الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خابية الكنز المفقود 1

نعيم إيليا

2016 / 3 / 14
الادب والفن


إلى ذاكرة أمي...

أنقب بهمَّة صلود لا تنثني. أنقب تحت شفة الصخرة الركينة المطبقة بثقلها الجهم على صدر الأمير الراقد في قبره منذ دهور. همتي في النقب تحت شفة الصخرة، صخريةٌ مثلها لا يشوبها لين ولو بمقدار ضئيل.
يلفظ صدري لهاثاً أشبه بلهاث تنّور. أنقب والعرق كالقيظ ينصبُّ من جلدي، يبلل ثوبي، يبللني من شعر رأسي إلى أخمصيّ. عرقي حارق لاذع ملحٌ... يغيظ حرقُه عينيَّ، يكوي ملحُه المسلوخَ من إهاب راحتيَّ. وللإنهاك الذي يتمشَّى مثل زاحف أملس داخل عضلات ساعديّ؛ خدرٌ مغوٍ يكاد يجبؤها عن مواصلة النَّقْب. فأما مدُّ الليل الفضي الكاشف الذي أحتمي بغاشيته الفضية الشَّفّة؛ فيهدد بالانحسار وشيكا.
ولكني عنيد! العناد زادي ومنهلي. من العناد أستمد قوتي، ومنه أروّي تجالدي. لا شيء يفتُّ في عضدي، لن يفت شيء ألبتة في عضدي، لن يكون بوسع شيء - مهما يبلغ من الجبروت والعتوِّ - أن يهيض إرادتي؛ فينكعني عن قصدي.
صلف التحدي، رعن النقمة الحمّاء، دموس الحقد المشبوب، عناصرُ تغلي في دمي كما يغلي معصور في إنبيق تقطير. حتى أمي؛ أمي التي هي قوام وجودي، ركني، الآمرُ الذي إذا قال لي مت أموت، أعيا عليها أن تؤثر بي.. كَلَّ العنادُ عنادي أمي، أخفق عنادي سعيَها الجهيد في أن تقتادني من رسني الحرون إلى حيث ملاذي الآمن؛ فلم تجد أمي بإزائه بداً من أن تستسلم ليأسها المبلل بقهر منكوس.
اقتحم طيف أمي مخيلتي مع أول ضربة من معولي تحت حجاج صخرة قبر الأمير الذي من جهة المغيب – وكان ذلك مباشرة عقب أن تمكنت من أن أصرع في قلبي الخوف من الأرواح المحوِّمة فوق القبور - اقتحمها وأنا بكامل شجاعتي، راكب رأسي وشيطاني، عازم عزم خلد أعمى على النقب بوعي، بلا وعي.
كان طيف أمي، أول الأمر، صرخة رعب دوّت في جوائي؛ فكادت أن تصعقني، كادت أن تزعزعني فتردَّني عن إربتي إلى البيت مخذولاً، هزيماً، ملثلَث الجبين في عفر الكعاعة؛ عفرِ الجبانة، عفر الخور ومهانة التسليم.
على أن صرختها سرعان ما تفتّت دويُّها المزعزع، وانداح فانحسر فتلاشى؛ ليظهر لي وجهها إثر تلاشيه أحمر كامداً أقرب إلى السواد؛ بل مشوهاً من الجزع واليأس والضرع. أرى أمي تترنح من العذاب، تتوجع، تتلوى مثل نفثة دخان متصاعدة ينشُّها حريق وهي تتوسل إلي! وأسمعها تناشدني بلهفة جاوزت حد التذلل أن أنكفئ عن النقب، وأرجع إلى البيت: " أبوس قدميك... ارحم قلباً أنت تتلفه! افعل ذلك من أجلي، من أجل أمك، افعل ذلك من أجل المسيح أيها الشقيُّ المنكود!".
ولكن توسلاتها الوالهة، لا تنفذ إلى قلبي. توسلاتها تخطئ سبيلها إلى قلبي، تنحرف عنه، تتزلج بخيبة باردة دونه على جدار عنودي الزلق.
فورة الغلِّ، هيوج النقمة على الحياة التي آذتني ولم تنصفني قط، تجوح الرأفة من صدري بأحب كائن إلي، تبلِّد شعوري بلهف أمي، تكتاس إرادتي عن فعل شيء رحيم من أجلها؛ بل إني لأتمادى في تلك اللحظة الرهيبة المهيبة، فأشغب بها منفعلاً أشد الانفعال، وآخذ أطعن قلبها الكسير الحسير بقسوة وفظاظة.. أنتهرها بسفاهة، بجحد، بصفاقة. أصرخ في وجه أمي بوقاحة: " دعيني وشأني! عودي إلى الدار أماه، هيا... لست أمي إن لم تعودي. إليك عني! إن وجودك في مخيلتي الآن، طامةٌ يخور منها عزمي، وينقاضُّ بها إلِّي هذا الذي آليته على نفسي إيلاء لا رجعة عنه بتةً ولو كان فيه هلاكي المحتم".
طردت طيف أمي من مخيلتي! طردتها، هكذا طردت أمي من مخيلتي: بغير تلطّف وكياسة، بغير تأنيب وندامة، بغير ترفّق وتحنان.
ومضيت أنقب، وأنقب، وأنقب... أنقب تحت حرف الصخرة بإصرار، بشكس، بجنون، بوحشية! وقد أسمع لساني في أثناء نقبي يجهر حيناً بالتحدي؛ بتحدي الناس طرّاً، بتحدي أوامر الحكومة، بتحدي الأرواح المخوفة القائمة على حراسة المقبرة. يجهر لساني حيناً، على مسمع من ليلي المستدفئ بلجين قمره المطل المكتمل الخامل اللا مبالي، بكل معاني النقمة والتشفي والانتقام، مستخفاً بأوخم العواقب المحتملة. وحواسي في غضون ذلك، رغم الموجدة والإعياء، تعروها نشوة من رنّات هذا التحدي اللذيذ. حواسي تستعذب إيقاعات الاستهانة والتشفي والانتقام، تطرب مما يفيض عنها من طنين جزل، من حماسة متوقدة، من نعرة رجولية في جوف هذا الليل الذي يكتنفي كثوبي.
وفجأة – وفيما أنا أنقب بتلك الحميّة المتقدة المخبولة العنيدة الحقود – أحس رأس معولي يصطدم بشيء ما، بشيء ما صلب. توقفت في الحال عن الضرب بمعولي، خلت ذلك الشيء في بادئ الأمر حجراً. ركعت على ركبتي على كومة التراب الرخوة كي أتحرى أمره، وأتحرى كيف أخرجه من باطن أرضه. فلما لم يكفني ضوء القمر أن أتبين حقيقته، قمت إلى كيس حاجاتي الصغيرة (مخلاتي) الملقى جانباً عن يميني، فبحثت فيه عن علبة الثقاب والشمعة. بحذر شديد (شخطت) قدحت عود ثقاب وقربته من فتيل الشمعة النحيلة. عليّ أن أحجب الشعلة، يجب أن أمنع ضوءها من الانتشار حذر أن تراها عينٌ ساهرة من بعيد. وإذ أنارت الشمعة المشتعلة موضع ما توهمته حجراً، نظرت فلم أر حجراً. رأيت شيئاً كأنه أذن جرّة من خزف فخار.
ارتعشت أصابعي في هذه اللحظة، وَجَفَتْ وهي تتحسسه مستطلعة مستعلمة مستيقنة. رهفت أذناي، صارتا تسمعان ما لم تكونا تسمعانه... وسمعتني أتمتم بشفتي الجافتين المقشبتين في ذهول دهش ماتع: "أذن جرة، أذن جرة، إنها أذن جرة حقيقية.. رباه، إنها جرة حقيقة!".
وشعرت بنفحة رقيقة مفاجئة من أملي الكبير المرتقب المحبوس طويلاً في دمي، تسري في عروق أصابعي، وأحسستها تمتد بلمعة برقٍ فتغمر سائر أجزاء بدني.
أنهدتُّ رئتيَّ وأفرغتهما. بحركة غريزية تلفَّتُّ بوجهي إلى ما حولي، قلبي ينبض وجلاً ورجاء وتطلعاً. أمسح براحتي العرق المتصبب من جبيني، ثم أقوم ثانية إلى الكيس. يدي المرتعشة بالأمل تبحث بداخله عن مطواتي. مطواتي الآن في قبضتي... بتيقظ واحتراز أروح أنبش بنصلها الماضي ما تراكم فوقها وما تجمع حولها من تراب؛ وأزيحه بعيداً عنها بيدي اليسرى على ضوء شمعتي النحيلة.
حررت الجرة، أمسكتها من أذنيها، سحبتها من الحفرة، نفخت في الشمعة ووقفت منتصباً على قدمي.
بين يدي الآن جرة معفَّرة، ولكنها جرة سليمة، جرة لا شدخ فيها ولا شرخ، وبين أضلعي صرخة أمل مكتومة محمومة مهتاجة: "الكنز، الكنز... كنز الأمير الآشوري الشاب!".
أهتزُّ من الانفعال، وتهتز الجرة بين يدي، تهتز من غير أن يصدر من داخلها رنين أو خشخشة أو طقطقة. ولكن للجرة ثقلاً، وزناً يفوق وزنها الحقيقي؛ إذن فلا بد أن يكون بداخلها شيءٌ. رباه، فليكن الكنز! وخطر لي في هذه اللحظة خاطر عاجل سريع أن أقلب الجرة على فمها وأفرغ ما بداخلها على الأرض؛ إلا أنني سرعان ما عدلت عن فعل ذلك، لكأني خشيت أن يتناثر محتواها على الأرض فيضيع شيء منه في شقوقها.
أملت فم الجرة إلى جهة القمر، نظرت فلم أتبين ما بداخلها. فم الجرة واسع يتسع ليدي. رفعت يمناي عن أذن الجرة، وأدخلتها في فمها. تلمست يدي شيئاً ليناً ناعماً أملس في ملاسة حبل من حرير. حبل من حرير؟
فما عساه، إذاً، أن يكون؟
ندَّ عني هذا التساؤل وقد داهمني شيء من الفتور، ثم جمعت طرفاً منه في يدي، وانتشلته خارج الجرة، فرأيت... ماذا رأيت!؟
أفعى!؟
أفعى... يا لهول ما رأيت!
وصدمتني موجة عاتية من الرعب؛ فتخاذلت، تعثرت، فانقلبت على ظهري على الأرض، وارتطم رأسي من الخلف بحجر ناتئ رجّ دماغي رجَّاً، ولم يمهلني.. طاح بي إلى حتفي المعجَّل في أقل من دقيقة واحدة.
وكان ذلك مع انقضاء آخر سُجفة من الليل، وانفلاج الفجر، ومع هبيب الفلاح اندراوس شماس من رقاده...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد فهمي يروج لفيلم -عصـ ابة المكس- بفيديو كوميدي مع أوس أو


.. كل يوم - حوار خاص مع الفنانة -دينا فؤاد- مع خالد أبو بكر بعد




.. بسبب طوله اترفض?? موقف كوميدي من أحمد عبد الوهاب????


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم