الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النشاط الاقتصادي في مصر القديمة

محمد عادل زكي

2016 / 1 / 5
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات



في مصر القديمة، نجد أن الفرعون يتربع بمفرده على رأس النظام، يليه مباشرة وزيرا الجنوب والشمال، ويأتي بعدهما باقي وظائف الدولة العليا، يلي هؤلاء في الهرم الوظيفي رجال الصف الثاني في قطاعات الدولة والأقاليم مع العمد والرؤساء المحليين وهيئات المعابد الصغرى، حتى نصل إلى كاهن القرية.
وكان بجوار هؤلاء الموظفين الرسميين، من مختلف الدرجات، مجموعة كبيرة من الحرفيين المتخصصين في مختلف المجالات كالفنانين والمثالين والصياغ والزجاجين وصناع الأدوات المعدنية والنجارين والإسكافية والخزافين ممن تحتاج إليهم ظروف المعيشة اليومية. هؤلاء تضاف إليهم فئة الجنود اللازمين للحروب والدفاع.
ونفهم من ديودور الصقلي (حوالي 80-29 قبل الميلاد) طبيعة التكوين الطبقي للمجتمع، كما نعلم كيف عرف ذلك المجتمع الحرف والصناعات المختلفة:
"وهناك ثلاث طبقات أخرى في الدولة، إضافة إلى طبقة الملك والكهنة والمحاربين، وهي الرعاة والفلاحون والعمال. فالفلاحون يؤجرون الأرض الخصبة الخاصة بالملك والكهنة والمحاربين نظير أجر بسيط. وهم يقضون كل حياتهم في فلاحة الأرض، ويتفوقون في المهارة على فلاحي سائر الشعوب؛ لأنهم يتدربون دائماً على الأعمال الزراعية منذ صغرهم. وهم أيضاً أكثر منهم علماً بطبيعة الأرض وطرق ريها، ومواقيت البذر والجني وجميع عمليات جمع المحصول... وينطبق الوصف هذا على طبقة الرعاة، فقد كانوا يخلفون آباءهم على حرفة رعي الماشية كما لو كان ذلك وفقاً لقانون، فيقضون حياتهم كلها في الرعي وقد أخذوا عن أجدادهم معلومات وفيرة عن أحسن طرق رعي الماشية وتربيتها... أن المجتمع في مصر هو الوحيد الذي لا يسمح فيه للصناع بممارسة عمل آخر، أو التدخل في شئون السياسة، بل يلتزمون ما ورثوا عن آبائهم من حرف طبقاً لنصوص القانون".(1)
إن هذا النظام الهرمي الراسخ يتعين أن يجدد إنتاجه اللازم لحياته من مأكل ومشرب وملبس،... إلخ، ولما كانت مصر القديمة تنحصر ثروتها الأساسية في الأرض الزراعية في المقام الأول، فقد كانت طبقة الفلاحين بنوعيها، مزارعين ورعاة، هي الَّتي تكون القاعدة العريضة الَّتي تستند إليها هذه الهرمية الاجتماعية في تدبير حياتها اليومية. ويعني كل ذلك أن الزراعة تمثل النشاط الاقتصادي السائد، وفي الوقت ذاته يعني أن عدداً لا يستهان به من المصريين لا ينتج طعامه بنفسه؛ إنما يعتمد على غيره في المجتمع في سبيل هذا الإنتاج. وبالتبع تجد علاقات التبادل السلعي مساحة واسعة جداً كي تفرض وجودها على الصعيد الاجتماعي.
وتوضح المراسيم الملكية كيف كانت إجارة قوة العمل. فلم يكن كل العمال أرقاء، ولم يكن كل العمال أو الفلاحين عبيداً للدولة أو للفرعون، إنما وجد أيضاً العمال الأحرار؛ فالعمال الزراعيون الأحرار، في مقابل أجر، كانوا يؤجرون (يبيعون) قوة عملهم لصالح رب العمل، سواء كان الدولة أو أحد الأشخاص العاديين. وتؤكد لنا النقوش والوثائق أن الكثير من التماثيل، الخاصة بالفرعون أو المعابد، كان يعهد إلى أحد الفنانين بعملها. وهذا الفنان المكلَّف بإتمام عملية التمثال يجمع في مصنعه أو ورشته عدداً من ذوي المهن المختلفة يعملون لديه بالأجرة (كالنحات، والنجار، والرسام، والنقاش، ... إلخ). كما نجد لوحة تذكارية، في عهد رمسيس الثاني، كتبت بمناسبة أحد الاكتشافات المهمة في محاجر الجبل الأحمر، كتب عليها:
"... لقد دفع لكل منكم أجره كاملاً لمدة شهر".(2)
وتحدثنا بردية(3) يرجع تاريخها إلى نهاية الدولة القديمة عن الصور المختلفة للنشاط الاقتصادي: إذ نجد الحداد، والفلاح، والصائغ، والنجار، وقاطع الأحجار، والحلاق، ومقتلع البردي، والفخاري، وعامل البناء، والبستاني، وعامل الحقل الأجير، والنساج، والصياد، والوقاد، والإسكافي. وهؤلاء عادة ما يستخدمون أدوات عمل يملكونها، ولكن الناتج لا يمثل بالنسبة لهم أية قيمة استعمالية، إنما الناتج من أجل السوق. أي أن الَّذي يهم المنتج هو قيمة المبادلة. ووجود هؤلاء لا يعبر فحسب عن تجاوز المجتمع اقتصاد المنزل، أي الإنتاج بقصد الإشباع المباشر، وإنما أيضاً يشير إلى قوة عمل مأجورة. وسلع وخدمات تنتج من أجل السوق. كما يشير إلى التخصص وتقسيم العمل. والأهم أنه يشير إلى أن المنتج المباشر لم يعد دائماً مالكاً لما ينتج، وإنما أصبح الإنتاج يتم من أجل المبادلة من خلال السوق، وفقاً لقانون موضوعي، (تقيم) على أساسه (قيمة) السلع المنتجة، المراد مبادلتها. بوجه عام، يمكننا أن نشاهد في مصر القديمة حياة يومية لا تختلف روحها وهمومها عن حياتنا المعاصرة بالتوازي مع مشاهدتنا لشتى أنواع الحرف، والصناعات المتطورة، والمصارف (وبخاصة في عهد البطالمة(4)) والورش الضخمة الَّتي كانت تستخدم العمال الأجراء. فكما نجد تجار الجملة، وتجار التجزئة، والصناع الأحرار، نجد هؤلاء العمال الأجراء في كل نشاط اقتصادي مرتبط بالفرعون أو بالمعبد أو بالأشخاص العاديين.
وبغض النظر عن مشكلات العملة، الَّتي لن تتبلور إلا خلال النصف الثاني من الألف الأولى قبل المسيح(5)، فلا شك في أن المجتمع المصري القديم في مرحلة متطورة عرف ظاهرة الثمن، ومن ثم المبادلة، كما عرف ظاهرة الأجر، ومن ثم عرف بيع قوة العمل، ومختلف الظواهر المرتبطة بالتجارة والمضاربة.
وقد حفظ لنا المتحف المصري بالقاهرة نموذجاً خشبياً، يعود إلى الدولة الوسطى، لمعمل لصنع الجعة يعمل فيه سبعة عمال بالأجرة (سجل عام 37563)، كما حفظ لنا نموذجاً آخر لورشة نجارة عثر عليها بمقبرة مكت رع، من كبار الموظفين في نهاية عصر الأسرة الـ 11 (سجل عام 46722) ونجد أن من العمال مَن يشق كتلة من الخشب، وآخرين يقومون بثقل الخشب بالقواديم أو بواسطة قطعة من الحجر الجيري، وينقر أحد النجارين كتلة أخرى، في حين يعيد ثلاثة من العمال شحذ الأدوات المعدنية الَّتي تلفت أنصالها. وإذ ما استثنينا الطبيعة العينية لـ (ن) في المجتمع المصري آنذاك،
ويتعين أن نذكر بشأن قوة العمل أن الجدل قد ثار حول وقت ظهور نظام الرق الخاص في مصر، أي تملك فرد لفرد. إذ أننا لم نجد أي أثر لذلك. ولم نصادف، في عصر الدولة القديمة، تصرفاً واحداً يتناول أشخاصاً بالبيع أو الشراء. وفي تقدير البعض، أن عدم العثور على أية إشارة فى التصرفات القانونية إلى وجود الرقيق لا يعتبر دليلاً كافياً. إذ يمكن تصور أن التصرفات ما كانت تذكر سوى الرجال الأحرار وتتغاضى عن الإشارة إلى الأرقاء في حالة بيع الأراضي مثلاً باعتبارهم مجرد ملحقات، ولا يتمتعون بحقوق أو أموال خاصة. بيد أنه إذا كان هذا الفرض صحيحاً، فإنه كان يتعين ذكر هؤلاء الأرقاء، باعتبارهم من عناصر الذمة المالية، في الوثائق الإحصائية للأموال، أي الوثائق الَّتي تحوي بياناً لأنواع الأموال الَّتي تفرض عليها الضريبة، والَّتي كان يتعين على الملاك تحريرها. فهذه القوائم كانت تتضمن جرداً تفصيلياً دقيقاً للأراضي، والديون المختلفة، والمواشي، بل وحتى الدواجن، وكل شوال غلال قدم للطحان، وكل رغيف عيش تم استلامه من الخباز. ولو كان هناك رقيق لشملته هذه البيانات لأنها تحصي جميع الأموال المملوكة للشخص. بل وهناك من الوثائق الَّتي يمكن أن نستقي منها دليلاً مباشراً على أن الدولة القديمة لم تعرف نظام الرق الخاص. وفيما يتعلق بنظام الرق العام، فليس لدينا نص واحد يؤكد صراحة أن الدولة كانت تستخدم أسرى الحروب كرقيق عام، أي رقيق للدولة. وإذا كانت مصر لم تعرف نظام الرق الخاص بالمعنى الصحيح في عصر الدولة القديمة ولا حتى في العصر الإقطاعي الأول فإنه يمكن قول نفس الشيء بالنسبة للدولة الوسطى.(6)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلينكن ينهي زيارته إلى الصين، هل من صفقة صينية أمريكية حول ا


.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا




.. انقلاب سيارة وزير الأمن الإسرائيلي بن غفير ونقله إلى المستشف


.. موسكو تؤكد استعدادها لتوسيع تعاونها العسكري مع إيران




.. عملية معقدة داخل المستشفى الميداني الإماراتي في رفح وثقها مو