الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خابية الكنز المفقود 3

نعيم إيليا

2016 / 3 / 26
الادب والفن


صحا اندراوس من نومه في اللحظة التي صعّد فيها الفجر الأغبش تنهيدته الأولى؛ وهي عين اللحظة التي طارت فيها روحي من مكمنها - كما نوهت بذلك في البداية – طيران بومة مذعورة إلى فضاء فارغ شاسع الأمداء بلا كنْهٍ؛ فكان أوّل بشر من بشر الناحية يصحو من نومه في تلك اللحظة، إذا استثنيت عدداً من الأطفال، وعدداً آخر من النساء كانت ليّا زوجُه واحدةً منهن. وإنما على الجلبة التي أحدثتها ليّا في حجرة المؤونة، وهي تعد له طعام الإفطار والزوَّادة قبيل أن تهمَّ بهزّه – كعادتها - من كتفه ليصحو من سباته، استيقظ اندراوس مستبقاً حركتها الاعتيادية في إيقاظه.
كان أوجب على نفسه أن يستيقظ في هذا الوقت؛ فإن له حقلاً صغيراً يقع خلف (تلة الأمير) كان زرعه بطيخاً من اللونين، وعَجُّوراً، وقثاء من نوع الترعوزي. وكان ابتدأ، منذ يومين، بتطهيره مما أعشب فيه من خرنوب المعزى الشوكي (الخرنوف بلهجتنا) والثّيِّل؛ وهما من أخطر أخطر أنواع النبات الطفيلي في منطقتنا! إنهما إذا ضربا حقلاً وأعشبا فيه، امتصَّا ماءه، رواءه، رطوبته، حتى تنشف تربته، فيذبل بجفافها زرعُ الحقل في التو ويهيج لونه فإذا هو هشيم يابس متكسر.
بنياته الثلاث مستغرقات في هناءة نوم وادع لذيذ. وإذ رنا إليهن، صفت عيناه من رنق النوم، وافترت على شفتيه ابتسامة مغرورقة بحب سعيد وحنان ثرّ. وقد ظلت شفتاه مستمسكتين بابتسامته تلك حتى بعد أن جاز فراشهن مبتعداً عنهن إلى الحوش ليغتسل بماء البرميل المغطى بالصدأ.
ثم أخبر ليّا، وهو يبوِّش خبزه في حساء العدس الساخن، بأنه ربما تأخر في الحقل حتى تطفل الشمس للمغيب، فعاجلته ليّا، وقد ظنت أنها أدركت بغيته، بقولها:
- قد ملأت لك الصرة بيضاً مسلوقاً، وجبناً بالثوم، وبصلاً أخضر، ورشاداً، وخبزاً مرقوقاً...
قال:
- لا أرمي إلى هذا يا...
فقاطعته ثانية:
- فإلام ترمي إذن؟
أجابها بعد أن نقّى حنجرته من الكدر:
- أرمي إلى شيء آخر غير ذلك. اسمعي يا امرأة! قد يأتي طاهر بن حَسّو الحِماطي في غيابي اليوم ليأخذ الباب الذي صنعته له؛ فإذا كان في حوزته نقود، فخذي منه ثلاث ليرات وخمسة وعشرين قرشاً. أسمعت؟
- سمعت.
ردت ليّا وطأطأت رأسها، فانسدلت خصلة من شعرها المنسرح على عينها وغطتها، فأزاحتها بمعصمها الأيسر، بينما يدها الثانية تمتد إليه ببقية الرغيف حاثَّة إياه على الاستزادة من الأكل.
ثم أضافت بعد أن قلَّبت فيه النظر:
- إنك لتجهد نفسك!
فرفع إليها وجهاً طفت فوقه ابتسامة طيبة ممتنّة، وخاطبها برقةٍ:
- وأنت؟ ألا تجهدين نفسك؟
تساءلت بخفر غنِج:
- أنا؟
أكد قائلاً:
- أجل، أنتِ!
يا لرقته المرهفة! لم تعجب ليّا من رقته، وإنما فكرت، قالت في نفسها: لو أن والده، أو حتى بعض أقرانه، كان حاضراً الآن، فعاين بسمعه رقته هذه، أما كان سخر به وعابه عليها؟ أما كان (ربما) رماه بالخرع ونقصان الرجولة؟
تقلقت ليّا في مجلسها، كانت متربعة على الأرض طاوية ساقيها تحت فخذيها، بينها وبينه سفرة الطعام المجدولة من القش، وقالت بغمغمة:
- أنا إنما أقوم...
وسكتت ليّا، قطعت كلامها. اخترق أذنيها في تلك اللحظة زعيق رضيعتها الجائع المتشنج الملحاح، فقامت إليها بلهوجة لتسكتها برضعة وهدهدة.
جلّل اندراوس حماره في الاسطبل، وضع خرجه فوق ظهره، وعبّأه من لوازمه وأدواته: قَدُومه، منجله، زوادته، قربة مائه الجلدية، كيس الخيش... ثم عصب رأسه بكوفيته، واستاق الحمار أمامه. كلبه (شير) الذي كان من عادته أن ينتفض إذا رآه خارجاً؛ فيتبعه إلى منتصف الطريق بتوقده المعروف، ثم يقفل بعد ذلك راجعاً إلى البيت، لم ينتفض في هذه المرة. فضل الاستسلام للخمول الناعس في مكانه الدافئ لصق حائط قن الدجاج، أما الديك الذي بات ليلته خارج القن فوق حرف بابه المفتوح، فإنه لن يصيح صيحته الصباحية في ميعادها المؤقت.
اندراوس في حال من الرضا، بل في حال من الحبور! شقشقة الفجر الأولى الملبَّدة بصمت منقطع عن كل حسّ إنسيّ، لا تشعره بأنه كائن معزول وحيد مكسور النصاب، يواجه بمفرده لغز كون موحش رهيب، كما كانت تشعرني. أنفاس أيار تملأ الجو عطراً يرطبه ندى الفجر.. يفغم نفح العطر حواسَه، يؤرّجهما، يهز عطفيه بجذل يستفز نشاطه.
ولكن أمه، ما إن مرّ على خروجه من الدار قليل من الوقت، حتى نطّت من نومها فزعة على حلم مريع!
- بسم الآب والابن والروح القدس... يا يسوع اجعله خيراً!
تمتمت الأم مستنجدة ضيقة الصدر من الفزع أشد الضيق. رسمت إشارة الصليب ثلاث مرات على صدرها وجبينها إذ استوت بظهرها على الفراش. لكن خاطرها الفائر من هول ما رأت لم يهدأ. فإذا هي تنهض من فراشها مطلقة أنة طويلة مبعوجة في أثناء النهوض. كان زوجها أبو اندراوس نائماً بالقرب منها، غير أنه، رغم خفة نومه، لم يصح على حركتها وتمتماتها والأنة التي أطلقتها.
ارتدت الأم فستانها على عجل، غطت رأسها بإشارب... وأسرعت إلى بيت ابنها، وقلبها متقبّض كثوب.
- فليكن خيراً!
رفعت ليّا دعاءها، عقب أن فرغت الأم من سرد ما رأت في الحلم بتفصيل، ثم أكدت لها أن ابنها بخير، ورجتها أن تبعد عنها الوساوس، رجتها بحرارة ألا تحفل بما ترى في المنام. بيد أن الأم، وإن برح الفزع الشديد مكانه من قلبها، ظلت قلقة متوجسة.
- ليس قلبي مطمئناً يا ابنتي، ليت اندرواس بقي اليوم في البيت! لماذا لم يبق اليوم في البيت؟ أما كان بوسعه أن يؤجل عمله إلى يوم آخر؟
ثم اقتلعت نفسها من مكانها، ومضت إلى حجرة النوم، وليّا تتبعها. توقفت في منتصف الحجرة. رفعت رأسها إلى السقف، وراحت تتفحصه بوجل قبل أن تسأل كنتها:
- ليّا، ألم يتناه إلى سمعك يوماً صوت حفيف أو كشيش يأتي من السقف؟
أجابت ليّا:
- لا، ولا مرة!
ولتزيد في طمأنة حماتها، أضافت:
- وهل تدع سِنَّورتنا لدبيب أن يدب في بيتنا أو فيما حوله؟ إن سنورتنا تطارد حتى البراغيث!
قالت الأم، وكأنها لم تسمع قول ليّا:
- انظري هنا، ليّا انظري إلى النقطة التي في منتصف السقف، النقطة التي تبدو وكأنها جحر فأر، أترينها؟ هنا، من هذا المكان، من بين هذين العمودين الاثنين، رأيت الحيّة تسقط على اندراوس و... يا يسوع، اجعله خيراً، يا يسوع بك أستغيث!
- إنه حلم يا أمي، ليس أكثر من حلم. لا ترتاعي! كم من مرة علي أن أقول لك هذا؟ إنك تعذبين قلبك من دون سبب، تعذبينه من دون طائل!
- ولكن أحلامي – لا كانت! - كثيراً ما تصدق يا ابنتي.
قالت ليّا بإنكار:
- أنت دائماً تقولين إن أحلامك تصدق، ولكني لم أشهد لك حلماً واحداً صدق!
صمتت الأم هنيهة، ثم سألت فجأة:
- هل نامت (الببّيّة)؟
- نامت.
همست ليّا، وهي تضع صغيرتها في الفراش بجانب شقيقتيها النائمتين.
وعندئذ قالت الأم بحنان مفرط:
- ليتها تقبر ستهّا!
أرى اندراوس يسير سيراً حثيثاً على التخم بين حقول العدس والحمص والشعير، يتبعه حماره الطليق متأخراً عنه قليلاً. كان الحمار، بين الفينة والفينة، يتوقف ليخضم شيئاً من العشب الريان الطويل النابت على جانبي التخم.
ها هو اندراوس قد اجتاز حقول الفلاحين يلازمه شممه، ها هو يطأ بقدميه الثابتتين الأرض البور الصخرية المهملة التي تعود ملكيتها للدولة. وهأنا فجأة يثب في ذاكرتي حدث من يوم عرسه.. أتذكر كيف أغار عليه أصدقاؤه، وكان قاعداً بجانب عروسه في صدر السرادق، فاختطفوه عنوة وفروا به إلى دار من أدؤر القرية – أحسبها دار أبي أيوب – واختفوا داخل تلك الدار. كان على العروس بعد ذلك أن تبحث عنه وتفتديه بمال كما هو دارج، شائع، معروف. وقد اصطنع أصدقاؤه يومئذ أساليب قطاع الطرق الجفاة الغلاظ القساة في تعذيبه: ربطوا يديه إلى ظهره، أوثقوا قدميه بحبل ووضعوهما في فلق، كمموا فاه بكوفية، أقعدوه على تنكة مقلوبة، وجعلوا ينهالون على باطن قدميه بمقرعة حيناً وبعقال حيناً. لقد أجادوا لعبتهم وبرعوا فيها! ومن النافذة كنت أرى قدميه تضطربان، تختلجان، تنكمشان، تنبسطان، ترتعشان، تتأوهان! وما زالوا يلهون بتعذيبه حتى جاءت العروس وقدمت لهم الفدية. فلما وقف اندراوس على قدميه بعد تحريرهما ومشى، خلت أن مشيته لم تكن - وهو المعدود الأول بين أشداء القرية من الرجال - ثابتة، وخلت أن هيئته زايلها الشمم، رغم أنني لم أكن أجهل أن هذا هو الذي يجب على العريس أن يتظاهر به في هذه المناسبة.
يقترب من تلة الأمير حيث الجدث وحيث كنت أرقد، أو حيث كانت جثتي ترقد بتعبير أصح.
تلة الأمير الآن على شماله على بعد مترين منه لا أكثر. لكنه يمر بها وعيناه مصوبتان شاخصتان إلى حقله الذي بات منه قدى أمتار. إنه ليبتعد عنها خطوات دون أن يلمح إليها، ينأى عنها دون أن يلتفت إليها ليرى جثتي!.
وأنا إذ أخبر هنا، بما قد يشبه الأسف، بأنه لم يلمح إلى التلة ليرى جثتي، فليس غرضي من الإخبار بذلك إلا الإخبار الصرف. فأما الأسف فلم يعد له محل من روحي. وعلام آسف؟ أينفعني الآن أن يعثر اندراوس على جثتي أو لا يعثر عليها؟ أيضرني لو تفسخت جثتي وأكلتها السباع الجائعة والحدأ، أو تحجرت؟
كلا! وإن روحي – كما ذكرت قبل قليل - ليس في وسعها أن تأسف على شيء من بعد أن انفصلت عن جسدي وحلقت في الفضاء. نعم، كنت سآسف... كنت سآسف بالتأكيد، في تلك السانحة العارضة، لو كان في وسع روحي أن تأسف، بل لكنت اضطربت أشد الاضطراب من الانفعال واجتاحني الهلع، وأنا أرى اندراوس يمر بالقرب من جثتي ولا يراها! إن اندراوس هو الشخص الوحيد من بين فلاحي تل دهب الذي له حقلُ بطيخ واجب التخليص من الأعشاب الضارة في هذا الوقت، وفي هذه الرقعة البعيدة (نسبياً) من القرية. فأما حقول العدس والحمص والشعير المنتشرة هنا وهناك، فإنها ليست بحاجة لغير الحصاد، والحصاد لم يئن أوانه بعد. وقت الحصاد قد يطول مجيئه شهراً أو أقل من شهر ببضعة أيام. فمن الذي سيقترب من تلة الأمير في غضون هذا الشهر من أبناء الضيعة؟ من الذي سيعثر على جثتي قبل أن تتفسخ وتأكلها السباع والحدأ، إن لم يعثر عليها اندراوس؟
وإن تفسخت جثتي وأكلتها السباع والحدأ ولم تذر منها شيئاً، فمن له حينئذ أن يعزي أمي؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع