الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوار مع ميلان كونديرا

الحسن علاج

2015 / 8 / 27
مقابلات و حوارات


حوار مع ميلان كونديــــــــــــــــــرا
أجرى الحوار : نورمان بيرون
ترجمة : الحسن علاج
نورمان بيرون . ـ ميلان كونديرا ، قبل مقاربة الكتب التي كنتم قد عاينتم ترجمتها إلى الفرنسية ، أعتقد أنكم جئتم إلى الكتابة بنشر قصائد شعرية ...
ميلان كونديرا. ـ نعم . لقد كتبت الشعر ، على أن الشعر لم يعد يستميلني قط .
نورمان بيرون . ـ ألم تجدوا أن أشعاركم كانت جيدة ؟
ميلان كونديرا. ـ منها بعض الأشعار لم تكن رديئة جدا ، على أن الأمر يتعلق بقصة أخرى . فالتحول من الشعر لصالح النثر ، لم يكن بالنسبة لي انتقالا بسيطا من جنس إلى جنس آخر ، بل بقطيعة حقيقية . أنا لم أتخلى عن الشعر ، فقد خنته . إن الشعر الغنائي ، بالنسبة لي ، ليس هو جنس أدبي فحسب لكنه قبل كل شيء هو تصور للعالم ، موقف وجها لوجه أمام العالم . تخليت عن هذا الموقف مثلما يتخلى المرء عن ديانة معينة .
نورمان بيرون . ـ لكن هل يوجد موقف غنائي أو ضد غنائي ؟
ميلان كونديرا. ـ يتماهى الموقف الغنائي دائما مع أحاسيسه . الموقف الغنائي المضاد ، هو الارتياب أمام أحاسيسه الخاصة وأمام أحاسيس الآخرين . الموقف الغنائي المضاد ، هو الاعتقاد بوجود مسافة لامحدودة بين ما يعتقده المرء عن ذاته ووجوده الفعلي ؛ مسافة لامحدودة بين ما ترغب الأشياء في أن تكونه أو تعتقد في أن تكون وما توجد عليه . الإمساك بهذا الميلان ، هو تحطيم الوهم الإيقاعي . الإمساك بهذا الميلان ، هو فن السخرية . والسخرية ، هي منظور الرواية .
نورمان بيرون . ـ " خيانت" ـكم للشعر لم تكن منطقية ، لأنكم في سنة 1965 ، نشرتم مختارات مهمة لأبولينير Apollinaire) (بترجمتكم الخاصة ، وقدمتم لها بدراسة طويلة ...
ميلان كونديرا. ـ نعم ، نشرت تلك المختارات ببراغ Prague) (مع طبع 55000 نسخة نفدت كلها خلال أيام .فإذا كنت أنا نفسي لا أحب كتابة الشعر بعد ، لا يعني هذا عدم حبي للعمل الشعري الذي يكتبه الآخرون . كان أبولنير دائما حبي الكبير .
نورمان بيرون . ـ على أنه في رواياتكم ، يمكن العثور على مقاطع تمتلك خيالا شعريا مكثفا جدا .
ميلان كونديرا. ـ تعتبر مدرسة ال" غنائية" lyrique) ( شيئا لا غنى عنه لروائي حديث . لا ننسى أن الشعر الغنائي هو من حمل الابتكارات الكبرى والمبادرات إلى الأدب الحديث ـ منذ بودلير Baudelaire) ( إلى حدود السورياليين . تحرر الخيال ، تكثف التعبير ، ملكة الاستحضار وهز المشاعر يتم التعبير عنهما بصورة واحدة . أرغب في أن يكون كل فصل من روايتي مكثفا ، قويا ومعبرا مثل قصيدة شعرية صغيرة . على أن ما هو فاصل لدي ، هو منظور المجموع الذي يتضمن منظور السخرية ، منظور إزالة الضلال ، منظور " تنسيب " حقائق ، أحاسيس ، مواقف . باختصار ، موقف أجده ضد غنائي .
نورمان بيرون . ـ بعد فترتكم الغنائية ، كتبتم كتابا نظريا ، فن الرواية . هل تؤمنون بمستقبل الرواية ؟
ميلان كونديرا. ـ طوال تاريخها ، رفضت الرواية من قبل مبدعيها الكبار . أن ترفض الرواية ذاتها ، فإن ذلك ينتمي سابقا إلى تقاليدها . تعتبر رواية جاك القدري لدنيس ديدرو Denis Diderot) (، سخرية دائمة من الجنس الروائي و ، في نفس الوقت ، واحدة من أعظم الروايات . هذا أمر مهم : الرواية هي الجنس الفني الوحيد الذي يسخر من نفسه . كان إميل زولا Emile Zola) (يستخف من الرواية ولم يكن يرغب في اعتبار كتبه روايات . في القرن العشرين ، الكل كان يتحدث عن رواية مؤرخة للوفيات : السورياليون ، الطليعة الروسية ، مالرو Malraux) (الذي جزم بأن الرواية كانت ميتة منذ أن توقف عن كتابة أي رواية ، إلخ . تلاحظون ، أن هذا غريب حقيقة . لا أحد يتكلم عن موت الشعر . وعلى أي حال ! فمنذ الجيل العظيم من السورياليين ، لا أعرف أي عمل شعري عظيم ومجدد حقيقة . لا أحد يتكلم عن موت فن التصوير . لا أحد يتكلم عن موت المسرح . لا أحد يتكلم عن موت الموسيقى . ومع ذلك ، ومنذ شوينبيرغ Schoenberg) (فقد تخلت الموسيقى عن مجمل التقاليد الألفية المؤسسة على النغم ، سلم الأنغام وعلى الآلات [ الموسيقية] . أعشق كثيرا فاريس Varése) (وكسيناكيزXenakis) (، لكن ألا يزال هذا يمت بصلة إلى الموسيقى بشيء ؟ يصف فاريس مقطوعاته الموسيقية مثل تنظيمات نغمية . ربما إن الموسيقى ماتت منذ عقود دون أن يتم الحديث عن ذلك . من بين كل الأجناس الفنية ، أعتقد أن الرواية هي الجنس الأقل موتا .
نورمان بيرون . ـ ألا تعتبر روايتكم الأولى ، المزحة Plaisanterie) (، رواية تهدف إلى تقديم وصف لمَناخ جيل ، ترجمة ذاتية لحقبة ؟
ميلان كونديرا. ـ لا ، لا توجد لدي أي نية لتقديم وصف لترجمة ذاتية لصالح حقبة . لكن وبما أنه لا توجد كتب كثيرة تستطيع تقديم شهادة عن تاريخ بلادي منذ السنوات الثلاثين الأخيرة لذلك فإن المزحة تضطلع بوظيفة شهادة تاريخية . تضطلع بها بلاوعي منها وعلى مضض تقريبا . فما كان يهمني ، ليس الوصف التاريخي ، بل القضايا ، إذا شئتم ، الميتافيزيقية ، الوجودية ، الأنثربولوجية ـ تلاحظون ، إني أجد صعوبة في إيجاد الكلمة المناسبة ـ أخيرا ، القضايا الإنسانية الأبدية المزعومة التي يسلط الضوء عليها من قبل كشاف نور وضعية تاريخية ملموسة .
نورمان بيرون . ـ مثلا ...
ميلان كونديرا . ـ مثلا ، الرواية كلها تساؤل حول الانتقام . التقى لودفيغ Ludvik) (زوجة رجل تسبب ، بعد مرور خمسة عشر سنة ، تسبب في تعاسته ـ الطرد من الحزب ، ست سنوات من الأعمال الشاقة ، نهاية مهنته العلمية . انجذب نحو تلك المرأة بدافع الكراهية . انتهى به المطاف إلى مضاجعتها من أجل إذلال غريمه .
نورمان بيرون . ـ شخصيات هذه الرواية و[شخصيات] رواياتك ألا يوجدون أمام مفارقات ؟
ميلان كونديرا . ـ ليس انتقام لودفيغ مفارقا في ذاته فقط ـ معاقبة أحدهم بالتمتع بزوجته ـ لكن أيضا من خلال نهايتها [الرواية] : أدرك لودفيغ بعد فوات الأوان بأن زوجة غريمه هي بصدد الطلاق ، ثم إن انتقامه ليس سوى مزحة عبثية .
نورمان بيرون . ـ ألا يعتبر الموضوع الرئيسي لرواية المزحة هو المزحة ؟
ميلان كونديرا . ـ نعم : كيف أن المزحة تصبح شيئا محتوما وكيف أن القدر يتحول إلى مزحة . ثم إن التاريخ ذاته ألا يمزح ؟ ففي الرواية ، ثمة قصة غرامية أخرى . أحب لودفيغ ، في شبابه ، فتاة بسيطة لم تكن ترغب في ممارسة الجنس معه لأنها عانت من صدمة ، كونها تعرضت لاغتصاب عندما كانت في ريعان شبابها . يرتبط الحب الجسدي ، بالنسبة لها ، بالشراسة ، ثم إن الحب الحقيقي كان يوجد في ما وراء الجسد . تحول الحب الجسدي بالنسبة لها إلى قيمة مشوهة . أحب لودفيغ سابقا يوتوبيا الاشتراكية ، بيد أن تحقيق تلك اليوتوبيا اتضح فيما بعد قاسيا ودمويا . بدت له اليوتوبيا الاشتراكية قيمة مدمرة . لودفيغ مفعم بالكراهية ضد حلمه القديم ، على أنه كان يعرف في نفس الوقت أن تلك الكراهية ليست سوى خطأ إضافي ، ظلم جديد . هل يتوجب مقت تلك القيم التالفة ؟ هل ينبغي المطالبة بالرحمة لصالحها ؟ تلاحظون ، كل شيء مقلوب في هذه الرواية . إنها رواية حول هشاشة القيم الإنسانية ، وليست رواية تحدوها الرغبة لفضح نظام سياسي . إن ما ينشده الروائي ، هو أكبر من استهداف نظام سياسي سريع الزوال .
نورمان بيرون . ـ لو تحدثنا عن مسرحكم وتحديدا عن مسرحية مالكو المفاتيح . أليست الموضوعة الظاهرة لتلك المسرحية هي الصمود في وجه الاحتلال الألماني ؟
ميلان كونديرا . ـ نعم ، بطبيعة الحال . تدور أحداث القصة تحت الاحتلال الألماني . أنتم تعرفون ، أن ذلك يشكل عبئا إضافيا على هذه المسرحية .
نورمان بيرون . ـ لماذا ؟
ميلان كونديرا . ـ توجد مئات المسرحيات حول الاحتلال النازي كتبت بأوروبا ـ خذوا سلاكرو Salacrou) (ـ وخصوصا في أوروبا الشرقية . يظل المخطط الإجمالي لتلك المسرحية هو هو : ثمة مقاتلون للمقاومة ، ثمة جبناء لا يرغبون في القتال وهناك دائما من يتردد بين الجبن والكفاح . كل هذا صحيح ، على أنه صورة سلبية فظيعة . جيد ، إن قصة مسرحيتي تدور أحداثها تحت الاحتلال ، والشخصيات فيها هم أيضا مقاتلون وجبناء ؛ ومع ذلك ، فإن الموضوع الحقيقي لمسرحيتي هو مختلف تمام الاختلاف : إن موضوعة الاحتلال ليست سوى ذريعة أو حيلة . لا يمنع ذلك من أن يفهم الكل أن تلك المسرحية مثل متغيرة من متغيرات مسرحيات المقاومة .
نورمان بيرون . ـ لكن مسرحيتكم حققت نجاحا باهرا ، وفي العالم أجمع .
ميلان كونديرا . ـ هذا صحيح ، ولقد كان لها ذلك لأنها بالضبط فهمت بشكل سيء . غالبا ما يحدث مثل هذا : إننا ندين دائما بنجاحها تقريبا لكونها فهمت خطأ .
نورمان بيرون . ـ إن الأهمية الزائدة التي يعطيها مكترو شقة على واقعة فقدانهم حزمة مفاتيح ، ألا يعتبر ذلك موضوعة جديرة بيونسكو ؟
ميلان كونديرا . ـ إن هذه المسرحية هي أقرب بكثير من مسرح يونيسكو منه من مسرحية سياسية . إنه مسرح عبثي ، يتموقع ضمن حقيقة تاريخية ملموسة ، حيث لا يتجاوز العبث أبدا حدود الممكن . أضف إلى ذلك ، فإن يونيسكو يعتبر واحدا من أعظم عشقي الأدبي ؛ أحب قول ذلك بدلا من سماع ما يقال عنه في الوقت الراهن بشكل فيه سوء فهم معين . سأتحفظ على كل عمل بريخت لأجل واحدة من مسرحياته .
نورمان بيرون . ـ أثناء تحليل اللعبة المشهدية ، الحركات ، التكرارات ، الحوارات ، يتم التفكير في لعبة بوليفونية . هل توافقون على ذلك ؟
ميلان كونديرا . ـ ما الذي لا يجعلني لاأوافق على ذلك ؟ إن مالكو المفاتيح هي مسرحية تم تحضيرها تحضيرا جيدا ، بشكل مبالغ فيه تقريبا ؛ تتكرر كل الدوافع ، تتنوع ؛ المسرحية برمتها تشبه لعبة مرايا . ربما إن ذلك ناتج عن التأثر بتربيتي الموسيقية .
نورمان بيرون . ـ وماذا كانت تربيتكم الموسيقية ؟
ميلان كونديرا . ـ إلى حدود العشرين من عمري ، ترددت بين الموسيقى والأدب ، ودرست بالإضافة إلى ذلك ، البيَان ، التأليف الموسيقي .
نورمان بيرون . ـ بأي معنى يمكن لهذا أن يؤثر في عمل كاتب ؟
ميلان كونديرا . ـ ثمة اختلاف جوهري بين البناء الموسيقي والبناء الملحمي . أغلب الروائيين يجزمون أنهم أثناء شروعهم في الكتابة ، لا يعرفون كيف ستنتهي محكياتهم . أراغون قال ذلك على سبيل المثال ؛ أندريه جيد أيضا أكد ذلك في روايته مزيفو النقود . إن موسيقيا ، والحالة هذه ، لا يمكنه ألا يعرف كيف ستنتهي مقطوعته الموسيقية . أثناء كتابته ثيمة رونداه rondo) (، ثلاثيته trio) (، قطعته الموسيقية الثلاثية menuet) (، كان يتوجب على بيتهوفن معرفة الإيقاعات الأخيرة لأن (روندو) ، (تريو ) ، menuet) (تعتبر أشكالا تنتهي دائما بالثيمة التي بها تبتدئ . يتم تشييد الموسيقى على مبدأ التغير والتكرار . إن مبدأ البناء الملحمي يختلف . تتطور القصة الروائية تبعا لمنطق الطبائع ؛ حدث ينتج حدثا آخر ، لا شيء يتكرر . أحاول دائما مضاعفة المبدأ الملحمي بواسطة المبدأ الموسيقي . خذوا ، مثلا ، رواية فالس الوداع . في الطبقة السفلى للرواية ، تدور أحداث قصة ملحمية ، مع ترقب . في الطبقة الأولى ، إنه تأليف موسيقي : هناك حوافز تتكرر ، تتغير ، تتحول ، تعود ، لا وجود لأي جملة تقريبا ، لا تمتلك صداها ، بديلتها ، ضِعفها ، جوابها في مكان آخر من الرواية . خذوا ثيمة théme) (الولادة في فالس الوداع : الديكور ، هو حمام معدني لإشفاء العقم . ثم إن الشخصيات برمتها تواجه هذا المشكل : كليما klima) (مهدد لأن يصبح بالرغم منه أباً؛ روزانا Ruzena) (حامل ؛ سكاريتا Skreta) (، طبيبة نساء ، تعالج مرضاها ببذارها الخاصة ؛ جاكوب Jakub) (لا يحب أن يتكاثر ثم إنه قام باختلاق قصة حول هيرودوس Hérode) (الذي كان يرغب في تحرير العالم من مخالب الرجال ؛ ففي رواية الحياة هي في مكان آخر ، لا حظوا موضوعة الشتاء ، القر . مات ياروميل Jaromil) (من القر ؛ تم اغتيال الحب المحلوم به لكزافييه Xavier) (بواسطة البرد . يرافق موضوع البرد التركيب برمته إلخ .
نورمان بيرون . ـ أشرتم إلى أراغون الذي لم يكن يعرف أبدا كيف ستنتهي رواياته . هل تعرفون على الدوام كيف ستنتهي رواياتكم ؟
ميلان كونديرا . ـ ألاَّ يعرف نهاية روايته ، هو علامة على موهبة ملحمية فطرية . الفكرة الأولى ـ بطبيعة الحال أبسط الآن ـ هي تصور الشخصية أو الشخصيات التي ستصبح فيما بعد أكثر استقلالا إلى درجة أنهم يكون بمقدورهم هم أنفسهم فرض تطور القصة وكذلك مفاجأة المؤلف ذاته . أود القول أنه أنا نفسي ، أعرف ، تقريبا ، نهاية رواياتي . إنها طريقة موسيقية في التفكير . تتضمن فكرتي الأولى للرواية على الدوام توزيع النِّسب . بالشروع في كتابة رواية المزحة ، كنت أعرف مثلا ، منذ البداية ، أن الرواية سيتم تقسيمها إلى سبعة أجزاء بحيث أن الجزء الأول ، الثالث والخامس ستتكفل بروايته الشخصية الأساسية ، لودفيغ ، في حين أن الجزء الثاني ، الرابع والسادس ترويها شخصيات أخرى ، والجزء السابع ، متعدد الأصوات ، ترويه ثلاث شخصيات في نفس الوقت . إن فكرة البناء هي بالنسبة لي فكرة محددة ، وليست حسابا عقلانيا ، لكنها بالأحرى استحواذ يصدر عن العقل الباطن . لاحظوا : إن بناء الحياة هي في مكان آخر هو بناء مطابق : إنها بدورها تنقسم إلى سبعة أجزاء . يعتبر الجزء الأول ، الثالث والخامس أجزاء ذات فصول ملحمية طويلة تحكي حياة الشخصية المركزية ، الجزء الثاني ، الرابع والسادس عبارة عن فاصل ترفيهي ، والجزء السابع هو أيضا عبارة عن مونتاج بوليفوني .
نورمان بيرون . ـ أنتم منجذبون بواسطة العدد سبعة ...
ميلان كونديرا . ـ نعم ، بالتأكيد نعم . أفضل الأعداد الزوجية . ومن بين الأعداد الفردية ، أجد أن أفضل الأعداد هي الأعداد الأولية لأنها لا تقبل القسمة . فعلى سبيل المثال ، رواية فالس الوداع تنقسم إلى خمسة أجزاء ، المزحة ، الحياة هي في مكان آخر إلى سبعة أجزاء ثم إن غراميات مثيرة للضحك تتضمن سبع قصص قصيرة .
نورمان بيرون . ـ هل يتعلق الأمر بسحر للأعداد ؟
ميلان كونديرا . ـ أعرف أن كل هذا يبدو لكم شيئا مثيرا للسخرية . يمكن القول أن الأمر يتعلق ، من جهتي ، بلعبة فقط . مثلما لو أنكم تجهدون نفسكم بالخروج صباحا من شقتكم بالرجل اليسرى ؛ أنتم تعرفون أن ذلك عبارة عن معتقد باطل ، ومع ذلك فأنتم تتلهون بذلك . على أن ذلك ربما يعتبر إلى حد ما ذا عمق أقل . ليس للأعداد دلالة سحرية ، بل لها دلالة عقلانية تماما . فلو عملنا على تقسيم رواية إلى جزأين ، أربعة أو ثمانية أجزاء ، ستميل الرواية إلى أن تنبتر ، تنقسم إلى نصفين . فهي ليست مرتبطة بما فيه الكفاية ، موحدة ، متماسكة . فمن أجل ابتكار وحدة حقيقية للبناء ، على ذلك البناء أن يكون غير قابل للقسمة . وتلك هي دلالة الأعداد الأولية . فلا المزحة ، ولا الحياة هي في مكان آخر لا يمكن تقسيمهما إلى جزأين أو ثلاثة أجزاء ؛ إن بناءهما متماسك . إنها أيضا مسألة تناسبات وأعداد . أقر بأن تلك الطريقة للتأمل في الشكل تخص المؤلف الموسيقي منه من الروائي . ثمة شيء آخر . التأليف الموسيقي ، هو توزيع الإيقاعات tempi) (. أنا أميل دائما إلى إضافة عناوين فرعية إلى مختلف الفصول من خلال إشارات موسيقية : سريع allegretto) (، رسلاً moderato) (، سريعpresto) (، إلخ .خذوا على سبيل المثال ، الحياة هي في مكان آخر . ففي الجزء الأول الذي هو عبارة عن سرد ملحمي كلاسيكي ، بحركة وسيطة بين البطيء والسريع . الجزء الثاني حُلمي ـ له حركة سريعة vivace) (. الجزء الثالث هو سرد مجزأ ـ سريع . في الجزء الرابع ، يعتبر تركيب الفصول تركيبا قصيرا جدا ، بحركة ذات سرعة فائقة prestissimo) (. فيما بعد تأتي الحركات الوسيطة، البطيئة lento) (،وفي الفصل السابع ، حركة سريعة.
نورمان بيرون . ـ تعتقدون أن القارئ مدرك لتلك الدقائق ؟
ميلان كونديرا . ـ ربما لا شعوريا ، على أنه لا يمكنه ألا يكون مدركا لذلك . هناك نجاعة كبيرة في تناوبات الإيقاعات . إن النقد الأدبي غير مدرك لذلك ، إن ذلك يعتبر شيئا آخر . فإما أنه إيديولوجي ، وإما أنه يوظف بنيوية مقفلة ، عقيمة تماما .
نورمان بيرون . ـ لكن لنعد مرة أخرى إلى مسرحياتكم . بعد مسرحية مالكو المفاتيح ، كتبتم ، سنة 1967 ، مسرحية هزلية نقدية la sotie) (.
ميلان كونديرا . ـ كتبت مالكو المفاتيح في ظرف سنتين ؛ إنها مسرحية متقنة جدا . تمت كتابة هزلية نقدية في ظرف أسبوع ، وهي مسرحية بسيطة جدا ، بسيطة بشكل استفزازي ، ثم إني أحبها شخصيا مئة مرة أكثر من مالكو المفاتيح . مع الأسف أن لا أحد تقريبا يشاطرني وجهة نظري .
نورمان بيرون . ـ هل تم عرضها بالغرب ؟
ميلان كونديرا . ـ لا . لكنها لا قت نجاحا منقطع النظير بيوغوزلافيا .
نورمان بيرون . ـ ما هو موضوعها ؟
ميلان كونديرا . ـ مدير مدرسة ، يوجد وحيدا في فصل دراسي ، يرسم على طاولة ، من أجل أن يتلهى ، جهازا تناسليا أنثويا . معين losange) (مع خط قصير في الوسط .
نورمان بيرون . ـ إنه العضو التناسلي الأنثوي ؟
ميلان كونديرا . ـ نعم . كل المبولات العامة لأوروبا الوسطى مغطاة بهذه الرسوم ، بتلك العلامة المسماة فاحشة .
نورمان بيرون . ـ لا وجود لتلك المعينات عندنا !
ميلان كونديرا . ـ أعرف . لقد خاب ظني كثيرا لما علمت أن ذلك الرمز كان مجهولا فيما وراء أوروبا الوسطى . كنت أعتقد على الدوام أنه الرمز الوحيد الذي يمكن للبشرية جمعاء أن تتفق بخصوصه ؛ وأخطأت .
نورمان بيرون . ـ طيب . يرسم معينا . وبعد ذلك ؟
ميلان كونديرا . ـ بعد ذلك ، أصبحت القصة سخيفة : ثمة بحث ، تلميذ أقر بذنبه ، المدير مكلف بجذع أذنيه ...
نورمان بيرون . ـ إنها النهاية ؟
ميلان كونديرا . ـ لا ، إنها نهاية الفصل الأول . إن ذلك يستمر . لكن المسرحية التي أجدها الأفضل من بين مسرحياتي ، هي اقتباسي المسرحي لجاك القدري لديدرو . جاك القدري هي روايتي المفضلة . كنت على الدوام مجنونا بتلك الرواية وبروحها الفاجرة ، العقلانية ، الساخرة ، التهكمية ، الواضحة والرافضة .
نورمان بيرون . ـ متى قمتم بكتابة اقتباس جاك القدري ؟
ميلان كونديرا . ـ كما تعرفون ، كنت ، بعد سنة 1968 ، حاصلا على الإجازة من جامعة براغ وممنوعا من كل إمكانية نشر أي شيء مهما كان في بلدي أو أن أكتسب قوت يومي بعمل ثقافي آخر . ثمة أناس كثيرون كانوا يرغبون في مساعدتي . حينئذ زارني رجل مسرح من سلوفاكيا ومعه رواية لدوستويفسكي ، واقترح علي اقتباس تلك الرواية من أجل المسرح . وبما أني لا أستطيع كتابة أي شيء باسمي الخاص ، وقد كان على استعداد منحي اسمه ، وهو ما كان ، من جانبه ، نبيلا وجريئا للغاية . طيب ، أدركت أني لن أتمكن أبدا من أن أفعل بدوستويفسكي ما لا أطيق تحمله .
نورمان بيرون . ـ لقد فاجأني ذلك . يعتبر دوستويفسكي إلهًا بالنسبة لكتاب الشرق !
ميلان كونديرا . ـ لست كاتبا من الشرق . لا توجد براغ في الشرق . أما فيما يتعلق بدوستويفسكي ، فأنا لا أنكر على الإطلاق عظمته ؛ أرغب فقط بالاعتراف باشمئزازي الشخصي ، اشمئزاز فوجئت به شخصيا . آنذاك أدركت أن ذلك الكون الروسي ، ذلك الكون الهستيري ، مع عبادته للامعقول ، مع عبادته للمعاناة ، مع عبادته للعاطفة والأعماق المظلمة ، أن ذلك الكون كان غريبا علي تماما . ثم إني أحس أني أكثر سقما بسبب تلك القراءة التي كنت في حاجة عاجلة لأتشافى بواسطة ترياق ـ ثم إني رميت بنفسي على ديدرو . زد على ذلك ، فقد كانت تلك السنوات من أتعس سنوات حياتي ؛ إن الفرنسيين هم من قدموا لي يد العون وأنقذوني ، أصدقائي بفرنسا ، قرائي بفرنسا ، مترجمي ، ناشري ، زملائي بفرنسا ومن بينهم ، ديدرو الذي مد لي يده أيضا . لن أنساه أبدا .
نورمان بيرون . ـ على أنه يبدو لي أنكم تطرون على ديدرو وعلى عصر الأنوار كله ، ليس فحسب في مسرحيتكم ، بل أيضا في مجموعتكم القصصية ، غراميات مثيرة للضحك ، وفي روايتكم ، فالس الوداع . هل أنتم متفقون ؟
ميلان كونديرا . ـ نعم .
نورمان بيرون . ـ ألم تستعيدوا ، بعد عشر سنوات ، في الندوة والدكتور هافل ، ثيمة دون خوان وعن بهجته المأساوية ؟
ميلان كونديرا . ـ بالضبط . فقط إن تراجيديا دون خوان في الوقت الراهن تكمن تحديدا في مناعة المأساوي ؛ وتكمن تعاسة دون خوان اليوم في استحالة أن يكون دون خوان . في ظل عالم حيث كل شيء مسموح به في عالم الثورة الجنسانية ، فإن الغازي الكبير الذي كان دون خوان قد تحول إلى هاو كبير لجمع النساء . على أنه في ما سلف من الوقت يقوم بانتهاك التقاليد والقوانين . الجامع الكبير كان يمتثل للقوانين والأعراف لأن جمع النساء هو جزء لا يتجزأ من الآن فصاعدا من الأدب . نحن مجبرون على جمعهن ! إن دون خوانيو الوقت الراهن هم محرومون من المأساوي ؛ فقد فقدَ فجورهم خاصية التحدي لديه ؛ أصبحت مغامراتهم غير دالة .
نورمان بيرون . ـ هو بكل بساطة في غراميات مثيرة للضحك ، أعتقد ، بوجود تلك الجملة ، المأخوذة من [القصة القصيرة] إدوارد والرب : " فأنا مضطر للكذب لكي لا آخذ مجانين على محمل الجد وكي لا أصاب أنا أيضا بالجنون 1 " . ألا تقدم تلك الجملة نبرة ، وروح تلك القصص القصيرة ؟
ميلان كونديرا . ـ إذا أدركتم أن العالم الذي يحيط بكم لا يستحق أن يؤخذ على محمل الجد ، فإن ذلك يقود إلى خلاصات مدوخة . الإخلاص يصبح عبثيا . لماذا يكون المرء مخلصا لشخص لا يحمل شيئا على محمل الجد ، لماذا قول الحقيقة ؟ لماذا يكون المرء فاضلا لماذا يتم العمل بجد ؟ وكيف يمكن أن نأخذ الذات عينها على محمل الجد في عالم لا معنى له ؟ سيكون ذلك هو قمة السخرية ! إن الشعور بعدم القدرة على أخذ العالم على محمل الجد ، يعتبر هاوية . تعتبر غراميات مثيرة للضحك ، قصصا غير مألوفة تدور أحداثها على حافة تلك الهوة .
نورمان بيرون . ـ لنقبل على الحياة هي في مكان آخر التي حازت على جائزة ميدسيس Médicis) (سنة 1973 . لماذا هذا العنوان ، الحياة هي في مكان آخر ؟
ميلان كونديرا . ـ إنها جملة لرامبو . فقد قام الطلبة الثائرون سنة 68 بباريس على كتابة تلك الجملة مثل شعار على الجدران . تعتبر الحياة هي في مكان آخر ، سرابا دائما للشباب ، لأولئك الذين لم يَعبروا بعد حدود سن الرشد : إن الرغبة في ولوج مملكة الحياة الواقعية تتحكم في حركات الشباب الثائر والشعراء الشباب .
نورمان بيرون . ـ على مستوى واحد ، ألا يعتبر ياروميل ، الشخصية المركزية ، ضحية لأم طاغية تفرط في الاهتمام به ؟
ميلان كونديرا . ـ قبل كتابة هذه الرواية ، قرأت العديد من سير الشعراء . فقد كانت كلها تتميز بغياب أب قوي . ينشأ الشاعر في بيت نساء . ثمة أمهات يبالغن في الاهتمام بشاعرهن الشاب ، كما هو الشأن ، مثلا ، بالنسبة لأم ألكسندر بلوخ Alexandre Blok) (، أو أم ريلكه Rilke) (أو أم أوسكار وايلد أو مثل أم الشاعر الثوري التشيكي فولكر Wolker) (حيث ألهمتني سيرة حياته كثيرا . وهناك أمهات فاترات على أنهن لسن أقل إفراطا مثل أم رامبو Rimbaud) (. ابتكرت في ذلك الحين التعريف التالي للشاعر : هو شاب تسيره أمه ، يتفاخر أمام عالم لا يعرف كيف يلجه .
نورمان بيرون . ـ على مستوى ثانٍ ، ألا يجسد ياروميل الأسطورة الرامبوية للشاعر ، على أنه ، هذه المرة ، فإن قلة الذكاء تصنع الشعر .
ميلان كونديرا . ـ لا ، ليس ثمة قلة ذكاء ! إن ياروميلي الذي ، لا تنسوا ، أنه مات في العشرين من عمره ، لم يكن قليل الذكاء قط ؛ على خلاف ذلك ، إنه موهوب للغاية ، ثم إنه يتصرف بنفس الطريقة التي يتصرف بها العديد من كبار الشعراء . فالذين يقولون بأنه قليل الذكاء لا يعرفون كيف يتخلصون من أسطورة أوروبية كبرى ، أعني أسطورة الشعر بحرف "P " كبيرة . إننا نرفض ، على أهبة على أن نبصق على القبور وعلى الأعلام الوطنية ، على أنه ، في ذات الوقت ، إننا على الدوام أسرى لأساطير لا يمكن المساس بها ، على سبيل المثال أسطورة الثورة ، أسطورة الشباب ، الأمومة ، الشعر . افهموني جيدا ، فأنا لست ضد الثورة ، و لا ضد الأمومة ، و لا ضد الشباب ، ولا ضد الشعر ، لكن لي رغبة جامحة لفضح أوهام بعض الأساطير . إن الشعر ، تبعا لهذا الفكر الأسطوري ، هو القيمة المطلقة . فلا ينبغي على الشاعر إذاً أن يكون جاسوسا ، واشيا كما كانه ياروميلي . على القارئ إذن أن يرفض كتابي إما لكونه شتيمة ، أو أن يفهم ياروميل مثل شاعر مزيف . لاحظوا ، يمكن القبول دون فضيحة كبرى أن فيلسوفا كبيرا يتعاطف مع الفاشيين ، يمكن القبول بدون فضيحة كبرى أن محاربا يكون قذرا ، أو عبقريا في العلوم يكون حقيرا ، على أنه لا يمكن القبول أن شاعرا كبيرا ، شاعرا أصيلا يكون واشيا . ومع ذلك ، فقد عاينت وعن قرب ، شعراء كبارا يقومون بفعل أشياء أكثر فظاعة من ياروميلي التعس . فهم يفعلون تلك الأشياء ليس بالرغم من عبقريتهم الشعرية ، بل مدعومين بواسطتها . ينبغي فهم ذلك . سيقوم ياروميلي بالإبلاغ عن أخ صديقته الصغيرة ، ليس مثل فلاح قذر ، بل مع الحماس الأصيل للشاعر . وقد ساهمت عبقريته الشعرية في فعل وشايته . لا تنسوا أن أكبر جرائم التاريخ كانت مصحوبة بألحان ، بأبيات حماسية . إن كل خاصية إنسانية ، كل قيمة إنسانية ، إذا سمحتم لي بهذا المعجم اللاهوتي ، تنتميان في ذات الوقت إلى السماوات والجحيم ، إلى الملائكة والشياطين ـ وذلك هو أيضا من الشعر .
نورمان بيرون . ـ إن ما كتبتَه ، سيشكل ، إذاً مقالة نقدية ضد الشعر ؟
ميلان كونديرا . ـ بالتأكيد لا . لا مقالة نقدية ، ولا هو هجاء . لا وجود لأي مبالغة هناك . إنه بالأحرى محاولة للقيام ، اعتمادا على طرائق الرواية ، بوصف ظاهراتي لماهية الوضع الغنائي ، التصور الغنائي للعالم .
نورمان بيرون . ـ ومع ذلك ، فإن الحالة هي إلى حد ما حالة خاصة . فقد تحول ياروميل إلى شاعر رسمي في خدمة نظام بوليسي . إنه وصولي .
ميلان كونديرا . ـ ـ إن ياروميلي ليس هو بالتأكيد وصوليا . لقد أصبح شاعرا رسميا ليس لأنه كان يرغب في النجاح في مهنة ، بل لأن النظام الرسمي كان يمثل بالنسبة له الثورة ، التغيير الجذري ، التجديد ، الحياة الواقعية التي كان يحلم بها . فهو كان يتصرف بذات الطريقة التي كان يتصرف بها العديد من كبارالشعراء ، شعراء كبار حقيقة أصبحوا ، في نفس الحقبة ، بفضل الأسباب ذاتها ، شعراء رسميين . هل تعتقدون أن إلوار Eluard) (لو كان قد عاش في تشكوسلوفاكيا ، لن يصبح شاعرا رسميا ؟ هل تعتقدون أن كل اولئك الشبان الجذابون ، الرافضون ، ألم يصبحوا ، في ظل دولة ثورية فتية ، شعراء رسميين ، وألم يرغبوا في الانتهاء مثل ياروميل ؟ أنتم تعرفون ، أنه بالرغم من تقسيم أوروبا إلى نصفين ، فإننا نعيش نفس القصص ، نفس القضايا ، نفس النزاعات ، نفس المصائر ، ليست أوروبا سوى واحدة .
نورمان بيرون . ـ لو أقبلنا الآن على روايتكم الجديدة ، فالس الوداع . إن جاكوب) Jakub (، هو في تصوري الخاص شخصية أساسية لكتابكم ، ألا يلخص روح روايتكم بهذه الجملة : " أليس المضطهَدون هم أقل قيمة من المضطهِدين ؟ "
ميلان كونديرا . ـ ثمة أشخاص محسوبون على اليمين يتم اضطهادهم من طرف أشخاص محسوبين على اليسار ، ثم ثمة أشخاص من اليسار يتم اضطهادهم من طرف أشخاص محسوبين على اليمين . أنا لا أعتقد أن واحدا من تلك الاضطهادات يكون أفضل من اضطهاد آخر . ففي عالمنا المانوي للإديولوجيات المتعارضة ، يكون المضطهَدون متلهفين لكي يصبحوا مضطهِدين . إنها تجربة جاكوب المريرة .
نورمان بيرون . ـ هل تتماهون معه ؟
ميلان كونديرا. ـ لا أتماهى مع أي شخصية . أكره الروايات السيرذاتية .
نورمان بيرون . ـ ألا توجد رواية من روايتكم سيرة ذاتية ؟
ميلان كونديرا . ـ ما هي الرواية السير ذاتية ؟ مؤلِّف يود أن يفسر لنا حياته ومواقفه وفقا لشكل مشفر للرواية . إن ذلك عديم الفائدة ومثير للضحك . فقد كان عليه كتابة مذكرات ، ذلك سيكون أنفع بكثير . بطبيعة الحال ـ لكن تلك قضية أخرى ـ إن الروائي يوظف دائما تجاربه الشخصية ، على أنه ليس من أجل إبراز حياته ، بل من أجل خلق عالم متخيل مستقل .
نورمان بيرون . ـ كانت رواياتكم ، في أول الأمر ، محتفى بها ، في بلدكم ، وبعد ذلك تم حظرها . أليس هذا لأنه تم فهمها كروايات ملتزمة وسياسية حتى ؟
ميلان كونديرا . ـ أنا لا أحب الروايات المسماة سياسية . إنها روايات غالبا ما تكون رديئة جدا . صحيح ، أن جمهور حقبتنا المفرطة في التسيس هو غاية في الحساسية بخصوص الجانب السياسي لكل ظاهرة . سأتخذكم مثالا . فقد قلتم بأن جاكوب هو ، في نظركم ، هو الشخصية الأساسية لروايتي . لكن ذلك غير صحيح . إن أهميته من أهمية الشخصيات الأخرى ، مثل بيرليف Bertleff) (، مثل الدكتور سكريتا Skreta) (. لكن لماذا وجدتموه أكثر أهمية ؟ لأنه الشخصية الوحيدة التي لها دلالة سياسية ، مصير سياسي . إن ذلك يجعله ، من زاوية نظرنا المسيسة ، الأكثر أهمية . على أن زاوية النظر تلك خاطئة .
نورمان بيرون . ـ بالتأكيد إن ذلك صحيح ، لكن هل الحياد ممكن في الأدب ؟
ميلان كونديرا . ـ إذا رفضت الرواية الامتثال لإديولوجيا من الإديولوجيات السياسية لحقبتنا ورفضت المساهمة في الاختزالات الإديولوجية الفظة أكثر فأكثر ، فإن ذلك ليس حيادا ، إنه تحدٍّ . لأن الرواية تقوم بقلب نظام القيم المقبول ، التأويل المقبول للعادي ، للنسق ، الأفكار التي تم تلقيها . إن صناعة رواية ، هو ابتكار شخصيات . فقد تم مرارا الحط من قدر هذا النشاط ، ومع ذلك فإنه يشكل لعبة مفيدة . إنها تعلمنا فهم حقائق الآخرين والخاصية المحدودة لحقيقتنا الخاصة ؛ إنها تعلمنا فهم العالم مثل استفهام بوجوه متعددة . فهذا هو ما يجعل من الرواية فنا مضادا للإديولوجيا بكل عمق ، لأن الإديولوجيا تقدم لنا دائما العالم من وجهة نظر حقيقة واحدة ؛ فهي تقدمه لنا مثل تزويق لتلك الحقيقة . فهذا هو ما يجعلني أكرر ، الرواية هي فن ضد إديولوجي ، وهي ، في عالمنا المؤدلج بحماقة ، ضرورية مثل الخبز .
نورمان بيرون . ـ قدمتم رواية فالس الوداع مثل رواية مضحكة . ومع ذلك ، فهي تعتبر رواية سوداء ...
ميلان كونديرا . ـ أنا لست مؤلفا هزليا . أضف إلى ذلك ، لا أحب الأدب المسمى هزليا . إنه نوع من التدليس . العالم ليس منقسما إلى نصف حزين ونصف مرح ، نصف كوميدي ونصف تراجيدي . إن التراجيدي والكوميدي لا ينفصلان . كل موقف إنساني له جانبه الكوميدي . ففي فالس الوداع ، كل شيء مضحك وكل شيء مأساوي . ولكن كما هو الحال في قرننا العشرين الحزين ، فقد فقدنا كل معنى الميل إلى الدعابة ، أجدني مرغما على أن ألفت الانتباه إلى الجانب المضحك لكتبي . وأعتقد أن الحضور الكلي الوجود للكوميدي في المأساوي قد تحقق في فالس الوداع أفضل من رواياتي الأخرى . كل السرد يوجد حول الحدود الدقيقة التي تفصل ما هو جدي عما هو غير جدي . فهذا ما يجعلها روايتي المفضلة .
نورمان بيرون . ـ ألا تجدون أن من الصعوبة بمكان ، باعتباركم كاتبا تشيكيا ، إمكانية أن تُقرأوا من لدن أبناء بلدكم ؟
ميلان كونديرا . ـ في كل الحالات ، فإنه وضع فريد جدا . تصوروا : لقد كتبت رواياتي باللغة التشيكية . وبما أنه تم التصريح بأن عملي ، منذ سنة 1969 ، أصبح غير موجود في بلدي ، لا أحد تقريبايستطيع قراءة كتبي بالتشيكية . فقد ترجمت أولا إلى الفرنسية ، نشرت بفرنسا ، ثم في بلدان أخرى ، على أن النص الأصلي التشيكي بقي في درجي ، أشبه بقالب . فإذا كان الأمر صعبا ، فإني لا أعرف . أنا ما زلت مندهشا جدا من هذا الوضع الغريب ، إنني لست قادرا على الحكم عليه . على أي حال ، فأنا جد محظوظ ، أي [وجود] مترجم بارع ، هو في الوقت نفسه ، من أعز أصدقائي وشاعر حقيقي ، فرانسوا كيريل Francois Kerel) (. فقد ترجم رواياتي الأخيرة بطريقة تحافظ فيها تماما على النسخة الأصلية .
ـــــ
مصدر النص الفرنسي :" حوار مع ميلان كونديرا " ـ أجرى الحوار : نورمان بيرون Normand Biron) (. المجلة الكندية : liberté, vol.21, n1, (121)1979 , p.19 -33. . عن موقع : érudit ( اتحاد بين جامعات مونريال ، جامعة لافال وجامعة كيبيك بمونريال .) http://www.erudit.org
1 ـ عملنا على أخذ هذا المقطع من ترجمة محمد التهامي العماري ، غراميات مرحة ، المركز الثقافي العربي ، ط 1 ، 2012 ، ص 267 .
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إدارة بايدن وإيران.. استمرار التساهل وتقديم التنازلات | #غرف


.. ناشطون يستبدلون أسماء شوارع فرنسية بأخرى تخص مقاومين فلسطيني




.. قطر تلوح بإغلاق مكاتب حماس في الدوحة.. وتراجع دورها في وساطة


.. الاحتجاجات في الجامعات الأميركية على حرب غزة.. التظاهرات تنت




.. مسيرة في تل أبيب تطالب بإسقاط حكومة نتنياهو وعقد صفقة تبادل