الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحرير العقل المسلم

الشيخ إياد الركابي

2016 / 2 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني





ورد لفظ - تحرير – في الكتاب المجيد للدلالة على العتق أو الإعتاق من الأسر ومن العبودية ، كما في قوله تعالى – فتحرير رقبة - النساء 92 ، وفي قوله – نذرت لك ما في بطني محررا – يعني الحرية التي هي ضد العبودية قال القرطبي ، والأصل في - التحرير - جعل الشيء حراً ، قال أبن فارس - حر : من الحاء والراء – في المضاعف له أصلان ، ما خالف العبودية ، وما برئ من العيب والنقص ، والتحرير على وزن تفعيل ، وهو فعل مركب يعني إستقلال العقل عن كل ما يُعيق ويُعطل ، ، وهو الحرية التي هي نقيض الإستعباد و القهر و الإستبداد والديكتاتورية قال أبن منظور ، وإضافة التحريرللعقل إضافة معيارية دلالتها واضحة في جعل العقل حراً ، وجعل العقل حراً : يعني نزع القيود عنه والأغلال وكل ما يُعيقه من الحركة والإنطلاق والإجتهاد والنظر ، و نزع القيود : لازمه إخراج العقل من دائرة السكون إلى دائرة الحركة ، و من دائرة الوهم والخرافة والتقديس إلى دائرة الواقع و الفضاء المفتوح ، والخروج من الأفكار المسبقة القبليّة إلى الإفكار المستقبلية .

والعقل المسلم : هو مجموعة الآراء والأفكار والإجتهادات التي أنتجها المسلم وإليه تُنسب ، وهذه المجموعة محكومة بزمن معين ومحدد ، والزمن ظرف ويُشار إليه هنا بالتاريخ الذي به تكون العقل المسلم وأنتج معلوماته ، وذلك التاريخ هو تاريخ مضطرب وغير مستقر لأنه عاش التدافع والفئوية والعصبية التي تشكل بها وشكلته كما يقول أبن خلدون ، ومن الطبيعي أن يكون ما أنتجه لنا فكراً مضطرباً وذلك يعود لطبيعته التي تشكل منها ، والماضي فيه فعل وفاعل وقد قدس البعض ظرفيته الزمانية والمكانية تلك ، وفي معنى تحديد الفعل الماضي والظرف الماضي تتجلى محدوديته ونسبيته وضحالة معلوماته المُنتجة له والمؤوسسة له .

إن تحرير العقل المسلم من لوازمه حضور الإرادة التي تجعله ممكناً وناجحاً ، لأن فعل التحرير من حيث هو يستهدف معنى - تخليص العقل - من معتقداته المتراكمة ومن نظرته الجامدة والأحادية للأشياء ، كما ويستهدف - التحرير - ردم السدود التي نشئت بفعل مقولة التسليم والإنقياد السلبي و من دون النظر والتحقيق والفحص و التدقيق ، ذلك الذي ولَّد ظاهرة الغلو والتطرف لدى فئات إسلامية متعددة ، والغلو حدث في تقديس الرجال والأخبار والأشياء ، وحدث حينما غاب العلم وساد في الوسط الجهل والتخلف ، أي إن التقديس في أصله بضاعة أنتجها الجهل وعدم العلم ، وقد نمى ورعى - ظاهرة الغلو - رجال السياسة ورجال الكهنوت لأنها تدر عليهم الكثير من الإمتيازات ، و التقديس في واقعه فعل قائم على التضليل والخداع والمبالغة والكذب ، ولأنه كذلك كان المُراد منه خضوع الكافة وإنقيادهم وتسخير طاقاتهم وإمكانياتهم لخدمة رجال السياسة ورجال الدين ، مما جعل بالتبعية ونتيجة لهذا الفعل أن يكون - العقل المسلم - مُقلداً و متلقياً وغير مختار ، بل وأعتُبر الإجتهاد لدى البعض من رجال الدين خروجاً عن الملة والدين ، وشاع في أوساطهم ذلك القول المشهور – من تفلسف فقد تزندق – وهم يعنون [ من فكر فقد تزندق وكفر] ، وفي هذا السياق قد أُطيح بالكثير من المفكرين وأصحاب الرأي ، وعُلق الكثير منهم على أعواد المشانق وصلبوا وما محنةالحلاج عنا ببعيدة ..

إن تسليط الضوء على قضية - تحرير العقل المسلم - أو فتح ملفها في هذا الوقت بالذات تعني أولاً : تحريراً للعقل وأدواته ووسائل إنتاجه من سلطة الماضي ، وثانياً : فكاً لأسره ونزع القيود التي فُرضت عليه عبر التاريخ ، وتحريرالعقل ليست مهمةً سهلةً مع وجود هذا الكم الهائل من المعوقات والعراقيل ، لكنه مع ذلك لازم لأنه يكون في صميم وفي جوهر الفكر الذي يُسمى إسلامياً ، من قبيل قضايا العقيدة ومسائل الفقه والأصول وقضايا التاريخ والأخبار .

وتحرير العقل هو ليس نقداً للعقل ، ذلك لأن دلالة اللفظ والمعنى فيهما مختلفان ، فالتحرير مادةً بمعنى التخليص أي جعل العقل خالصاً مستقلاً يعني حراً ، وأما النقد فهو توجيه للعقل وتصحيح لمبانيه وإعتقاداته ، ومادام الكلام في - تحرير العقل المسلم - فالواجب أن لا يكون هناك حدوداً لفضاءاته وساحاته ، والواجب كذلك نزع فكرة التقديس المفروض والمفترض عنه .

ويعني هذا الدخول كل الساحات بما فيها نصوص الكتاب المجيد ، والتعرف عليها وعلى طبيعتها الموضوعية ، وبما إن الكلام في الطبيعة الموضوعية فهناك إذن داع لتحرير النصوص ومعانيها من هيمنة اللاوعي والعبث التاريخي ، ووجود الداعي الموضوعي يعني وجود المقتضي لذلك ولكي تتم العملية التحريرية ، يتطلب الأمر رفع الحصانة المفترضة والوهمية التي تشكلت عبر التسليم السلبي والإنقياد الأعمى وقمع الإرادة والإدراك ، وأولى مهام التحرير هذا هو في فك الإرتباط بموضوعة الوحي وتحرير جدل – اللفظ والمعنى – بين الواقع والغيب ،
والتعرف على طبيعة تركيب اللفظ موضوعياً وكونه عبارة عن مجموعة حروف وأصوات نُطقت بالعربية ولم تنزل من السماء بالعربية ، والذي نطق بها هو النبي محمد أي هي صوت النبي محمد وليس هي ما نطق به الوحي أو هي صوت الوحي ، وهذا مايدل عليه منطوق النص في قوله - بلسان عربي مبين - والكلام في الجملة يعود على النبي محمد ومتعلق به ، وأما دعوى كون الألفاظ والمعاني جاءت من الله هكذا ، فهي عندنا مردودة لإعتبارات معرفية وواقعية ، منها إن الله ليس عربياً ولا يتحدث العربية ، ولا يمكننا تصور ماهية وكيفية الله ، وهذا ما نطق به الحق عندما قال إنه - ليس كمثله شيء - ، وهذا ردٌ على مذاهب المتكلمين وعلى المجسمين والمشبهين ، نعم إن الله هو من جعل الكتاب المجيد منطوقاً باللسان العربي ، والجعل مرتبط بكون النبي محمد لا يحسن النطق بغير العربية ، والأمر كله متعلق ومرتبط بمحمد بن عبد الله الذي لم يكن يُحسن الكلام بغير العربية ، وقد جاء التوكيد على ذلك بقوله - لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين - ،
ونفهم من ذلك إن الله قد بلغ المعنى للنبي عبر الوحي بحيث يفهمه محمد ويتفاعل معه ويضعه بقالب لفظي مناسب له ، وهذا يدل على إن المعنى كان من الله ، وأما اللفظ فمن النبي محمد صاحب اللسان العربي ، وتكون مهمة - لا ينطق عن الهوى - في سياق النص دالة ومرتبطة بصيانة المعنى في أن يكون في اللفظ المناسب الذي وضع به ، وليس معناه إن الله قد أنزل نصوصاً عربية وحفظها النبي ونطق بها ، ذلك لأن دلالة معنى الحفظ المذكور في قوله - أنا نحن نزلنا الذكر وأنا له لحافظون – الحجر 9 ،
والحفظ في لغة العرب تعني الحراسة والصيانة والرعاية ، ولأن الفاعل هو الله فالمحفوظ هو المعنى الموجود في اللوح المحفوظ عند الله ، وليس المحفوظ هو اللفظ الذي نطق به محمد بن عبدالله - إذ الحفظ المقصود ليس حفظ اللفظ بل حفظ المعنى هناك - ، ثم إن معنى – نزلنا أو أنزلنا – التي تصف الكتاب المجيد إنما جاءت بمعنى جعلنا أو صيرنا ، ولم تأت بمعنى الإنزال من علو أو من الأعلى ، وهذه المسألة قد ناقشناها بشيء من التفصيل عندما بحثنا موضوعة قدم القرآن وحدوثه ،

ومن خواص الوحي هو في قابليته و قدرته على التحول و الحركة والتغيير بحسب الوضع والتكليف المنوط به ، كما وإنه يتحرك وفقاً للغة النبي وحدود معلوماته ومهماته المنوطة به .

ونعود لنقول إن - تحرير العقل المسلم - ورد في لسان الأخبار بصيغة - ليثيروا لهم دفائن العقول - ، وهذا للتدليل على معنى - ثورة العقل - التي هي واحدة من سمات البعثات النبوية وأهدافها ، و الترابط بين الثورة والتحرير هو ترابط جدلي دائم و لازم وضروري ، كما وإن من مهام التحرير ليس البحث فقط في قضايا التراث والتاريخ وتأثيراتهما ، بل إن البحث يكون في عمق العقل المؤوسس للدين ، وأعني هنا به الكتاب المجيد وصحته وصحة صدوره وصحة نزوله وصحة معناه ، ولأن هذا البحث علمي وموضوعي وحيادي لذلك فهو ، يدخل في نقاش قضية التحريف التي طرأت على الكتاب المجيد ، كيف وأين ولماذا ؟ ، كما ويناقش في معنى جمع القرآن وتدوينه ويُناقش في كُتابه ونزاهتهم .

وفي ذلك المفهوم نتسائل : لماذا أحرق عثمان بن عفان جميع المصاحف وأبقى على واحد منها ؟ ، وهل المقتضي لذلك الإحراق هو في وجود العيوب في المصاحف الأخرى وفي قرائتها ؟ أم إن العيوب في أصل كتابة النصوص ؟ ، ثم ما هي المقاييس التي أعتمدها عثمان في هذا المجال ؟ ، ونسأل : لماذا نجد التكرار في بعض ألفاظ نصوص الكتاب ؟ ولماذا نجد التناقض في بعض نصوص الكتاب ؟ ، وهل إن ذلك التناقض كان بفعل عامل التحريف ؟ أم بسبب إستحالة الجمع بين النصوص ؟ ، هذه الأسئلة في العمق لأنها تتناول جوهر الكتاب ومادته ومضمونه و طبيعتة .

ومن أجل الإجابة : يلزمنا الكثير من الحيطة والكثير من الحذر والإبتعاد عن التلقائية والعفوية ، ذلك لأننا ملزمين بالدليل ، ولأننا نعتمد الكتاب المجيد وحده مصدراً والعقل المستقل هو الدليل الدال عليه في فهم معاني الكتاب و تفكيك نصوصه وتحليلها ، ومعلوم إن الكتاب المجيد مؤلف في بنيته وطبيعته من - لفظ ومعنى - ، فيقتضي الواجب أولاً رعاية ذلك وبحسب الموازين التي أعتمدتها لغة العرب ، وقد قلنا سابقاً إن المعاني جُعلت في ألفاظ عربية تنسجم مع لسان النبي وقومه ، وقلنا إن المعاني محفوظة في اللوح المحفوظ و عند الله ولا نعلم صيغة الحفظ تلك ولا اللغة التي حُفظت بها المعاني ، لكن المعاني لما نزلت على قلب النبي جُعلت منطوقة بالفاظ عربية ليست بعيدة عن فهم السامع وإدراكه ، بإستثناء فكرة - التدبر - التي إرادها الله للقرآن وخصه بها دون باقي موضوعات الكتاب وفصوله ، والتدبر : معرفياً يعني - التفحص والتأمل والنظر بإمعان في آيات القرآن - و الصريح قوله [ أفلا يتدبرون القرآن ] ولم يقل أفلا يتدبرون الكتاب !!! ، والآيات : هي المعجزات التي تحتاج في فهمها إلى علم وتأويل وليس إلى تفسير [ وبين التأويل والتفسير جدُ فارق ] ، والمصحف هذا أو الكتاب الذي نقرئه اليوم فيه فصل خاص يسمى القرآن وفيه فصول أخرى غير ذلك يعني غير القرآن ، ولهذا لا يجوز الدمج في موضوعات الكتاب فتختل المعرفة .

وأما عن مفهوم - قضية تعدد القراءات - والتي روجت لها الدعاية السياسية والكهنوتية فهي في الحقيقة إشكالية مُدعاة هدفها خلق نوع من القلق النفسي والتخويف من فكرة - القراءة التأملية والعلمية - ، وهدفها كذلك تجريد الكتاب من طبيعته وغاياته المجتمعية ، وجعله مجرد كتاب مؤلف من حروف والفاظ فقط ، وهذا التوجه الدعائي مخالف لمعنى ومفهوم قول : - إقرأ – الذي ورد في أول إتصال بين النبوة والوحي ، وإقرأ هذه تعني التدبر وتعني الإجتهاد و تعني النظر والفكر ، ولاتعني القراءة اللسانية أو تكرار الأحرف وإجترارها .

وأما عن مفهوم – [ التناقض ] - في كتاب الله المجيد ، فهذا الموضوع الشائك والمرتبط جدلياً بموضوعتين الأولى : جمع الكتاب ، والثانية : تدوين الكتاب ، والجمع لغة يعني الضم أي ضم الأشياء بعضها إلى بعض ، وقيل هو جمع ما كان متفرقاً ، وأما التدوين لغة فهو الترتيب الذي يأتي بعد الجمع ، فالجمع هو غير التدوين ولكل لفظ معنى معين ، والكتاب المجيد جُمع أولاً ومن ثم دون لاحقاً ، وبين الجمع والتدوين فاصل زمني ، و بحسب ما توفر لدينا من أدلة فإن كتابة نصوص الكتاب تمت في عهد النبي محمد ، وكتابة النصوص هي ليست جمعاً للنصوص ، ودليلنا على أن نصوص الكتاب تم كتابتها في عهد النبي ، ودليلنا على ذلك إن أسماء السور في الكتاب المجيد هي توقيفية وليست إجتهادية ، كما إن التمييز بين السور والموضوعات ، وتلك إيضاً من خصوصياته عليه السلام ، وقد كان في عهده من يُحسن صنعت الكتابة وخط الحروف ، وهذا ثابت من خلال جملة إستدراكات تاريخية في هذا المجال ، تؤكد على أن بعض رجال المرحلة النبوية كانوا يحسنون الكتابة والقراءة بمعناها المتعارف ، وهذا الكلام يتعلق بموضوعة كتابة نصوص الكتاب المجيد ، ولهذا نفهم منه معنى نهي النبي عن كتابة أخباره حتى لا تختلط بما يُكتب من الكتاب المجيد .

لكن القضية قد تغيرت بعد وفاة النبي لأسباب موضوعية ، وهنا تبدأ مرحلة جمع سور وموضوعات الكتاب المجيد بعضها إلى البعض الآخر في كتاب واحد وصحيفة واحدة ، ويكون الخليفة أبي بكر هو من بدأ بجمع الكتاب أولاً تبعاً لإستشارة من عمر بن الخطاب ، هذه المرحلة قد تم فيها جمع الكتاب المجيد ، وظل هذا المجموع معمولاً به حتى زمن خلافة عثمان بن عفان الذي جرى في عهده تدوين الكتاب بمصحف واحد ، بعدما نُقل له من تباين الناس في فهم الكتاب تبعاً لتعدد القراءات ، كان هذا هو السبب المُعلن في عملية الجمع والتدوين هذه ، والتي أحرق في طريقها مصاحف عدة ، ويمكننا وصف هذه المرحلة بالأخطر لأنها أدت إلى توالي ولواحق خطيرة منها : شياع ظاهرة - التحريف - في الكتاب المجيد ، والتحريف لغةً

هو حرف الشيء: ، وتحريفه: أي إمالته عن موضعه وعن إعتداله ، وللتحريف صور ومعانٍ كثيرة بلغت أحدى وعشرين موضعاً ذكرها الطبرسي في كتابه ، منها: التحريف الترتيبي ، و التحريف المعنوي ، و التحريف اللفظي [ كتحريف الحروف وتحريف الكلمات وتحريف الآيات و السور ] ، وهناك تحريف بالزيادة وتحريف بالنقصان ...

وكل هذه المعاني والصور تدخل في باب التحريف ، ولأن عثمان بن عفان هو الذي تصدى لحرق المصاحف الأخرى ، بحجة إختلاف القراءات فيها ، أدى هذا الفعل منه وإن لم يقصد ويرد حدوث - التحريف - مع غياب الرقابة المعلوماتية الدقيقة والحرق المتعمد للمصاحف الأخرى ، إذن هذا الفعل من عثمان بن عفان أحسن النية ولكنه أخطأ الهدف ، فحدث ماهو أفضع من تعدد القراءات واختلافها ، وكما بينا في تعريف التحريف إنه إمالة عن الإعتدال وخروج عن القاعدة و الطريق ، لذلك حدث [ التناقض ] في بعض نصوص الكتاب وموضوعاته ، وموضوعياً تكون مرحلة عثمان بن عفان هي المرحلة التي أسست لهذا التناقض الحاصل بفعل التحريف ، ولكي لا يكون الكلام نظرياً محضاً دعونا نستشهد ببعض النصوص في هذا الباب :

1 - قال تعالى : - [ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ] - الأنعام 108 ، ولفظة : - لا تسبوا - هي من فعل سب والذي يعني : الشتم بكلمات نابية ، وقيل هو بيان صفة للحال بما فيه من عيوب ونقصان من أجل الإزدراء منه ، وقيل : السب ، هو الشتم : والذي هو القبيح من الكلام ، ودخول - لا - الناهية للفعل في صيغة الجمع للتوكيد والتعليل ، والكلام في النص يريد تجنيب المرء ذكر صفات الغير السيئة ، كي لا يتخذها الغير طريقاً وسبيلاً فيسبوا الله عدواناً وبغياً ، وهنا يكون الله قد أسس قاعدةً للتعامل مع الغير المختلف والمُغاير ، قاعدة أخلاقية تقوم في الأساس على مبدأ إحترام الآخر - وعدم سبه وشتمه - والقاعدة الأخلاقية تُعلمنا الكيفية التي يجب ان نتعامل بها مع الغير المختلف ، وهذه القاعدة مضطردة ودائمة وتجري في كل السياقات والأنساق والأزمان ، وإذا كان المُخاطب الأول بها النبي فهي تعني العموم والإطلاق ، ومن خلال النبي يمكن تعميمها على الجميع مُريدين وغير مُريدين مؤمنين وغير مؤمنين ، وبما إنها قاعدة اخلاقية عامة فهي مطلقة و غير مقيدة في الأصل وليس فيها إستثناءات ، ولأنها كذلك فلا يجوز مُخالفتها أو مُناقضتها بنصوص أخرى ، فالله حين يأمر بشيء لا يأتي بنقيضه و بما يُخالفه ، لأن هذا أمر مُمتنع ، وهذه القاعدة هي قاعدة إلهية وكذلك هي قاعدة عُقلائية ، أي يتفق عليها جميع العقلاء .

و تجري هذه القاعدة في سياق القيم و المبادئ الأخلاقية العامة ، وتتحرك في ضوئها أساليب الدعوة إلى الله ، يظهر ذلك في قوله تعالى : - [ أدعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ... ] - النحل 125 ، أي إن طريق الدعوة إلى الله لازمه الحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالحسنى وكلها مبادئ وقيم أخلاقية ، وقد أشارت سورة آل عمران إلى هذا السلوك وهذا الفن في سياق قوله تعالى : -
[ لو كنت فضاً غليظ القلب لأنفضوا من حولك ] - آل عمران 159 ، والخطاب للنبي في تحسين ولزوم إتباع الطرق والأساليب التي تؤدي إلى تقريب المُختلفين عنك إلى ساحة عملك والتواصل معهم ، والتأكيد على إتباع القيم الأخلاقية في التعامل مع الغير والتي ركز عليها الكتاب وأكد ، وفي هذا السياق يأتي قوله تعالى : - [ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ-;- ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ] - فُصلت 34 ، ويمكننا إعتبار هذه القواعد مؤوسسات عمل أعتمدها الله في كيفية التعامل مع الغير ، ودعانا فرادى ومجتمعين للتمسك بهذه القواعد والسير وفق إستحقاقاتها ، وهدف هذه القواعد تحسين السلوك فيما يخص العلاقة بالغير ، وفي هذا الصدد قاد الله حملة تعريفية بنبيه محمد بن عبدالله وبأنه خير من إلتزم وسار وفق هذه القواعد ، حتى قال عنه : - [ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ-;- خُلُقٍ عَظِيمٍ ] - القلم 4 ، وبما إنه كذلك ، فلا يجوز للنبي مُخالفة تلك القواعد السلوكية الإجرائية بل هو أكثر الناس مُطالبة بالسير وفقها ، ولو أفترضنا جدلاً إن النبي قد خالف هذه القواعد ، فالحكم يكون عليه هو الخروج من ساحة النبوة ، لأنه في الحالة تلك يكون قد خرج حاشاه عن التعاليم والقواعد المأمور بها والمُطالب بتطبيقها وتنفيذها .

وزيادةً في الإيضاح رسم المولى تعالى خارطة طريق للتعامل مع الغير كيف يكون ؟ وكيف يجب أن يكون ؟ ففي سورة الحجرات يُقدم الله عرضاً في صيغة أوامر – أفعل ولا تفعل – للأفراد والمجتمعات من خلال قوله تعالى : - [ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الإسم الفسوق بعد الإيمان ..] - الحجرات 11 ، والسُخرية : مفهوم يعني الإستهزاء و يعني التهكم ويعني الإستخفاف من الغير ، والخطاب في النص موجهُ لطائفة المؤمنين بمحمد بن عبد الله رسولاً ونبياً ، يأمرهم فيه وينهاهم عن الإستهزاء بالغير ويمنعهم من ذلك ، والسياق في النص يتحرك داخل القواعد الأخلاقية التي اسسها الله ، والتي من مهامها تحصين المجتمع من الخطأ في التعامل مع الغير ، من خلال دفع لغة التنافر والفوقية والشعور بالأنا الذاتي جانباً ، والعيش ضمن الواقع دون أحقيات فالناس عند الله سواء بدليل قوله : -
[ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ...] - الحجرات 13 - ، وتخصيص النساء في الخطاب له جانب تربوي مُضاف كي تتحصن المرأة من السلوك الإرتجالي الخاطئ بإعتبارها تمثل مؤوسسة في كيان المجتمع ، والتركيز عليها في الخطاب هو تركيز للقيم ، كما وإنه توجيه لهن في الترفع عن الكلام السيء والتحلي بالقدر اللائق من الكياسة والرزانة ، وعدم إرتكاب الحماقات تحت أية مظلة وأية بند ، والنئي بالنفس عن المظلة المرفوضة والمُعلله بالسلوك الإبليسي- أنا خير منه - ،

ثم يقول النص - ولا تنابزوا - ، و التنابز في اللغة يعني : التعاير ، بألفاظ وعبارات يكرهونها ، ولو تأملنا سياق النص لوجدناه يتحرك في داخل القواعد الأخلاقية والسلوكية ، تلك القواعد التي تُحدد الكيفية في التعامل والتعايش مع الغير ، و لأن النص يستهدف بناء المجتمع على قواعد أخلاقية متينة لا تقوم على التنابز والتعاير أو الكلام البذيء ، كما ولا تقوم على تأجيج الخلافات والنعرات والأحقيات ، لأن كل ذلك الفعل لا يبني مجتمعاً ولا يؤسس نظاماً ، والخطاب في النص كما هو معلوم تناول الفئة المؤمنة ، لكنه يعني بالتضمن كل المجتمع ويعني كل الأسرة ، والمثال في أعلى مراتبها وهي النساء .

هذه القواعد هي السُلم الذي حدده الله لكي يسير عليها النبي في دعوته لا يتخطاها ، ولا يجوز له بحال تجاوزها أو القفز عليها ، وإن حدث شيء من التجاوز !! ، فذلك دليل على وجود خلل ما ، خلل ليس في بنية النظام والقواعد ذاتها ، بل في الجهات الأخرى المحيطة بها ،
ولا دخل للنبي فيها قطعاً ، نعم إن هذه التجاوزات حدثت فيما بعد مرحلة النبوة ، أعني في المرحلة التي دُونّ فيها الكتاب المجيد - مرحلة خلافة عثمان بن عفان - ، وهذا التجاوز أدى إلى تحريف غير مقصود لكنه موجود بالفعل ، وهذا التحريف هو السبب في التناقض الذي نبحث عنه هاهنا ، ونبحث عنه في المُخالفة الكبيرة لهذه القواعد التي أدرجناها آنفاً ، يظهر ذلك التناقض في النص القائل : - [ عُتلٌ بعد ذلك زنيم ] - القلم 13 ، والعُتُل : هو أسم صفة ، قيل : يعني الغشوم الظلوم ، وأما الزنيم : فقيل هو ولد الزنا ، وقيل : هو الملتصق بغير قومه ولا يُعرف له نسبا ، وفي هذا النص واجهنا - حالة التناقض – بين القواعد التي تحدثنا عنها وهذا النص ، والتناقض الذي رصدناه خارج طبيعة النظم والسبك اللغوي ، التناقض كان في الجوهر والمضمون – أي في مخالفة هذا النص للقواعد - ، وقد قلنا : إن النبي محمد مُكلف في أن يسير بدعوته ويُبشر برسالته داخل و ضمن القواعد المقررة وهي قواعد عامة مطلقة ، وفي ذلك الإتجاه لا يحق للنبي تجاوز هذه القواعد أو القفز عليها ، وإنه في عمله لا يخضع إلى ردات الفعل من الغير ، ولا يجوز أن يتحرك في دعوته تبعاً لغضبه أو لمزاجه أو لموقفه من الأشخاص الذين يخالفونه أو يؤذونه ، والرسالة التي بشر بها قد حددت له سلفاً الطريقية والكيفية التي يجب أن يلتزم بها حين يؤدي وظيفته .

والرسالة تقول له : - أدعوا بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، وجادلهم بالحسنى ، ثم تعلمه : - طريقة التعامل وكيفيته وتقول : لو كنت فظاً غليظ القلب لأنفضوا من حولك ، و في باب التعليم والرعاية ، تقول : - وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما - ، هي إذن تلزمه بإتباع سلوك معين ونسق معين ، ترفض فيه لغة التعاير والسباب والشتيمة .

فكيف بعد كل هذه المقررات يحق للنبي مدفوعاً بالغضب ليقول لمن يُخالفه أو يؤذيه في القول أو في العمل : أنت عتل وزنيم ؟ !!!!!! ، وإذا كان هذا الأسلوب في التخاطب ممنوعاً لدى عامة الناس لأنه ضد القواعد ، فكيف للنبي أو الكتاب المجيد أن يفعله ؟ !! ، ثم إن الجمع بين هذه النصوص غير ممكن ، لأن المقتضي للجمع ممتنع في الأصل ، ولأن الواجب يتطلب الإلتزام بالقواعد الأخلاقية في التعامل مع الغير المُختلف ، ومن بين تلك القواعد قوله تعالى – فإذا الذي بينك وبينه عدواة كأنه وليٌ حميم – ، هذا التوجيه الأخلاقي ، كيف يستقيم مع هذا الوصف أو النعت بتلك الصفات السيئة الرديئة ؟ ، كما و إننا نعلم إن النبي محمد لا يفعل ذلك في حياته لأنه يسير وفقاً لما يقرره الله له ، ولو حدث وخالف ذلك ! ، لجاء الرد سريعاً ومباشراً ، وقد دل على ذلك قوله تعالى : -
[ ولو تقول علينا بعض الأقاويل ، لأخذنا منه باليمين ، ثم لقطعنا منه الوتين ] - الحاقة 44 و45 و 46 - - ،
إذن فهو محكوم بعملية نطق لفظي ومعنوي محدد ومنسجم مع طبيعة المُراد والمطلوب منه ، ومن خواص ذلك الفعل عدم التناقض ، لأن التناقض منه لا سامح الله سيؤدي إلى إسقاط القواعد من الأهمية وتبعثر المعنى ، ولأننا نُحسن الظن بنبينا ، لذلك نقول إن ما حدث كان بفعل عامل التدوين في عهد عثمان ، والذي أدى هذا الفعل بدوره إلى وضع أشياء في الكتاب وليست منه ، وحذف أشياء من الكتاب بعد حادثة حرق المصاحف الشهيرة .

ويكون النص 13 من سورة القلم هو واحد من هذه الأشياء التي وضعت في الكتاب وليست منه ، ولوقيل : إن هذا النص منسوخاً بتلك النصوص المتقدمة .

قلنا : إن النسخ ممتنع في مسائل الأخلاق وقضاياها .

ذلك لأن النسخ المقصود في الكتاب المجيد يعني خصوص بعض - آيات القرآن - ، ولأن الحديث في الكتاب المجيد عن النسخ في القرآن فهو حديث متعلق بقدرة الله ، أي إن الله قادر على أن ينسخ الآيات ، إذن فهو حديث عن الإمكانية والقدرة لا عن الفعل ، والكلام فيه متعلق بقدرة الله على فعل النسخ - بلحاظ القوة والإمكان - ، وليس حدوث النسخ بالفعل والواقع ،
[ كما إن النسخ في الكتاب لا يعني نسخاً للشرائع المتقدمة ، ذلك لأن الشريعة رسالة لها خصوصية تعني بها أتباعها ومن يلتزم بها ، والشرايع جميعها خاصة ] ،
ونعود لنقول : إن النسخ متعلق بالآيات وهي المعجزات التي تُشكل النظام الكوني والحياتي لهذا العالم ، وأي إخلال فيها يعني إختلال في النظام الكوني العام ، وهذا ما لا يريده الله ، بل إن الله يريد - من مفهوم النسخ - هو إمكانية الله و قدرته إن أراد على تغيير النظام وقوانين الكون ، ولا علاقة لهذا بقضايا الأخلاق ومتعلقات الرسالة ، والتي هي من قبيل أفعل ولا تفعل .

وخلاصة القول : في تحرير العقل المسلم ، إننا نريد من ذلك إعادة الثقة للعقل ليكون حراً مستقلاً وغير مقلد أو مُنقاد ، وإن يُوفر للمسلم في حال تحرر عقله ، إنه يكون قادراً على الحكم على الأشياء بواقعية ، بعيدة عن التقديس والإنطواء والكسل ، نريد له أن يكون عقلاً مبدعاً مجتهداً غير منحاز إلاَّ للحقيقة وحدها ، وهناك ثمة شيء إيجابي يكون مرافقاً لعملية التحرير هذه ، هو في جعل العقل منفتحاً على كل الإحتمالات ، لأنه في ذلك يُمكنه النظر والتحقيق في جوهر الأشياء وفي ماهيتها ، وهذه ما أردناه بالضبط من بحثنا هذا ، كما أردنا التوكيد على إستقلالية العقل – أي العقل المستقل - ، لأننا نؤمن بأن ذلك يكون الدليل الدال على القدرة في الكشف من غير إلتواء أو مماطلة أو تزييف ، والعقل المستقل إستقرائي بطبعه وبدرجة كبيرة ، وهو القادر على تأمين صحة العلاقة مع الله وتوثيقها والعلاقة مع الأشياء ومايؤوسسها ، ولهذا كنا مع العقل الحر المستقل وسنظل في هذا ملتزمين ومدافعين ، وغايتنا حماية الحياة من حولنا من التلوث الفكري والتلوث التراثي والتاريخي الذي أصاب كل وجودنا وأثر فيه ، مما أحدث كل تلك الثغرات الكبيرة التي نفذ منها الإرهاب ، ومنها تسللت الفئوية والطائفية ، وكل المثبطات التي ألمت بحاضرنا والتي ستؤثر حتماً على مستقبل أجيالنا ، كما ونريد من مفهوم تحرير العقل ليس نقد العقل ، ، وضآلتنا في تلك الإرادة معنى ثورة العقل التي خصها الإمام علي بن أبي طالب بالقول ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاتدرائية واشنطن تكرم عمال الإغاثة السبعة القتلى من منظمة ال


.. محللون إسرائيليون: العصر الذهبي ليهود الولايات المتحدة الأمر




.. تعليق ساخر من باسم يوسف على تظاهرات الطلاب الغاضبة في الولاي


.. إسرائيل تقرر إدخال 70 ألف عامل فلسطيني عبر مرحلتين بعد عيد ا




.. الجيش الإسرائيلي يدمر أغلب المساجد في القطاع ويحرم الفلسطيني