الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليبيا وأسماء المرقش

الصديق بودوارة

2015 / 5 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


" فما بالي أفي ويُخان عهدي .. وما بالي أُصادُ ولا أصيدُ "
يقول لنا التاريخ البعيد إن شاعراً اسمه "المرقش الأكبر" كان يعشق امرأةً اسمها " أسماء" ،بينما يقول الليبيون إنهم يعشقون "ليبيا" ، لكن المرقّش يرفع اسم محبوبته إلى النجوم بينما يخسف الليبيون بمعشوقتهم الأرض .
هكذا الأمر ..

رجلٌ واحد يعلّم ملايين البشر درساً في العشق ، ويفتح لهم فصلاً في مدرسةٍ كبيرة اسمها مدرسة الانتماء ، فهل تسمحون لي الآن أن أخبركم شيئاً عن "المرقّش الأكبر" ؟
هو " عمرو بن سعد بن مالك" ، من قبيلة بكر، كان شاعراً فحلاً يطيعه الحرف ، وتُسلمُ له اللغة زمامها ، وقد تورط في محنة العشق ، وهل من ورطةٍ أكبر من أن تُقحم نفسك وتاريخك في متاهة العشق ؟
لقد عشق "المرقّش" ابنة عمه أسماء ، كما عشقنا نحن أمنا الكبيرة الحنون "ليبيا" ، غير أن الرجل كان أكثر صدقاً منا في عشقه .

عشقها "المرقش" ، غير أن "أسماء" ، وكعادة كل قصص الغرام الناجحة ، لم يُكتب لها أن تصبح زوجته ، بل انصاعت الى فراش رجل آخر طلب جسدها من ابيها مستغلاً غياب المرقش في سفرٍ طويل لياتي لها بالمهر .
في هذه الحالة يصبح التعبير الصحيح هو ان الرجل طلب "جسد" المرأة ، لكن العرب لازالوا يقولون تأدباً إنه " طلب يدها " .
لن أتورط في هذه التفاصيل ، بل سأمعن في السرد وأتوغل في المقارنة ، لعلي أعود في نهاية المطاف بما يشفي من الغليل بعضه .
يرحل "المرقش" في طلب مهر حبيبته ، بينما نتفنن نحن الآن في "التهام" مهرها ، حبيبتنا الأثيرة تلك ، نستنزف مواردها ، وننهل من ماء عينيها ، ونشبع حتى التخمة من خيرها الوفير ، دون أن نتحرك من مكاننا خطوة واحدة ، إن "المرقش" يفوقنا عشقنا ايها السادة بألف وخمسمئة عام كاملة غير أننا لم ننتبه بعد .

ويعود "المرقش" من سفره ، ليجد أن حبيبته قد انتقلت الى فراش رجل غريب لم يعشق يوماً، ولم يكتب شعراً في عيون حبيبته ، ولم يسهر ساعةً رمليةً واحدة في انتظار موعدها الخفي ، إنه فقط جمع ماله في كيس من الجلد وقصد خيمة أبيها البعيدة ، واشترى منه جسداً مترعاً بالمفاتن مقابل قيمة نقدية متفق عليها ، ثم استأجر ضمير المجتمع النائم ليسمي عملية الشراء هذه بأنها حفل زواج شرعي لا تنقصه الأختام ولا تعوزه الأوراق الرسمية .

إن عادة بيع أجساد النساء في تاريخ العرب تشبه تماماً عادتهم في بيع الأوطان المسكوت عن تاريخ بيعها وتفاصيله ، فلا شيء سيتعرض لهتك ستره مادام الثمن سرياً والبيع آمناً والربح هائلاً بجميع المقاييس .
باع والد "أسماء" ابنته بكيسٍ من الجلد محشو بالعملة الذهبية ، ليرجع "المرقش" ليجد نفسه بلا حبيبة ، وبعنا نحن ليبيا بكيس أسطوري بشع ، محشو بالضجيج والقادمين من الخارج وقادة الميليشيات وزعماء الأحزاب الوهمية وكهنة الدين العابسين وقنوات الفضاء البائسة وفيديوهات العنف والعنف المضاد والجماعات الخارجة عن الزمن وملايين النشطاء السياسيين والمحللين الاستراتيجيين والنساء المتجهمات في منظمات المجتمع المدني وحفنة من كتبة الدستور البطيء وصفحات التويتر وحزمة مشبوهة من مناشير الفيسبوك العابثة .
لقد باع والد "أسماء" ابنته بثمن أغلى من الثمن الذي بعنا به ليبيا أيها السادة ، لكنه مات دون أن يعلم بمدى أرباحه من الصفقة ، كما سنموت نحن قبل أن نعرف مدى بشاعة خسارتنا التي لا تُقدر بثمن .

ويعود "المرقش" ، ليجد خيمةً خاليةً من العشيقة ، كما عدنا نحن ذات يوم لنفاجأ بوطنٍ خالٍ من المحبة ، لكنه لا يستسلم لواقع الحال مثلنا ، بل يبدأ رحلة سفرٍ طويلة سعياً وراءها ، " أسماء " ، حبيبة عمره وفاتحة درسه البعيد ، وفي رحلته هذه يخونه زوج أخته ، وتخونه أخته ، ويغدر به أقرب الناس إليه ، ولا يترفق به سوى راعي غنم عابر ليوصله إلى خيمة محبوبته مريضاً يعاني سكرات الموت ، فتقوم على تطبيبه والعناية به حتى يُسلم روحه بين يديها . وهو ينشد أبياته المذهلة مصوراً واقع الحال :
" فما بالي أفي ويُخان عهدي .. وما بالي أُصادُ ولا أصيدُ "

ولا ينسى أن يفتتح ابياته الرائعات بنكهة أيامه كلها :
"سرى ليلاً خيالٌ من سليمى .. فأرّقني وأصحابي هجودُ "
يلبس " المرقش " هنا ثوب الوطن ، ويخلع عنه رداء المواطن ، إنه يذكرني بليبيا ، وكأني أسمعها تنشد معه بحرقة :
" فما بالي أفي ويُخان عهدي .. وما بالي أُصادُ ولا أصيدُ "

وكأني بها تشكو رداءة حال عشاقها الذين توفي بعهودهم فتمنحهم ضرعها يسقيهم الحليب ، فيغدرون بها ليمنحوها خلافاً يمزق الضرع ، ويخاطبونها بلسان قلبٍ لا يخفق لغير الضجيج .
كان هذا هو حال المرقش منذ ألف وخمسمئة سنةٍ مضت ، فكيف هو حالنا الآن ؟

إننا نلعب اللعبة الخطرة القديمة ، نبيع جسداً ، ونسمي عملية البيع هذه "طلب يد "، ونمعن في الخداع ، فنشتري من الغرب حمل درهم ديمقراطية ، وتوابل من منظمات مجتمع مدني ، وعيدان قرنفل من أحزاب باهتة اللون ، وفكراً مستورداً عديم الرائحة كأزهار البلاستيك ، وحزمةً من أيديولوجيا لا علاقة لنا بها من قريبٍ أو بعيد ، ثم نخلط هذا كله في معصرة "مولينكس" مستوردة بدورها ، لنشرب بعدها سائلاً هجيناً قد يحتمل أن نطلق عليه أي اسم ، إلا أنه الوطن .
خطأ تاريخي ، نزيده بشاعةً بعجز "تاريخي" أيضاً عن الحوار بصيغة حضارية تليق باسم ليبيا على الأقل .
إننا نمعن في السقوط ، لكن دوي سقوطنا لا يسمع به أحد .

دوي سقوطنا لا يسمع به أحد ، ولن يسمع به أحد أيها السادة ، وذلك لأن العالم مشغول الآن بنهائي "الشمبيونزليج " ، ومشغول باختراع الآيفون 6 ، والجالاكسي 6 ، ومشغول بأبحاث عن امكانية الحياة على المريخ ، ومشغول بجوائز نوبل في الأدب والعلوم والاقتصاد .
إن العالم يعيش حياته الحقيقية الممتعة الخلاقة فيما ننشغل نحن ومعنا " أمة العرب فداك العربي " ، بعدد قتلى الحوثيين في اليمن والأطفال المشوهين في سوريا والأرقام المريعة لتدني الاقتصاد في ليبيا ، والرؤوس المذبوحة على امتداد محاور القتال من المحيط على الخليج .
لا أحد ينجح في الامتحان الآن ، وإذا كانت هناك مرتبة شرف للفشل ـ فأن العرب يستحقونها بلا أدنى تردد .
هذا هو المشهد من "جوجل ايرث" ، فهل أعود بكم في نهاية المقالة إلى سطح الأرض ؟

حسناً ، قبل أن أغادركم أريد أن أخبركم بشيء ، وأن أقول لكم إن "المرقش" يموت في نهاية القصة ، لكنه يعثر على حبيبته قبل أن يموت ، ونحن ، وكعادة كل الكائنات ، سنموت في نهاية الحكاية ، فهل سنعثر على ليبيا قبل أن نموت ؟
شخصياً ، لا أدري ، ولكن ، اسألوا "المرقش الأكبر " فلعله يعرف الجواب .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ظل التحول الرقمي العالمي.. أي مستقبل للكتب الإلكترونية في


.. صناعة الأزياء.. ما تأثير -الموضة السريعة- على البيئة؟




.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا


.. تصاعد ملحوظ في وتيرة العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل




.. اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة الخليل لتأمين اقتحامات