الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل يكتب العراقيون معاهدة ويستفاليا جديدة خاصة بهم ؟

حسين كركوش

2016 / 4 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


الحكومة والدولة - الأمة ، بالمعنى المتعارف عليه حاليا في الغرب ، ظهرتا للوجود بعد التوقيع ، قبل أربعة قرون من الآن ، على معاهدة ويستفاليا أو صلح ويستفاليا (نسبة إلى مقاطعة Westphalia الواقعة في الشمال الغربي من ألمانيا).

التوقيع على تلك المعاهدة وضع نهاية لحرب أهلية طائفية مذهبية بين الكاثوليك والبروتستانت الذين ينتمون لديانة واحدة هي المسيحية ، مثلما ينتمي الشيعة والسنة إلى دين واحد هو الإسلام.
وبدأت الحرب جراء عمليات تطهير طائفي ، أو الأصح بفرض تغيير سكاني على أساس طائفي ، قابله رفض طائفي مقابل. ثم استعر لهيب الحرب فشارك فيها الألمانيون والفرنسيون والأسبان والسويديون والدنماركيون والسويسريون والهولنديون والروس والبولونيون.

تلك الحرب أو بالأحرى سلسلة الحروب ، التي مزقت أوربا وأنهكتها و حولتها إلى برك من الدم وأكوام من الجثث ، حّرضت عليها و قادتها وشاركت فيها جماعات هي بمثابة عشائر أو قبائل ( أمراء ، أباطرة ، رجال دين ، مُلاك أراضي كبار ، سلالات عائلية متنفذة ، دوقات).
و بالإضافة للصراع الطائفي ، بل قبله كانت الدوافع السياسية والاقتصادية ، بطبيعة الحال ، حاضرة. بل ، بالإمكان القول إن تلك الحرب كانت توظيف الدين والطائفة لأغراض سياسية.

بدأت تلك الحرب عام 1618، و دامت ثلاثون سنة ( سميت لاحقا حرب الثلاثين سنة )، وخّلفت ورائها ملايين من القتلى (يقدر بعض المؤرخين عدد قتلى تلك الحرب بثمانية مليون شخص). و أحدثت خرابا هائلا في الممتلكات والاقتصاد في أي مكان وصلته ، و خصوصا في الجانب الألماني.

و في تلك الحرب الطائفية الأهلية مورست كل الأساليب المنحطة من قتل وتمثيل بالجثث وسلب ونهب وحرق وتدمير وتهجير متبادل وهجرات جماعية وتخريب للبيئة واغتصاب وتجويع. ولشدة المجاعة وانتشارها التي سببتها تلك الحروب، وصل الأمر أن يأكل الجائعون لحم من يموت من الجوع أو من يسقط في المعارك. وعلى حد قول أحد المساهمين فيها: (كنا حيوانات نسير على الأرض).

بعد ست وعشرين سنة من تلك المطحنة البشرية ، أي في سنة 1644 بدأت التحضيرات لعقد المؤتمر الذي سينهي تلك الحرب، بعد أن بدأت الأطراف المشاركة فيها تقتنع أن تلك الحرب لا تفضي لنتيجة.

وبسب تراكمات وتعقيدات الحرب نفسها ، و بسبب تنافر وتباعد مواقف المتورطين فيها وكثافة الحقد والكراهية المتبادلة بينهم ، فأن عقد المؤتمر ما كان أمرا سهلا أبدا. فقد استغرقت التحضيرات لعقد المؤتمر أربع سنوات كاملة.

ولم تقف الأمور عند هذا الحد. فبعد أن تكللت تلك الجهود الشاقة خلال أربع سنوات بالموافقة على الحضور برزت مشكلة أخرى تتعلق هذه المرة بالأتيكيت والبروتوكول ، أي في كيفية إدارة الجلسات ، وحتى في ترتيب جلوس رؤوساء الوفود المشاركين الذين كان عددهم نحو 174 مشاركا يمثلون 179 مقاطعة. فكل رئيس وفد كان يصر على أن يتحدث هو وليس غيره قبل الآخرين الحاضرين. وكل واحد منهم يصر على أن يجلس أمام الآخر وليس خلفه ، أو على جهة اليسار وليس اليمين أو بالعكس ، أو يصر على أن يدخل و يخرج هو أولا إلى القاعة ومنها ، أو هو الذي يجب أن يجلس في هذا المكان داخل القاعة وليس في مكان آخر ، أو هو الذي يجب أن ينهض الحاضرون تحية لقدومه ، وهكذا.
وبسبب هذه الترتيبات البروتوكولية الشكلية السخيفة ، في الظاهر ، ولكن بالغة الأهمية عند المشاركين كما يبدو ، فأن اللجان التحضيرية لعقد المؤتمر أمضت ستة أشهر بأيامها ولياليها لحسم هذه المشاكل الشكلية. وبسبب عدم رضاها على ترتيب هذه الأمور التافهة رفضت وفود أن تلتقي بعضها بالبعض الآخر. فالفرنسيون والأسبان مثلا، لم يلتقوا أصلا بسبب عدم موافقتهم على أماكن جلوسهم.
ستة أشهر كاملة كانت فقط لحل هذه المشاكل التافهة ، بينما كان السكان يعانون من مجاعة قاتلة ، وأعداد القتلى في تزايد ومعهم تزداد أعداد الثكالى والأرامل واليتامى والمشردين.

لكن المفاوضات التي بدأت بصعوبة بالغة واستمرت أربع سنوات، أيضا بصعوبة بالغة، نجحت أخيرا في التغلب على الخلافات.
و في عام 1648 تم التوقيع على الاتفاقية، بمشاركة سياسيين ورجال دين، بإقرار حقوق كل الأطراف، ربحا وخسارة، مع الاعتراف الضمني، بل الصريح بأن الخلاف الطائفي لا يُحل بالقتال وبسفك الدماء، ولا يمكن للقوة والعنف أن يلغيا هذه الطائفة أو تلك.
وتضمنت المعاهدة 128 مادة ، تتقدمها المادة الأولى التي تنص : مهما كانت الهوية الدينية المذهبية لمَن يحكم فأن سكان المكان هم الذين يقررون مسألة الدين. أي أن الناس أحرار في اتباع المذهب الديني الذي يريدون بغض النظر عن مذهب من يحكمهم.

وكانت تلك الاتفاقية أو الصلح حدثا فريدا من نوعه في تاريخ أوربا لأنها أذنت ببزوغ فجر جديد ظهرت فيه أوربا (الحديثة) التي نعرفها والتي تضم مواطنين وليس رعايا ، بأنظمة مدنية بعيدا عن النفوذ المباشر للكنيسة ورجالها.
بعد توقيع تلك الاتفاقية ما عادت أوربا أماكن جغرافية مفتوحة يغزوها ويسيطر عليها أقرب جار وتدير شؤونها هذه العائلة أو تلك. لقد تحولت إلى كيانات جيوبوليتكية ، أي دول تتمتع كل واحدة منها بحدود معترف بها و تتمتع بسيادة وطنية وجيش وطني ، و أصبح لكل دولة (عقل raison d’Etat / reason of State ) تفكر به ، دفاعا عن مصالحها القومية كدولة وليس كمقاطعة يملكها هذا الأمير أو ذاك. و كانت تلك الاتفاقية بداية لظهور ما يسمى بالقانون الدولي.

و رغم أن معاهدة ويستفاليا مضى عليها أربعة قرون إلا أن روحها ظلت حاضرة. فعندما ازدادت موجة التحرر من الاستعمار في اسيا وأفريقيا في بداية منتصف خمسينيات القرن الماضي فأن الدول المستقلة سارت ، بشكل عام ، على خطى تلك المعاهدة بعد تحرير نفسها ، عندما بسطت كل دولة سيادتها الوطنية ورّسمت حدودها وكونت جيشها الوطني.

والآن، بعد ما حدث في العراق وليبيا وسوريا واليمن، راح البعض من الكتاب والسياسيين يستعيدون للأذهان تلك الاتفاقية وحرب الثلاثين عاما التي سبقتها، ويتساءلون عن إمكانية الاستفادة من روح تلك الاتفاقية لحل الأزمات القائمة في هذه البلدان.
لكننا الآن في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين وليس في عام 1648. ومنذ ذاك التاريخ وحتى يومنا هذا ظهرت مؤثرات و عوامل جديدة في الصراعات المجتمعية ، حتى داخل البلد الواحد ، ما كانت بهذه الأهمية وقتذاك.
فأسباب الأزمة القائمة التي تعصف بالعراق منذ ثلاثة عشر عاما ، مثلا ، ليست طائفية خالصة ، وليست سياسية خالصة. إنها أزمة تتداخل فيها مجموعة عوامل : طائفية ، مذهبية ، سياسية ، اقتصادية ، عرقية أثنية ، طبقية ، جندرية ، اجتماعية ثقافية ، حضارية ، تاريخية ، بالإضافة إلى تدخلات خارجية دولية وإقليمية.
وهذه العوامل كلها يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار ، عندما يصار لعقد اتفاقية (ويستفاليا عراقية) جديدة ، إذا كان لا بد من الاتعاظ من التجارب التاريخية للشعوب.

هل هذا ممكن ؟ هل بإمكان العراقيين أن يجترحوا معاهدة ويستفاليا عراقية خاصة بهم تلائم متطلبات وظروف وطبيعة المجتمع العراقي وهو يعيش ، كبقية سكان المعمورة ، في القرن الواحد والعشرين ؟

هناك مؤشرات كثيرة تشجع على الإجابة بنعم.
و أولى المؤشرات أو الدلائل ، هي أن المجتمع العراقي يثبت يوما بعد يوم بأنه على قدر عال من النضوج ، بل هو أنضج من حكامه ، وأكثر قدرة على ابتداع الحلول ، وأكثر رغبة وحماسة منهم في بناء عراق مزدهر يضمن حقوقا متساوية لجميع مواطنيه.
و من هذه الدلائل تأكيد المرجع السيد علي السيستاني على التلاحم العضوي بين الشيعة والسنة (لا تقولوا أخواننا السنة ، بل قولوا أنفسنا السنة). ومنها سرعة انطفاء نار الصراع الطائفي الذي اندلع عقب تفجيرات سامراء ، بفضل ظهور ما عُرف بالصحوات. ومنها الهتاف الجماهيري الذي يتراجع مرة ويتقدم مرات : أخوان سنة وشيعة هذا البلد ما نبيعه. و منها الحراك المجتمعي السياسي الشعبي الذي شهده وما يزال العراق.
ومن هذه الدلائل ، وهو حدث فريد من نوعه ، تشكيل حكومة تكنوقراط. فلأول مرة ربما في تاريخ العراق الحديث وربما في تاريخ المنطقة ، لا تعترف طبقة حاكمة بفشلها ، فحسب ، و إنما تتمرد وتنقلب على نفسها و تطلب من آخرين خارج صفوفها ( تكنوقراط) أن يساعدوها في حل مشاكل البلاد !
وحتى لو فشلت هذه المبادرة الأخيرة فأنها تؤشر على قدرة و رغبة العراقيين في استنباط حلول لمشاكل بلادهم.

هذه الأمور وغيرها كثير تدعو للتفاؤل. إنها تظهر قدرة المجتمع العراقي على خلق ويستفاليا عراقية خاصة به ، بفترة زمنية أقل من فترة الثلاثين عام ، وبخسائر أقل من خسائرها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مخاوف من استخدامه كـ-سلاح حرب-.. أول كلب آلي في العالم ينفث


.. تراجع شعبية حماس لدى سكان غزة والضفة الغربية.. صحيفة فايننشا




.. نشاط دبلوماسي مصري مكثف في ظل تراجع الدور القطري في الوساطة


.. كيف يمكن توصيف واقع جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة؟




.. زيلنسكي يشكر أمير دولة قطر على الوساطة الناجحة بين روسيا وأو