الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حلول - قصة قصيرة

عبد الفتاح المطلبي

2016 / 1 / 21
الادب والفن


حُلُولٌ
قصةٌ قصيرةٌ
عبد الفتاح المطلبي
مكاني يطلّ على حديقة الأُمّةِ ، تارةً تلاحقُ عينايّ مخلوقاتِها الطائرةَ منْ فَراشٍ وعصافيرَ وحمامٍ وبعض النسور الحائمة في أجوائها التي تتحين الفُرَصَ السانحةِ وتارةً تلاحق المتنزهين الجالسين على أرائكها الحجريةِ،لم يكن لي إلا أن أفعلَ ذلك، فهو الحد الأدنى مما يجب علي أن أمارسَه في وظيفتي الجديدة ، أجلس حذو باب البناية الأنيقة متلفعاً بوقارٍيتطلبهُ دوري ،أرسمُ على وجهي ابتسامةً خفيفةً كما ينبغي، أنتبهُ إلى القادمِ ، أيِّ قادمٍ جديدٍ ، أنهضُ بخفةٍ ، أنحني بطريقة ممسرحةٍ قدرَ ما يتطلبُ الأمرُ ذلك ، رأيتُ أنني أكثرَهم ملائمةً لهذه الوظيفة فقد كنت ممشوقا ، فتيا ذا لسانٍ لبقٍ ، في هذه الأيام تدهورت أوضاع الصالون وصار بالكاد يزحفُ إليه زائرٌ من روّاده القدامى، جميعُنا يعرفُ أسبابَ ذلك فقد تغيرت الأمور وتعكرت الأمزجة وصارمن الطبيعي لكي يعيشَ المرء في بحبوحةٍ أن يُبيحَ خدَّه أو قفاه للصفع أو مؤخرته للركل من أجل الفوز بتلك الأوراق الخضر و الحديثُ عن ذلك أصبحَ برستيجاً مرغوباً يتطلب مزاحمة الكثير ممن يفعل ذلك، يُطأطؤن للصافعِ والراكلِ حتى صار المرءُ يُعرَفُ بقدر الصفع أو الركل الذي تلقّاه ، ليس بمقدور أي من الناس الحصول على الصفع الذي يُدرّمالاً بل قلةٌ هم الذين يقدرون، بعض الصفع والركل لا يخلف إلا أوجاعا مثل صائد سمكٍ يلقي صنارته ولا يصيد شيئا ،بيد أن هناك من يعرف إلى أيةِ كفّ يمنحُ خده وقفاه وأمام أيةِ قدمٍ يعرضُ مؤخرته في عالم مثل ديدان في مستنقع لا فخر لدودةٍ على دودةٍ بالخوضِ في نتانتهِ ،أراهم جميعا أولائك المصفوعين على خدودهم وعلى أقفيتهم يأتون وهم يُصَعّرون لحمهم المُحمرّ من أثر الصفع، يتحدثون كثيرا عن ذلك بفخر ويتمنون أن تصل الأمور إلى الركل يبتلعون آلامهم كما يبتلعون بصاقهم من أجل المال ، الركل منزلةٌ لا يبلغها إلا البارعون في ذلك، الكثيرُ لا يفكر بالوصول إليها، ذلك طموحٌ يكاد يكون بعيدَ المنال، فلقد فشِلتُ أنا شخصياً في أن أكون واحداً منهم لم أكن صالحا أبداً لمثل ذلك فمنذ أول صفعة ثارت ثائرتي وبصقت على من صفعني وعلى دولاراته ولم أكن متفهما كما يريد بعد ذلك تلقفني شارع البطالة الطويل حتى تعلمت بعض ما يريدون، وها أنا أطأطئ رأسي راضيا من أجل أن أعيش ، وكما تعلم إن الأمر يتعلق بالقدرات والأقدار ، كان قدري أن أقف حذو هذا الباب أنحني بلياقة لأولئك السعداء المصفوعين على الخد والقفا المملوءة جيوبهم بالورق الأخضر ، لم يمنحني الزمن فرصة الإنحناء لمركول على المؤخرة ، أولئك نادرا ما يزورون هذا الصالون ، الأمرُ لا يتوقف عند هذا الحد ، كان علي أن أميز بين خدٍّ وآخروأقفيةٍ ومؤخرات مختلفة فالخدود متنوعةٌ منها الطويلُ الأسيلُ ومنها الكُلثومي ومنها المنتفخُ ومنها ذو الغمازات ومنها الأعجفُ وذلك نادرٌ جدا والأقفية منها الطويلُ والثخينُ والمتغضّن والأملس وبعضها غارقٌ بين الكتفين أما المؤخرات المركولة فأمرها عجيب ،كلما عظمت المؤخرة وَشَتْ بجسامةِ ما تلقته من ركل ٍمُجْدٍ، الجميع مصابون بالبراكَما ،أولئك الذين يفاخرون بحصولهم على ركلات لا يكتفون بذلك بل يستغرقون في تفاصيل تلك الركلات ، ربما تفاخر مركولٌ بحذاء ٍ أجنبيّ ٍعلى مركول ببسطال شرطي محلي أوقدمٍ مبجلةٍ لم ترَ الشمسَ يوما وعلى ذلك تتنوع الركلات وبالتالي يتنوع المركولون بحسب ما تُدر الركلةُ من تعويض أولئك جميعهم انشغلوا بما حصلوا عليه من صفعات على الوجوه والأقفية وركلات مهما كان نوعها وتركوا تلك العادات السيئة من قبيل زيارة هذا الصالون أوتبديد وقتهم الثمين بالإستماع إلى محاضرٍ رسا به المركبُ على حافاتِ منصةٍ أو جلسةِ ثقافةٍ أو الإستماع إلى شاعرٍ يلقي قصيدته وهو يتمسرح على الخشبة بمكابدةٍ واضحةٍ، متجنباً أن يبعثرَ حروفَهُ هواءُ المراوح التي تدور بصمت، كل أولئك شحّوا وتركوني جالساً قد أفقدُ لياقتي وإتقاني للإنحناء بلباقة ، طال جلوسي بالقرب من الباب فراحت عيوني تبحث في فضاء المكان عن الفراشات والعصافير من مكاني المطلّ على حديقة الأمة في باب بغداد الشرقي ولشحة تلك المخلوقات الجميلة التقطتْ عيناي الرجلَ الجالسَ على المصطبة الحجرية في أحد ممرات الحديقة، لم يكن ذلك مفاجئاً كنت أعرف أنه يجلس هناك بيد أن اهتمامي به بدأ مؤخراً ففي اليوم الأول رأيتهُ رجلا فارعاً لا تشوب قامته شائبة تبادلنا النظرات وراحت أفكاري تدور حوله وربما فعل ذلك أيضا ، ربما تسائل عن جلوسي الطويل ، أدمن المجيء إلى مكانه المعتاد من الحديقة وأدمنتُ مراقبته وبدونا كلانا كمن يراقبُ أحدنا الآخرَ وهكذا مرت الأيام والأسابيع والشهور لكنني بعد عدة شهور لاحظت انحناءةً واضحةً في قامته التي كانت قبل شهور منتصبة وفي الأيام اللاحقة لا حظتُ أنه صارَ يأكل سندويجا يحرص على التقامه من طرف جريدة علنا في الحديقة وهكذا استمر الرجل مداوما على الحضور يراقبني وأراقبه حتى رأيته بعد وقت وهو يعرجُ قليلاً فانتابني القلق عليه وكأنني كنت أعاني عرجَهُ تملكتني الرغبة في أن أذهب إليه وأتفقد حاله ولربما أسأله عما أصابه وفي كل يوم كنت أُرجئ ذلك بسبب زائر نادرٍأو فراشةٍ تمر مصادفةً تشغلني عنه ولم تمض إلا بضعة أسابيع أخرى حتى رأيته وقد تأبط عكازا طبيا وفي هذه الأثناء قلّ الوافدُون وانعدموا وبتّ أجلسُ طويلا حتى تيبست مفاصلي ونسيت تماما دربتي على الإنحناء ،فقدتُ كلَّ لياقةٍ ولباقة وانشغلتُ برجلِ المصطبة الذي كان ينظرُإلي دون أن يريم مفكراً بتحولاته الدراماتيكية السريعة،تبادر إلى ذهني أن الرجل من طينتي ربما كان ممن لا يتحملون الصفع أو الركل فقذفه القدر إلى هامش حديقة الأمة جل طموحه أن يحصل على سندويجةٍ ملفوفةٍ بجريدةٍ صفراء، غاب الرجل طويلاً حتى ظننتُ أنه قد مات لولا ظهوره المفاجئ بعد ثلاثة شهور على كرسي المعاقين يحث عجلات كرسيه إلى مكانه المعتاد ،قررتُ أن أذهب إليه وأتفقده عن كثب ، اقتربت من المكان أكثر،تقلصت المسافةُ بيني وبينه حتى انعدمت تماماً فلم يعد هناك فرقٌ بيني وبينه وليس هناك ما يفصلني عنه، هالني أنني كمن ينتبه من غيبوبةٍ طويلةٍ ، اختفى الرجل وما كان غيري يجلسُ على ذلك الكرسي ذي الدواليب و كنت طوال الوقت أراقبُ ذلك الذي ما يزال يجلسُ حذو باب الصالون متخيلا بكثيرٍ من الأوقات ومتمنياً لو أنني كنتُ ذلك الجالسُ هناك لكنت أقوم ممتشقا قامتي أنحني بلباقةٍ ولياقةٍ أمام الزائرين الأفذاذ ولما احتجتُ إلى كرسي المعاقين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع