكتيريا التي عثروا عليها، وأخفقوا في تحديد المكان الذي نشأت فيه؟ إن كل شيء جائز، كل شيء قابل للاحتمال، لا معدى عن الإخفاق باري، وإلا ما تجدد الأمل في نفسي، ومنعني من الانهيار. ولكنكِ ترهقينني.. باري، أرجوك! رفقاً بأعصابي المنهوكة، لا تقولي: "أخفقتَ" إن هذه الكلمة الغليظة الجافية النابية، تؤذيني، تمزق أعصابي، تطوح بي في قاع الاكتئاب.
- أنا!؟ متى قلت إنك أخفقت؟ أنا لم أقل ذلك بل أنت الذي قاله؛ أنت الذي يتوهم أن تجربته أخفقت لا أنا.
انتبه من إغفاءته العائمة ما بين النوم واليقظة. تحسس موضع الألم خلف عنقه المتيبس. كانت أنامل باريناس تتخلل شعره، والصباح الرمادي يطل بوجهه العابس من زجاج الباب الذي كان أزاح ستارته. باريناس ترتدي حالة نفسية طيبة، تعرب عن استغرابها من استيقاظه قبلها من النوم. إنها لا تعلم أنه أرق الليل بطوله ولم ينم على سريرهما المشترك:
- ما هذا النشاط! متى استيقظت؟ لم أحس بك وأنت تترك السرير.
غمغم، رفع نظارته عن أنفه، جعل يفرك عينيه. قالت:
- ... ذاهبة إلى المطبخ لأعد القهوة.
وانصرفت عنه وهي تدندن أغنية. فلما رجعت حاملة صينية القهوة، رأته جالساً على الكنبة مطرقاً برأسه منحنياً بجذعه إلى الأرض معتمداً بقبضتيه على ركبتيه، فبادرت إلى القول:
- يجب ألا نتأخر. إنهم ينتظروننا على الإفطار. فابي أعدت لك شيئاً تحبه..
ردّ:
- اذهبي أنت باري، اذهبي من دوني. اتركيني وحدي لأنام.
- تنام!؟
لم تصدق باريناس أذنيها.
- ألم تنم؟
- ربما
- ما معنى "ربما"؟
- أريد أن أنام. باري، ستذهبين من دوني، لن أرافقك..
ارتعدت أصابع يدها القابضة على أذن الكوب، وكادت قطرات من القهوة الساخنة تسقط على فخذيها.
- هل فكرت بوعدك لنا وبعواقبه؟
ولكنها إذ نظرت إليه، كما لم تنظر إليه مذ دخلت عليه، فرأت شحوب وجهه الكامد، وعينيه المحمرتين المنتفختين، صرخت في خوف وجزع:
- رباااه! ماذا حلّ بك؟ أنت مريض؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عودة ميمونه محمودة
عبد الرضا حمد جاسم ( 2015 / 4 / 20 - 08:12 )
محبـــــــــــــــــة و ســــــــــــــــــــلام
نعيم من نعيميات نعيم فشكراً
انها وخزات في الاماكن الحساسة من الجسم لا تُغْرِض الى التخدير بل الى التهييج
الكل ينظر الى الاعلى و الشواهد فوق المعابد كلها تشير الى ذلك
حنين للصعود و التمتع بالمجهول المستحيل اما البشر منذ القدم لم و لن تُلغية الابتكارات و الرحلات.حتى رواد الفضاء و هم يسبحون هناك ينظرون الى ما فوقهم
هذا الخوض في الفضاء لا لأن الانسان يرغب في البحث عن اجداده في الاعم بل ربما و ستُركز على هذه الربما.ربمايبحث ليدحض ما اشبعوا به خلاياها منذ وهو في الرحم
متطوع منهم قال انه يريد ان يتميز وقال بعد سنوات طويلة من اليوم سينسى العالم من هو الرئيس الامريكي الاسبق من الاسبق لكنه لن ينسى اسمي
ربما بعضهم قال ما قال اخرقبل سنوات طويلة من انه عالم ويؤمن بالجنه.ان كانت فهورابح و ان لا فهولم يخسر شيء.وهذا البعض يعرف انه سيموت في لحظة ما.فربما ان كانت هناك حياة سيعيش اطول واحسن وان لا فهو ميت
موضوع تعدد الواحد.لا يوجد تعدد فالماء اكثرمن 87% والباقي متطابق تقريباً بنسبة 99% من ال13% الباقية والاختلاف الطفيف بتأثير الضغط والحرارة
سنعود في قادمة


2 - الخوض في الفضاء
نعيم إيليا ( 2015 / 4 / 20 - 13:17 )
وألف محبة لك وسلام أيها العزيز
رأى شخص في روايتي القصيرة (عرس رنيم) أن الدافع إلى الخوض في الفضاء، واحد من دوافع الحرص على الوجود. وبينار ترى أنه الشوق إلى الأصل. وأنت تراه ((دحض ما اشبعوا به خلاياها منذ وهو في الرحم))، من منكم على صواب؟
على فكرة، أشكرك يا عزيزي لأنك عبرت عن عدم إعجابك بحكاية عرس رنيم، مما حرضني على النظر إليها نظرة جديدة، سأنقحها سأبعد عنها الملل سأجعلها ترضي أصعب الأذواق وسأنشرها في حوارنا المتمدن كاملة بحلتها القشيبة.
الواحد الصرف! كيف يتنوع؟
هذا السؤال المخيف يحملنا على التفكير بروية في صحة نظرية الأصل الواحد للأنواع. هل يقنعنا أن نجيب إن الواحد أخطأ يوماً فأنتج خلافه؟
ثم إن كان الله موجوداً، فلماذا علي أن أعبده؟ لماذا يجب أن أخافه؟ لماذا يجب أن أطمع بجنته؟
وما الجنة؟ خلود!؟ وما الخلود؟ وهل الخلود حقيق بأن يطمع فيه؟
نهارك سعيد أيها الأديب العزيز وشكراً لك على حديثك الرتل!


3 - صراع الفكر
شربل صاموئيل ( 2015 / 4 / 25 - 21:48 )
نصٌّ مُرهَق تحت ثقل هذا الصّراع الدّائم بين العلمِ والفكر، ولعلّ عالمنا في هذه القصّة الفكريّة الثّقيلة أن يمثّلَ العقلَ البشريّ بفكرِه وصخبِه وعلمِه وتلميذته بينار تمثّل الفلسفة بكلِّ ما فيها.

الثّلثُ الأوّل حملَ الكثير من الصّور والتصوير فأثقلَ قراءتي، ولم يكونا كذلك الثلثان الآخران. وفي الأوّل منها أيضًا أشياء لم أجدْ لها ربطًا بالبقيّة كمسألة السّرطان والصّوم كعلاجٍ لآثار التطبّب منه. وفي اعتقادي أنَّ لباس العالم متاي من عيشٍ وروابط إنّما يستمدّه الكاتب من صوره هو فإن أصبتُ فهذا أليمٌ ومحزن إلى حدٍّ بعيد.

وقد يكون كلُّ الثّقل الذي أشرتُ إليه في التصوير والوصف، وفي التّفكير والتأمّل؛ من صالحِ الكاتب، أي أن يكونَ ثقلًا إيجابيًّا لا العكس!

المعرفة وكثرتُها عذابُ العقل وآلامه وخصوصًا تحت تشريح الفلسفة والكفُّ عنها مستحيلٌ ما دامَ في الجسدِ نفس حياة.

فأمّا ميكايل أنجيلو فقد صرخَ أن -انطقْ- في وجه تمثالِه -موسى- لا -داود- وهي حقيقة يتمثّلها كلُّ من يشهد التّمثال المنصوب في كنيسة القدّيس بطرس في فينكولي في مدينة روما.
...


4 - إلى الأستاذ شربل صاموئيل
نعيم إيليا ( 2015 / 4 / 27 - 13:32 )
1- ((الثّلثُ الأوّل حملَ الكثير من الصّور والتصوير فأثقلَ قراءتي،))
أنت لا تحب أن تكون القصة تحمل الكثير من الصور والتصوير، وأنا لا أحب أن أعترضك فيما تحب وما لا تحب؛ لأن ما تحب وما لا تحب مرجعه الذوق الشخصي.
2- ((وفي الأوّل منها أيضًا أشياء لم أجدْ لها ربطًا بالبقيّة كمسألة السّرطان والصّوم كعلاجٍ لآثار التطبّب منه))
نوه الأستاذ بهذه التجربة ليضيء جانباً من شخصية تلميذته بينار.
3- ((في اعتقادي أنَّ لباس العالم متاي من عيشٍ وروابط إنّما يستمدّه الكاتب من صوره هو فإن أصبتُ فهذا أليمٌ ومحزن إلى حدٍّ بعيد))
العالم متاي يجسد فكرة فلسفية بسيطة تجول داخل حدثٍ هو تحويل القرد إلى إنسان ليثبت به صحة الأصل الواحد للأنواع. لكن النبأ الذي جاءته به تلميذته بينار زعزع أمله ويقينه بتحقق الحدث وجفل النوم من عينيه. وإذا كانت صورة العالم في عيشه على مثال صورة الكاتب، فلماذا الحزن؟
4- ((فأمّا ميكايل أنجيلو فقد صرخَ -انطقْ- في وجه تمثالِه موسى لا داود))
هذا ما تقوله ويقوله سواك. أما الأستاذ فيقول إنه داود، وأما أنا فلا أرى أهمية في أن يكون النحات صرخ في وجه موسى أو في وجه داود. العبرة في الصرخة.

اخر الافلام

.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ


.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث




.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم


.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع




.. هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية