الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسوار بغداد 2

ليلي عادل

2016 / 1 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الحلقة الثانية
أرض الشتات

خلال السنوات الست الاولى ما بعد " التحرير" و التي حدثت خلالها تغييرات سياسية، اجتماعية، ثقافية و اقتصادية هائلة يمكن تشبيهها بإعصار هائل يكتسح و يتجه بكل شيء نحو الهاوية. كنت أراقب انهيار البنى التحتية الشبه متهالكة و هي تستسلم للتفتت و التلاشي. الشوارع تحولت الى مكبات للأزبال، كنت اصر على الخروج بكامرتي لتوثيق ما تراه عيني و لا يستوعبه عقلي. أدور في شوارع عرفتها يوما, لكنها اليوم مشوهة غريبة بأرصفتها التي اختبأت تحت اكياس سوداء و زرقاء و زهرية، أكياس ليس بالإمكان ان تحزر ما محتواها، هل هي بقايا طعام و نفايات ام بقايا إنسان مجهول الهوية.. أصور و كأني اسرق، حيث أخبيء كامرتي كلما مررت بقرب سيطرة للحرس او مر رتل المحررين بهمراتهم و دباباتهم الهائلة من جانبي بين كره الاولى لوسائل توثيق الخراب و رعب الثاني من كل جهاز تحمله امام وجهك و تضغط على الزر. كنت آأمل ان يأتي اليوم الذي ينتهي فيه هذا الكابوس و تصبح الصور التي التقطتها وثيقة لفترة سوداء لن تعود و لن تتكرر.
نعم كنت ساذجة لكن التشبث بالامل احيانا يكون الدافع الوحيد للاستمرار.
ضاق الخناق من حولنا و انقطع طفلي عن مدرستهما التي رغم قربها من المنزل الا ان الطريق اليها كان مليئا بمشاهد بدأت تثير تساؤلات طفلتي و فضول ولدي الصغير. بقيا حبيسا البيت، و كل مرة اضطررت فيها للخروج كنت أودعهم و كأني لن اعود ثانية. أقف على الشارع الرئيسي بشعري القصير و بنطالي القديم, لأنتظر سيارة اجرة لا تبدو على وجه سائقها ملامح الشر، حيث أصبحت قيادة سيارة قد تفقدك حياتك لان لها ثمن اما دم الانسان صار بلا ثمن و الموت سهل و يومي. اقف أمام حائط , أتأمله فأجده قد امتلأ بثقوب و حفر رسمتها عليه إطلاقات الرصاص و القذائف الخفيفة. تحت قدمي ارى الخلب منثور بكل الاحجام. الرصاص مر من هنا و ربما سقط احدهم ينزف حتى الموت في هذه البقعة ذاتها التي أقف عليها..ربما تصادفني الرصاصة يوما، او ربما أنجو.
ما من مفر سوى الفرار.. حملت طفلي و رحلت.
ملابس، لوحات، تماثيل، افلام، موسيقى و بيانو،ذكريات، لعب الاطفال، دفاتر مذكرات و غيرها من المفردات الصغيرة التي كانت تكمل عالمي صارت بلا قيمة و هي محاصرة برائحة الموت الذي احاط بنا و اصطبغت برائحته كل تلك الأشياء.
شقة صغيرة تحت الارض حيث ينام طفلاي بأمان كانت محطة الاغتراب الاولى و امتدت لتسعة شهور طويلة. فراغ و احساس بالفقد جعلاها تبدو و كانها تسع سنوات، كان لنا وطن و من الان وصاعدا لم يعد لنا غير الشتات.
بدأ طفلي يفقدان لهجتهما البغدادية و يكتسبان لهجة البلد الغريب، و انا في سباق مع هذا التحول الذي كان بنظري كارثة. انت عراقي احجي عراقي مثل اهلك. هذه هي ميزتك اللهجة مثل لون العين و نبرة الصوت تميزك عن الاخر و تجعلك انت انت.
هم ارجع و اگول : كم كنت ساذجة!
كل يوم انتظر مكالمة او موعد لدى مكتب الهجرة و اسعى ليتم تهجيرنا سريعا و في داخلي اتمنى كل لحظة ان تحدث المعجزة و يصحو البلد من كابوسه و تتحسن الأوضاع لنعود. مفاتيح البيت مازالت في حقيبة يدي و لم يفارقني امل استخدامها. كانت فكرة فقد الارض التي انتمي اليها صعبة الهضم و كلما تأملتها اصبت بالخيبة و الخذلان.
و في يوم و دون سابق إنذار أتت المكالمة المنتظرة، إجهزوا للرحيل، وطنكم الجديد ينتظركم. نعم لقد قرروا " ولا اعلم من هم " إعادة توطيننا في ارض جديدة و لغة غريبة و وجوه لا اعرفها.
حزمت الحقائب و انا أدندن :

سنرجع يوما الى حينا.

الحلقة القادمة
وطن جديد مسلفن








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجماعة الإسلامية في لبنان: استشهاد اثنين من قادة الجناح الع


.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية




.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-


.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها




.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24