الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خابية الكنز المفقود 7

نعيم إيليا

2016 / 4 / 23
الادب والفن


ولدت أمي في سنة مجهولة. أعني أنها كانت تجهل تاريخ ميلادها الحقيقي الصحيح بحسب التقويم السنوي. أمها، جدتي، حاولت بإخلاص أن تستذكر تاريخ ميلادها يوم كان ينبغي تسجيلها في دائرة قيد النفوس في الدولة الجديدة. ولكن محاولات جدتي المخلصة أخفقت في أن تستقر على عام محدد يوثق بصحته. محاولاتها تأرجحت بين عامين من أعوام الحرب. ولما كان لا بد من اختيار أحدهما؛ فقد اختير العام الثاني الأحدث الذي ينقص من عمرها سنة.
لم يكن لذاكرةٍ كذاكرة جدتي أبلت نوازل الدهر جديدَها، ومزق الداء العياء نسيجها، أن تستذكر تاريخ ميلاد ابنتها. بهذا عللت أمي جهل جدتي عام ميلادها الصحيح. والرأي عندي أن جدتي كانت تجهل التقويم السنوي، ككل أبناء جيلها من عامة الناس الذين كانوا، كما هو معروف، يؤرخون مجريات حياتهم ووقائعها باستخدام طريقة التقويم بالأحداث الكبرى، ولا سيما أحداث الطبيعة النادرة الفارقة. ومهما يكن من أمر، فإنه كان ثابتاً بما لا يدعو للشك، أنها ولدت في سنة من سنوات الحرب الفاجعة المهولة التي كان للموت فيها مأدبة عامرة في كل بيت فقيرٍ من بيوت قريتها. وكان في هذا ما يكفي لتعزيز اعتقاد أمي بأن جميع المصائب التي تدفقت فوق رأسها، إنما سببها أنها جاءت إلى الدنيا في عام نحس.
ولأن جدي، والدُها،كان فلاحاً فقيراً معدماً لا يملك من حطام الدنيا إلا ما يسد به الرمق؛ فسرعان ما أدقع في سني الحرب مع من أدقع من نظرائه الفلاحين البؤساء، حتى التصقت جبهته بثرى الأرض وبات يزحف فوقه على بطنه خوراً وإعياء، وهو صابر. ولكنه عندما اشتد عويل أطفاله من الجوع، وماتت بين يدي عجزه ابنته الثالثة الأكبر من أمي بعامين، انهار جدار صبره الذي كان يحسبه متيناً؛ فلم يملك إثر انهياره أن ينضم إلى زمرة فاتكة تأبّد من الطوى أفرادُها وتوحشوا توحش الضباع.
كانت الإغارة ليلاً على القرى الكردية البعيدة الموالية للأتراك، والتي لم يكن حلّ بها ما حل بالقرى المسيحية من فاقة ومسغبة وخراب، خياراً وحيداً لا عدول عنه ولا نكوص لدى هؤلاء الفاتكين، رغم قبحه وشنوعه ومخالفته للإيمان... كانت الغارات – مع الأسف - آخر فرصة متاحة يمكن أن تنقذهم من موت كريه محتَّم.
وقد حدث في هُتْك ليلةٍ غاب عنها القمر، أن عاد المغيرون إلى القرية وأيديهم خاوية فارغة من الأسلاب على غير دأبهم، ولم يكن جدي بينهم. كان جدي قتل في تلك الغارة المشؤومة، وذهب دمه هدراً.
وبموت جدي انقطع السبب الذي كان يربط جدتي وأطفالها الثلاثة بالعيش. وإذ لم يكن بين أقربائها وجيرانها ومعارفها، من هو مستطيع أن يعين أرملة جوعى مع ثلاثة أطفال، فقد استجابت بلا تردد بلا تفكير لنصيحة رجل محسن، نسيت اسمه، من قريتها لم يكن الجوع أنهكه. نصحها ذاك المحسن بضرورة النزوح عن قريتها إلى عين وردا. قال لها، وهو يضغط بحرارة على كل كلمة ينطق بها كي يؤثر في نفسها ولا يدع لها أن تتردد في قبول نصيحته:
- اسمعي ما أقوله لك أيتها المسكينة، وافهميه... افهميه جيداً: في عين وردا آغا وافر الرزق، بعيد الحَوْر، نديُّ الكف، سريع إلى تلبية حاجات المساكين، يؤمّه الجياع من كل فج وأمة وملة: من مسيحيين، ومسلمين، وإيزيديين، يدعى الآغا (موسى المدواني) فاذهبي إليه، إليه فاذهبي دون تراخ وإبطاء قبل أن تبرد الدنيا. عجلي أيتها المسكينة قبل فوات الأوان! اقصدي له إن كنت حريصة على ألا يموت من الجوع يتاماك... لا تنتظري إلى الغد، إن كنت راغبة في الحياة، فإن الغد لناظره، ربما أضحى بعيداً. هأنذا أنصحك لوجه الله. ومن يعلم؟ إنك اليوم قادرة على المسير، وفي الغد...؟ لا أحد يعلم! في الغد قد تخذلك ساقاك من الجوع والمرض فلا تقوين على المسير. اخلعي عنك ثوب التردد، وامضي الآن ولا تلتفتي وراءك!
وأجداها الناصح رغيفَ خبز من الشعير.
ثم عرجت جدتي على عمّها فأعطاها حفنة من الزبيب، وعقداً من التين المجفَّف، وكسرةً من رغيف من الدُّخْن، ودلَّها بعد ذلك على الطريق الذي يجب عليها أن تسلكه، وحذرها من أن تحيد عنه، قال لها بصوت أرعشه الضعف:
- إياك والخروج عنه إلى طريق آخر. أجل، إنه طريق طويل شاق مجهد يقطع أرضاً وعرة ذات كسور! أعلم هذا، ولكنه آمن، وهذا هو المهم، بل هو الأهم. يمر هذا الطريق بقرى كردية، بخمس قرى.. تذكري أنها خمس قرى. لا تخافي! فسكان هذه القرى الخمس، أوادم على كثير من الطيبة والمروءة والشهامة، أعرفهم، وهذا هو المهم. إنهم مسالمون ما تلطخت يد واحدة من أياديهم بدمٍ أرمنيّ، أعرفهم، ليس فيهم ولاء للأتراك. بيتي ليلاً في كل قرية كردية تصلينها في نهارك وأنت مطمئنة. سيحسن إليك أهلها، أعرفهم، لن يبخلوا عليك وعلى أطفالك بلقمة تقصي عنكم شبح الموت. إنهم كرماء، لهم قلوب رقيقة تعطف على الأراملة أكثر من عطف قلوبنا عليهن. وبعدُ، فاحذري السير في الليل وإلا أكلتك الضباع. ولا تخبري أحداً بأنك أرملة (اصطيفو) زوجك القتيل، غفر الله له خطاياه!
يا له من قرار! إن قرار نزوحك عن الضيعة قرار صائب شجاع، نعمّا القرار! جاء في وقته وأوانه. منذا الذي نصحك بالنزوح عن الضيعة يا ابنتي؟ ألا ما أكبر عقله! قد حسناً فعل... حقاً حقاً، لم التردد؟ أيجتبى من التردد في مثل حالتك خيرٌ؟ أبداً، فلا أحد من ضيعتنا يستطيع أن ينجدك، أو يمد لكِ يداً بعون، فما معنى التردد إذاً؟ والشتاء قادم عما قريب، وسيسقط فيه لا محالة آخر من بقي على ذمة الحياة من فقراء الضيعة المعتَّرين المرضى الجياع؛ وربما سقط منا المكتفون بكفاف يومهم أيضاً.
صلواتنا ليست تستجاب بسبب خطايانا. أقفل الله دوننا باب رحمته، فأصبحنا فرائس سهلة للذئاب. لا! لست أكفر بعدل الله، ولست أتذمر من حكمته إذ ألقى بنا في فم النكبات والأرزاء والمحن، معاذ الله! ولكن... رحم الله جدي، إيه يا جدي! كان في حياته لا يني يقول: " لعلةٍ صارت أرض قايين مقاماً لنا، لعلة جُعلت أرضُ الشر الواتن والدم المستباح مسكناً لنا... أرض هيهات هيهات أن تنعم يوماً بأمن وسلام!
وما تلك العلة؟ ما تلك العلة التي من عظم شرها وفظاعة قبحها ألزمنا الله بالإقامة في أرض قايين، إن لم تكن فسادنا وقلة صلاحنا وخبث طويتنا وسواد سخائمنا؟ ".
والآن روحي يا ابنتي إلى القس الياس، روحي اطلبي منه البركة، اعترفي، وتناولي (القربانة) المقدسة قبل أن ترحلي؛ فلا أحد إلا الله يدري ما الذي يخبئه لك ولنا اليوم والغد!
لم تؤاخذه جدتي، لم يخطر في بالها قط أن تؤاخذ عمها على انتفاله منها. فما كان انتفاله منها بإرادته. ما كان انتفاله منها لشحّ فيه، ولا كان نكراناً منه لقرابة الدم وما توجبه القرابة من التكافل والتضامن والرعاية، وإنما لضرورة لازبة كضرورات القدر الصارم الغاشم المكين. ففي الأوقات العصيبة الرهيبة المهلكة التي يغرق فيها الجميع، لا يبقى لهذا الذي قيل في الحض على التآزر: " في الجريرة تشترك العشيرة " أيُّ فائدة أو معنى. كل امرئ إنما مصيره في عنقه وخلاصه بيده.
كان الزام الأول من النهار انقضى، عندما دخلت جدتي على القس الياس. تناولت القربانة، وهمت بالعودة إلى بيتها لتستكمل عدة الرحيل قبل نهاية الزام الثاني من النهار. ولكن القس الياس، مع أن وجهه في ذلك النهار، كان متقلصاً لم تبن فيه بشاشة ولا انفراج، ومع أنه أيضاً لم يكن معروفاً عنه أنه يُسرُّ بإطعام الناس في بيته، أمرها بالجلوس، وأمر ابنته أن تحضر لها صحناً من البرغل. ولما لم يكن في الصحن الذي جاءتها به ابنته إلا القليل من البرغل، أطعمته ولديها ولم تأكل منه شيئاً.
بيد أن الخورية زوجة القس لم تبخل على جدتي بشيء يؤكل في الطريق. زودت الخورية جدتي بربع كيلة من (القضامة) المحمَّصة في الرمل، كما نصحتها ألا تؤثر أبناءها بكل الطعام، قائلة لها بلهجة حازمة آمرة اجتمع فيها التحذير والتوبيخ معاً:
- كلي أنت أيضاً! يجب أن تأكلي ولو قليلاً كي لا يجف ثديك. مَرْيَمِه، أتفهمين الذي أقوله لك؟ ابنتك الرضيعة ستموت إن جفّ ثديك!
قبّلت جدتي يدها شاكرة، قبلت يد القس، ودعتهما. ولما استدارت لتنصرف سمعت القس يقول:
- الآغا موسى المدواني لم يحدق بأرضه ما أحدق بأرضنا، وهو على كثرة أفضاله لم يتفكر بنا!
وكان في قوله عتاب مؤثر تخلله أسى هادئ.
لم تدخر جدتي وقتاً، أو تضع وقتاً. يكاد الزام الثاني من النهار يتقضّى أيضاً. أسرعت إلى بيتها بسرعة نعامة. شدت رضيعتها (أمي) إلى ظهرها بملاءة. صرّت ما تجمع لديها من زاد في خرقة علقتها بكتفها، وحملت بيسراها قلة ماء، وبيمينها قبضت على معصم ابنها (خالي) وكان في الخامسة. أما ابنتها (خالتي) وكانت في الرابعة تقريباً، فتمسكت بذيل فستانها من الخلف.
ووهبت جدتي قدميها الحافيتين للمجهول على درب طويل طويل في منتصف يوم خريفي شاحبٍ كالكآبة.
ولقد كاد التوجس يخالجها، ما إن خطت خطوتها الأولى على الطريق، وكاد يدهمها ما يدهم الإنسان عادة إذ يغادر موطناً ألفه، لولا أن وقعت عينها على غير اتفاق، وعلى نحو مفاجئ على جارتها (حَزْنِه). كانت جارتها التي مات عنها زوجها وثلاثة أبناء من أبنائها الستة في تلك السنة، متكومة بعظامها المتجردة من معانيها على الدكة الطينية بلصق الجدار الأمامي لبيتها، تطلق أنيناً رتيباً أصفر وانياً، ورأسها الثقيل الكبير المهوش يهوم بحركة خاملة لا إرادية، فوق عنق نحيل رفيع كأنه مغزل يدوي. وكان رأسها وهو يهوم على ذلك النحو من التهويم، شبيهاً إلى حد بعيد برأس دجاجة تنزع وقد أنهكها وباء قاتل.
لم تكلمها، لم تودعها، لم تقل لها شيئاً ألبتة. كانت جدتي تدري أن (حزنه) لن تسمعها إن خاطبتها بلفظ، وتدري أنها إن سمعتها، فلن تفهم شيئاً مما تسمعه منها. كانت جارتها حزنه دخلت في آخر طور من أطوار الذهول الذي يعقبه الهمود.
حوّلت نظرها عنها، وتابعت سيرها، وقد تهادى في نفسها، رغم هذا المشهد الرهيب، شعور رأت نفسها معه أنها إنما تسلك طريق الخلاص طريق النجاة طريق الحياة، لا طريق العنت والمكابدة والمخاوف والأهوال.
وكان عليها بعد ذلك أن تستحث طفليها على السير، كان عليها أن تغريهما به لئلا تخذلهما القدم، قالت لهما:
- لن نتوقف عن السير، يجب أن نسير سيراً نشيطاً لنصل إلى الضيعة القريبة منا قبل حلول الظلام. من منكما لا يحب أن نصل إلى القرية قبل حلول الظلام؟
قال خالي هازجاً:
- أنا أحب أن أصل إلى القرية قبل حلول الظلام، لا أحب الظلام، ولكن لماذا يجب أن نصل إلى القرية قبل حلول الظلام؟
- أهااا! هذا الذي وددت أن أشرحه لكما: لماذا يجب أن نصل إلى القرية؟ ألا تعلمان لماذا؟
- لماذا؟
سأل خالي، أما خالتي فلم تبد آبهة بالحديث، كانت منصرفة إلى تأمل الطبيعة من حولها.
- لأن في هذه القرية طعاماً لذيذاً. فيها جبن وبيض، ألا تحبان الجبن والبيض؟
صرخت خالتي إذ سمعت حديث الجبن والبيض:
- بلى، أنا أحب الجبن، أحب البيض.
- إذن، علينا أن نسير بلا توقف بلا تعب.
- ولماذا بلا تعب؟
- لأننا إن تعبنا لن نصل إلى الضيعة. وإن لم نصل إلى الضيعة، فلن نحصل على جبنة ولا على بيضة.
هتف خالي:
- لن أتعب، سأسير حتى نصل
سألت خالتي:
- ألا توجد جبنة إلا في الضيعة!؟
- لا توجد جبنة إلا في الضيعة.
صمتت خالتي، وعادت تتأمل ما يكتنف الطريق من مظاهر الطبيعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ


.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث




.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم


.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع




.. هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية