الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من يقضي على التشيع : (خمر) الحبوبي أم (تدين) الشيعة الجُدد ؟

حسين كركوش

2015 / 8 / 24
مواضيع وابحاث سياسية



حسين كركوش

من يقضي على التشيع : (خمر) الحبوبي أم ( تدين ) الشيعة الجُدد ؟

اقترن التشيع منذ أيامه الأولى ، خصوصا في العراق ، بالجمع بين الزهد والورع والتقوى والثبات على المبدأ ومقاومة الطغيان السياسي ، من جهة ، وبين الإقبال على الحياة والتمتع بمباهجها ، من جهة أخرى. وظل التشيع هكذا قبل أن تحوله الأيدولوجيا إلى مجموعة من القوالب الخشبية الجامدة.
وليس غير الشعر وسيلة نحتكم عندها ، لأنه ظل الوسيلة التعبيرية الأكثر شيوعا.
وأفضل أن أبدأ بشاعر معاصر هو الحبوبي.
و الحبوبي الذي أعنيه هو محمد سعيد الحبوبي ( 1849-1915) . وأختاره لأنه يجسد تشيع الحياة وليس التشيع الأيديولوجي المتخشب ، ويمثل شيعة الحياة وليس شيعة القبر المصابين بمرض فوبيا الحياة.
أما لماذا الحبوبي ، من بين شعراء شيعة معاصرين كثيرين تغنوا مثله بالحياة ، فلأنه عالم دين و فقيه ومجاهد. ولم يُعرف عن الحبوبي ، كما الجواهري ، مثلا ، تأثره بأفكار غريبة عن بيئته المحلية أو أفكار أجنبية (مستوردة) من الغرب ، كما يسمي المتعصبون عملية التلاقح الثقافي الكوني.

و سأستشهد بقليل جدا من شعر الحبوبي ، بعضه معروف وشائع على ألسنة العامة.

يقول الحبوبي:

يا غزال الكرخ وا وجدي عليك كاد سري فيك أن ينهتكا
هذه الصهباء والكأس لديك وغرامي في هواك احتنكا
فاسقني كأسا وخذ كأسا إليك فلذيذ العيش أن نشتركا.
..
قد شربت ألخمر لكن كلُماك ما رأت عيني، ولا ذاق فمي
..
دب من صدغه على الخد عقرب كلما رامه المتيم يلسب
حاول الستر بالنقاب ولكن أحرقته أنواره فتلهب
فهو ما انفك مسفرا لعيون ان بدا مسفرا أو تنقب
..
يا قضيبا بقده ان تثنى وكثيبا بردفه ان ترجرج
..
قلت : يا أقضى المنى روحي فداك ما جرى ؟ قال : أما قبلتني ؟
..
كسرويات على دين المجوس
حاكمتنا ، فسبت منا النفوس
طالعتنا فحسبناها شموس
..
وافر الأرداف أبدت نقصًه بدقيق الخصر اذ رُجًت لديه
..
علق القُرط بأذنيه وثن ضل من صلى اليه وغوى
كم بذاك القرط ذو اللب افتتن اذ تجلى ( وعلى العرش استوى)

قلت إن الحبوبي فقيه ومجاهد ، ولهذا لا داع لأوكد أن الحبوبي لم يشرب الخمر قط. لكني أتحدث عن (لذيذ العيش) (المشترك) ، أي عن الحياة كما يصورها في شعره هذا الفقيه الشيعي المجاهد.
لذيذ العيش ، في كل زمان ومكان وعند البشر الأسوياء أينما كانوا ( لكن دعونا الآن نقول وفقا لأبيات الحبوبي السابقة ) ، يعني الانفتاح على الحياة ، ويعني الفرح والبهجة ، والألوان الزاهية الجميلة. ويعني المتع الحسية.
ومنطقيا ، يعني لذيذ العيش عذوبة النغم الموسيقي وحلاوة الصوت البشري.

و الحبوبي ليس الوحيد ولا الأول من بين أعيان وأكابر الشيعة ، الذي دعا الناس إلى التمتع بالحياة الدنيا و بمباهجها ، وتغنى بجمالها وأشار لجوانبها الحسية. إنه تلميذ مخلص لأسلافه الشيعة الأوائل.

لن اتحدث عن شعر الشريف الرضي (359-406 هجرية ) ، خصوصا في أشعاره التي تدعى الحجازيات ، التي يتحدث فيها عن جمال المرأة وعن الحب والصبابة. ولن أذكر قصيدته الشهيرة التي يقول مطلعها :

يا ظبية البان ترعى في خمائله ليهنك اليوم أن القلب مرعاك

ولن أذكر استحسان الشريف الرضي للغناء و للصوت الرخيم الآسر ونفوره من الغناء البارد ، وكيف كال الهجاء في أحدى المرات ، لمطرب لا يجيد الغناء ، فقال :

تغفي العيون إذا بدا وتقئ عند عنائه الأسماع.

وسأنسى القصة التي يرويها القيرواني في ( زهر الآداب) عن مجلس الشراب ، و وجود " كوران المغني" في مجلس الشريف الرضي وما دار بينهما من حديث.

و سأهمل ما نقله أبو الفرج الأصفهاني في (الأغاني) عن السجال بين سكينة بنت الحسين والشاعر الفرزدق ، وما دار بينهما من كلام.

سأتحدث فقط عن مثقفين كبار من "عموم" الشيعة عاشوا في عصور و أماكن مختلفة ، و بعضهم عاشوا في عصور كان التشيع فيها بمثابة تهمة تؤدي بصاحبها إلى التهلكة ، وليس وسيلة للتكسب والحظوة والجاه والنفوذ ونهب المال العام.
ورغم أجواء القمع فأنهم لم يهادنوا الطغاة و أخلصوا لعقيدة التشيع ودافعوا عن الشيعة.
لكنهم في الوقت نفسه عاشوا حياتهم ، لا طبقا لقياسات أصحاب ( المساطر الآيدولوجية ) في هذه الأيام ، وإنما عاشوا حياتهم ، كما كل البشر. عاشوا حياتهم وفقا لشروط العصور التي وجدوا أنفسهم فيها ، و البيئات الفكرية الثقافية التي عاشوا في وسطها وتأثروا بها وانسجموا مع أجوائها المتجددة و المتغيرة.
كانوا يفرقون بين العام والخاص. فمثلما كانوا شديدي الالتزام بمذهبهم النظري الفكري الشيعي ، فأنهم كانوا شديدي التعلق بالحياة. كانوا يعشقون النساء ويهيمون عشقا بالموسيقى وبالأغاني ويشربون الخمر ويترددون على مجالس الشرب و الطرب والأُنس.


فالشاعر دعبل الخزاعي (148- 264 ه) يعتبره الشيعة ، سوية مع السيد الحميري والكميت الأسدي ، من كبار شعرائهم الذين دافعوا عن التشيع. و لهم الحق. فليس هناك قصيدة في الدفاع عن أهل البيت أبلغ من قصيدة دعبل التائية التي يقول فيها :

مدارسُ آيات خَلت من تلاوة ومنزلُ وحي مُقفر العَرَصات
بنات زياد في القصور مصونة وآل رسول الله في الفَلوات

وديوانه طافح بالتغني بفضائل أهل البيت و مدح الإمام علي والإمام الرضا ، ومحاربة الطغاة.

لكن لأن دعبل من البشر وليس كائنا أسطوريا خرافيا ، ولأن دعبل ليس (حاسوب) شيعيا تتم برمجته ايدولوجيا ، فأنه كان يجمع بين نضاله المبدأي المستميت ، وبين العيش ، وفقا لشروط عصره ، مثلما يفعل الأسوياء من بني البشر في كل زمان ومكان.

فكما كان دعبل مناضلا مبدأيا عنيدا (يحمل خشبته على كتفه ويدور بها عل من يصلبه عليها )، فأنه كان يعشق الحياة الدنيا ويغرف من متعها، و يتحدث عن مجالس الشراب ويهوى الغناء ويتغزل بالمرأة ، ويقول ما يعتبره المجتمع كلاما فاحشا يخدش الحياء.

يقول دعبل :



لما رأت شيباً يلوح بمفرقي صدت صُدودَ مُفارق متجمل
فظللتُ أطلبُ وصلها بتذلل والشيبُ يغمزها بأن لا تفعلي

وله في مجالس الشراب:

شربتُ وصُحبتي يوما بغمر شرابا كان من لُطف هواءَ
وزنا الكأسَ فارغة وملأى فكان الوزنُ بينهما سواء

ويقدم دعبل هذه النصيحة لشاربي الخمر :

لا تشرب الدهرَ صرفا فالصرف يُورثُ حَتفا
واجعل من الراح نصفا واجعل من الماء نصفا
فإنها بمزاج أشهى وأحلى وأصفى

وكان دعبل يعشق الصوت الرخيم وينفر من الغناء البارد :

ومُغن إن تغنى أورث النًدمان همًا
أَحسنُ الأقوام حالا فيه مَن كان أصما

أما شعر دعبل الهجائي فنجد فيه صور ومفردات ومشاهد جنسية صارخة قد لا نجدها عند أكثر شعراء الخلاعة تهتكا قديما وحديثا. وسنذكر شذرات منها ، نصا ، رغم أننا نجد حرجا في ذكرها :

لو كان لاستكَ ضيقُ صدركَ أو لصد رك رُحبُ دُبركَ كُنتَ أكحل مَن مَشى
...
أو ترى الأيرَ في أسته قُلتَ :ساق بمقطرة
أو تراه يلوكه قلتَ : زُبد بسُكره
أو تراه يشمه قلتَ : مسك بعنبره


و دعبل المجاهد العاشق لأهل البيت والذي لم يتردد أن يقول بعد موت المعتصم وتولي الواثق :

خليفة مات لم يحزن له أحد وآخر قام لم يفرح به أحد
فمر هذا ومر الشؤم يتبعه وقام هذا فقام آلويل والنكد

هو نفسه دعبل الذي يرسم هذا المشهد الجنسي الصارخ ، هاجيا جارية أسمها (برهان) :

وبُرهان باردةُ المطبخ و حَمًامها واسعُ آلمسلخ
وإنك لو نكتها نيكة لأفضيتَ منها إلى بَربخ
ولو كشفت لكَ عن فَرجها لأبصرتَ ميلين في فَرسخ
..
برهان لا تُطربُ جُلاسها حتى تريك الصدرَ مكشوفا (ديوان دعبل. جمعه وقدم له وحققه : عبد الصاحب عمران الدجيلي. النجف في: 1972).

ودعبل لا يخون نفسه عندما يجمع الشيء ونقيضه. التناقض ، أو قل التنوع والثراء الفكري الثقافي الحضاري ، كان في البيئة الحياتية الفوارة المتجددة التي ترعرع فيها هذا المثقف والمجاهد الشيعي.
أفكار دعبل وسلوكه اليومي ومواقفه ومفردات قاموسه اللغوي هي انعكاس للبيئة الحضارية الثرية والمتنوعة لمدينة الكوفة وقتذاك ، التي كانت تضم منتدياتها ومجتمعاتها العلماء والزهاد والعباد مثلما كانت تضم ذي الميول المتطرفة في الزندقة والمجون. أفكار دعبل كانت أيضا انعكاسا لبيئة بغداد الضاجة حينها بكل جديد.
لو كان دعبل يعيش في بيئة بدوية صحراوية منغلقة لا وجود فيها لأمرأة مثل (برهان) لما تجرأ على قول كل هذا.

ومثلما يحدث مع أصحاب النزعات التجديدية ، في كل زمان ومكان ، فأن دعبل و غيره من شعراء الشيعة دائما ما أُتهموا بالتحلل الأخلاقي و بالزندقة وتهديم عرى الإسلام وإفساد المجتمع ونشر الرذيلة ، وأنهم من الشعوبيين المنحرفين الذين ينفذون أجندات خارجية.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - همهم الشهوات لا التشيع
صادق البلادي ( 2015 / 8 / 24 - 15:19 )
الصديق العزيز
ما أظنك واهما فيما يبغون من وراء التستر بمظلومية الشيعة وبالتشدق بمبادئ الصدر الأول
فأين هم مما قدمه الصدر الأول في إقتصادنا ، وكثير منهم يمكن ما يزال يقرأ كل يوم دعاءا من أدعية الصحيفة السجادية التي وضعها الإمام زين العابدين للتنبيه و التحذير مما تتسبب
فيه حياة الرخاء من - الإنسياق مع ملذات الدنيا والإسراف في زينة هذه الحياة المحدودة و
انطفاء الشعور الملتهب بالقيم الخلقية و الصلة الروحية بالله و اليوم الآخر وبما تضعه
هذه الصلة أمام الإنسان من أهداف كبيرة - كما يكتب الصدر الأول في مقدمته للصحيفة
السجادية الكاملة. وتكفي نظرة واحدة الى الفساد الذي فيه هم غارقون ليتضح الحال ، ويكشف أنهم لا يأبهون بالصدر الأول ، بل ولم يقرأوه جيدأ ، او لم يقرأوه أصلا بل هم في جهالتهم
إ : يعمهون ، ولعل البعض منهم يرددون دعاء السجاد
- إلهي ... أخرج حب الدنيا من قلوبنا كما فعلت بالصالحين من صفوتك
، يرددونها كما الببغاء، رافعين أيديهم وبوجوه كأنها خاشعة، تربوا على تمثيلها ، والآن امام الكاميرا، رئاء الناس. لكن كذبهم لم يعد ينطلي على الكثيرين الذين يهتفون : باسم الدين باگونه الحرامية.


2 - قُبْحاً لجنة اعداء الفرح والبهجة والمتع الحسية
طلال الربيعي ( 2015 / 8 / 24 - 18:08 )
الصديق العزيز الاستاذ حسين كركوش المحترم
شكرا على مقالتك الرائعة, التي تعّري باسلوب علمي أخاذ, وبكل جلاء, النفاق والرياء الذي يتمسح به اصحاب العمائم لتغطية عوراتهم واخفاء موبقاتهم. وهم يظنون, لسذاجتهم وغبائهم هم, ان الشعب سيصدّق الى الابد احابيلهم وخرافاتهم وشعوذاتهم. انهم يعتقدون انهم ظل الله على الارض ومالكو مفاتيح الجنة. فقبحا لجنة تقبل بامعات الناس واشباه البشر هؤلاء. وهؤلاء ينطبق عليهم وعلى زمانهم قول المتنبي العظيم:
-قُبْحاً لوَجهِكَ يا زَمَانُ فإنّهُ, وَجهٌ لَهُ من كُلّ قُبحٍ بُرْقُعُ-
مع افر مودتي واحترامي

اخر الافلام

.. قادة الجناح السياسي في حماس يميلون للتسويات لضمان بقائهم في 


.. دعوات أميركية للجوء إلى -الحرس الوطني- للتصدي للاحتجاجات الط




.. صحة غزة: استشهاد 51 فلسطينيا وإصابة 75 خلال 24 ساعة


.. مظاهرات في العاصمة اليمنية صنعاء تضامناً مع الفلسطينيين في غ




.. 5 شهداء بينهم طفلان بقصف إسرائيلي استهدف منزلا في الحي السعو