الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدستور العراقي واستدراك التفويض

فالح عبد الجبار

2005 / 10 / 18
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


بدت الآراء في صدد الدستور الذي استفتي فيه العراقيون يوم أمس، هزلية ودرامية في آن، في تباعدها وتصادمها، وفي ثنائها أو قدحها.
لقد أبدى العراقيون حمية غير مألوفة في النقاش الدستوري. وحسب احد التقديرات رفع العراقيون الى لجنة الصياغة نحو مئة مسودة دستورية، وقدموا قرابة 450 ألف اقتراح دستوري، كما عقدوا أكثر من 280 ندوة وورشة عمل للمناقشة، منها سبعة في لندن. ولم تبق هيئة خارج هذا السجال، حتى الهيئات التي تعارض مبدأ كتابة الدستور في هذه الفترة نظمت ندواتها، ووضعت مبادئ دستورية تنسجم ورؤاها الفكرية للمستقبل.
هذا اهتمام أو همّ غير مسبوق لأمة صامت عن القول قرابة ثمانين عاماً. عاش العراق في ظل خمسة دساتير حكومية مؤقتة. ولم يحظ في تاريخه بأي دستور دائم سوى دستور العهد الملكي عام 1924. وجاء الدستور الملكي ثمرة تلاقح قوى وأفكار عدة.



لقد ولدت فكرة الدستور في العالم العربي الاسلامي أواخر القرن التاسع عشر، رداً على تحديات انهيار الحضارة العربية الاسلامية بإزاء الغرب، وثمرة التلاقح مع هذا الأخير. وكان قادة الفكر عصرذاك يدركون في شقاء الوعي ان تحديث الدولة هو السبيل الوحيد للارتقاء، وان الدستورية اساس الدولة الحديثة. وكانت تونس سباقة الى ذلك. فوضعت دستورها عام 1861، فالدولة العلية (العثمانية) عام 1876، لتليها مصر عام 1882. وكان مفكرو عصرذاك يبدون في نظر العوام كما في نظر السلاطين، حالمين يعانون من خرف مكين. وحالنا اليوم لا تختلف عن هذا، مع فارق ان جل المثقفين لا يرى في الدساتير عقداً اجتماعياً لتنظيم علائق المجتمعات بدولها المتسيّدة، بل محض ترف ازاء أمور أكبر وأهم مثل مقارعة الاعداء، لكأن شرط هذه الحرب هو عبودية الأمم.
دخل العراق العصر الدستوري قبل الحرب العالمية الأولى (ثورة الاتحاد والترقي 1908، وثورة المشروطة الايرانية 1906)، بكثير من الوجل. أما بعد الحرب العالمية الأولى فقد انتج دستوره الخاص، ثمرة تفاعل قوى ومؤثرات عدة.
فقد جمعت الدولة العراقية قوى اساسية هي الجهاز الاداري - العسكري البريطاني، والنخب الإدارية - العسكرية العراقية التي خدمت في المؤسسات الاجتماعية والأسرة الملكية ذات المنحدر الشريف، واخيراً النخب التقليدية من الشراف ونقباء التجار وممثلي الأعراق والقبائل. وكانت هذه القوى تمثل ايديولوجيات وتقاليد سياسية متضاربة، من المدرسة البرلمانية - الدستورية (بريطانيا) الى المدرسة القومية العربية ذات النزعة المركزية (الضباط الشريفيون)، الى ايديولوجيا النسب العربي الشريف (العرش ممثلاً بسلالة الشريف حسين)، الى ايديولوجيا القرابة والعرف (رؤساء القبائل)، الى مدرسة الشريعة الاسلامية (رجال الدين ونقباء الطرق).
وولد الدستور العراقي وسط هذه القوى وكان ثمرة تفاعلها، كما ولد في لحظة تاريخية خاصة، هي ارساء مبدأ حق تقرير المصير للأمم (وودرو ويلسون وفلاديمير لينين).
وخلافاً للتبسيطات الشائعة لم يُكتب الدستور حصراً بأقلام بريطانية استنساخاً لدستور بريطاني مزعوم. فبريطانيا لا تتوفر على اي وثيقة دستورية اصلاً. ويقول المؤرخ الدستوري نيثن براون ان الدستور العراقي الأول ولد من مزيج التقاليد البريطانية، والدستور العثماني والدستور المصري. أما المؤرخ السياسي العراقي، مجيد خدوري، فيذهب الى ان الدستور اعتمد أيضاً مصادر دستورية اخرى مثل الدستور الاسترالي ودستور نيوزيلندا لمعالجة مشكلات عراقية خاصة.
الواقع ان الدستور اعتمد خلائط من مفاهيم دستورية حديثة وأعراف قبلية مستمدة من تجارب الهند وايران وافغانستان. واعترض العراقيون على الدستور وقتذاك ولم يوقعوا عليه. بل ان الجمعية التأسيسية لم تقبل به ألا تحت وقع التهديد. والسبب في ذلك ان الدستور ربط مضمونه بمعاهدة عراقية - بريطانية تخدم مصالح الامبراطورية.
ما رفضه العراقيون بحق هو المعاهدة وليس الدستور. واليوم يمر العراق بأحوال مشابهة في بعض النواحي. وهم يختلفون حول سبل التعاطي مع الوجود الاميركي - البريطاني اساساً، وينسون في ظل هذ الاختلاف ان أسس الدولة الحديثة في العراق مختلة منذ نصف قرن أو يزيد، ولا بد من علاجها بدستور يأخذ في الاعتبار اننا دولة متعددة القوميات والأديان والمذاهب، واننا دولة ثروتها الوحيدة موارد النفط التي لا يمكن حكرها على أحد، واننا دولة في حال طلاق مع الأمة، واننا أخيراً وليس آخراً في تخلف مزرٍ تراجعت فيه الثقافة الى مستويات دنيا من الخرافة والجهل والتعصب الأعمى والفاقة.
والمشكلة في الدستور الجديد أنها مركّبة. فهي، حسب تعبير أحد خبراء الدستور، تقوم في معالجة اختلالات الماضي ومنع تكرارها، أي منع العسف الاثني والتحيّز المذهبي والاحتكار الضيق للسلطة والموارد. لكن المشكلة أيضاً تقوم في توزيع منابع السلطة والثروة لجهة المستقبل. هكذا دار ويدور المشرعون الدستوريون بوجهين: وجه الماضي ووجه المستقبل.
وقد اختار العراقيون الفيديرالية صيغة لحل مشكلة الثنائية القومية للعراق. كما اختاروا النظام اللامركزي صيغة لحل مشكلة الاحتكار المركزي للموارد الطبيعية وعائداتها. وهذه حلول سليمة. غير أن رغائب احتكار السلطة القديمة تستمر في صيغ جديدة لدى بعض القوى. من هنا الميل الى تعميم الفيديراليات خارج نطاق المنطقة الكردية. وتنبعث ميول الاحتكار هذه على خلفية تحويل الاختلافات المذهبية الى ايديولوجيات تعبئة سياسية وانتخابية (لجهة المشاركين في الحكم)، وعلى خلفية نزعة تكفيرية، تدميرية (لجهة أمثال الزرقاوي القادم من العصر الحجري).
ورغم أن الهويات الاثنية والمذهبية تتقوى وتترسخ كل لحظة، مستفيدة من فراغ الأفكار، إلا أن هذه الهويات متشظية بدورها الى كتل جهوية وأحزاب ايديولوجية وقوى أسرية تجمع الروح المحافظة بالولاءات الصغيرة. وتتمحور الحياة السياسية اليوم على أربعة اتجاهات أو مجموعات هي: الكتلة الشيعية (الائتلاف العراقي الموحد) والكتلة الكردية (الجبهة الكردستانية) والكتلة السنّية (مجموعة قوى وأحزاب) والكتلة الوسطية.
لكن لسوء حظ العراق أن الكتلة الوسطية هي الأضعف، وأن الكتلة الإسلامية الشيعية الأقوى. وتبدي هذه الأخيرة نزوعاً شديداً للاستئثار السياسي، هو وراء الكثير من مشكلات الدستور. فأولاً، تميل الكتلة الإسلامية الشيعية الى مبدأ الحكم بالأغلبية لا بحكم يقوم على مبدأ التوافقية، وهو مبدأ جديد يوسع المشاركة السياسية ويضع قيوداً تمنع ما اصطلح عليه بديكتاتورية الأكثرية. وقد ضربت حكومة ابراهيم الجعفري بهذا المبدأ عرض الحائط، رغم أنه قائم في الدستور الموقت الساري حالياً.
وتميل الكتلة الإسلامية الشيعية، ثانياً، الى تعميم مبدأ الفيديرالية لأجل الانفراد بالمحافظات الجنوبية وتحويلها الى موئل لولاية الفقيه الفاشية الطابع. وتميل هذه الكتلة، ثالثاً، الى تأمين فوزها بالأغلبية بأي ثمن. ذلك أنها تدرك أن الميول الجديدة لدخول الانتخابات والمشاركة في الاستفتاء التي تتزايد في المحافظات السنّية ستؤدي، في حال تحققها، الى تقليص الوزن النسبي للكتلة الإسلامية الشيعية. فعلى فرض أن هذه الكتلة احتفظت بمستواها الانتخابي (4 ملايين صوت = 48.1 في المئة من أصوات المقترعين)، فإن كتلة الأربعة ملايين صوت ستنخفض من 48.1 في المئة الى 30 في المئة من مجموع الناخبين، إذا ما شاركت المحافظات الممتنعة. واستباقاً لتحول كهذا، عمدت الكتلة الإسلامية الشيعية الى تغيير القانون الانتخابي لتضمن احتفاظها بكل اصوات الجنوب، اعتماداً على مبدأ الأغلبية البسيطة داخل المحافظة، وذلك بإلغاء مبدأ التمثيل النسبي.
وابتغاء تمرير الدستور من دون تعديل، عمدت الكتلة ذاتها الى اصدار «فتوى» دستورية يصعب حملها على محمل الجد، حول المادة 61 من قانون إدارة الدولة الموقت الناظم للاستفتاء. فحسب نص هذه المادة لن ينجح الدستور إلا إذا فاز بأغلبية المقترعين، ولم يصوّت ضده ثلثا المقترعين في ثلاث محافظات أو أكثر.
والكتلة أفتت بأن كلمة «المقترعين» تعني المسجلين في قوائم الناخبين في الحالة الثانية (ثلاث محافظات)، وتعني الناخبين الذين يدلون بأصواتهم في الحالة الأولى. كيف يمكن لكلمة واحدة (هي الناخب أو المقترع)، في مادة دستورية واحدة، أن يكون لها معنيان مختلفان؟ الجواب: خوف الكتلة من تصويت المحافظات الممتنعة.
هذا اللعب على حبال المعاني لا يقتصر على تأويل القوانين، بل يتعداه الى كتابة الدستور. أما المعارضون فمنقسمون بين ساع الى إعادة نظام تسلطي بائد، بكل رموزه وايديولوجيته، أو منغلق في هوية طائفية مضادة، تحمل بذور دمارها الذاتي، وتشل فرص تيار وسطي عابر للطوائف. وكان الاستثناء في ذلك «الحزب الاسلامي» الذي نجح في انتزاع تنازلات مهمة معلناً موقفه بشجاعة.
لكن يبقى فارق هائل بين إرساء أسس دولة توافقية مستقرة، وبين سعي كتلة من هنا أو هناك الى ضمان مصالح استمرارها في الحكم من دون قيد، أو تفويض يقوم على الأداء والصدقية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مراسلة الجزيرة ترصد مخرجات اجتماع مجلس الحرب الإسرائيلي


.. غالانت: إسرائيل تتعامل مع عدد من البدائل كي يتمكن سكان الشما




.. صوتوا ضده واتهموه بالتجسس.. مشرعون أميركيون يحتفظون بحسابات


.. حصانة الرؤساء السابقين أمام المحكمة العليا الأميركية وترقب ك




.. انهيار أشرعة الطاحونة الحمراء في باريس من فوق أشهر صالة عروض